العَائِد
وتستطيع أن تفهم كلمة العائد هذه على وجهين مختلفين وإن تقاربا من بعض أنحائهما، تستطيع أن تفهم منها مَن عاد من سفره بعد غيبة طالت أو قصرت، وتستطيع أن تفهم منها مَن بُعِث بعد أن مات ومضت على موته الأعوام الطوال.
فقد أراد المؤلف هذين المعنين جميعًا، وفهمهما الناسُ عنه أول الأمر، ثم عرفوا وجه الحق كما ستعرفه آخِر الأمر.
وتستطيع كذلك أن تذكر الحديث الذي سقته إليك في الفصل الماضي عن ذلك الفتى الذي حمله قطار القضاء، وقطار الناس إلى موت محتوم كان ينتظره في ميدان من ميادين القتال، أو غير بعيد من هذا الميدان.
فسأحدِّثك اليوم عن فتًى آخَر نقله قطار القضاء، وحملته قدماه بسعيهما في الأرض العريضة إلى الحياة.
وتستطيع بعد هذا وذاك أن تذكر تلك المرأة التي أرادت أن تنقذ ذلك الفتى من موته ذاك الذي كان ينتظره، لأنها أحبته كما أحبها، فلم تزد على أن ألقت بنفسها معه، ومع غيره أيضًا، بين ذراعي ذلك الموت الذي لم يكن إلى الإفلات منه سبيل.
فسأحدِّثك اليوم عن امرأة أخرى أنقذت فتًى آخَر من موت لم يكن فيه شك، وردَّتْه إلى حياة ليس فيها شك أيضًا؛ لأنها أحبته كما أحبها هو، ولكن حبهما كان قويًّا وكان ضعيفًا في وقت واحد، ولأن كلمة القضاء هي العليا دائمًا.
والقصتان كما ترى لم تصدرا عن كاتب واحد، وإنما صدرتا عن كاتبين مختلفين أشد الاختلاف، لم يلتقيا في أكبر الظن، ولكنهما نظرا إلى الحياة وظروفها، وإلى الناس والخطوب التي تختلف عليهم؛ نظرتين متباينتين من جميع الوجوه، منتهيتين دائمًا إلى أن كلمة القضاء هي الأخيرة، سواء أكانت للإنسان إرادة قوية عاملة، أم كانت له إرادة ضعيفة مستسلمة.
والقصتان تقعان في ألمانيا، والحرب هي التي تثيرهما، وفيهما — على اختلافهما — عبرة للذين يريدون الاعتبار، وفقه للذين يريدون التفكير، وتعمق شئون الحياة.
وقصتنا اليوم تعرض علينا أول ما تعرض حياة امرأة فقدت زوجها في الحرب، وورثت عنه لنفسها وابنها أرضًا واسعة متباعدة الأرجاء، فيها الخصب الكثير الذي يغلُّ ثراء كثيرًا، وفيها الغابات الكثاف التي تغلُّ الثراء أيضًا، والتي يكثر فيها الصيد، وفيها البحيرة الرائقة التي تتيح منظرًا جميلًا، ويتهيأ شاطئها للنزهة الممتعة، وفيها الذين يعملون في الأرض والذين يعملون في الغابة، وهي بعيدة عن المدينة، ولكن بينها وبين المدينة من الصلة المنظمة ما يتيح لوجوهها أن يزوروا هذه السيدة بين حين وحين، وأن ينفقوا في قصرها ساعات حلوة هادئة يتحدثون فيها عمَّا يكون من الأحداث. وإلى جانب هذه الأرض الواسعة قرية تقوم منها غير بعيد، وتتصل بها اتصالًا يشبه ما يكون بين السادة النبلاء وبين ما يقوم قريبًا من قصورهم من القرى. وهذه المرأة تدبِّر ثراءها في حزم وعزم ومضاء، جعلت لها في نفوس الناس مَن قرُبَ منها ومَن بعُدَ عنها مهابةً وجلالًا.
فهم لا يذكرونها باسمها ولا باسم زوجها الفقيد، وإنما يذكرونها بالرتبة العسكرية التي كانت لزوجها؛ فقد كان من رجال الجيش. فالناس يدعونها بالسيدة الصاغة؛ لأن زوجها كان صاغًا، وكأنها أخذت من زوجها صفة الضابط الصارم، الذي لا يحب تهاونًا ولا تقصيرًا في أداء الواجب وطاعة ما يصدر من الأمر، والذي يُؤثِر النظام في كل ما يأتي من الأمر، وفي كل ما يأتي الناس حوله من الأمر أيضًا على كل شيء، ويحرص عليه أشد الحرص؛ فأمور قصرها وأرضها تمضي في دقة دقيقة واستقامة لا عوج فيها ولا التواء، ولها عادات منظمة مطردة لا تنحرف عنها مهما تكن الظروف، ولا ينبغي للخدم ولا للعاملين في الأرض من حولها أن ينحرفوا عنها، وهي مع هذا كله قليلة الكلام تؤثر الإيجاز والصراحة على الإطالة والتأنُّق في القول. ومن عاداتها إذا تقدَّم النهار أن تخرج للنزهة والتفتيشِ على فرس لها يهيِّئه خادم لا عمل له إلا أن يهيئ الفرس، ويقدِّمه إليها لتركبه ويتلقى منها عنانه حين تعود، ويقوم على خيلها فيما بين ذلك.
قد وقف حياته على هذا واضطر إلى صمت ذاهل؛ لأنه وحيد عصفت الحرب بأسرته وأخويه، وهو في الوقت نفسه معذَّب أشد العذاب، ألقي في روعه أن أحد أخويه قد قُتِل بالعراء، فنفسه هائمة تلتمس قبرًا ولا تجد إليه سبيلًا، وهي تصيح باكية مستغيثة إذا كان الليل، والفتى يسمع صياحها وإعوالها فلا يذوق النوم إلا غرارًا، وهو من أجل ذلك محزون كاسف البال مفرَّق النفس، لا يتكلم في النهار إلا قليلًا، فإذا كان الليل أنفقه في السهاد، واللوعة والبكاء. وقد خرجت الصاغة ذات يوم حين أقبل المساء ومضت على فرسها، فطوفت في الأرض ما شاء الله لها أن تطوف، ومضت في الغابة حتى انتهت إلى البحيرة، فنظرت إليها وأطالت النظر مفكِّرة فيما يفكِّر فيه أمثالها من هذه الوحدة التي اضطرت إليها، ومِن فَقْدِ زوجها العزيز عليها، وغياب ابنها الذي يدرس في إحدى المدن الجامعية، ومن شئونها الكثيرة المختلفة وهي تهمُّ بالعودة، فقد انقضى النهار أو كاد ينقضي، وجعلت أشعة الشمس تنحسر قليلًا قليلًا عن الغابة، فتسلم ما تنحسر عنه إلى هذه الظلمة الشاحبة التي لا تلبث أن تتكاثف شيئًا فشيئًا. ولكنها ترى ظلًّا يتنقل في الطرف المضيء من أطراف الغابة، وهو يتنقل في أناة مستأنية، وحذر شديد كأنه يخشى أن يراه أحد، ويريد أن يدنو من هذه الأرض دون أن يشعر أحدٌ بمكانه، وهو لا يرى السيدة ولكنها تراه.
وقد أثار مرآه في نفسها شيئًا ليس بالخوف، وعسى أن يكون أدنى إلى الاستغراب وحب الاستطلاع. وهي تتردد قليلًا ثم تثبت في مكانها؛ لتعلم علم هذا الشخص الغريب. وهو يسعى في خطو متقارب متردد، ويطيل النظر فيما حوله ويطيل النظر أمامه، كأنه يريد أن يملأ عينيه مما يرى قبل أن يلقي الظلام أستاره الكثاف، وهو يبسط ذراعيه، وقد فرج بينهما ويرفعهما إلى السماء كأن شيئًا رائعًا قد ملك عليه نفسه، أو كأنه يريد أن يرفع إلى السماء دعاء، وهو يدنو وهي ترقبه، حتى إذا كان منها بمسمع الصوت أظهرت نفسها واضطرته إلى أن يقف، ثم إلى أن يدنو منها، ثم أخذت تسأله: مَن هو؟ ومن أين يأتي؟ وإلى أين يريد؟ فيجيبها في كلام غامض لا تكاد تفهم منه شيئًا، ولكنها استيقنت آخِر الأمر أنه غريب هائم في الطريق العامة لا مأوى له، وما ينبغي لها أن تخلي بينه وبين الهيام في الطريق العامة وقد أقبل الليل وجعل ينشر ظلمته، فهي تدعوه إلى أن يصحبها، وهو يستجيب لها ويمضي معها، وقد تتحدث إليه أثناء الطريق فيجيبها بما لا يغني عنها شيئًا. وقد انتهت آخِر الأمر إلى القصر ووجدت خادمها ذاك الذاهل ينتظرها ليتسلَّم منها عنان الفرس، وهو في شيء من القلق؛ لأن سيدته قد أبطأت بعودتها على غير ما ألفت، وهي تدفع إليه العنان وتهدئ من قلقه، وتُنبِئه بأنها استصحبت ضيفًا، ثم تُدخِل ضيفَها القصرَ وتأمر وصيفتها أن تقوده إلى إحدى غرفاته ليستريح وينفض عنه غبار السفر، وتؤذنه بالعشاء حين يأتي موعده. وقد خلا الضيف إلى نفسه في غرفة ليست أنيقة ولا مترفة، ولكنها مريحة لعله لم يأوِ إلى مثلها قطُّ. ورأى الخدم هذا الضيف حين دخل القصر فرَاعَهم منظره الرث وزيُّه الغريب، ووجهه الذي هو إلى الإظلام والعبوس أدنى منه إلى الإشراق والابتسام. وهم ينكرون مكانه ويعجبون؛ لأن سيدتهم قد احتفلت به وضيَّفته، ويسألون مَن عسى أن يكون؟ وما عسى أن يكون وطنه الذي جاء منه؟ وجنسه الذي ينتمي إليه؟ وهم يفترضون في هذا كله الفروض، والخادم الذاهل صامت يسمع لهم ولا يقول شيئًا، فإذا اتجهت إليه أحاديثهم قال إنما هو ميكائليس بن فلان، ذلك الشيخ الذي يعمل في الضيعة.
ويسمع الخدم هذا فينكرونه أشد الإنكار فقد مات ميكائليس هذا؛ قتلته الحرب منذ عشرين سنة، وجاء بذلك النبأ الرسمي، ونُقِش اسمه على هذا النصب الذي يقوم غير بعيد من القصر، والذي أُقِيم لصرعى القرية في الحرب، ونُقِشت عليه أسماؤهم. ولكن الخادم الذاهل يعيد عليهم قوله في تصميم وثقة، فيضيفون قوله هذا إلى ما يعتريه من مظاهر الذهول وشرود البال.
وفي هؤلاء الخدم فتاة شغلها أمر هذا الضيف، فهي معنية به مشفقة منه، تودُّ لو علمت علمه وتخشى أن يصيبها منه مكروه.
أما الضيف فقد أوى إلى غرفته ونظر ما فيها من أدوات النظافة والراحة، فأنكر مكانه من هذا كله، وسأل نفسه ماذا يصنع في هذه الغرفة، أو ماذا يصنع بهذه الأدوات! فهو لا يستطيع أن يغيِّر من زيِّه الرث، ولا أن يستبدل به زيًّا يلائم هذا القصر ويلائم الجلوس مع هذه السيدة إلى مائدة العشاء، ولكنه أصلح من أمره بما استطاع أن يصلح، ووقف ينتظر أن يُدعَى إلى المائدة بعد أن نظر من النافذة فرأى، على بُعْدٍ، ذلك النصب الذي رأى كثيرًا من أمثاله فيما مرَّ به من المدن والقرى، وقد دُعِي إلى العشاء فشهده وحيدًا مع السيدة التي تلقته أحسن لقاء، وعنيت به كما تعوَّدتْ أن تعنى بضيفها من الأغنياء والمترفين، ثم قضت معه ساعة من الليل تحاول أن تعرف من أمره شيئًا، فلا تظفر منه بما يجدي أو يفيد. ثم ثاب إلى غرفته وثابت السيدة إلى غرفتها.
فأما هي فمفكرة مع كثير من الحزن في فقيدها، تستحضر مصرعه وتستحضر أوبته إليها جثة هامدة، وتستحضر الأعوام التي مرت عليها وهي وحيدة تدبَّر أمر هذه الأرض، وتقوم على تربية ابنها وتنشيئه، وأما الضيف فقد خلا إلى نفسه مفكِّرًا في هذه الخطوب الكثيرة التي اختلفت منذ شارك في الحرب، فرأى الناس يموتون من حوله يسَّاقطون كما يسَّاقط الذباب، ورأى أخِلَّاءه وإخوانه يسبقونه إلى الموت بعضهم في إثر بعض، حتى هانت في نفسه قيمة الحياة. ثم رأى نفسه يُصرَع فيمَن كانوا يُصرَعون، واستيقن أنه قد لحق بمَن سبقه إلى الموت، ولكن الموت ينظر إليه ساخرًا منه، ثم ينأى عنه غير حافل به ويتركه جريحًا ينتظر الإسار. وقد أُسِر فطال أَسْره، وسُجِن فطال سجنه، ونظمت أعقاب الحرب وهو محسوب في الموتى لا يحفل به أحد ولا يذكره أحد إلا أبوه، ذاك الشيخ الذي جزع عليه وعلى مَن مات معه من إخوانه، ثم اطمأن إلى جزعه وأصبح يكتفي بذِكْره وذكرهم في صلاته، والنظر إلى اسمه وأسمائهم على ذلك النصب القائم غير بعيد من القصر، واستقر في نفوس أهل القرية أنه قد قضى نحبه مع مَن قضى نحبه من أبنائها في الميدان، وأصبح هذا النصب آية واضحة، وحجة قاطعة على أنهم جميعًا قد قُتِلوا فيمَن قُتِل من شباب ألمانيا وكهولها في سبيل مجد الوطن وعظمته، فهم يذكرونهم كلما مروا بالنصب، وكلما صلوا، ولكنهم يمضون في حياتهم غير حاسبين للموتى حسابًا، فما ينبغي للموتى أن يصدوا الأحياء عن سبيل الحياة.
ذلك إلى أن الأوراق الرسمية التي جاءت من وزارة الحرب واستقرت في مركز المدينة، قد أثبتت موت هذا الفتى فيمَن مات، ليس في ذلك شك ولا معنى للجدال فيه.
كل ذلك يديره الضيف في رأسه بعد أن خلا إلى نفسه، فهو ينكر مكانه من هذا القصر، بل ينكر مكانه في هذه الأرض التي تحيط بالقصر، بل هو لا يعدُّ نفسه بين الأحياء، وإنما يرى نفسه ظلًّا هائمًا ليست له أسرة ولا قرية ولا مدينة، وليس بينه وبين الأحياء من الناس صلة، فليس له إلا أن يهيم في الأرض تتقاذفه مدنها، وقراها، وغاباتها، وجبالها، وطرقها العامة. والخير له أن يجتنب الناس ما وجد إلى اجتنابهم سبيلًا، وأن يقوت نفسه مما يتاح له أثناء هيامه من هذا الرزق الذي يتاح للطير والحيوان المتوحش. ولم يكن يقدر أنه سيلقى هذه السيدة وسيأتي معها إلى هذا القصر، وسيلمُّ بهذه البيئة التي لم يَبْقَ له بها عهد، والتي نسيها أو كاد ينساها كما أنها هي قد نسيته، ولم تذكر منه إلَّا هذا الاسم المنقوش على هذا النصب.
أذاق النوم في تلك الليلة أم لم يذقه؟ مهما يكن من شيء فقد أخذ الفجر يرسل ضوءه الضئيل بعد ذلك الليل الطويل، ونهض الفتى من سريره ذاك ونظر من النافذة، فرأى النصب أمامه غير بعيد، وما دام الناس قد نسوه، وما دام هو أيضًا قد نسيهم أو كاد ينساهم، فما بال اسمه هذا يظل منقوشًا يراه أهل القرية بين حين وحين فيذكرونه لحظة، ثم يسرعون إلى نسيانه، أو يسرع نسيانه إليهم! يجب أن يكون نسيانهم له كاملًا متصلًا، كما يتصل الزمن متكاثفًا، كما تتكاثف ظلمة الليل حين يتراكم السحاب وتُحجَب النجوم.
يجب أن يُمحَى هذا الاسم، لتقطع الصلة بينه وبين الأحياء من جميع الوجوه. وما بقاؤه في هذه الغرفة؟ وما لقاؤه لأهل هذا القصر؟ ثم لأهل هذه القرية حين يشرق وجه النهار؟ يجب عليه أن يخرج، ولكن أنَّى له الخروج وقد أُغلِقت من دونه أبواب القصر؟ وما له لا يثب من هذه النافذة ويرسل نفسه في الفضاء العريض؟
وقد فعل، وقد احتال حتى ظفر بأداة حادة، ثم عمد إلى النصب وجعل يمحو اسمه منه. وسمعت سيدة القصر حركة مريبة، ثم سمعت صوت هذه الأداة تعمل في الصخر فأنكرت ما سمعته، وانتظرت حتى آنَ لمثلها أن تخرج من غرفتها، ثم خرجت وفي نفسها ريب من أمر الفتى، ثم ذهبت إلى غرفته فطرقت بابها فلم يرجع عليها أحد جوابًا، فتدخل الغرفة فلا ترى أحدًا، وترى النافذة وقد فُتِحت على مصراعيها، فتعلن أن الفتى هو صاحب الحركة التي رابتها، وهو مصدر الصوت الذي سمعته، ولا تلبث أن تدير في نفسها كل ما أدار الفتى في نفسه من الخواطر.
أراد أن يمحو من القرية حتى أيسر ما بقي من ذكراه، فمحا اسمه من بين أسماء الموتى، ومضى لا يعرف أحدٌ إلى أين.
ولكنها تلتمسه حين يتقدم النهار فتجده في طرف من أطراف الغابة، كأنه قد أوى إليه حينًا قبل أن يأخذ في هيامه ذلك في الطريق العامة؛ فترفق به أشد الرفق وتتلطف له أعظم التلطف، وما تزال به حتى يأنس إليها شيئًا وقد عرفت أنه لا يريد أن يعاشر الناس، أو لا يستطيع أن يعاشر الناس، فتمضي به إلى بيت منعزل في جانب من جوانب الغابة قد هُيِّئ فيه أثاث ساذج يسير. فإذا دخلت معه أنبأته بأنها في حاجة شديدة إلى مَن يحرس لها الغابة وما فيها من صيد، وأنها تريد أن يكون حارس هذا الصيد، وأن يقيم في هذا البيت بعيدًا عن القرية وأهلها لا يرى أحدًا ولا يراه أحد، وتُنبِئه بأنها ستزوره في تروِّضها بين حين وحين، وقد ألقي في روعه شيء من الحب الخفي الغامض أشد الغموض لهذه السيدة الرفيقة السمحة، التي تظهر ما تظهر من رفق به يوشك أن يكون حنانًا؛ فيستجيب لها متحفظًا، وتطيل معه المكث حتى يأنس إلى البيت، ثم تنصرف عنه لتزوره — كما قالت — بين حين وحين. وقد أقام في هذا البيت يأتيه الطعام إذا تقدَّم النهار، ويأتيه طعامه إذا تقدَّم الليل، وتزوره السيدة فتتحدث إليه بين ذلك، وهو يطمئن إلى هذه الحياة شيئًا، ولكنَّ في نفسه قلقًا ما يزال يساورها؛ فهو لا يرى لنفسه أربًا في الحياة، ولا يرى للناس نفعًا في حياته، فما بقاؤه! وما له لا يستأنف هيامه!
شيء واحد يمسكه في هذا البيت، هو هذه السيدة التي تزوره حين يُقبِل المساء من كل يوم، تُقبِل راكبة حتى إذا بلغت البيت ترجَّلَتْ عن جوادها، وألقت عنانه إلى خشبة من خشب السور الذي يحيط بالحديقة الصغيرة، ودخلت عليه مبتسمة فحملت إليه أنسًا وبشرًا، ثم انصرفت عنه على موعد. فهو يريد أن يأخذ طريقه، ولكن ما في نفسه من هذه السيدة يمسكه في بيتها هذا المنعزل.
ينعم بلقائها حين تلقاه، وينعم بانتظارها حين تنصرف عنه. والأيام تمضي وإذا حبه الذي كان خفيًّا غامضًا يتضح في نفسه شيئًا فشيئًا، وإذا هو يسأل نفسه: ما مقامه في هذا البيت! لا هو بالأنيس الذي يدنو ممَّن يحب، ولا هو بالغريب المجوال الذي لا يحفل به الناس، ومتى رأى الناس سيدة في منزلة هذه السيدة تلمُّ بحارس غابتها كل يوم، حفية به مؤنسة له، ثم تنصرف عنه كما جاءت، فهي دانية نائية، وهي مطعمة مؤنسة، أيمكن أن يكون في نفسها منه شيء، كما أن في نفسه منها شيئًا؟ وإذن فما بال الأمور تظل غامضة مسرفة في الغموض؟ أتراها تتكلف إيناسه ليألف الحياة، ولكنه لا أرب له في الحياة، أم تراها تود لو دنت منه أكثر مما تدنو، ولكن لها ما يشغلها عنه؟
فمثل هذه السيدة لا يمكن إلَّا أن يكون لها صاحب أو رفيق، وهذه الغيرة قد أخذت تعبث بنفسه قليلًا قليلًا، وإذا هو يضيق بمكانه من هذه الغابة ويكره حياته التي يحياها معلَّقًا لا هو بالغريب ولا هو بالبعيد. وقد شُغِلت السيدة عنه يومًا ويومًا فأزمع أن ينطلق، ولكنه كره أن يمضي دون أن يُنبِئها بما يريد، فيذهب إلى القصر، ولا تكاد السيدة تعلم بمكانه حتى تدعوه، وإذا هي مشغولة ببعض الضيف من سادة المدينة وأشرافها، فتقدِّمه إليهم وتخلطه بهم، وتجلسه معهم إلى الشاي، وتحدِّثه كما تتحدَّث إلى غيره من ضيوفها، حتى إذا همَّ أن ينصرف، وأراد أن يقول لها شيئًا آذنته بأنها ستزوره من غد.
فيعود أدراجه ولم ينفذ مما صمَّم عليه شيئًا. وقد تحدث الفتى إلى ذلك الخادم الذاهل شيئًا من حديث، وعرف قصة أخيه ذاك الذي قتلته الحرب بالعراء، والذي هامت نفسه تلتمس قبرًا وجعلت تعول إذا أقبل الليل، فيحاول الفتى أن يرد على هذا الذاهل شيئًا من عقله، وأن يبيِّن له أن ما يسمع إذا أقبل الليل ليس هو نفس أخيه الهائمة، وإنما هي بومة تنوح في مكان ما قريب من البحيرة، ثم يزمع أن يريح الفتى من هذا العويل الذي يؤرق عليه ليله، ويملأ قلبه خوفًا وفرقًا وحزنًا.
فقد جعل لنفسه إذَنْ أربًا في الحياة، وليس قليلًا أن يرد على هذا الفتى شيئًا من الراحة وأمن القلب وطمأنينة النفس، وقد جعل يرصد هذه البومة في كل ليلة حتى قتلها وانقطع عويلها، ورد إلى الفتى أمنه، ولكنه أزعج الناس الذين يقيمون قريبًا من ساحل البحيرة، فجعلوا يضيقون به ويشكون منه، وجعلت السيدة تلم به بين حين وحين حتى كثر الحديث عنهما في القرية، وحتى ساءت بهما الظنون، ولكن السيدة ماضية في سيرتها هذه حازمة مصمِّمة لا تحفل بالناس، ولا بما يُسِيئون بها من الظن، حتى إنها لتزور الفتى ذات يوم فتجده قد جلس في حديقته تلك إلى زجاجة من زجاجات الخمر، فتجلس معه وتأخذ في الشراب كما أخذ فيه، وتسرف في الشرب كما أسرف حتى تُلغَى الكلفة بين الفتى وبينها، ولكنها على ذلك محتفظة بما ينبغي لها من الوقار. في نفسها عطف على هذا الفتى ليس في ذلك شك، ولكنها وفِيَّة لزوجها الفقيد، ووفِيَّة لابنها ذاك الذي يتعلم في إحدى المدن الجامعية، وضنينة بنفسها آخِر الأمر على ما لا يليق بالمرأة الكريمة.
وقد أقبل ابنها ومعه خطيبته، فأقام في القصر يومًا وبعض يوم، وخرج مع خطيبته للتروُّض، فمضى بسيارته في الغابة حتى إذا دنا من بيت الحارس ورآه فجعل ينظر إليه شزرًا، وغاظ الحارس ما رأى، فأطلق النار على السيارة حتى أزعج الفتى وخطيبته، فعادا مسرعَيْن وأنبأا السيدة بما رأَيَا، وساء ظن الفتى بأمه كما ساء بها ظن غيرها من الناس، ولكنها لم تحفل بشيء من ذلك، وأمرت ابنها أن يعود إلى المدينة الجامعية من غده، ومضت تتقرب إلى الحارس حتى أقرت في نفسه أنه قد أصبح لها إلفًا. وجاء موسم الحرث، وأخذ الفلَّاحون يعملون في إعداد الأرض، والفتى يراهم فيضيق بما يرى لأنه فلاح مثلهم؛ فما أمسكه في هذه الغابة في غير عمل ينظر إلى العاملين وهو متبطل؟ لمَ لا يشاركهم فيما يعملون؟ إنهم لا يألفونه، ولا يجرءون على أن يدنوا منه، وهو لا يألفهم، ولكنه يحسدهم على العمل، ويود لو شاركهم فيه، وقد أنست السيدة منه كل هذا وحاولت أن تعد أباه الشيخ لاستقباله، فذهبت إليه وجعلت تحدِّثه في رفق وأناة عن ابنه، وعن أن من الممكن أن يعود هذا الفتى بعد هذه الغيبة الطويلة. ولكن الشيخ يسمع لها هادئًا أول الأمر، ثم يشقُّ عليه ما يسمع حتى يخرجه عن طوره، فهو لم يعرف قطُّ أن الموتى بُعِثوا من قبورهم في هذه الحياة، فإذا ألَحَّتْ عليه في ذلك خرج الشيخ عن طوره ومسه طائف من جنون، فأسرف في العبث والفساد واضطر أهل القرية إلى أن ينقلوه إلى المستشفى. وتُقبِل السيدة ذات يوم على حارسها فتتحدث إليه ساعة من نهار، حتى إذا كاد الليل أن يغشى زعمت له أنها تريد أن تجرب نفسها في حرث الأرض، وطلبت إليه أن يعينها على ذلك فيمضي معها، وهو يظن أن هذا عبث من العبث، ولكنها تأخذ في العمل فيشق عليه ما يرى، وتثوب إليه فجاءة نفسه القديمة التي كانت قد شردت عنه منذ زمن بعيد؛ وإذا هو يقول للسيدة: ليس هذا إليك يا سيدتي، إنما هو عملي أنا. ثم يأخذ مكانها ويمضي في الحرث كأحسن ما يحرث الفلاحون، وكعهده قبل أن تخطف الحرب منه نفسه الأولى، وقد عمل فأحسن العمل وعاد كعهده الأول القديم.
والسيدة تشهد عمله من قريب، وتملك ما يثور في نفسها من عواطف عنيفة مضطربة، حتى إذا بلغ الفتى من العمل أربه قالت له: فهذا إذن نصيبك من الأرض تتولى حرثه وزرعه. ثم أمرته أن يتبعها فتبعها، فتنحرف به عن الغابة إلى القرية وتمضي به حتى تبلغ منزل أبيه الشيخ، ثم تدخل معه هذا المنزل، ثم تقول له: هذه دارك فأوِ إليها، وتلك أرضك فاعمل فيها، واستأنف حياتك تلك التي كنتَ تحياها.
والفتى يسمع هذا كله واجمًا أول الأمر، ثم ثائبًا إلى نفسه بعد ذلك معجبًا بهذه السيدة التي عرفت كيف ترد إليه نفسه بعد أن شردت عنه عشرين عامًا، تتألفه حتى تنقذه لا من الغربة والهيام معًا، بل من الموت أيضًا؛ فقد سعت في صمت وهدوء حتى أثبتت في الجهات الرسمية شخصية هذا الفتى، وأنه لم يَمُتْ وإنما حُسِب مع الموتى خطأً.
نجحت هذه السيدة في رد هذا الفتى إلى عهده بحياته الأولى، لا بشيء إلا بأنها عرفت كيف تتألفه، وكيف تدعو نفسه الشاردة من غربتها الطويلة حتى ثابت إليه.
وفي الوقت الذي ثابت إلى الفتى نفسه، وعاد كما كان رجلًا من رجال القرية يسكن دار أسرته، ويعمل في الأرض التي عمل فيها أبوه وإخوته؛ عادت السيدة إلى قصرها راضيةً مطمئنةَ النفس مقتنعةً بأنها لم تصنع شيئًا ذا خطر، وإنما أدَّتْ واجبًا يسيرًا من واجبات الحياة.