مِنْ أدَبنا الحَديث
أريد اليوم أن أحدِّثك عن كتاب رائع بأدق معاني هذه الكلمة وأصدقها للأستاذ نجيب محفوظ، وهو كاتب «زقاق المدق».
وقد يثقل هذا العنوان على لسان الناطق وأذن السامع، ولكنك لا تكاد تسمعه وتنطق به حتى تتبيَّن أنك مُقبِل على كتاب يصوِّر جوًّا شعبيًّا قاهريًّا خالصًا؛ فهذا العنوان يوشك أن يحدِّد موضوع القصة وبيئتها، وقد ذكرتُ القصةَ ومن قبل ذلك ذكرتُ الكتاب؛ لأن لهذا السِّفْر قيمتين خطيرتين حقًّا، إحداهما أنه قصة متقنة رائقة لا تكاد تأخذ في قراءتها حتى تستأثر بك استئثارًا كاملًا، وتشغلك عن كل شيء غيرها، ثم تمضي فيها حتى إذا فرغت منها لم تستطع الإعراض عنها كما تعرض عن كثير من الكتب والقصص بعد أن تفرغ من القراءة، وإنما أنت ذاكر للقصة مفكِّر في كثير من أحداثها وأشخاصها، حريص على أن تستزيد من مصاحبة الكاتب والنظر فيما أظهر من كتب أو قصص أخرى، قد أحببتَ الكاتبَ واستعذبتَ روحه، وشقَّ عليك أن تفارقه أو أن تُشغَل عنه بغيره من الكتَّاب.
أما القيمة الثانية الخطيرة لهذا السفر الضخم فهي أنه بحث اجتماعي متقن كأحسن ما يبحث أصحاب الاجتماع عن بعض البيئات، يصوِّرونها تصويرًا دقيقًا، ويستقصون أمورها من جميع نواحيها، وما أكثر ما خطر لي وأنا أقرأ هذا الكتاب أنه لم يُوجَّه إلى الكثرة من القرَّاء ليجدوا فيه ما يطلبون من المتعة الفنية الخالصة التي تشوق وتروق، وإنما وُجِّه أيضًا إلى الباحثين الاجتماعيين الذين يبحثون ليعلموا، وإلى الباحثين الاجتماعيين الذين يبحثون ليصلحوا. ولا أكاد أعرف كتابًا أجدر بأن يقرأه وزراء الشئون الاجتماعية ورجال البحث والاستقصاء في هذه الوزارة من هذا الكتاب؛ فهو قصص وعلم في وقت واحد، وهو من أجل ذلك مُرْضٍ للقلب والعقل والذوق جميعًا.
وهو يصوِّر لك حارة صغيرة في هذا الحي القاهري الخالص بين الغورية والأزهر، ثم يصوِّرها تصويرًا يحصي دقائقها، ولا يغادر من أمرها كبيرًا ولا صغيرًا إلا أحصاه كأحسن ما يكون الإحصاء، وكأصدق ما يكون الإحصاء أيضًا.
في هذه الحارة الصغيرة قهوة شعبية يطرأ عليها الطارئون من الأحياء القريبة والبعيدة أيضًا، ولكن يختلف إليها في كل يوم أشخاص بعينهم لا يتخلفون عنها مهما تكن الظروف، وفيها وكالة شعبية أيضًا في مظهرها وحركاتها التي يضطرب بها الناس فيها، ولكنها على ذلك تؤدي ثراء عظيمًا ضخمًا، وترزق عمَّالًا وموظفين كثيرين، وصاحبها رجل من الشعب قد امتاز بالثروة والغنى، وظهرت عليه آثار هذا الامتياز، فهو أنيق الزي وسيم الطلعة، يخالط أهل الحي مخالطة متصلة، ويمتاز منهم على ذلك امتيازًا ظاهرًا. تغدو به على الزقاق وتروح به من الزقاق عربة أنيقة تجرها الخيل، ولها جرس يسمعه أهل الزقاق فيعلمون بغدوه ورواحه، ولكنه لا يكاد يبلغ الزقاق حتى يصبح واحدًا من أهله، يأنس إليهم ويأنسون إليه، ويمتاز منهم بعد ذلك بهدوئه وأناته وشيء من الترفع ليس استعلاء ولكنه يوشك أن يبلغ الاستعلاء، وأهل الزقاق يكبرونه ولكنهم يرونه واحدًا منهم، يرونه سيدًا أو شيئًا يشبه السيد، بينهم وبين الذين يسودهم هذه الألفةُ الأنيقة التي تقرِّبه منهم كل القرب، وتبعده منهم بُعْدًا شديدًا.
وفي الزقاق حانوت حلاق، وبائع للبسبوسة، وفرن خباز تتسلط فيه الزوجة على زوجها تسلُّطًا كاملًا.
وفي الزقاق بعد ذلك بيتان يستأجر حجراتهما وغرفاتهما هؤلاء الذين يعيشون فيه، ويقيم فيهما بعد ذلك صاحباهما.
فأما أحدهما فرجل تعلَّم في الأزهر حتى كاد يتخرج فيه، ولكن الله لم يفتح عليه بالعالمية، وقد طابت نفسه عن هذا الإخفاق، وأقبل على شيء من التصوف ذَكَتْ به نفسه، وطهر به قلبه، وصفا به طبعه وذوقه، فأحبَّه أهل الزقاق وأكبروه، واتخذوه لأنفسهم ناصحًا ومرشدًا يستشيرونه حين تشق عليهم مشكلات الحياة، ويفزعون إليه حين تلمُّ بهم النائبات. والأخرى امرأة بلغت الخمسين أو قاربتها، ترمَّلتْ منذ عهد بعيد وشقَّتْ عليها الوحدةُ حتى ضاقت بها، فهي تتوق إلى الزواج في استحياء، ثم هي حريصة بخيلة كانزة للمال، متهالكة عليه، ترهق سكان بيتها من أمرهم عسرًا. ولا بد من أن نذكر كائنًا آخَر غريبًا يعيش في الزقاق قريبًا منه ويرقون له أحيانًا، قد صور القذارة أبشع تصوير وأشنعه؛ قذارة الجسم، وقذارة الزي، وقذارة النفس، وقذارة السيرة، وهو شحاذ أو قُلْ أستاذ الشحَّاذين يعلمهم المهنة، ويهيئهم لها ويتكلف لهم العاهات والآفات التي يحتاجون إليها ليستدروا إشفاق الناس وعطفهم، وهو يسكن حجرة قذرة ملحَقة بالمخبز، خالية أو كالخالية من كل شيء ينفق فيها النهار كله، وشطرًا من الليل، ثم يخرج في جوف الليل كأنه الشيطان، فيطوف على تلاميذه ليأخذ منهم الإتاوة التي فرضها عليهم.
ويختلف على القهوة في الزقاق إذا أقبل المساء من كل يوم، رجل غريب الأطوار، كان موظَّفًا في الأوقاف، وانتهى به أمره إلى تصوُّف ذاهل أو ذهول متصوف، فهو يسمع ما يجري من الأحاديث حوله، ولكنه لا يقول شيئًا، وهو هائم في ذهوله بأهل البيت — وبستِّ الستَّات — منهم خاصةً، قد غمره حبها وانقطع لها انقطاعًا لا يكاد يتبيَّنه، وهو يجلس في القهوة بشخصه، ولكن نفسه غائبة عنها وربما عادت إليها بين حين وحين فنطقت بجملة أولها عاقل وآخِرها مجنون، وأهل الزقاق يرونه وليًّا من أولياء الله الصالحين، يتبرَّكون به ولا يستطيعون أن يستغنوا عنه بحال من الأحوال.
هذا هو الزقاق، وهؤلاء هم أهله، ولكل واحد منهم قصته التي تصوِّر حياته ومزاجه وأخلاقه ومواطن الخير والشر فيه، وهذه القصص الكثيرة يتصل بعضها ببعض، ويدخل بعضها في بعض، فهي متشابكة تشابكًا غريبًا، والكاتب مع ذلك يعرضها كلها عليك في نظام أي نظام، في نظام واضح متَّسِق سهل لا غموض فيه ولا لبس ولا التواء.
في نظام يذكرك بمذهب الكاتب الأمريكي «دوس باسوس»، والكاتب الفرنسي «جان بول سارتر»، وهو مذهب يجري القصة كما تجري الحياة؛ فالناس يعيشون معًا في زمان واحد وأماكن متقاربة، والأحداث تعرض لهم في وقت واحد، فمن الطبيعي أن تعرض هذه الأحداث أطرافًا كما تحدث. يقص الكاتب عليك طرفًا من أحداث هذا الرجل، ثم ينتقل بك إلى طرف من أحداث رجل آخر، ثم إلى طرف من أحداث امرأة، وما يزال يتنقل بك بين أحداث الأشخاص على اختلافهم حتى إذا استقصى طائفة من أحداثهم عاد بك من حيث ابتدأ، فقصَّ عليك طرفًا من أحداث الرجل الأول، وتنقل بك بين الأطراف والأشخاص، وما يزال يفعل هذا عودًا على بدء، وبدءًا على عود، حتى ينتهي بك إلى آخِر الكتاب، وقد اجتمعت لك الأحداث التي أراد الكاتب أن يصوِّر بها حياة هؤلاء الأشخاص جميعًا.
فصاحب القهوة قد كان من الفتوات في شبابه، ثم انتهى به الأمر إلى قهوته تلك، وهو رجل ممتحن في بنيه كلهم، يعرض لهم الفساد فيُخرِجهم عما يحب الناس في حياتهم المألوفة، وهو ممتحن في أخلاقه وسيرته بشيء من الشذوذ المنكر، الذي يعرِّضه للفضيحة بين حين وحين، وينغص عليه حياته في منزله دائمًا.
وهو على ذلك يحب أهل الزقاق ويحبونه، وتجري الحياة بينه وبينهم على ما عرف الناس من حسن العشرة ولين الجانب. والحلاق فتًى ساذج لا يكاد يكسب إلا ما يقيم أوده، ولكنه يرى هذه الفتاة التي تقيم مع أمها أو مع مَن تقوم مقام أمها، يراها فيطير طائره، ويشغف قلبه، ويذهب لبه، حتى لا يعيش إلا بها ولها. وهذه الفتاة نفسها غريبة الأطوار حقًّا، لا تعرف لنفسها ولا يعرف الناس لها أبًا، وقد ماتت أمها وكفلتها امرأة خاطبة، وهي فتاة شرسة شموس شديدة الطموح، لا ترضى عن شيء ولا تقنع بشيء، ولا تحفل بشيء ولا بإنسان، وإنما تريد الغنى والزينة والترف، مع أنها تعيش في الدرك الأسفل من البؤس.
وهي تخرج كل يوم فتمشي في الطريق حتى تلقى صاحبات لها يعملن في بعض المشاغل، فتعود معهن ثم ترجع إلى دارها، وقد جعل الفتى يرصدها حتى أتيح له أن يتحدث إليها وأن يخطبها بعد جهد أي جهد، فتقبله غير راضية به ولا مطمئنة إليه.
وقد ترك الفتى مهنته وترك زقاقه على مضضٍ، ومضى يلتمس السعة بالعمل في الجيش البريطاني ليعود موسرًا ويتيح لامرأته حياة ناعمة، وقد غاب فأطال الغيبة، ثم عاد في إجازة ليرى خطيبته، ولكنه لا يكاد يبلغ الزقاق حتى يعلم أن الفتاة خرجت ذات يوم فلم تَعُدْ، وهو يائس بائس يوشك اليأس أن يقتله ويذهب الحزن به كل مذهب، وهو يبحث عن الفتاة ما استطاع، ولكنه يراها ذات مساء في عربة وقد اتخذت من الزينة ما بهره، ويعلم بعد ذلك من أمرها ما لم يكن يعلم، وما علمناه نحن؛ لأن الكاتب قصَّه علينا في أسلوبه الرائق، فكنا شهودًا وكان الفتى غائبًا يعمل في الجيش البريطاني.
فقد لقيت الفتاة مَن أغواها بعد عناء طويل وخطوب شداد، فأصبحت فتاةَ سوءٍ تبيع اللذة للجنود البريطانيين وتكسب لنفسها ولمغويها مالًا كثيرًا. ويدركها الفتى آخِر الأمر وهي ضيقة بذلك الذي أغواها لأنها لا تحبه وهو يتَّخِذها مكسبًا، وقد كان الفتى عليها ساخطًا قد أزمع ازدراءها إنْ لقيها، ولكنه لا يكاد يراها ويسمع صوتها حتى تسرق منه عقله وقلبه، وإذا هو يريد أن ينتقم من مغويها قبل كل شيء، ويصبح أداة في يدها للانتقام من هذا الرجل، وقد ضربا للانتقام موعدًا. وإنه ليمر ذات مساء ببعض الحانات، وإذا هو يراها بين جماعة من الجنود تشرب وتلعب، فيجن جنونه، ويهجم على الفتاة، ويرميها بزجاجة من زجاجات الخمر، ويتكاثر عليه الجنود فما يزالون به ضربًا ولكمًا حتى يُنقَل إلى المستشفى آخِر الأمر، ليفارق فيه الحياة والحب والانتقام جميعًا.
ولم ألخِّص لك القصة، لأن تلخيصها عسير جدًّا، لا سبيل إليه في فصل من هذه الفصول، وإنما لخَّصْتُ لك منها أطرافًا قليلة جدًّا، وما أشك في أن ما تركته من أطراف القصة، عظيم الخطر بالقياس إلى ما لخصته منها. عظيم من الناحية الاجتماعية أولًا؛ لأنه يشخِّص الزقاق ويشيع فيه روحًا خاصًّا، ويعرض عليك هذا الروح الحلو المر الذي يسرُّ قليلًا، ويسوء كثيرًا، ويدعو أشد الدعاء وأقواه إلى الإصلاح العاجل السريع الذي يعصم هذا الشعب القوي الفتي الخصب من الفساد والانحلال. وعظيم الخطر من الناحية النفسية؛ لأن الكاتب يحلِّل لك حياة الرجال والنساء والفتيان والفتيات تحليلًا دقيقًا رائعًا، ويعرض عليك خباياها عرضًا قلَّما يحسنه البارعون في علم النفس.
وعظيم الخطر من الناحية الفنية لأن الكاتب يصوِّر لك هذه الحياة الساذجة المعقدة السعيدة البائسة تصويرًا يروعك بدقته وصدقه حتى كأنك تعيش بين هؤلاء الناس، فتضحك حين يضحكون، وتحزن حين يحزنون.
والكتاب طويل ولكنك تفرغ من قراءته فتراه قصيرًا، والكتاب مفصَّل، ولكنك تمضي في تفصيله فتراه مجملًا، وما أعرف كتابًا يذود عن قارئه الملل كهذا الكتاب. وهو مكتوب في لغة فصيحة سهلة قد برئت من التكلُّف وامتازت بالإسماح، تتخللها بين حين وحين عبارات شعبية تقرؤها فلا تضيق بها، ولا تحس تنافرًا بينها وبين ما حولها من هذه اللغة السمحة المستقيمة على هنات قليلة فيها لا تستحق أن تُذكَر؛ فهو مثلًا يثني «ذات» فيقول: «ذاتا نبقتين من اللؤلؤ.» والخير أن يقول: ذواتا، وهو يقول: «قد استخار الله فأخاره.» والجيد أن يقول: فخار له.
ولكن هذه هنات يسيرة، وهي بعد ذلك قليلة في هذا الكتاب الطويل.
ما أجدر هذا الكتاب أن يُقرَأ! فهو كتاب ممتاز حقًّا، قد صدر عن كاتب ممتاز، ما في ذلك شك.
ولقد فرغت منه بعد أن أنفقت في قراءته أيامًا، فلم يسعني إلا أن آخذ في كتاب آخَر من كتبه هو «بداية ونهاية».