والفلسفة
نعم والفلسفة، أنترجمها إلى العربية كما ترجمها الأولون من العرب فغيَّروا بترجمتها طبيعة الحياة العربية، وأقاموا بفضلها هذه الحضارة الإسلامية الرائعة التي كان لها أثرها الخطير في إحياء أوروبا في القرون الوسطى، قبل أن يتاح لها العلم المباشر بفلسفة الأولين وآدابهم وفنونهم على اختلافها؟
هذا سؤال لا يلقيه المعاصرون كما ينبغي أن يلقى، ولا يفكِّرون فيه كما يجب أن يكون التفكير فيه، وإنما يقطعون فيه بالرأي الحازم الجازم، ثم يهجمون برأيهم هذا في غير تحفُّظ ولا تثبُّت ولا روية ليهدموا آراء غيرهم هدمًا ويدكُّوها دكًّا، فالمعاصرون من كتَّابنا محاربون يتقنون أساليب الهجوم، ويتفوقون في المصاولة والمجاولة والمطاولة، حتى حين لا يصاولهم ولا يجاولهم ولا يطاولهم أحد، ولعلهم إنما يهاجمون حيث لا موضع للمهاجمة، ويصولون ويجولون حيث لا موضع لصيال أو جيال، وربما كان الخير في أن يأخذوا ما يعرض لهم من الأمور أخذًا رفيقًا هينًا فيه شيء من سعة الخلق، وسماحة النفس، وسجاحة الطبع، ورجاحة الحلم، ذلك أجدر أن يهديهم ويهدي غيرهم إلى الحق، وأحرى أن يدلهم ويدل غيرهم على الصواب، ولكنهم أخذوا نفسهم بالعنف في غير موضع للعنف، والجدال في غير حاجة إلى الجدال، والقصة كلها تنحلُّ — كما يقال — إلى عناصر ثلاثة تعمل مجتمعة أحيانًا، وتعمل متفرقة أحيانًا أخرى، فأحد هذه العناصر الافتتان بالألفاظ والانخداع بالظواهر، قوم يرون المخترعات الحديثة وما أتيح للغرب عامة، ولأمريكا خاصة، من التفوق في تجديد الحياة المادية التي يحياها الناس، وابتكار الأدوات الرائعة والمروعة فيبهرون ويسحرون، وقد ألقي في روعهم أن هذه المخترعات التي تملأ الحياة دعة وسعة، والتي تعرِّض الحياة للموت والفناء، إنما مردها إلى تقدُّم العلم ورقيِّه، فيدعون مسرعين إلى ترجمة العلم، لا يتحفظون ولا يتثبتون ولا يسألون أنفسهم كيف تكون ترجمة العلم؟ ولمن تكون؟ ولماذا تكون؟ ومن الذين سينتفعون بهذه الترجمة؟ وما عسى أن يكون أثر هذه الترجمة في تمكين العرب خاصةً والشرقيين عامةً من المشاركة في الاختراع والابتكار، وتجديد الحياة وتعريضها للهول والفناء.
وثاني هذه العناصر: ما أَلِف الناس في هذه البلاد من تعصُّب كل أمرئ لما يحسن ولما يظن أنه يحسن؛ فالمؤرخ لا يعدل بالتاريخ علمًا، والفيلسوف لا يعدل بالفلسفة شيئًا، والرياضي يرى الرياضة أول العلم وآخَره، والأديب يرى الأدب قوام الحياة. وقد بلونا ذلك حين رأينا رجال التعليم يحاولون أن يضعوا مناهج الدرس وبرامجه للمدارس الابتدائية والثانوية، فتتعصب كل جماعة لما تمارس من ألوان العلم، يريد كل فريق منهم أن يقيم التعليم ومناهجه وبرامجه على اللون الذي يفرغ له ويتخصص فيه.
وينسون جميعًا أن الثقافة مزاج يجب أن يأتلف من عناصر مختلفة، وأن تعتدل فيه هذه العناصر فلا يطغى بعضها على بعض. أما العنصر الثالث فيسير جدًّا، وهو الحرص على المشاركة في كل ظاهرة من ظواهر النشاط للظفر بنصيب قليل أو كثير من نتائج هذا النشاط، مادية كانت أو معنوية.
وقد قيل للناس إن رئيس الحكومة أرصد خمسين ألفًا من الجنيهات للترجمة، فكل قادر على الترجمة ينبغي أن يكون له نصيب من هذه الألوف الخمسين، نصيب قليل أو كثير، فشيء خير من لا شيء، ومال الشعب يجب أن يُرَدَّ إلى أكثر عدد ممكن من الشعب، وأحب أن أريح هؤلاء الطامعين الطامحين بالحق وبغير الحق، فأؤكد لهم أن رئيس الوزراء لم يضع تحت تصرُّفي ألفًا واحدًا ولا آلافًا قليلة ولا ألوفًا كثيرة، ولم يطلق يدي في مالٍ ما لأنفقه كما أحب وأهوى، وإنما أظهر استعداده للعناية بشئون الأدب والفن والإنتاج الثقافي كله، وعهد إلى زميله وزير التربية والتعليم وضع ما تقتضيه هذه العناية من نظام.
ووزير التربية والتعليم جادٌّ فيما طلب الرئيس إليه، فَلْينتظر الطامعون والطامحون إذن، فقد يتاح لكل واحد منهم نصيبه من هذه الألوف التي قد تبلغ الخمسين، وقد تزيد عليها كثيرًا.
وَلْنعد بعد ذلك إلى الذين يجادلون ويناضلون ويحاولون ويصاولون منخدعين بالألفاظ والظواهر، أو متعصبين لما يحسنون أو ما يظنون أنهم يحسنون من ألوان المعرفة، فندعوهم إلى كلمة سواء تريحهم وتريحنا وتريح الناس جميعًا من هذا الجدال العقيم الذي لا يغني عن أحد شيئًا. فأما الذين يحبون ترجمة العلوم، فمن حقهم أن يطلبوا ذلك إلى العلماء وإلى الحكومة، وقد أُنشِئ في مصر منذ حين مجلسُ البحوث العلمية، فَلْيطلبوا إليه من ترجمة العلم ما يريدون، وَلْيطلبوا إلى الدولة أن تيسِّر له ذلك، فتعيد النظر في نظامه وتمنحه من المال ما يمكنه من البحث وإعانة الباحثين، وما يمكنه من الترجمة وإعانة المترجمين إلى أبعد حدٍّ ممكن، فليس عليهم في مطالبة المجلس والحكومة بهذا كله حرج أو جناح، فهم يعيشون في وطن ناهض طامح إلى المجد، حريص على أن يشارك في تنمية الحضارة الإنسانية، ومن حقهم أن يطالبوا بتوجيه هذا الطموح إلى حيث يرون الخير.
وأما الذين يطلبون ترجمة الفلسفة، فمن حقهم أن يطلبوا هذه الترجمة إلى المجلس الجديد الذي تريد الحكومة إنشاءه ليقوم على رعاية الآداب والفنون والثقافة، وأظنهم لا يكرهون أن ينتظروا نشأة هذا المجلس، فإذا تمت نشأته وأخذ في عمله طلبوا إليه ما يحبون. وأنا مؤمن أشد الإيمان وأقواه بأن ترجمة أصول الفلسفة الإنسانية ضرورة من ضرورات الحياة الراقية، في كل وطن يطمح إلى الرقيِّ ويجدُّ في سبيله، وأنا مؤمن كذلك بأن لا أمل لوطنٍ حيٍّ يريد أن يرقى وأن يكون لحياته حظ من خصب، لا أمل لهذا الوطن في أن يبلغ ما يريد إلا إذا عرف أصول الفلسفة الإنسانية على اختلاف مذاهبها وأوطانها.
ولكن كنتُ أحب لهؤلاء ألَّا يسرفوا على أنفسهم، وعلى الناس، بهذا الكلام الذي يُرسَل إرسالًا في غير تحفُّظ ولا تثبُّت ولا احتياط، فالأولون من العرب لم يُؤثِروا الفلسفة على الأدب حين ترجموا ما ترجموا من آثار الأولين، وإنما ترجموا ما عرفوا وما أُتِيح لهم أن يترجموا، ولو أنهم عرفوا الآداب اليونانية واللاتينية كما كان ينبغي أن تُعرَف لما قصروا في ترجمتها، وما أكثر السخف الذي يقال عن غير بحث أو تحقيق! فالعرب لم يترجموا شعر هوميروس ولا شعر بندار، والعرب لم يترجموا تمثيل الشعراء التمثيليين إعراضًا منهم عن هذه الألوان من الأدب؛ لأنها كانت — فيما يزعم الزاعمون — وثنية لا تلائم الإسلام، كأن كل ما ترجموا من الفلسفة كان يلائم الإسلام ويطابقه ولا يخالفه قليلًا أو كثيرًا! ولا أعرف مقالةً أشد إمعانًا في الحمق والسخف من هذه المقالة.
فقد ترجم العرب من فلسفة الفلاسفة ما يخالف الإسلام أشد الخلاف، لم يمنعهم ذلك من ترجمته والرد عليه، وقد وُجِد بينهم في العصور الأولى من خلب لبَّه بعضُ الآراء الفلسفية المخالفة للدين، فألَّف في ذلك الكتب، وكتب فيه المقالات، ونظم فيه الشعر، يجاهِر بذلك حين تتاح له المجاهَرَة، ويستخفي بذلك حين لا يكون له بد من الاستخفاء. إنما ترك العرب ترجمة الآداب القديمة لأنهم لم يعرفوها حق معرفتها، وهم لم يعرفوها لأن المسيحية هي التي سبقت إلى الإعراض عنها واضطرتها إلى أن تستخفي وتختبئ حتى تستكشف في العصور الحديثة، وقد كان المسيحيون — كما كان المسلمون — يذكرون الشعراء القصصيين والغنائيين والتمثيليين؛ لأن أسماء هؤلاء الشعراء وقعت إليهم، ولكن أولئك وهؤلاء لم يقرءوا آثار هؤلاء الشعراء؛ لأنها لم تكن شائعة ولا مألوفة عن اليونانيين في الشرق، ولا عند الذين كانوا يتكلمون اللاتينية في الغرب.
وأنا مطمئن إلى أن العرب لو عرفوا الشعر التمثيلي اليوناني جده وهزله لترجموه، ولحاولوا أن يصنعوا مثله، ولحاولوا كذلك أن ينشئوا التمثيل، وأن يجعلوه فنًّا عربيًّا أصيلًا، كما ترجموا الفلسفة ثم جعلوها فلسفة عربية أصيلة.
فالعرب إذن لم يتعمدوا الإعراض عن ترجمة الآداب القديمة، وإنما اضطروا إلى هذا الإعراض اضطرارًا. وهَبْهم تعمَّدوا هذا الإعراض، فمَن الذي يستطيع أن يلزمنا أن نُخطِئ كما أخطئوا، ونقصر كما قصروا — إنْ كانوا قد تورَّطوا في خطأ أو تقصير؟
ليطمئن الذين يريدون ترجمة الفلسفة، فسنترجم الفلسفة إلى اللغة العربية، ما في ذلك شك، وسيُترجَم قديمها وحديثها مهما تختلف مذاهبها وأوطانها؛ لأن طبيعة الحياة المصرية الحديثة تقتضي هذه الترجمة وتفرضها فرضًا. وفيمَ هذه الخصومة كلها؟ أو فيمَ كل هذا اللغو الذي لا ينفع ولا يفيد؟ لقد قلت في حديث مضى إن الناس جميعًا لا يستطيعون أن يقرءوا العلم، ولا أن يصبحوا بحكم هذه القراءة علماء، وإن العلماء يُحسِنون اللغات الأجنبية ويقرءون فيها علمهم، وهم ليسوا في حاجة إلى أن يترجم لهم. وأقول مثل هذا بالقياس إلى الفلسفة، فليس كل الناس يستطيع أن يسيغ فلسفة ديكارت وكانت وأوجست كونت وأمثالهم من أعلام الفلسفة في العصور القديمة والحديثة، وإنما يسيغها وينتفع بها الذين يفرغون لها من الأساتذة والطلاب وأصحاب الثقافة العليا. وكل هؤلاء يُحسِنون لغة أجنبية، فترجمة العلم والفلسفة تستطيع أن تنتظر قليلًا حتى تُهيَّأ لها الوسائل المادية والفنية، وليس في انتظارها ضرر قليل أو كثير، ولا أعرف أحدًا يستطيع أن يجادل في أن قرَّاء الأدب والمنتفعين به والحريصين عليه أكثر جدًّا من قراء العلم والفلسفة. وأنا حين أفكر في هذه الأشياء لا أفكر في مصر وحدها، وإنما أفكر في البلاد العربية كلها، وأفكر في كل الذين يتخذون اللغة العربية وسيلة إلى الثقافة، وإلى الثقافة العليا خاصةً. وأنا لا أحاول ترجمة شكسبير وغيره من أعلام الأدب والثقافة باسم الحكومة المصرية، وإنما باسم العالم العربي كله. فليس بأس إذن من أن نبدأ بما ينفع أضخم عدد ممكن من العرب، وأن ننتظر قليلًا بما ينفع الخاصة حتى يتاح لنا من الأسباب ما يمكننا من أن نترجم للخاصة وللكثرة معًا، ولن يطول هذا الانتظار؛ فالحكومة معنية بهذا الأمر جادة فيه، كما لم تُعْنَ به ولم تجدَّ فيه حكومة أخرى من قبلها.
فالذين يخلصون للعلم والفلسفة يستطيعون أن ينتظروا مطمئنين، والذين يحرصون على أن يكون لهم نصيب من النشاط في ترجمة العلم والفلسفة يستطيعون أن ينتظروا مطمئنين أيضًا، والذين يطمعون في أن يأخذوا بحظوظهم من الألوف الخمسين أو الستين أو من مئات الألوف، يستطيعون كذلك أن ينتظروا مطمئنين، فإذا كانوا لا يحبون الانتظار ولا يريدون إلا العجلة، فَلْيُوَجِّهوا إلحاحَهم وتعجُّلَهم إلى رئيس الوزراء ووزير التربية والتعليم لا إليَّ أنا، فلستُ أملك من هذه الألوف الكثيرة أو القليلة شيئًا، ولو قد ملكتُ منها شيئًا لملأتُ عليهم الأرض علمًا وفلسفةً وأدبًا وفنًّا، ولما أكرهتهم على أن يطالبوني بشيء من الريث والأناة، لكثرة ما أفرض عليهم من الجد والجهد والنشاط.
أما بعدُ، فإن الشاعر القديم لم يخطئ حين قال:
وأيُّ تقدير للخطو أوجب من تقدير الوسائل المادية والفنية التي تتيح لنا الترجمة في غير تعرُّض لزلل، أو خطل، أو توقُّف في أثناء الطريق.