ومَا زال الغيث منهمرًا
وهو غيث على كل حال؛ لأنه يصرف القرَّاء عن حياتهم هذه العقلية الراكدة إلى لون من النشاط الذهني لا يتصل بالطعام ولا بالشراب، ولا بحاجات رمضان، ولا بحاجات العيد الذي يظلهم والذي أرجو أن يكون سعيدًا إن شاء الله. ولو لم يكن لتفكيري في ترجمة هذا الشاعر العظيم أثر إلا هذا الغيث المنهمر الذي لا يريد أن يكف، ولا أن ينقطع من جهة، وإلا تفكير الدولة في أن تعنى بالثقافة عناية خاصة، وتنشئ الأداة التي تجعل العناية حقيقة واقعة، وترصد المال الذي يتيح لنتائج هذه العناية أن تصل إلى الناس في دورهم، كما يصل الماء الذي يشربونه والهواء الذي يتنفسونه والنور الذي يستضيئون به حين يظلم الليل.
لو لم يكن لتفكيري في ترجمة هذا الشاعر العظيم إلا هذا الأثر، لكنتُ جديرًا أن أرضى به كل الرضى، وأن أغتبط به كل الاغتباط.
وإني لسعيد حين أفكر في أن رئيس الحكومة وزميله وزير التربية والتعليم، قد صَحَّ عزمهما على أن يجعلا الثقافة العليا — كما حاولتُ أن أجعل التعليم منذ أعوام — حقًّا شائعًا ميسَّرًا لكل مَن يسمو إليها كالماء والهواء، وإن كان لفظ الماء والهواء يغيظ بعض الأصدقاء.
والمهم أن الغيث ما زال ينهمر، وإني منذ عدتُ من سوريا ولبنان لا أكاد أقرأ الصحف في يوم من الأيام دون أن أجد في هذه الصحيفة أو تلك حديثًا عن ترجمة شكسبير.
وأنا أعلم أن البلاد العربية الأخرى تتحدث عن هذه الترجمة، وأن بعض الأدباء من أهل هذه البلاد يودون لو يشاركون فيها، ويعرضون عليَّ جهدهم في كل شيء من الإسماح الذي أشكره أجمل الشكر.
ولكننا في مصر مختصمون، والحمد لله، على أن هذه الخصومة ليست مقصورة عليَّ وحدي وعلى الذين يعارضونني في هذه الترجمة، ولكن أدباء آخرين قد تفضَّلُوا بمشاركتي في الدفاع عن ترجمة شكسبير، وأبلوا في ذلك فأحسنوا البلاء. بعضهم يشارك مشاركة صامتة ولكنها خصبة فيُقبِل على الترجمة، ويتجرد لها غير محجم عنها ولا متردِّد فيها، وبعضهم الآخر يشارك مشاركة ناطقة، فيرد على المعارضين ويجاذبهم أطراف الجدل.
وكذلك شُغِل فريق من كتَّابنا وقرَّائنا بأمر هذا الشاعر العظيم، وكانت هذه الخصومة تمهيدًا حسنًا يهيِّئ القرَّاء لاستقبال آثارِه الرائعة ممن تعرض عليهم إن شاء الله بعد شهور.
وكم أتمنى أن يُتاح لي شيء من مال قليل أو كثير لأدفع شبابنا وشيوخنا الذين يُحسِنون اللغات الأجنبية واللغة العربية إلى ترجمة كتَّاب وشعراء وفلاسفة غير شكسبير، ولأدفع كتَّابنا وقرَّاءنا إلى الخصومة العنيفة أو اللينة في هؤلاء الكتَّاب والشعراء والفلاسفة كما يختصمون الآن في شكسبير.
ومَن يدري، لعل مصر ما زال فيها قوم يعنون بالأدب والثقافة والفلسفة، ولا يكرهون أن ينزلوا لترجمتها عن شيء من فضول أموالهم، يبتغون تزكية نفوسهم وتطهيرها، ويبتغون بذلك أيضًا رضى الناس عنهم وثناء الناس عليهم، ويبتغون بذلك آخِر الأمر شيئًا من الإحسان إلى هذا الشعب الذي أحسن إليهم، فيسَّرَ لهم من الحياة الراضية والثراء العريض ما يمكِّنهم من أن ينشروا الخير من حولهم، وأي خير أنفع للشعب من هذا الذي يذكِّي العقول ويُحيِي القلوب، ويهذِّب الأخلاق، ويدفع إلى النشاط الثقافي الخصب؟
وما أكتب هذا الحديث لأطلب إلى أغنيائنا أن يتبرعوا بشيء من فضول أموالهم لتنشيط الحياة العقلية وتقويتها، فلستُ أحب هذا النوع من المطالبة ولا من الإلحاح، وإنما أكتبه لأشكر الذين خاصموني في ترجمة شكسبير، وللذين أيَّدوني أيضًا خصومتهم وتأييدهم؛ لأنها مظهر من مظاهر النشاط الثقافي الذي كنتُ أفتقده فلا أجده. وكم أحب أن تتصل هذه الخصومة وأن يثار أمثالها!
ثم أكتب بعد ذلك لأرد على بعض الذين يخاصمونني في هذه الترجمة، فقد تلقَّيْتُ آراء جديدة لم أردَّ عليها فيما سبق من الحديث.
قال قائلون لِمَ نترجم كل ما ترك شكسبير من الآثار، ولا نختار منها أجودها وأرقاها وأعظمها إمتاعًا وأدناها إلى عقولنا وأذواقنا، ونترك ما دون ذلك لننفق الجهد والمال في ترجمة آثار فريق غير شكسبير من أعلام الثقافة والآدب والفلسفة؟ وأحب أن أقول لهؤلاء السادة إني أولًا شديد التأثُّر والإعجاب بقول النبي ﷺ لبعض أصحابه، ما معناه: إن الله يحب من العبد إذا أخذ في عملٍ أن يحسنه. وما أشك في أن آثار الكتَّاب والشعراء النابهين شيء يتم في نفسه بعد أن يفرغ أصحابه من الإنتاج، وبعد أن يستأثر بهم الموت. وترجمة بعض هذه الآثار دون بعضها الآخَر نقص لا يليق بالقادرين على التمام. وما أحب أن أستبيح لنفسي ولا لطائفة من أمثالي القضاء بأن بعض آثار هذا الكاتب أو ذاك أجدر بالعناية من بعضها الآخَر، ولا بأن يقال: بعض هذه الآثار أرقى وأقوم من بعضها الآخَر؛ ففي ذلك شيء من الجراءة لا أستحبه، وفي ذلك شيء من الاعتداء على الكتَّاب والشعراء لا أسيغه، وفي ذلك آخِر الأمر اعتداء على أذواق القرَّاء. فالاختيار قطعة من الذوق وهو بعض العقل بالقياس إلى الذين يختارون، وما أحب ولا أستبيح أن أجعل ذوقي وعقلي مقياسًا لأذواق الناس وعقولهم، ولا أن أفرض عليهم ما يؤثره ذوقي وعقلي من الاختيار، وأنا أستطيع أن أختار لنفسي إن شئت، ولكني أرى من الغرور أن أفرض اختياري على غيري.
وأقول بعد هذا كله إننا قد امتحنا بالاختيار كما امتحنت أمم أخرى به منذ أقدم العصور، فأبو تمام يختار حماسته والبحتري حماسته، والذين يختارون من جيد الشعر والنثر كثيرون في اللغة العربية وفي غيرها. وليس بهذا الاختيار بأس وإن كنتُ لا أحبه، ولكن الاختيار لا يستقيم إلا إذا أتيح للقرَّاء أن يتجاوزوه إلى قراءة الأصول التي يكون منها الاختيار.
وقد اختار قدماؤنا ولكنهم لم يلغوا الدواوين التي اختاروا منها، ولا كتب النثر التي اختاروا منها أيضًا. وما زال الناس في بلاد الغرب يختارون من روائع الأدب، ولكن اختيارهم يصورهم هم ولا يلغي الأصول التي اختاروا منها؛ ليستطيع كل قارئ أن يرجع إليها وأن يختار منها إنْ شاء.
وقال قائلون: فيمَ ترجمة آثار شكسبير كلها من جديد، وقد تُرجِم منها شيء كثير، فلِمَ لا يُترجَم منها ما لم يسبق نقله إلى اللغة العربية؟
وأحب أن أقول لهؤلاء السادة إن آثار الكتَّاب والشعراء النابهين تُترجَم في البلاد الراقية مرات مختلفة كثيرة جدًّا، فليس علينا ولا على شكسبير بأس أن نترجمه مرتين أو مرات، ولو ذهبت أحصي عدد التراجم التي نقلت شكسبير إلى اللغات الأوروبية الكبرى وحدها، لأنفقت في ذلك جهدًا ضخمًا ووقتًا طويلًا، والتراجم تتفاوت فيما بينها دقةً وتقصيرًا، وجودةً ورداءةً، وفيها ما يرتقي لفظه وأسلوبه وأداؤه، وفيها ما يضطرب لفظه ويفسد أسلوبه ويسمج أداؤه.
ومن الناس مَن ترجموا شكسبير عن الفرنسية؛ لأنهم لم يكونوا يُحسِنون اللغة الإنجليزية، وما أظن أن مثل هذا النوع من الترجمة يمكن الرضى به أو الاطمئنان إليه. وقد آن لنا إذا أخذنا في عمل أن نحسنه، وإذا أخذنا في ترجمة أن ننقل عن اللغة التي كتب فيها الأديب أو العالم أو الفيلسوف.
فأما الترجمة عن لغات أخرى غير لغة المؤلفين فقد لجأ إليها قدماؤنا حين نقلوا الفلسفة اليونانية عن السريانية، وحين نقلوا بعض الآثار الهندية عن الفارسية، ولجأنا نحن إليها في العصر الحديث، وقد آن لنا فيما أعتقد أن نعدل عن هذا النقص ونبرأ من هذا القصور.
ومن أجل هذا دعوت — وما زلت أدعو ملحًّا — إلى تعليم اللغات الأوروبية الكبرى كلها في مدارسنا الثانوية، وفي جامعاتنا؛ حتى لا ننقل آثار الكتَّاب الألمانيين مثلًا أو الروسيين عن الترجمة الفرنسية أو الإنجليزية لهؤلاء الكتَّاب.
وقال قائلون: ما للجامعة العربية ولترجمة شكسبير؟ أليس الحق على هذه الجامعة أن تترجم للعرب ما يمس عروبتهم، وما يمس منافعهم المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية، بشرط أن تكون هذه الآثار الثقافية متصلة بهم وبأوطانهم؟
وأنا أعتذر إلى هؤلاء السادة إنْ قلت لهم إنهم يفهمون جامعة الدول العربية على غير تفهُّم الجامعة نفسها؛ فهي حين أنشأَتْ لجنتَها الثقافية وإدارتها الثقافية أيضًا، كانت أوسع منهم أفقًا وأبعد منهم همًّا، وهي لا تقصر في ترجمة ما يتصل بالعروبة وبالوطن العربي ممَّا كتب الغربيون، ولكنها لا ترى أن تقف نشاطها عند هذا الحد، وإنما تريد أن توسع الثقافة العربية العامة إلى أبعد مدى وترفعها إلى أرقى منزلة، وترى في ذلك ترقيةً للشعوب العربية وتمكينًا لها من الأخذ بأسباب النهضة الصحيحة السريعة المنتجة. ونُظُمها بعد ذلك لا تتيح لرئيس اللجنة الثقافية كائنًا مَن يكون أن يستبدَّ برأيه في الترجمة والنشر، ويمضي فيها على هواه، ولكنها تفرض عليه أن يظفر بموافقة اللجنة الثقافية نفسها، ثم بموافقة مجلس الجامعة بعد ذلك، فرئيس لجنتها الثقافية عضو من أعضائها لا أكثر ولا أقل، وله من هذه الناحية حق الاقتراح كغيره من الأعضاء، فإذا أقرَّ اقتراحه من اللجنة والمجلس أصبح مشرفًا على التنفيذ.
فَلْيطمئن هؤلاء السادة، فإني لم أكلف الجامعة العربية فوق ما تطيق، ولم أدفعها إلى ميدان من ميادين النشاط يجافي نُظُمها واختصاصها.
أما بعدُ، فما بالنا لا نختصم إلا في ترجمة شكسبير، مع أن للجامعة نشاطًا آخَر في ترجمة كتب أخرى غير آثار شكسبير، ولها نشاط نرجو أن يكون قويًّا خصبًا في إحياء الأدب العربي القديم.
أليس ينبغي أن تثار الخصومات حول هذه الألوان من النشاط؟ فإني أحب هذا اللون من الغيث الذي لا ينهمر، فيُخرِج العقول والقلوب عن يسر الحياة اليومية التي نحياها.