خطأ التقدير
هذا لون جديد من الأدب التمثيلي عرفه الفرنسيون منذ أواخر الفترة التي انقضت بين الحربين العالميتين، أو قُلْ — إنْ شئتَ الدقة — إنهم عرفوا أصوله في هذه الفترة، ولكنَّ إنتاجهم فيه لم يستكمل قوته ونضجه إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يظهر إلا في أعقابها، وهو صورة للنفس الأوروبية منذ انقضت الحرب العالمية الأولى وتركت ما تركت من الآثار البغيضة، ومن ذكرى الأحداث المروعة التي صبتها على الناس.
وصورةٌ كذلك لما دفعت إليه النفس الأوروبية حين جعلت نذر الحرب الثانية تسعى إلى الناس متواترة، يقفو بعضها أثر بعض، مجدِّدة ما عرف الأوروبيون من الخوف والهلع، ومن الروع والجزع أثناء الحرب الأولى، ممهِّدة لكثير منهم طريقَ التفكير المظلم المتشائم الذي لا يرى في الدنيا إلا شرًّا، ولا يرى الخير والنعيم في هذا العالم الحديث إلا وهمًا، بعد أن أُتِيح للعقل ما أُتِيح له من الرقي، وتمَّ للعلم ما تمَّ من التقدم، وبعد أن استكبر العقل وطغى، وأسرف في الكبرياء والطغيان، وغرَّه ما وُفِّق إليه من استكشافات، وبعد أن تسلَّط غرور العقل هذا على حياة الناس، فأشاع فيها ضروبًا من فساد الخُلُق وسوء التقدير للقيم الموروثة التي كانت الحياة تعتمد عليها وتأتلف منها، أثناء القرن التاسع عشر، بل في القرون التي سبقته.
فقد نشأ عن هذا كله إيثار الإنسان لنفسه بالخير من دون غيره من الناس، وشاعت هذه الأَثَرة في الأفراد أول ما شاعت، ثم تجاوزتهم إلى الجماعات، ثم تجاوزتهم إلى الشعوب. وكان من هذه الأَثَرة الفردية والاجتماعية والدولية أن ضعف التضامن، ووهت الصلات بين الناس، ومضى كلُّ فرد لا يلوي على شيء، جامحًا في طريقه إلى تحقيق آرابه ومنافعه، ومضت الأمم كما مضى الأفراد غير مُلوِية على شيء ولا حافلة بشيء إلا أن يكون التسلُّط على أعظم جزء ممكن من الأرض، والانتفاع بأعظم حظ ممكن من الموارد، والاستعلاء لا على الضعفاء وحدهم بل عليهم وعلى الأقوياء أيضًا.
كل ذلك أدى إلى إثارة الحرب؛ فانتصر المنتصر وأطغاه انتصاره، وانهزم المنهزم وأحفظه انهزامه، فأضمر الشر واستعد للثأر، واختلف المنتصرون في اقتسام الغنائم؛ فامتلأت الدنيا فسادًا واضطرابًا. وما دام الأدب صورة لحياة الناس، فقد صوَّر الأدب الأوروبي بين الحربين آثارَ هذا كله، ثم صوَّر ما ملأ النفوس من روع وهلع، حين تتابعت نذر الحرب الثانية، فنشأ الأدب المظلم الذي سمَّاه الأوروبيون في ذلك الوقت الأدب الأسود. نشأ في أوروبا الوسطى كما نشأ في أمريكا، ولم يلبث أن شاع في فرنسا كما تشيع النار في الحطب.
ونشأت فلسفة متشائمة إلى جانب هذا الأدب المتشائم تقوم على اعتداد الإنسان بنفسه وبنفسه وحدها، وعلى إهدار القيم القديمة واستحداث قيم جديدة لا تكاد تحفل بالفضيلة والخير، ولا بالحق والجمال، كما عرفها الناس من قبلُ.
ولم تلبث هذه الفلسفة أن تجاوزت مكاتب الفلاسفة والمفكرين إلى رءوس الشباب، فأحدثت شرًّا كثيرًا، أحدثت استهتارًا بالنقائص على اختلافها، وانتهازًا للفرص واختلاسًا للذات كلما أُتِيح اختلاسها، وازدراءً للأوضاع الاجتماعية المألوفة، واستخفافًا بالسنن الموروثة. كما أحدثت زهدًا في الحياة، وسخطًا عليها، ونفورًا منها، وتهالكًا على الانتحار. ثم جاءت الحرب الثانية فأضافت شرًّا إلى شر، ونكرًا إلى نكر، وثبَّتت في نفوس الناس ما كان يضطرب فيها اضطرابًا، وأقرَّت في عقولهم وقلوبهم ما كان يخطر لها ولا يكاد يتأصَّل فيها.
وعظم خطر الأدب المظلم هذا كما عظم خطر الفلسفة المتشائمة تلك … فشاع في الشعر، وشاع في المقالات، وشاع في القصص، وحاول أن ينفذ إلى التمثيل، فأُتِيح له شيء من نُجح أول الأمر، ولكنَّ الناس لم يلبثوا أن انصرفوا عنه وزهدوا فيه، وأصبح التمثيل المتشائم هذا أدبًا يُقرَأ ولا يكاد يُعرَض على النظَّارة حتى يستخفي؛ لأن الجماعات لا تثبت للتعمق الفلسفي، وإنما هي تذهب إلى ملاعب التمثيل تلتمس فيه الجد الذي يثير العواطف ويدعو إلى العبرة والموعظة، ويكفل المتعة الأدبية الخالصة، ويُخرِج الناس عن أطوارهم التي ألفوها، ويحط عنهم أثقالهم التي تنوء بهم أثناء النهار، أو يلتمسون فيها الفكاهة التي تسري عنهم الهمَّ، وتغري بهم الضحك، وتسوق إليهم الرضى، وتهدي إليهم الفائدة من حين إلى حين.
فأما الجلوس إلى تعمُّق الحقائق الفلسفية العليا، فليس من جمهور النظَّارة في شيء، وجمهور النظَّارة — كما تعلم — يتألف من أخلاط من الناس تتفاوت حظوظهم من الثقافة والمعرفة وحُسْن الاستعداد، والتأتِّي لمواجهة ما يثير العقل من المشكلات.
وكاتبنا الذي أقدِّم لقصته بهذه المقدمة الطويلة أحد هؤلاء الأدباء المتشائمين الذين أخذ التشاؤمُ عليهم نفوسَهم من كل أقطارها، وهو قد واجه قرَّاءه في أواخر الحرب الثانية وفي أعقابها بمذهبه الفلسفي المشهور؛ مذهب العبث، وهو مذهب قديم في أصله، جديد في صورته، يقوم على أن وجود هذا العالم لا حكمة له فيما يرى العقل.
فلا تَسَلْ إذن عن غاية هذا الوجود أو عن عِلَّته، فالعقل لا يعرف له علة كما أنه لا يعرف له غاية، والعالم عند هذا الكاتب أشبه شيء بالأسطورة القديمة التي اتخذ منها اسمًا لكتابه ذاك، وهي أسطورة البطل اليوناني كيزينوس الذي قضى الآلهة عليه أن يرفع صخرة من أسفل الجبل إلى قمته، فهو لا يزال يدفع هذه الصخرة أمامه حتى ينتهي بها إلى القمة، ولكنها لا تبلغها حتى تنحدر عنها إلى القاع، فهو في جهد متصل، ولكنه جهد لا غاية له ولا نفع فيه.
ثم لم يكتفِ الكاتب بأن يصوِّر مذهبه هذا في كتاب أدبي فلسفي، وإنما أراد أن يذهب به مذهب التمثيل، فوضع طائفة من القصص إحداها قصتنا هذه، وهي تعتمد على أسطورة شائعة في أوروبا الوسطى فيما يقال.
وتلخيصها يسير، فالفصل الأول منها يُرفَع فيه الستار عن فندق متواضع من فنادق القرى تديره أيِّمٌ وابنتها وخادم لهما شيخٌ، وقد تعوَّدت الأم وابنتها اقتراف نوع غريب من الجرائم؛ فهما تستقبلان أضياف الفندق — وقلَّما ينزل الناس به؛ لأنه بعيد منعزل في قريةٍ قلَّما يُلمُّ بها غرباء — فإذا كان الضيف فقيرًا ومتوسط الثراء، ألمَّ بالفندق في يُسْر وانصرف عنه في سلام، وإذا كان غنيًّا ظاهر الثراء ألمَّ بالفندق، ولكنه لا يخرج منه إلى حيث يخرج الأضياف الأحياء، وإنما يُسقَى قدحًا من الشاي فيه منوم، فإذا أغرق في نومه أقبلت الأم وابنتها وخادمهما عليه فاحتملوه إلى النهر غير بعيد وألقَوه فيه أثناء الليل، واحتجزوا ماله وحرقوا ثيابه وأوراقه وكل ما يدل عليه. ولهذه الأيِّم ابن قد غاب عنها في طلب الثراء منذ عشرين عامًا، وانقطعت عنها أخباره، فهي لا تعرف من أمره شيئًا، كما أن ابنتها لا تعرف من أمر أخيها ذاك شيئًا.
ونحن نراهما في أول القصة وقد خلَتْ إحداهما إلى الأخرى، وهما تتحدثان عن ضيف ألمَّ واحتجز لنفسه غرفة من غرفات الفندق، ثم ذهب ليعود إلى غرفته بعد حين. وهما تتحدثان عن ثرائه وعن أنه ظاهر اليسار لم يسأل عن أجر غرفته، ولم يحفل به كما يفعل الفقراء وأوساط الناس. وهما تتمنيان عودته لتصنعا به صنيعهما بغيره من الأضياف الأغنياء، تتحرق الفتاة إلى هذا تحرُّقًا وتُقبِل الأم عليه مستكرهة لا تنشط له كما تعودت أن تنشط لمثله فيما مضى. أما الفتاة فتتحرق لأنها طامحة إلى الغنى الذي يتيح لها أن تهجر هذه القرية، بل أن تهجر وطنها كله لتسعد بالحياة الحرة الناعمة حيث البحر والشمس، وقد ملكت أمواج البحر وأشعة الشمس عليها أمرها كله، فهي تريد أن تظفر بهما مهما يكلفها ذلك من جهد أو إثم.
ويُقبِل الضيف ولا نلبث أن نفهم أنه ابن الأيِّم وأخو الفتاة، أقبل من مهاجره البعيد لِيَبرَّ أمه وأخته وينقذهما من حياتهما الضيقة، وهو متنكر لا يعلن اسمه ولا شخصه، يريد أن يفاجئهما بالحق من أمره بعد أن يمتحن معرفتهما له وتذكرهما لشخصه، وهما لا تعرفانه ولكنَّ الأم تحس إشفاقًا عليه، إشفاقًا غامضًا لا تفهمه ولا تعلِّله إلا بالتعب الذي يأتيها من الشيخوخة، وقد أقر الفتى زوجه في فندق آخَر وتدبَّر معها أمره تدبيرًا، ولكن زوجه لا تحب منه هذا الاحتيال، وإنما تؤثر الصراحة وتريده على أن يعلن إليهما نفسه في غير لعب ولا مداورة، وهي تكره أن تفارقه ليلة كاملة؛ لأنها لم تفارقه منذ اقترنا، ولكنه مصِرٌّ على حيلته؛ يريد أن يمتحن بها نفسه وأمه وأخته. والأم رفيقة به، وابنتها عنيفة به أشد العنف، كلتاهما لا تعرفه ولا تحقق شخصه، ولكن في قلب الأم ميلًا غامضًا إليه ورحمة غامضة له، وفي قلب الفتاة طمع في المال وشوق إلى البحر والشمس، والخادم الشيخ يتردد بين حين وحين لا ينطق بحرف، ولا يسمع له صوت، والحوار بين الفتى وأخته غريب فيه ما ينبغي من الغموض؛ لأن الفتى يخفي نفسه، وفيه ما ينبغي من عنف الفتاة؛ لأنها لا تفهم ولا تسيغ أن يكون القاتل رءوفًا عطوفًا عليه، وقد أعدت للفتى غرفته وصعد إليها وأقبلت أخته عليه بعد حين كأنها تريد أن تصلح في الغرفة شيئًا، فيكون بينها وبينه شيء من هذا الحوار الغامض الذي يرفق فيه هو وتعنف فيه هي، يريد هو أن يتلطف؛ ليعرف هذه الأسرة وليعرِّف إليها نفسه، وتأبى هي كل رفق؛ لأن أمر هذا الفتى لا يعنيها إلا من حيث الغاية التي يجب أن ينتهي إليها وهي الموت.
وتعود الفتاة إلى الغرفة بعد حين حاملة إليه قدح الشاي فتضعه وتنصرف مع أنه لم يطلبه، ولكنها تزعم له أنه خُيِّلَ إليها ذلك، والفتى يشرب ما في القدح، ولا يكاد يفرغ منه حتى تأتي أمه تريد أن تحتال في صده عن هذا القدح الذي قُدَّم إليه خلسة وعلى غير علم منها؛ فإذا رأته قد أفرغه في جوفه أذعنت لما ليس لها منه بدٌّ، ولكنها على ذلك تتحدث إلى الفتى رفيقة به، متحبِّبة إليه، والفتى يرضيه ذلك فيمضي معها في الحديث، ويوشك أن يفضي إليها بذات نفسه لو اتصل الحديث ولكنه لا يتصل؛ فالفتى متعب مكدود قد أدركه النوم، ثم اشتمل عليه. وتأتي الفتاة فيكون بينها وبين أمها شيء من صراع الأم محزونةً ضيقة بابنتها التي خالفت عن أمرها، وتعجَّلَتْ موتَ الفتى، والفتاة عجلة تريد أن تفرغ من أمرها لتسرع بعد ذلك إلى السفر. وهي تأخذ كل ما في ثياب الفتى من مال، وما تزال بأمها تتعجلها وتلحُّ في تعجُّلها، حتى تنتهي بها إلى ما تريد.
وكذلك التقت هذه الأسرة في الفصل الأول من القصة، وانتهت إلى غايتها في الفصل الثاني. فإذا رُفِع الستار عن الفصل الثالث، فنحن في الصباح، وقد ألقي في النهر والفتاة راضية، والأم محزونة كارهة، والفتاة مبتهجة قد استرد وجهها نضرته، واسترد ثغرها ابتسامته، واسترد قلبها الغبطة والأمل، ولكنَّ الخادم الشيخ يُقبِل صامتًا صارمًا، ويدفع إليها جواز السفر الذي كان بين أوراق الفقيد، فلا تكاد تنظر فيه حتى يسقط في يدها وحتى تدفعه إلى أمها، فإذا نظرت فيه اشتمل عليها حزن يائس ولكنه هادئ لا ثورة فيه.
حزن يعيد إلى قلبها ما كان قد ندَّ عنه من حب ابنها، ويغمر قلبها بهذا الحب بعد أن فات أوان الحب، وبعد أن لم يَبْقَ إلى استدراكه سبيل.
والحوار عنيف بين الفتاة وأمها لا في الإثم بل في عواقبه … فالفتاة لا تحفل بأخيها؛ لأنها لم تعرفه، ولم تقبِّله قطُّ، ولا تذكر أنه قبَّلها، وهي طموحة إلى الحياة تريد أن تستنفد لَذَّاتها كلها، تريد أن تفر إلى البحر والشمس، وأن تنعم بكل ما تنعم به فتاة في نضرة الشباب … والأم يائسة بائسة قد أزمعت أن تلحق بابنها في النهر، وأن تستقبل معه هذا العدم بعد أن لم يُتَحْ لها أن تستقبل معه الوجود.
والفتاة تنازعها في حبها وتلحُّ عليها في ألَّا تتركها، ولا تنأى عنها ولا تسلِّمها وحدها لخطوب الحياة … ولكن الأم حازمة مصممة قد سئمت الحياة وأثقالها، وعجزت عن احتمال إثمها هذا الأخير على كثرة ما احتملت قبله من الآثام. وهي تترك ابنتها وحدها وتمضي في سرعة هادئة إلى النهر لتلتمس فيه الموت … ولا تكاد الفتاة تخلو إلى نفسها حتى تُقبِل عليها زوج أخيها تسأل عن زوجها، فتُنبِئها الفتاة بكل شيء، ويكون بينهما حوار يصوِّر اللوعة اليائسة في نفس الزوج والقسوة اليائسة في نفس الأخت، إحداهما مولهة لا تدري ماذا تصنع، ولا كيف تحتمل رُزْءَها، وهي تتجه إلى الله تسأله الرحمة والمعونة، والأخرى يائسة من الأرض والسماء جميعًا، قد أزمعت أن تموت، ولكنها لا تريد أن تموت في النهر حيث مات أخوها الذي تبغضه، لأن أمها آثرته عليها، وحيث ماتت أمها التي لم ترحمها، ولم ترثِ لشبابها وآثرت أن تلحق بابنها الميت على أن تصحب بنتها الحية، وتستقبل معها السعادة والمتاع، وإنما تريد أن تموت شنقًا في غرفتها، وهي تترك زوج أخيها مولهةً مدلهة معولة تلتمس رحمة الله ومعونته، وإذا الخادم الشيخ يُقبِل على هذه الزوج البائسة، يحسبها قد دعته فإذا التمست منه المعونة والإشفاق أجابها بأول كلمة وآخِر كلمة نسمعها منه في القصة، وهي: «لا». وعلى هذه الكلمة الحاسمة يُسدَل الستار.
فأنت ترى أن القصة لم تبتكر شيئًا، وإنما صوَّرتْ تلك الأسطورة القديمة.
ولم تصوِّرها تصويرًا خالصًا للأدب، وإنما صوَّرتها تصويرًا توشك الفلسفة أن تستأثر به. ففيمَ وُجدت الأم وابنها وابنتها؟ وفيمَ ماتوا؟ وما غاية وجودهم؟ وما غاية موتهم؟ وهذه الأيِّم البائسة التي أقبلت مع زوجها ليستخلصا هاتين المرأتين من حياة الخشونة والضيق، فكانت عاقبة أمرهما موت هؤلاء الثلاثة في غير طائل ولا غناء. وهذا الخادم الصامت الذي لا ينطق بحرف إلا هذه الكلمة التي تصور اليأس ولا تصور شيئًا غير اليأس، مَن هو؟ ومَن عسى أن يكون؟ إنه القضاء الذي لا يحفل بالناس ولا بما يلقَون من لين الحياة وشدتها، بل لا يحفل لا بما يختلف عليهم من حياة أو موت، فقد أوجدهم لغير علة ولا غاية … أوجدهم مُعرِضًا عنهم، ساخرًا منهم، غير مفكِّر إلا في نفسه، غير مُعرِب حتى عن تفكيره في نفسه.
وكذلك صور الكاتب مذهبه الفلسفي ذاك تصويرًا قد يكون حسنًا، ولكن التكلُّف فيه ظاهر يوشك أن نلمسه بأيدينا. فما هذه الحيلة التي ابتكرها الفتى ليفاجئ أمه وأخته بعد أن غاب عنهما عشرين عامًا؟ وما هذه المطاولة والمداورة المصنوعة بين هؤلاء الثلاثة الذين لم يُتِح الكاتب لهم أن يجتمعوا إلا ليقضي عليهم آخِر الأمر أن يتفرقوا، وأن يكون الموت هو الذي يفرِّق بينهم؟
وقد مُثِّلت هذه القصة في القاهرة على أحد المسارح الخاصة منذ أيام، وشهدتها بعد أن كنتُ قرأتها منذ أعوام، وأعترف بأني لم أجد أثناء شهودها — كما لم أجد أثناء قراءتها الأولى، ولا أثناء قراءتها الثانية التي فرغت منها اليوم — ما تعوَّدْتُ أن أجده من المتعة الأدبية. ولولا أن الممثلين والممثلات كانوا من البراعة في فنِّهم بحيث سحروا أعين النظَّارة وخدعوهم عن أنفسهم، لما تركت هذه القصة في قلوبهم أثرًا، ولما دفعت أيديهم إلى التصفيق.
وأكاد أقطع بأن النظَّارة إنما صفَّقوا للممثلين والممثلات، لا للقصة ولا لكاتبها. وأمثال هذه القصة التي تغلب عليها الفلسفة وتستأثر بها من دون الأدب، كثير في الأدب الفرنسي المعاصر، وكتَّابه الظاهرون هم هؤلاء الثلاثة: جان بول سارتر، وألبير كامو، وجبرائيل مارسيل، وإن كان ثالثهم يذهب بفلسفته الوجودية مذهبًا دينيًّا مسيحيًّا قد أعرض له في يوم من الأيام.