حَديث الجِيَاع
ما أكثر ما تحدثنا عن الفن والحياة، وعن الحياة والفن، وعن أيهما يكون وسيلة إلى صاحبه دون أن ننتهي من هذه الأحاديث التي لا تنقضي إلى نتيجة مرضية أو غير مرضية، وإنما هو كلام يملأ أنهار الصحف ثم يمضي مع الريح، لا يصل إلى شيء ولا يبقى منه شيء.
نُبدئ فيه ونعيد، كأن الفن عندنا قد ملأ علينا الأرض كلها، وأخذَنا في جميع أقطارنا حتى كاد يُغرِقنا، فنحن نتخفَّف منه بالحديث عنه، أو كأن الفن عندنا قد التوى عن طريقه فضلَّ وأضلَّ، فنحن نلح في الحديث عنه، والحديث إليه، لنرده إلى قصد السبيل، ونوجِّهه إلى وجهته التي لا ينبغي أن يجور عنها.
والناس جميعًا يذكرون ذلك الفيلسوف اليوناني القديم الذي تتحدَّث الأقاصيص عنه لأنه كان يمشي في ضوء النهار وفي يده مصباح يبحث به عن الرجل، ويوشك كتَّابنا الذين يبدءون في أمر الفن ويعيدون أن يكون كلٌّ منهم ذلك الفيلسوف ذا المصباح، إلا أنهم لا يبحثون عن الرجل وإنما يبحثون عن الفن، أين هو؟ وأين يمكن أن يكون؟ وإن كان بحث ذلك الفيلسوف عن الرجل ما زال خالدًا، وما زلنا محتاجين إلى أن نعرف الرجل الجدير بهذا الاسم أين هو؟ أو أين يمكن أن يكون؟ ولكن هذه قصة أخرى.
فَلْنمضِ في حديث كتَّابنا هؤلاء، وحديثهم الذي لا ينقضي عن الفن، أين هو الفن الذي يتحدثون عنه؟ وما لهم حين يتحدثون عنه لا يسمُّون أصحابه، ولا يصفونه بصفاته التي تميِّزه وتدل على أنه فن للحياة، قد سُخِّر لها تسخيرًا، فأصلحها وقوَّاها ورقَّاها وجعلها جديرة أن تُحَبَّ، وأن تُحتمَل على ما فيها من أثقال، أو تدل على أنه فن قد سُخِّرَتِ الحياةُ له فصوَّرته في صوره النضرة الرائعة، وجعلته فنًّا فذًّا تهوي إليه الأفئدة، ويتنافس فيه المتنافسون، وتغبطنا من أجله الأمم والشعوب.
أما أنا فأعتذر إلى هؤلاء الكتَّاب من حديث عسى ألَّا يستسيغوه ولا يطمئنوا إليه؛ فقد يُخَيَّل إليَّ أنه لو قد كان لنا فن لشُغِلْنا به، ولأمعنا فيه، ولذهبنا في نقده المذاهب، ولأراحنا هذا كله من هذا الدوار الذي يوشك أن ينتهي بنا إلى الإعياء لكثرة ما ندور حول الفن في غير طائل دون أن نقف عنده أو نقول فيه شيئًا ذا بال، وما أرى إلا أن أحاديثنا هذه الطوال تُشبِه حديث الجياع الذين يحلمون بما يردُّ عنهم لذع الجوع، وحديث الظمأى الذين يحلمون بما يكسر عنهم حرَّ الظمأ، فهم يرسلون نفوسهم في هذه الأحلام الحلوة الرائقة، وهم يتحدثون بما تزيِّنه لهم هذه الأحلام، يلهون بذلك أنفسهم عن الجوع، وعسى أن تغرَّهم أحاديثهم فتخيل إليهم أنهم قد بلغوا ما يشتهون.
وأي شيء أدل على ذلك من أن هؤلاء الكتَّاب عندما يتحدثون عن الفن الذي يكرهونه، إنما يذكرون فن القدماء؟ ويعيبون أنه كان بعضه موجَّهًا إلى الملوك والإقطاعيين يغرهم ويلهيهم، منصرفًا عن جماعات الشعب الكادحة لا يحفل بها، ولا يحسب لها حسابًا، وقد يذكرون فن الشيوخ الذين لم يدركوا الحياةَ الجديدة، أو لم تدركهم الحياةُ الجديدة، فساروا سيرة القدماء، وأنتجوا مثل ما كان القدماء ينتجون، فإذا تحدَّثوا عن الفن الذي يحبون، ذكروا فن جماعات من الأجانب على اختلاف مواطنهم، يرون أنهم صوَّروا الحياة فأحسنوا تصويرها، وكان فنهم من أجل ذلك نافعًا لهم وللناس، فإذا أرادوا أن يتحدَّثوا عن الفن المصري الذي يحبونه لم يقولوا شيئًا؛ لأنهم لا يجدون ما يقولون، أو لأنهم لا يجدون الفن الذي يستطيعون أن يقولوا فيه، فقاموا حيث هم يتمنون ويحلمون وينتظرون أن يهبط عليهم هذا الفن المصري الجديد من السماء، أو ينجم لهم من الأرض، أو تأتيهم به معجزة من المعجزات وأعجوبة من الأعاجيب. وهم كذلك يتحدثون عما كان، ويحرصون على ألَّا يعود، ويتحدثون عما هو كائن في بلاد الغرب ويتمنَّون أن يَرَوه في بلادهم في يوم من الأيام. والتمسْ إنْ شئتَ أثرًا فنيًّا مصريًّا يعجب كتَّابنا هؤلاء، ثم التمِسْ نقدَهم لهذا الأثر وآراءهم فيه وتوجيههم للذين يريدون أن ينتجوا في الفن، فلن تظفر بشيء، ورحم الله أبا العلاء حين ذكر شعر ابن هانئ الأندلسي، فذكر الرحى التي تطحن قرونًا لأنها تجعجع ولا تنتج شيئًا.
أليس خيرًا من كل هذه الأحاديث التي قد بلغت طور الإملال أن نلتمس الأسباب التي قصرت بشبابنا عن أن يبلغوا من الفن ما يريدون، وأن نجدَّ في استقصاء هذه الأسباب، حتى إذا عرفناها وأحصيناها أو أحصينا أكثرها، بذلنا ما نملك من الجهد لإصلاح ما يحتاج إلى الإصلاح، وتغيير ما يحتاج إلى التغيير، وتهيئة الشباب لأن يتلَقَّوا الحياة محسِّين لها، شاعرين بها، بالغين بحسِّهم وشعورهم وفهمهم أعماقها وأعماق ما يكون فيها من الأحداث؛ لتتأثر بها قلوبهم وعقولهم وأذواقهم، وليحاولوا بعد ذلك تصوير ما يجدون من هذا التصوير، على أن يكونوا قد هيئوا لإحسان هذا التصوير، ومكنوا من أن يبلغوا به نفوس غيرهم من الناس.
فقد نستطيع أن نمضي إلى غير غاية في الحديث عن الفن للحياة والحياة للفن، وعن صعود الشعب إلى الفن في سمائه، أو هبوط الفن إلى الشعب في أرضه، وعن الفن للفن، والفن للناس، فكل هذا كلام قد قيل من قبلُ، وقد فرغ الناس منه أو كادوا يفرغون، وكان الذين يقولونه — وما زال الذين يخوضون فيه — لا يكتفون بالكلام، وإنما يضيفون إلى الكلام عملًا فينتجون، أو ينتج غيرهم آثارًا فنية تلائم المذاهب القديمة أو المذاهب الجديدة، ويكثر النقد لأولئك وهؤلاء، ويقرأ الناس كلام النقَّاد ويسعون إلى هذه الآثار الفنية، فينظرون ثم يرضون أو يسخطون. وتتصل الحياة الخصبة بين جماعات الشعب وبين أصحاب الفن، وبين أولئك وهؤلاء وبين الناقدين، ولا يصبح حديث الفن أشبه شيء بحديث الحالمين أو بهذيان المحمومين، وَلْيُرِح الكتَّاب أنفسهم، فهم مهما يفعلوا ومهما يكثروا الحديث ويطيلوا فيه، لن يستطيعوا تغيير طبيعة الفن.
لن يجعلوه للحياة، ولن يجعلوا الحياة له؛ لأنهم لا يريدون هذا أو ذاك، وإنما الحياة نفسها هي التي ستفرض على الفن أن يكون لها، والفن نفسه هو الذي سيفرض على الحياة أن تكون له عند بعض الناس، وأن تكون به عند أكثر الناس حين تقوى الحياة وترقى، ويهيِّئ الشباب للتأثُّر بها والتعبير عنها. ستفرض نفسها على فريق منهم فينتجون فنًّا رفيعًا، وسيفرض هذا الفن الرفيع على فريق آخَر منهم فيحاولون المحاكاة، ويتفوق منهم مَن يتاح له التفوق، وسيشيع الشعور بروعة الفن فيتأثَّر به كثير من الناس، ويتنافسون في السعي إليه والظفر به، والحرص على اقتناء آثاره وعلى معاشرة هذه الآثار ولقائها بين حين وحين، وستوجد الثروة الفنية، وسيضطر النقَّاد إلى أن ينقدوا، لأنهم سيجدون ما يقولون.
وقد عرض صديقي الزيات مثلًا من شعر شاعر قديم عاش مع الشعب في عصره ذاك البعيد، فصوَّر ألوانًا من حياته، وما أكثر ما عاش الشعراء القدماء مع الشعب، فصوَّروا من حياته ألوانًا! والمهم هو أن تكون حياة الشعب من القوة والخصب والنشاط والتنوع بحيث تستطيع أن تفرض نفسها على الشعراء والكتَّاب والمثَّالين والمصوِّرين والموسيقيين، دون أن نرسم لأصحاب الفن طريقهم إلى الشعب ليهبطوا إليه، أو نرسم للشعب طريقه إلى أصحاب الفن ليصعد إليهم.
كل هذا لغو من اللغو، وكلام لا غناء فيه، وإنما الجوهر كل الجوهر أن نصلح حياة الشعب، ونصلح تثقيف الشباب وتعليمهم، ونمكِّن الشعب من أن يرقى إلى الفن شيئًا، ومن أن يُكرِه الفن على أن يهبط إليه شيئًا، ومن أن يتحقق بينهما هذا اللقاء الخصب الذي ينتج ما يتاح للأمم الراقية حقًّا من هذه الحياة الفنية التي لا تقف عند الحديث المعاد.
ونحن آخِذون في إصلاح حياة الشعب ما في ذلك شك، فأما أننا آخِذون في تهيئة الشباب ليكونوا قادرين حقًّا على أن يحملوا أمانة الفن الرفيع، وينهضوا بها وبأعبائها الثقال؛ فهذا هو الشيء الذي أشك فيه الشك كله.
ولكن الحديث في هذا يطول، وما ينبغي أن أوثر نفسي به، وإنما ينبغي أن يخوض فيه الكتَّاب لعلهم أن يستقصوا ما في تعليمنا وثقافتنا من خصال تباعد بين الشباب وبين ما نتمنَّى لهم وللفن من هذه الحياة الخصبة الرائعة، التي نحلم بها ولا نسمو إليها.