صحِّ النوم
لو كُتِبت هذه القصة قبل سنين لكانت حلمًا جميلًا رائع الجمال، ولو كُتِبت بعد سنين لكانت تاريخًا صادقًا دقيقًا، ولكنها كُتِبت في هذه الأيام، فاحتفظت بجمال الحلم وروعة جماله، وأخطأها التأويل الصادق الدقيق لهذا الحلم الرائع الخلَّاب، وكذلك شأن الكتَّاب المجودين، يحلمون دائمًا وترتقي أحلامهم في كثير من الأحيان إلى حيث تبهر وتروع، فإذا حاولوا تأويل أحلامهم وقفت الحقائق الواقعة حائلًا بينهم وبين ما يحاولون، وكذلك شأن الحياة الاجتماعية مع القصاص دائمًا يحسن فهمها في أحلام الليل، فإذا انجلت عنها الظلمات وغمرها نور النهار المطلق فأظهر أجزاءها مفصَّلَة، وكشف دقائقها من جميع أقطارها، ظهر الأمد بين حقائقها الواقعة وبين الصور التي عرضتها الأحلام البعيدة إلى أقصى غايات البُعْد. والقاص البارع شاعر يعرض علينا شعره منثورًا فيروعنا ويسحرنا، وخير له ألا يهبط من سماء الشعر إلى أرض الحياة الواقعة؛ لأنه يوشك — إن فعل — أن يجعل شعره الرائع نظمًا لا جمال فيه.
والأستاذ يحيى حقي قاصٌّ شاعر في قصصه ما في ذلك شك، قد أقام على ذلك فيما قدَّم من قصصه أدلةً لا يعرض لها الشك، وهو فيما سبق من قصصه قد بدأ أحلامه في الأرض، ثم ارتقى بها في الجو قليلًا قليلًا حتى بلغ مواطن الشعراء فوق السحاب، ولم أَنْسَ قصته الرائعة التي نُشِرت في الناس منذ أعوام طوال: «قنديل أم هاشم».
ولكنه في قصته هذه الأخيرة بدأ حلمه في مواطن الشعراء فوق السحاب، ثم جعل يتنزل به شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى مواطن الناس، والحمد لله على أنه قد وصل إلينا سالمًا موفورًا، لم يهض جناحاه ولم يدركهما هذا الإعياء الذي يمنعهما من التصعيد مرة أخرى أو مرات أُخَر في طبقات الجو، ليحلم هناك أحلامه الشائقة الممتعة.
ولو قد كان الأستاذ يحيى حقي شاعرًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لكان من الشعراء الرمزيين، الذين يرتفعون بفنهم عن هذه الصراحة الصريحة إلى هذه الصورة المجملة التي تشرق وتروق بما يحيط بها من الغموض، والتي تخيل إليك أنها قريبة منك لقوة حظها من الصدق … فإذا حاولت أن تحققها في نفسك أو تنالها بيدك، نَأَتْ عنك نَأْيًا بعيدًا، فهي دانية نائية وهي يسيرة عسيرة، وهي تخلبك وتصبيك بهذا القرب البعيد نفسه؛ تمنيك حتى تملكك، وتطعمك ثم توئسك، وتعلقك في هذه المنزلة الحبيبة إلى النفوس بين الرجاء والقنوط.
وقد طوف كاتبنا الأديب في أقطار الأرض وأقام في فرنسا حينًا من الدهر، وهو من الذين لا ينفقون حياتهم فيما لا يغني عقولهم وقلوبهم، ولا تشغلهم الحقائق الواقعة التي تزدحم حولهم في كل يوم عن أن يفرغوا بين حين وحين لما يغذو العقول والقلوب، ويمتع الطباع والأذواق من روائع الأدب والفن والموسيقى، وهو من أجل ذلك يمتاز بين كتَّابنا بالميل الظاهر إلى الرمزية في الأدب؛ فهو حين يكتب قريبٌ إلينا وغريبٌ فينا على نحوٍ ما.
وقصته هذه أصدق مظهر لقربه وغربته جميعًا؛ فهي تنقسم إلى قسمين مختلفين أشد الاختلاف.
تقرأ القسم الأول منها فيمتعك ما فيه من رمز، ومن دقة في التصوير، ومن تعبيرٍ يسيرٍ حلو عما يريد أن يصوِّر لك، ولكنك تحس في الوقت نفسه شيئًا من الغربة في هذه البيئة التي يعرضها عليك، فهذه القرية التي يصفها والتي يعيش فيها ويحبِّب إليك أن تعيش فيها معه مصرية إذا نظرت إلى دُورها، وما يصور لك من مظاهرها من الحقول التي تحيط بها، والقناة التي تجري منها غير بعيد، وهي مصرية لأن أهلها يتكلمون لغة المصريين، وتجري على ألسنتهم بين حين وحين جمل مصرية شعبية من هذه التي نألفها عند أوساط الناس في الريف، ولكنها على ذلك بعيدة عن مصر كل البُعْد بهذه الحانة التي تقيم فيها، والتي اتخذها أهل القرية مثابة لهم يستريحون فيها ويستريحون إليها إذا أوشك النهار أن ينقضي، بعد أن يفرغوا من أعمالهم.
فلسنا نعرف في قُرَانا حانة تشبه هذه الحانة التي صوَّرها الكاتب لنا، ولسنا نعرف من أهل الريف المصري مَن يخلص لصناعة صاحب الحان، ولا مَن يفرغ له من الجماعات منذ يقبل المساء حتى يتقدم الليل، وبناء الحانة نفسه غير مألوف في قُرَانا، هذا البناء الذي تقام الحانة في أسفله، ويسكن صاحب الحانة وزوجه في أعلاه، وتفرغ ربة البيت لتدبير الحانة وترتيبها إذا أسفر الصبح، ثم تعود إلى بيتها لتفرغ فيه إلى واجباتها المنزلية.
كل هذا لا نعرفه في قرية مصرية، ولكنه مألوف كل الإلف في كثير من القُرَى الفرنسية والإيطالية. والمترددون على الحانة أنفسهم من أهل القرية مصريون فيما يبدو من أشكالهم وصورهم ولغاتهم، ولكن أطوارهم وأذواقهم وأعمالهم وما يديرون بينهم من حديث، كل ذلك أجنبي قد نُقِل إلى مصر نقلًا؛ نُقِل من فرنسا، أو نُقِل من إيطاليا، أو نُقِل من أيٍّ من هذه البلاد التي أقام فيها الأستاذ يحيى حقي إقامة طويلة أو قصيرة. وأذكر أني هممت ذات يوم أن أسعى في أن يعم الراديو قُرَانا المصرية ليكون أداةً من أدوات الثقافة، وصلةً بينهم وبين ما يقع من الأحداث في القاهرة، فتحدَّثْتُ في ذلك إلى بعض أهل الريف، فسمعوا مني ثم ضحكوا لي وقال قائلهم: أين نحن من الفراغ للراديو؟ وإنما نحن عاملون في حقولنا منذ يسفر الصبح إلى أن تجنح الشمس إلى الغروب، فإذا رجعنا إلى أهلنا اختطفْنا عشاءَنا اختطافًا، ثم أوينا إلى فراشنا لنستريح من كد النهار إلى نوم الليل.
وهذا الفنان الذي هام بالموسيقى حتى يئس منه أبوه صاحب العربة التي يجرها فرس واحد، وكل هؤلاء الأشخاص الذين عرضوا علينا من الرجال والنساء، ليس بينهم وبين ريفنا المصري إلا أسباب واهية ضئيلة لا تكاد تستمسك، ولكني على ذلك كله، قرأت هذا القسم من القصة مستمتعًا بقراءته أعظم الاستمتاع وأقواه وأصفاه؛ لأنه قطعة من الأدب الممتاز الرائق حقًّا، قد لا يطابق الواقع من الحياة المصرية كل المطابقة ولكنه يشير إليها من بعيد، ويكسبه هذا شيئًا من الجمال الفني لا سبيل إلى مقاومته، بشرط أن يكون لقارئه حظٌّ من المشاركة في الثقافة والأدب والفن وعلمٌ بشئون الحياة في غير مصر.
ولست أخفي أني قرأت هذه القصة ثلاث مرات، وباعدت بين هذه القراءات المختلفة متعمِّدًا، فلم ينقص إعجابي بهذا القسم الأول منها، وعسى أن يكون قد زاد.
وليس هذا القسم وصفًا للقرية وأهلها فحسب، ولكن فيه فوق ذلك قصصًا مؤثرة حقًّا، نقرؤه فتخفق له قلوبنا وتهتز له نفوسنا، ونفكر في كثير من القصص الساذج العميق الذي نقرؤه لبعض الكتَّاب الغربيين؛ فهذه الفتاة السمراء التي خُلِقت للحب تدفعها إليه عواطف ثائرة يظهر عليها الهدوء، ونفس جامحة تظهر عليها الدعة، وإحساس بالبؤس يعطفها على الذين يشاركونها فيه، وإذا هي تشفق عليهم، ثم تُفتن بهم، ثم تمنحهم حياتها كلها. وهذا القصاب الذي رقَّ قلبه وصفت نفسه، وكرم طبعه، فارتفع عمَّا ألف الناس من الأثرة والجموح في الذود عن هذه الأثرة، واطمأنت نفسه إلى حب الخير والرفق بالضعيف، والبر بأولي القربى، حتى تجاوز عن كثير مما لا يحب الناس أن يتجاوزوا عنه.
كل هذا وكثير غير هذا قد صُوِّر في هذا القسم من القصة أقوى تصوير وأصدقه وأبلغه تأثيرًا في النفوس.
والأستاذ يحيى حقي يعرض علينا هذه القرية بما فيها من الفقر والبؤس، والتعزي عن آلام الحياة بما في الحانة من ألوان الشراب، وبما في أهلها من اختلاف الأمزجة وتبايُن المذاهب وتناقض الميول، يعرض علينا هذا كله ليرسم لنا قرية بائسة شديدة الحاجة إلى الإصلاح، ويلمح لنا بأن مصلح هذه القرية ليس بعيدًا عنها، وإنما هو فتًى من أبنائها يقيم في القاهرة منقطعًا للدرس والتحصيل وللتفكير أيضًا في شأن قريته، وهو الأستاذ كما يسميه أهل القرية …
ويعود الأستاذ إلى قريته فيبدأ القسم الثاني من القصة، ويتنزل الكاتب من مكانه ذاك البعيد في الجو إلى الأرض التي يعيش فيها الناس. وفي هذا القسم يعرض علينا تأويل حلمه الجميل؛ فهو كان يتمنى لهؤلاء البائسين من أهل القرية أن يخلصوا من البؤس وأن تزول عنهم أسبابه، وأن تغيض في قريتهم ينابيع الفساد، وتفجر فيها ينابيع الإصلاح؛ فيأكل الجائع، ويكرم المهين، ويعز الذليل، وتصفو الناس، وتطهر القلوب مما غشيها من الدنس والرجس، وتبرأ الطباع من الكسل والعجز والخنوع، وتجري في القرية حياة نقية راقية ليس فيها مكان لعاجز ولا لخامد ولا لمنحرف. وقد غاب الكاتب عن القرية حينًا، ثم عاد إليها فرأى المعجزة ورأى تأويل حلمه الجميل، ولكنه على ذلك رأى بين أهل القرية أفرادًا من الساخطين والطامعين والمنافقين، ورأى فيها كذلك فلاسفة قد مستهم الأحداث بعصي ساحرة، فأصبحوا حكماء يقبلون الحياة كما هي، ويرضون بحظوظهم منها، فقد أصبح صاحب الحانة فيلسوفًا يعيش بين القبور، ويستمد فلسفته من دفن الموتى وملاحظة ما يصيرون إليه من البلى، وهو يتحدث عن الحياة والموت حديث الفلاسفة الذين تعمَّقوا أسرار الحياة، وأصبح القصاب ناسكًا يجد أمن القلب وهدوء النفس ورضى الضمير في الصلاة والعفو عن إيذاء الناس له ومكرهم به وإطلاق ألسنتهم فيه، ويتحدث عن الصلاة حديث المتصوفين الصادقين. وأصبح سائق العربة سُؤَلَة قد لزم باب المسجد يتلقى من الناس بعض ما يتصدقون به عليه، راضيًا بحياته هذه رضى الرهبان الذين يجدون النعمة في تكفُّف الناس، والأستاذ بالطبع هو محدث هذه المعجزة، ولكن المعجزات على خطرها ومهما يكن شأنها لا تخلق الناس خلقًا جديدًا، ولا تمحو مشكلات الحياة محوًا تامًّا. وإذا كان الأستاذ يحيى حقي قد عرض علينا في القسم الأول من قصته حلمًا جميلًا رائعًا، وصوَّره تصويرًا دقيقًا بارعًا، فهو قد عرض علينا في القسم الثاني منها تأويلًا لهذا الحلم، وبرنامجًا من برامج الإصلاح.
وواضح أن قريته تلك هي مصر، ولا غرابة إذن في أن تكون فيها الحانة والعاكفون عليها من الناس.
وواضح أن محدث المعجزة هو قائد الثورة وأصحابه وأعوانه، وواضح آخِر الأمر أن الكاتب يريد أن يرضينا عما تمَّ في مصر من الإصلاح، ويعزينا عمَّا لا يزال فيها من آثار الضعف وبقايا الفساد؛ لأن باريس لم تُبْنَ في يوم واحد كما يقول الفرنسيون. ولكني لا أكتم الكاتب الأديب أني أوثر حلمه الرائع الجميل على برنامجه في فلسفة الإصلاح؛ لأني أجد في حلمه أدبًا رفيعًا بارعًا، ولا أجد في برنامجه إلا كلامًا نقرؤه في كل يوم، وتعليل ذلك هين يسير، فلم يَئِنْ للثورة المصرية بعدُ أن تكون موضوعًا للقصص الأدبي الرفيع، لأنها ما زالت قائمة لم تبلغ غايتها بعدُ؛ فنحن نشهدها ولا نحلم بها، ونحن إذا تحدثنا عنها آثرنا النصح الصادق والمشورة الخالصة، وأخذنا أنفسنا بألوان من القصد قد لا يألفها الخيال.
وأنا مع ذلك حريص أشد الحرص على أن أهنِّئ الكاتب الأديب بقصته، وأتمنى أن يذهب بعض شبابنا مذهبه في أحلامه، وفي تصويره البارع لهذه الأحلام.
وفي القصة بعد ذلك هنات لغوية ما أرى إلا أن الكاتب قد غفل عنها حين صحَّح تجارب الطبع، وما أشك في أنه سينتبه لها في طبعاته المقبلة إن شاء الله، وحسبه أنه كتب قصته بلغة فصيحة نقية ليس فيها شيء من الابتذال.