حتَّى بَعْدَ الحُكْم
وكذلك صمَّم الأزهر الشريف على ما صمَّم عليه، فحاكم وعاقب في غير موضع للمحاكمة ولا للعقاب.
لم يحفل بطبيعة العصر الذي يعيش فيه، ولم يحفل بنصح الناصحين له، وإشفاق المشفقين عليه وتذكير الذين ذكَّروه بأن الله قد رفع الخطأ عن الناس، وبأنه يحب العفو والمغفرة ويؤثرهما على السطوة والبطش والانتقام.
ولو أن الذين ذكَّروا الأزهر بهذا كله تحدَّثوا إليه فيه من عند أنفسهم، لهان إعراضه عنهم واستخفافه بتذكيرهم له، ولكنهم تَلَوا عليه آيات من القرآن الكريم، ورَوَوا له أحاديث عن النبي ﷺ وكان من حق هذه الآيات وهذه الأحاديث أن تجد طريقها إلى قلوب الشيوخ الأجِلَّاء، وأن تذكِّرهم بأيام الله وتحبِّب إليهم البر والمعروف والرفق والتأسِّي برسول الله ﷺ، الذي أحب العفو وحبَّبه إلى الناس، والذي طالما ذكَّر الناس بأن الله قد رفع عن أمته الخطأ والنسيان وما يُستكرَه الناسُ عليه.
أعرض الأزهر عن هذا كله ومضى أمامه راكبًا رأسه، لا يلوي على شيء، ولا يسمع لإنسان، ولا ينتفع بموعظة، وأكبر الظن أن شيوخ الأزهر يعتقدون أنهم مضوا في ذلك غضبًا لدين الله، وأكبر الظن أنهم يحمدون ذلك من أنفسهم، ويرون أنهم قد أدَّوا ما عليهم من الواجب، فقسوا حيث تجب القسوة، وسطوا حيث تجب السطوة، وجعلوا من ذلك الأستاذ نكالًا لغيره من الأزهريين الذين قد تحدِّثهم نفوسهم بأن الله قد خلقهم أحرارًا ووهبهم عقولًا، وأمرهم أن يتفكَّروا ويتدبَّروا، ويعملوا عن تفكُّر وتدبُّر لا عن محاكاة وتقليد، يُخطِئون أحيانًا فيغفر الله لهم خطأهم، ويصيبون أحيانًا فيكتب الله لهم صوابهم ويثيبهم عليه أحسن المثوبة.
وقد أصبح ذلك الأستاذ بالفعل نكالًا لزملائه من رجال الأزهر، فلن يحاول بعد اليوم واحدٌ منهم أن يفكِّر أو أن يكتب أو أن ينشر رأيًا في أمر من أمور الدين، حتى يحسب لمحاكمة الأزهر وعقابه حسابًا أي حساب.
سيفكِّر الأزهريون إذن في سطوة الناس قبل أن يفكِّروا في سطوة الله، وفي عقاب الناس وثوابهم قبل أن يفكِّروا في ثواب الله وعقابه، وسيتحرَّون رضى الشيوخ قبل أن يتحرَّوا رضى أنفسهم وضمائرهم وعقولهم.
وقد يرون الخطأ وينكرونه فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين ربهم، ولكنهم يذعنون له ويسكتون عليه ويظهرون العمل به والرضى عنه؛ مخافة أن يتعرَّضوا لمثل ما تعرَّض له ذلك الأستاذ من التشهير به والتشنيع عليه والمحاكمة له وأخذه بالعقاب.
وكذلك يُفرَض التقليد على الأزهريين فرضًا، ويغريهم خوف الفتنة بالتورط في الفتنة. وأي فتنة أشد نكرًا وأقبح في حياة الناس أثرًا من أن يعتقد الإنسان أنه يرى الحق ثم يكتمه عن الناس! ومن أن يعتقد الإنسان أنه يرى الباطل ثم لا يحذِّر الناس منه ولا يصدهم عنه، وإنما يخلي بينهم وبين ما هم فيه، غير حافل بعواقب هذا التقصير في ذات الله والتفريط في جنبه، لا لشيء إلا لأنه يخشى أن يُقدَّم للمحاكمة أو يُؤخَذ بالعقاب!
قدوة سيئة كنَّا نتمنَّى أن يكون الأزهر آخِر مَن يقدِّمها إلى الناس، وكنَّا نتمنَّى أن يكره الأزهر لنفسه ولرجاله احتمال أوزارها وأوزار مَن يتأثَّر بها من غير الأزهريين، ومع ذلك فقد كان ما أراد الأزهر أن يكون، وحوكم أستاذ من أساتذة الأزهر، وعوقب لا لأنه خالف عن قانون من قوانين الأزهر، ولا لأنه خالف عن نص من نصوص القرآن، ولكن لأنه حاول أن ينصح الإسلام والمسلمين، فأخطأ طريق الصواب فيما رأى شيوخ الأزهر. ووقع كل هذا في القرن العشرين، وفي عهد يعتقد المصريون فيه أنهم قد تخفَّفوا من أثقال الماضي وأوزاره، وتحرَّروا من قيود الماضي وأغلاله، وتهيَّئوا لاستقبال حياة جديدة تُقدَّر فيها كرامة الناس أفرادًا وجماعات، وحق الناس في أن يحتملوا تبعاتهم أحرارًا كرامًا، لا يُحملون على غير ما يريدون، ولا يُؤخَذون بغير ما يريدون، ولا يُفرَض عليهم الرأي فرضًا، ولا يُعاقَبون على الخطأ الذي لا يعاقِب الله عليه.
والشر العظيم بعد هذا كله هو أن الأزهر يتلقَّى ألوفًا كثيرة من الطلاب يلتحقون به في آخِر الصبا وأول الشباب، وينفقون فيه صفوة أعمارهم ويتأثَّرون فيه بهذه التقاليد التي لا تلائم العصر الذي يعيشون فيه، ولا تلائم البيئة التي يعيشون فيها، ولا تلائم الصريح الصحيح من دين الله كما أنزله في كتابه العزيز، وكما فصَّله في لسان نبيِّه الكريم وسيرته.
وكذلك ينقسم شباب الأمة المصرية إلى فريقين: فريق يقلِّد بحكم القانون ويُحاكَم ويُعاقَب إن خالف عن هذا التقليد، وفريق آخَر يحرِّره التعليم من كل تقليد في الرأي ويعرِّفه كرامته، ويزيِّن في قلبه حبَّها والذود عنها واحتمال المكروه في سبيلها، وتشطر الأمة بذلك شطرين: شطر المحافظين الذين لا يجوز لهم أن يجتهدوا ولا أن يخطئوا.
وشطر الأحرار الذين يجوز لهم بل يُفرَض عليهم الاجتهاد، ويجوز الخطأ والصواب جميعًا.
وليس بدٌّ لمصر من أن يأتلف أبناؤها على مذهب واحد في الحياة العقلية، فإما الحرية الكريمة الخصبة، وإما المحافظة المهينة العقيمة.
إحدى اثنتين، إما أن تسلك الجامعات والمعاهد العلمية سبيل الأزهر فتعاقِب على الخطأ وتثيب على التقليد.
وإما أن يسلك الأزهر سبيل الجامعات وسبيل المسلمين الأولين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فيبيح لرجاله وأبنائه أن يكونوا كرامًا أحرارًا، لا يُحاكَمون إلا حين يعتدون على حقوق الناس، أو يتجاوزون الحدود التي أمر الله بعقاب مَن يتجاوزها.
فأمَّا أن ينقسم المصريون هذا الانقسام إلى المستمسكين بالمحافظة في أبغض صورها إلى الله والناس، والمستمسكين بالحرية التي تليق بكرام الناس، والتي يجب على الدولة أن تتيحها لهم وتحفظها عليهم وتحميها من كل عدوان، فهذا هو النكر كل النكر، وهو الشر الذي يجب على الدولة أن تتجنبه وأن تحمي الشعب من نتائجه وعواقبه.
لن يصبح الأمر مقصورًا على قصة الصوم تلك التي حوكم فيها وعوقب عليها ذلك الأستاذ، ولكنه سيتجاوز هذه القصة إلى الرأي كله في أي أمر من أمور الدين أولًا، ثم في أمور الدنيا بعد ذلك، والله لا يحب التقليد في أمور الدين ولا في أمور الدنيا؛ لأنه لم يمنح الناس عقولهم عبثًا، ولم يكلِّفهم التدبُّر والتفكُّر إلَّا وهو يعلم أنهم بطبيعتهم معرَّضون للخطأ والصواب حين يتفكَّرون ويتدبَّرون.
وقد شكت مصر في العصر الحديث من هذا الانقسام إلى الأحرار والمقلِّدين، وجنَتْ من هذا شرًّا أي شر، وهل كان شقاء الشيخ محمد عبده رحمه الله إلَّا أثرًا من آثار هذا الانقسام؟ تحرَّرَ في بيئة لم تكن تحب الحرية، فلقي من المكر به والكيد له والتألُّب عليه شيئًا عظيمًا، ومع ذلك لم يستطع الأزهر أن يحاكمه ولا أن يعاقبه، وإنما خاصمه وجادله، وآذاه بعض الأزهريين بألسنتهم وأقلامهم، فلم يضروه ولم يضروا حريته شيئًا، بل تأثَّر به كثيرون من شباب الأزهريين، ففكَّروا في أمور الدين والدنيا أحرارًا كرامًا، ونفعوا وانتفعوا بهذا التفكير الحر الكريم.
أليس غريبًا أن تقصر يد الأزهر عن محاكمة الأستاذ الإمام رحمه الله، على كثرة ما ضاق به الأزهر، وعلى كثرة ما كاد له الشيوخ، وعلى كثرة ما سخط عليه السلطان، وأن يتاح ليد الأزهر أن تطول وتطول حتى تحاكم أستاذًا على أنه قال في الصوم مقالةً لم تعجب الشيوخ بعد أن مضى على وفاة الأستاذ الإمام نصف قرن؟
كم أحب أن أعلم: أنمضي نحن إلى الأمام، أم نرجع إلى الوراء؟ أيكون أول القرن الذي نعيش فيه أسمح سماحةً وأكثر حريةً من منتصفه؟
وهذا الحكم الذي أصدره الأزهر على الأستاذ، ما قيمته وما نتيجته؟ أيظن شيوخنا الأجِلَّاء أنهم حين يمنعون ذلك الأستاذ من التعليم سيكفُّون شرَّه عن الناس إن كان شريرًا؟
إنهم قبل كل شيء لن يغيِّروا طريقته في التفكير، ولا مذهبه في قراءة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها والتعرض للخطأ مرة وللصواب مرات، وهم لن يمنعوه من أن يلقى الناس، ولا من أن يتحدَّث إليهم، ولا أن يكلِّمهم في أمور الدين كما يكلِّمهم في أمور الدنيا. وعسى أن يكون الحكم عليه مغريًا للشباب بلقائه، والتحدُّث إليه والاستماع له والأخذ ببعض آرائه، وعسى أن يكون هذا الحكم مشجِّعًا له على ما كان الأزهر يريد أن يصده عنه.
ألَمْ يكن الخير كل الخير، والمصلحة كل المصلحة، في أن يُؤخَذ هذا الأستاذ بالرفق والنصح، وأن يُؤمَر بالمعروف أمرًا يصدر عن الحب في ذات الله، والإخلاص لرجل من المسلمين؟ والشيوخ يقولون إنهم دَعَوه إلى الخير فأبى عليهم، وأرادوا أن يجادلوه فرفض الجدال.
أحقٌّ هذا؟ كلا، ليس هذا من الحق في شيء، إنهم لم يدعوه إلى الخير وإنما دعوه إلى التحقيق، ولم يأخذوه بالنصح وإنما أخذوه بالطاعة والإذعان، ولم يأمروه بالمعروف وإنما أمروه بالتقليد، وليس التقليد من المعروف في شيء.
ليُصدِّقني رجال الأزهر إن قصتهم هذه فتنة، نرجو أن يقي الله المسلمين شرها، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا أعيد النظر في قوانين الأزهر، وحُرِّم عليه تحريمًا أن يعاقِب الناس على الخطأ في الرأي.
وَلْتُصدقني الحكومة إن عليها للدين وللناس واجبًا، وإنها تسرف على نفسها وعلى الناس إذا قصرت أو تأخَّرَتْ في أداء هذا الواجب، وهي أن تحمي الناس من المحاكمة على آرائهم في العلم والدين، ومن عقابهم على الخطأ في العلم والدين أيضًا.
من حق الأزهر ومن الحق عليه أن يقول للمخطئ في أمر من أمور الدين: أخطأت، وأن ينهى الناس عن مجاراته في الخطأ، وأن يقول للمصيب في أمر من أمور الدين: أصبت، وأن يدعوا الناس إلى مجاراته في الصواب، فأما أن يحاكِم المخطئ ويعاقبه فلا.
وأنا بعد هذا كله أدعو رجال الأزهر أن يدلونا على نصٍّ في كتاب الله، أو سنة رسوله، تبيح لهم أن يحاكِموا الناس أو يعاقبوهم على الخطأ الذي وعد الله بالعفو عنه إذا تاب المخطئون وأصلحوا، بل إذا تاب الخاطئون وأصلحوا، وما أعظم الفرق في دين الله بين المخطئين والخاطئين! وبيننا وبين شيوخنا أصلح الله بالهم! آيات كثيرة في القرآن الكريم ذكرْتُ بعضها فيما قدَّمْتُه من حديث، وأكتفي الآن بهاتين الآيتين الكريمتين: يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
ويقول الله عز وجل في سورة الأحزاب: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.
بهذا تحدَّث الله إلى عباده رءوفًا بهم عطوفًا عليهم، وبغير هذا تحدَّثَ الشيوخُ إلى زملائهم وساروا فيهم، أما أنا فلا أصدق ولن أصدق إلا حديث الله عز وجل، ومَن أصدق من الله حديثًا؟