الخطوة الثانية
كانت خطوة رائعة تلك التي خطَّتْها الحكومة حين قرَّرت توحيد القضاء، فحقَّقت حلمًا كان يداعب نفوس الناس منذ زمن بعيد، ولكن الأوهام كانت تحول بين الحكومات الماضية وبين تحقيقه. وقد قال الناس في توحيد القضاء فأكثروا وأشعروا الحكومة بأنها كانت موفَّقَة حين اتخذت هذا القرار، معبِّرَة عن إرادة الشعب وعن إرادة المثقفين منه بنوع خاص، وما أريد أن أعيد الحديث في هذا الموضوع؛ فقد يحسن ألَّا يشغلنا ما كان عمَّا ينبغي أن يكون، وما دام توحيد القضاء قد أصبح حقًّا واقعًا فَلْنَدَعِ الحكومة إلى أن تخطو خطوة ثانية ليست أقل منها خطرًا، وعسى أن تكون أبعد منها أثرًا فيما ينبغي للحكومات الرشيدة أن تفكِّر فيه وتسعى إليه، وهو توحيد الأمة وتقريب ما بين أبنائها من الآماد، لا أقول في حياتهم الاجتماعية والسياسية وحدها، بل في حياتهم العقلية؛ لأن هذه الحياة هي أساس التفكير وهي قوام العمل، وهي التي تتيح للشعب أن يفكِّر تفكيرًا متجانسًا، وأن يعمل عملًا مطردًا لا ينافي بعضه بعضًا ولا يلغي بعضه بعضًا، وهذه الخطوة الثانية هي توحيد التعليم في طور الصِّبا والشباب.
وأنا أعلم أن هذه الدعوة ستثير سخط فريق من المحافظين، وربما أقضَّتْ مضاجع أفراد منهم، ولكن المحافظين في كل بلد مستيقظ يعرف نفسه ويهيِّئ مستقبله ويجاري التطور، مقضِيٌّ عليهم أن يسخطوا دائمًا؛ لأنهم يحبون الوقوف والدنيا من حولهم تحب الحركة، وربما أحبَّ فريق منهم الرجوع إلى الوراء والدنيا من حولهم تحب المضي إلى أمام، فهم مضطرون إلى هذه الحياة التي لا تعرف رضى ولا اطمئنانًا، يؤثرون الكسل والحياة تؤثر النشاط، ويحرصون على القديم كله والحياة حريصة على التجديد، وعلى ألَّا تستبقي من القديم إلا ما يصلح للبقاء، ولا يناقض التطور ولا يؤخِّره. وهذه الخطوة الثانية ليست جديدة وليست قديمة، فقد فكَّرْنا فيها منذ زمن بعيد، وتحدَّث بها بعضنا إلى بعض في مجالسنا الخاصة، ودعا إليها بعضنا في الصحف، شأنها في ذلك كشأن الخطوة الأولى التي خطتها الحكومة حين قرَّرت توحيد القضاء، فلن ينكرها أحد من الذين يقدرون التطور ويفهمون حياة الشعوب حق فهمها، ويريدون الرقي مخلصين له مصمِّمين عليه.
وأقول كذلك إن هذه الخطوة الثانية ليست قديمة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ فقد عاش المسلمون قرونًا لا يعرفون هذا التفريق الذي نعرفه بين حياة الدين وحياة الدنيا، وإنما يجمعون بينهما لأن الله قد جمع بينهما، فأرسل رسوله إلى الناس كافةً وفرض أحكامه على الناس كافةً، وواجب عليهم جميعًا أن يكونوا مؤمنين صادقين يعرفون من حقوق الله ومن حقوق الناس ما يجب أن يعرفوا، حتى لا يفرِّطوا في جنب الله، ولا يقصروا في ذات الناس، وحتى يتحقق العدل الشامل الذي أراد الله أن يكون قوامًا لحياة الناس. ولم يعرف المسلمون في عصورهم الأولى هذه الحياة التي نعرفها نحن الآن، والتي تأخذ الصبي من حياته العاملة لتضطره شطرًا طويلًا من عمره إلى نشاط خاص لا يشاركه فيه غيره من المواطنين، يفرغ فيه منذ صباه الأول لعلوم اللغة والدين، حتى إذا تجاوز الصبا وأضاع زهرة الشباب، أصبح رجلًا من رجال الدين لا يحسن غير القول في شئون الدين، ولا يستطيع أن يتصرَّف في غيرها من الشئون، ويكون مع أمثاله الذين فرض عليهم مثل ما فرض عليه من النشاط طبقةً تمتاز من سائر الطبقات، في تفكيرها وفي سيرتها وفي استقبالها للأحداث وتأثُّرها بها وحكمها عليها.
كل هذا جديد في الإسلام لم يعرفه المسلمون إلا بعد أن تصرمت قرون من حياتهم وأخذت أمورهم تجمد، ثم تقف ثم يعلوها الصدأ. وتستطيع أن تنظر في تاريخ الإعلام من رجال الذين في القرون الإسلامية الأولى، فسترى أنهم كانوا ينشئون كما كان ينشأ غيرهم من الصبية، ويشبون كما كان يشب أترابهم من الفتيان، ويتصرفون في شئون الحياة، كما كان يتصرَّف فيها غيرهم من الناس، حتى إذا أتيح لأحدهم أن يتقن فنًّا من فنون العلوم الدينية، أخلص له عقله وقلبه ولم يمنعه ذلك من أن يعيش عيشة غيره من العلماء، يكسب قوته كما يكسبه غيره من الناس بالسعي فيما يتيح له هذا القوت من تجارة أو صناعة أو غير ذلك من أنواع النشاط، فكانوا رجال دين ورجال دنيا، لا تشغلهم دنياهم عما أحبوا من العلم، ولا يشغلهم علمهم عما يقيم حياتهم من السعي واكتساب القوت، وكانوا يفكرون كما يفكر الناس لا يمتازون بتفكير خاص، وإنما يمتازون بعقولهم وبما تثمر هذه العقول مما ينفع الناس، ويمتازون بقلوبهم وبما تؤثر هذه القلوب في سيرتهم العملية فتجعلهم أسوة حسنة وقدوة صالحة لغيرهم في ممارسة الحياة. والنظر في تراجم أعلام الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين تقنعك بهذا كله في غير مشقة ولا عناء، ولولا أن الفقهاء مارسوا الحياة كما يمارسها الناس جميعًا لما استطاعوا أن يستنبطوا لها أحكامها التي سُجِّلت في الكتب، والتي يقرؤها شيوخنا وتلاميذهم الآن قراءة غير متقن لها ولا محقق للواقع من أمرها، وإنما هو كلام تجري به الألسنة وتدور حوله الأحاديث، فإذا حققناه لم نجد أو لم نكد نجد وراءه شيئًا. ولولا أن المتكلمين قد مارسوا الحياة كما يمارسها غيرهم من الناس لما عرفوا فلسفة الفلاسفة ولا علم العلماء، ولما استطاعوا أن يلائموا بين حاجة الدين إلى مَن يصونه ويرد عنه الشبهات، وبين هذه الحياة الصاخبة المختلطة التي كانوا يحبونها، ومن حولهم أصحاب المذاهب الطارئة والآراء الغريبة والمذاهب المختلفة في تفسير الكون وظواهره.
ولا نعرف عالِمًا من علماء المسلمين في القرون الأولى فُرِض عليه أن ينقطع للون بعينه من ألوان الدرس، حتى ضرب بينه وبين غيره من الناس بحجاب من هذه الحجب الصفاق التي ضُرِبت بين شيوخنا وبين العصر الذي نعيش فيه.
وإذن فقد آن لمصر من جهة أن تلائم بين حياتها الجديدة المتطورة، وبين أن تُنشِئ هذه الأجيال التي تفرغ لدراسة الدين من أبنائها، بحيث لا يقتطع هؤلاء الأبناء من الحياة العامة ومن الظروف التي تحيط بهم، ويكونون فريقًا لا هو بالقديم ولا هو بالجديد، لا هو بالمحافظ ولا هو بالمجدد، وإنما هو شيء مختلط يفكِّر كما كان الناس يفكِّرون منذ قرون، ويعيش في حياته المادية كما يعيش المعاصرون له، يركب السيارة والقطار والطائرة، ويصطنع البرق والتلفون، وينتفع بالمطبعة، فهو من هذه الناحية رجل من أبناء هذا العصر، فإذا تحدَّثْتَ إليه في شأن من شئون الحياة الواقعة لم يفهم عنك ولم تفهم عنه؛ لأن بينك وبينه أستارًا كِثَافًا.
هو يقلِّد القدماء في تفكيره، ويقلِّد المُحْدَثين في حياته العملية، وقد فرض على عقله أن يعيش غريبًا في وطنه وبين معاصريه، لا لشيء إلا لأنه اقتُطِع من بيئة وزُجَّ به في هذه الحياة الخاصة التي يحياها رجال الدين، فانقطعت الصلة بينه وبين حياة الأمة كلها، وأصبح قريبًا منها غريبًا عنها.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، ولكنه يتجاوزه إلى شيء خطير جدًّا بالقياس إلى الدين نفسه، ويكفي أن تنظر إلى رجال الدين من شيوخنا وإلى رجال الدين في البلاد المسيحية فسترى الفرق بين العجز والقدرة، وبين الخمود والنشاط، وبين القصور والتصرف في كل شئون الحياة. وفي مصر نفسها من رجال الدين المسيحيين مَن لم يمنعهم تخصُّصهم في علوم الدين من أن يتقنوا ألوانًا من العلوم المدنية العليا، في مصر رهبان تخرَّجوا من مدارس الهندسة، وفيها رهبان تخرَّجوا في مدارس الصيدلة، وفيها غيرهم تخصَّصوا في ضروب أخرى من المعرفة المدنية، وهم على ذلك قد أخلصوا أنفسهم للدين وفارقوا أوطانهم للبحث والدرس والتخصص في أشياء لا تتصل بالدين، ولكن الدين لا يحظر عليهم أن يتخصصوا فيها. وأنا أعرف راهبًا تخرَّج في أرقى مدارس الهندسة بفرنسا، وتخصَّص في علوم الدين وأخلص نفسه له، ولم يمنعه ذلك من أن يتعلَّم العربية ويبحث في تاريخ الرياضة عند العرب، ويقيم في مصر لهذا الغرض.
وقد عرف المصريون مديرًا لمصلحة الآثار كان قسيسًا، وفي مصر راهب آخَر تخصَّص في الصيدلة وله معمل صغير في الدير الذي يعيش فيه، وقد حاضر في بعض كلياتنا المدنية، ولم يمنعه ذلك من أن يفرغ للدين ويتخصَّص فيه، ويدرس مع هذا كله علم الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية، ويشارك أخصب مشاركة في نشر آثار الرئيس ابن سينا.
وقد كان علماء الإسلام في العصور القديمة ينهجون هذا النهج، ويسيرون هذه السيرة لا يمنعهم تخصُّصهم في علوم الدين من أن يمارسوا الفلسفة وألوانًا من الصناعات، فما يمنع شبابنا الأزهريين أن يسلكوا سبيل القدماء من أسلافهم، وسبيل المحدَثين من رجال الديانات الأخرى؟ وأن ينفعوا بذلك أنفسهم وينفعوا الناس، ويشاركوا في الحياة مشاركة العالم بها الخبير بدقائقها؟ الجواب على ذلك يسير، وهو أن شبابنا الأزهريين لا يتعلمون كما يتعلَّم الناس، وكما ينبغي أن يتعلَّم الناس، أي إنهم في طور الصبا والشباب يقتطعون من بيئتهم اقتطاعًا، ويفرغون لفنون من النشاط لا تغني عنهم ولا عن مواطنيهم ولا عن الدين نفسه شيئًا.
ولست أدري ما الذي ينفع شبابنا الأزهريين من أن يسلكوا سبيل غيرهم من أترابهم، فيتخرَّجوا في المدارس الابتدائية العامة أولًا، وفيما شاء الله من المدارس الثانوية والكليات الجامعية بل من المدارس الفنية أيضًا، ثم يتخصَّصوا بعد ذلك فيما يشاءون أن يتخصَّصوا فيه من علوم الدين؟
ولِمَ يوجد بين علماء الدين المسيحيين قسيس طبيب، وقسيس مهندس، وقسيس أثريٌّ، ولا يوجد أمثالهم بين رجال الدين المسلمين؟
هذه مشكلة يجب أن تفكِّر فيها الدولة وأن تواجِهها في عزم وتصميم كما واجهت مشكلة القضاء، وأن تحلها في عزم وتصميم أيضًا كما حلت مشكلة القضاء، وسبيل ذلك واحدة لا ثانية لها، وهو أن يُوحَّد التعليم العام بحيث لا يكون هناك فرق بين مَن يريد أن يفرغ للدين، ومَن يريد أن يفرغ للدنيا، وأن يكون التخصُّص بعد انقضاء الطور الأول من أطوار الشباب.
هذا حديث لا أوجهه إلى الأزهريين لأني أعلم أن الشباب من علماء الأزهر وطلابه مقتنعون به متمنُّون له داعون إليه، وإنما أوجِّهه إلى الحكومة التي خطَتْ خطواتها الأولى فوحَّدَتْ القضاء، لعلها أن تخطو خطوتها الثانية فتوحِّد التعليم.