مضى القِطار في مَوْعِده
قرأت ترجمتها الفرنسية مفرَّقة في مجلة العصور الحديثة، وعسى أن تكون قد ظهرت الآن مجتمعة في كتاب، كما ظهر أصلها الألماني، ولستُ أخفي أنني احتجت إلى قراءتها مرتين، لا لأن فيها شيئًا من غموض أو التواء، بل لأنها راقتني، ومن الأدب ما يروقك فتقرؤه مرة ومرة، وقد تقرؤه مرات كثيرة، دون أن تقضي العجب من قراءته، أو دون أن تبلغ حاجتك إلى هذه القراءة المتكررة. وأنا بعدُ لم أقرأ هذه القصة في أصلها الألماني، وإنما قرأتها وقد نُقِلت إلى لغة أخرى، وفقدَتْ غير قليل من جمالها الأصيل، وما أشك في أن الذين سيقرءونها كما صدرت عن صاحبها سيرضون عنها أكثر مما رضيت، وسيذوقون فيها من الجمال والفن أكثر مما ذقْتُ.
والقصة لا تروع بغرابة الأحداث، فليس فيها حدث واحد غريب، بل ليس فيها فكرة واحدة تقفك عندها للتأمل والتعمق، وإنما هي تجري على نسق يسير مطرد لا اضطراب فيه ولا أَمْت.
هي أشبه شيء بحديث يقصه صديق على صديق في غير تكلُّف، ولا تأنُّق، ولا التماس للأطراف أو إثارة العجب، وهي بالطبع لم ترقش بجمال اللفظ، وروعة الأسلوب … وهذه الخصال الأدبية المعروفة التي تسحر القارئ، وتملك عليه هواه.
فأنا كما قلتُ لم أقرأها في أصلها الألماني، وإنما قرأتها في ترجمة فرنسية، كل جمالها يأتيها من السذاجة، ويُسْر المذهب، واستقامة الأسلوب، وصواب التعبير وملاءمته لأصول اللغة الفرنسية حين يكتبها أصحابها ميسرين غير معسرين، ومتوخين صدق التعبير والإصابة فيه، وأكبر الظن أن أصلها الألماني يقارب ترجمتها الفرنسية في هذه الخصال؛ فالترجمة الصحيحة الصادقة لا تخلو من أصداء صادقة متقاربة لما نُقِلت عنه.
فليست هذه القصة إذن طرفة فنية بالمعنى الدقيق المألوف لهذه الكلمة في اصطلاح الأدباء والنقَّاد، وإنما هي صورة يسيرة صادقة ساذجة للون من ألوان الحياة التي يحياها الشباب حين تفجؤهم الحرب، وتأخذ عليهم الحياة من جميع أقطارها، وتفرض عليهم التفكير في أحداثها وخطوبها، وفي أخطارها وكوارثها، وحين تُوئسهم من النجاة، وتمثِّل لهم صورة الموت بشعة رهيبة مروعة يملؤها الهول، فتملك عليهم تفكيرهم كله وشعورهم كله وحياتهم كلها، وتحول بينهم وبين الاستمتاع بما يمكن أن يعرض لهم من لذة أو نعمة فيما بقي لهم من الحياة، وتجعل أعمالهم كلها، وخواطرهم كلها موسومة بسِمَة واحدة، هي سمة الخوف اليائس أو اليأس الخائف الذي يصد عن كل شيء إلا نفسه.
فهذا الشاب الذي لا نعرف من أمره إلا أن اسمه أندريه، وأنه من أسرة متوسطة، وأنه فقد أبويه، وأنه نشأ نشأةَ أترابِه معتمدًا على نفسه، يريد أن يسلك طريقه في الحياة كما يسلكها أمثاله من الشباب حين تستقيم لهم الأمور في السلم، فيجاهدون ويكافحون ويظفرون آخِر الأمر بما يتاح لهم من المنازل الاجتماعية.
هذا الشاب الذي نيَّفَ على العشرين، ولم يبلغ الثلاثين، بل لم يَزَلْ بينه وبينها شيء من أمد، تدركه الحرب فتقطع عليه طريقه إلى الحياة، كما تصوَّرها وكما أرادها، وتنحرف به إلى طريق آخَر قد استقر في روعه أنها منتهية به إلى الموت، سواء قصرت هذه الطريق أم طالت، وهو قد ذهب في هذه الحرب مذاهب، وشهد منها مشاهد، فلم ير إلا هولًا وبؤسًا وشقاءً وموتًا، يحاول أن ينسى ذكره، فيتمثل له بكل سبيل كما كانت ليلى تتمثَّل لشاعرنا العربي القديم الذي يقول:
وقد أتيحت لهذا الشاب إجازة قصيرة قضاها في مدينته تلك التي لم تُسمَّ لنا على ضفة الرين، فلما انقضت إجازته مضى إلى القطار الذي سيحمله إلى الميدان من وراء الحدود الألمانية في بولندا، وصحبه إلى القطار صديق له قسيس في مثل سنه، وقد انتهى الفتيان إلى المحطة وسلكا بعض أنفاقها إلى الرصيف، وهما يسمعان أثناء سلوكهما لهذا النفق الدعاء إلى القطار الذي سيسافر في موعده بعد دقائق لا يتأخر عنه قليلًا ولا كثيرًا، وهما يسرعان إلى القطار حتى إذا بلغاه لم يصعد الشاب إلى مكانه، وإنما وقف يتحدث إلى صديقه متمهِّلًا متلكئًا، كأنه لم يأتِ لسفر، وإذا صديقه يسأله متعجلًا له منكرًا تباطؤه: «ما بالك لا تصعد إلى القطار؟ إنه يوشك أن يفوتك، ألَمْ تسمع أنه سيمضي في موعده؟ أَلَا ترى أنه يتهيأ للانطلاق؟» فيجيبه الفتى ساخرًا: «وما عليك إن يفوتني القطار، إذا كنتُ أوثر الهرب، وإذا كنتُ أكره أن أموت؟» ثم تثوب إلى الفتى نفسه فيقول لصاحبه: «لا عليك، سأصعد إلى القطار، فادعُ لي!» ثم يصعد متلكئًا متكرهًا فيلتمس مكانه، حتى إذا ظفر به جعل ينظر إلى صديقه الواقف على الرصيف، وقد أخذ القطار يمضي أمامه، وشخص الصديق يصغر في عينيه شيئًا فشيئًا حتى يستخفي.
وينظر الفتى من حوله في القطار فيرى رجالًا ونساء، ويرى جندًا، ولكنه لا يكاد يلتفت إلى أحد ممَّن يرى؛ لأن شخصًا واحدًا قد ملأ عليه نفسه كلها وهو الموت.
وقد سقط في سمعه حوار قصير بين جماعة يتحدثون في القطار، وهم منه غير بعيد، يقول أحدهم لأصحابه: أما الحرب فقد ربحنا فيها النصر ما في ذلك شك، بل يكفي أن نعلن الحرب لنثق بأننا منتصرون …
فيقع هذا الكلام من نفس الفتى موقع رجع الصدى الذي يأتي من بعيد، ولا يجد في نفسه ردًّا على ما سمع إلا أن الألمان انتصروا، فسينتصرون دون أن يشاركهم في الانتصار؛ لأنه ميت ما في ذلك شك، ثم يفكر في المسافة التي تفصل بينه وبين الميدان، فيقدرها ويحققها ويعدُّ ساعاتها ويقطع بأن هذه الساعات هي كل ما أتيح له من الحياة. والحزن يملأ نفسه وهو حزن خائف مخيف يملؤه اليأس والأسى، فهو في أول حياته وقد كانت له آمال طوال عراض مشرقة رائعة، ولكنها تُقطَع فجأةً، وهو يريد أن يحقق هذا الموت الذي ينتظره، والذي يحمله القطار إليه في غير تردُّد ولا إبطاء، فأيسر حركة يتحركها القطار تقرِّبه من الموت وتباعِد بينه وبين الحياة، وهو يذكر الأعوام القليلة التي أُتِيح له أن يحياها شاعرًا بنفسه، عاقلًا لأمره منذ أن أتيح له العقل، ويذكر اللَّذات القليلة التي أُتِيحت له، ثم صُرِفت عنه إلى غير رجعة، واللَّذات الكثيرة التي كان يرجو أن ينالها، ثم قطعَتْ بينه وبينها الأسبابُ، فالموت ينتظره هناك من وراء الحدود باسطًا له ذراعيه ليضمه إليه في عنف، أو في رفق، لا يدري!
والقطار يمضي به حازمًا مسرعًا ليسلمه إلى هاتين الذراعين، وهو يذكر أوقاتًا قصارًا قضاها في فرنسا حين حملته الحرب إليها، ولَذَّاتٍ خاطفة أُتِيحت له هناك، فقد تتيح الحرب للجند بعض اللَّذات الخاطفة حين تحملهم إلى هذا المكان أو ذاك، ولكنها في هذه المرة لن تتيح له لذة خاطفة أو غير خاطفة؛ لأنه سيصل إلى الميدان في ساعة بعينها، وسيتلقاه الموت إثر وصوله لا يمهله ولا ينتظر به لذة أو ألمًا.
والفتى يثوب إلى نفسه بين حين وحين، ويلومها أعنف اللوم لا لأنها تفكِّر في الموت، بل لأنها أثناء تفكيرها في الموت لا تتأهب له بالصلاة والدعاء، وإنما تنفق وقتها القليل في استحضار ذكريات لا سبيل إلى أن تعود، وليس يغني استحضارها عنه شيئًا، ولا ينفعه قليلًا أو كثيرًا.
ما أضعف النفس وما أسخفها، وما أحرصها على أن تضيع وقتها فيما لا ينفع ولا يفيد! إنه لا يحتاج إلى شيء، كما يحتاج إلى الصلاة والدعاء؛ يتهيأ بهما لِلَقاء هذا الموت الذي ينتظره هناك ليتلقَّاه إثر نزوله من القطار، وهو هنا يشغل نفسه عن الصلاة والدعاء بهذه الفتاة التي لقيها في فرنسا فأحبها وكَلِف بها، وكان حبه لها أول عهده بالحب.
ما شأنه بالحب الآن! إن الحب نعمة تغمر النفس وتملأ القلب حياةً وأملًا، ولا سيما حين يتاح للفتيان في طور الشباب الذي يتسع للحياة والأمل ولذَّاتهما، ولكن شبابه هو ليس كغيره من الشباب، فهو لا يتسع لحياة ولا لأمل ولا للذة؛ لأنه شباب ضيق لا يتسع إلا بمقدار ما يتسع هذا القطار، أو هذا المكان الذي يشغله من القطار، ولا يطول إلا بمقدار هذه المسافة التي تقصر في كل لحظة بمقدار ما تتحرك عجلات القطار. فَلْيعمد إلى الصلاة والدعاء؛ إذن يملأ بهما هذا الشباب الضيق القصير، ولكنه لا يشقى بنفسه هذه التي تشغله بذكرياتها فحسب، وإنما يشقى بجسمه أيضًا؛ إنه يحس الجوع ولم يَبْقَ إلا أن يشغله جسمه عن الصلاة والدعاء بحاجته الملحَّة إلى الطعام، فَلْيُرِحْ جسمه، وَلْيكفَّه عن هذا النداء المُلِحِّ، وَلْيتناولْ شيئًا من الطعام، وَلْيفرغْ بعد ذلك من جسمه ونفسه من ذكريات هذه وجوع ذاك، وَلْيقصر ما بقي من وقته على الصلاة.
والفتى يعمد إلى الطعام الذي أعده له صاحبه القسيس فيصيب منه شيئًا، ولكن ماذا! إنه يجد للطعام لذة ترغِّبه في الاستزادة منه، أيمكن أن يجد الإنسان لذة الطعام وهو يعلم أنه ميت بعد قليل من غير شك؟ إن أمر الحياة لا يخلو من عجب، فهي لا تفرِّق بين الجد والهزل، ولا بين المهم والسخيف. موت قريبٌ محقق وجوع مع ذلك، وشهوة إلى الطعام ورغبة في الاستزادة منه. فَلْيقطع هذه الشهوة إذن، وَلْيصب من الطعام حظًّا آخَر، وَلْيشرب شيئًا من نبيذ. إنه لنبيذ عذب المذاق، حسن الموقع في الجوف، إنه ليشيع في الجسم حرارة ودفئًا، وإنه ليشيع في القلب سرورًا ونشوة. إن شيئًا من هذا لا ينسيه الموت ولا يشغله عنه، ولكنه يخفف من حزنه ومن مرارة يأسه؛ فَلْيستزِدْ من هذا الشراب كما استزاد من ذلك الطعام، وَلْيفرغ بعد ذلك كله لما ينبغي أن يفرغ له من الصلاة والدعاء، حتى لا يلقى الموت بنفس مجدبة قاسية.
وقد فرغ الفتى من طعامه وشرابه، ولكنه لم يفرغ لصلاة ولا لدعاء، فقد كان النوم يرقبه من قريب جدًّا، فلم يكد يفرغ من طعامه وشرابه حتى مسَّه بجناحه مسًّا رفيقًا فأنساه نفسه، وأنساه الصلاة والدعاء، وأنساه الموت أيضًا. أَعَرَضَ له الموت في أحلامه أم انتظر به حتى يفيق من نومه؟ لا يدري؛ لأنه لم يكد يفيق من نومه حتى رأى الموت ماثلًا أمامه، بل مستأثرًا بنفسه وقلبه، فهو لا يدري أَنَامَ أم لم يَنَمْ؟ وإنما يعلم أنه ما زال مصاحبًا للموت دائمًا. ولكنه يرى رفيقين في القطار لا يذكر أنه رآهما حين صعدا إليه، ولعلهما صعَدَا إلى القطار أثناء نومه ذاك اليقظ، أو يقظته تلك النائمة. وهما جنديان مثله، وهما يلتمسان الأسباب للتحدث إليه، وما أسرع ما يتصل بينه وبينهما من الحديث، وإذا هما يذهبان إلى نفس الميدان الذي يذهب إليه، ولكن الغريب أن الفتى لا يقدر أن الموت ينتظرهما كما ينتظره، إنما الموت ينتظره هو وحده، فأما غيره فليس يعلم من أمره شيئًا، ولا يعنيه أن يعلم من أمر غيره شيئًا، وهو لا يعرف اسم رفيقَيْه ولا يعنيه أن يعرف اسمهما، فَلْيكونوا رفاق سفر حتى إذا بلغوا الميدان فرَّق الموت بينهم، فاستأثر به وصنعت الأحداث بصاحبَيْه ما لا حاجة به إلى أن يعلمه. وهم ينفقون الوقت في حديث ولعب بالورق، وفي طعام وشراب يُشرِك كلٌّ منهم صاحبَيْه فيما عنده، فقد ألَّف بينهم السفرُ وألَّفت بينهم الحرب وجعلتهم رِفَاقًا مخلصين في الخير والشر، لا يستأثر أحدٌ منهم بشيء من دون صاحبَيْه.
والقطار يبلغ غايته بعد ليلة كاملة وبعد جزء من النهار، ولكنه ينتهي بهم إلى مدينة قريبة من الميدان، ثم يتركهم فيها ليأخذوا إلى الميدان قطارًا آخَر لا يعرفون موعده، ولا يلبثون أن يتبيَّنوا أن قد مُدَّتْ إجازتهم بقية يومهم ذاك، فلن يبلغوا الميدان إلا في الساعة السادسة من صباح الغد، وليس بينهم وبين الميدان مع ذلك إلا أمد قصير، فَلْينفقوا يومهم إذن وادعين في هذه المدينة، وقد أخذوا في ذلك فأصلحوا من شأنهم وغيروا ملابسهم، واستردوا هيئاتهم كما تكون في أيام الإقامة، وإذا هم فتيان أقوياء عليهم وسامة ولهم شارة، وأحدهم ضابط رشيق كريم موفور يريد أن يمتِّع صاحبَيْه بشيء من نعمة البال قبل أن يذهبوا إلى الميدان، فهو يدعوهما إلى مطعم فخم يتناولون فيه غذاء مترفًا، وهو يذهب بصاحبَيْه بعد ذلك إلى دار من دور الإثم، وقد أسرفوا على أنفسهم في الطعام والشراب. وماذا يصنع الجند الفارهون الذين تنتظرهم الحرب بأهوالها من الغد، وقد طعموا وشربوا فأكثروا؟ وهم قد ذهبوا إلى هذه الدار واختار الضابط لنفسه ولصاحبَيْه، وخلا كلٌّ منهم إلى صاحبته. ولكن فتانا لم يَنْسَ الموت حين طعم، وحين شرب، وحين أوى إلى هذه الدار الآثمة، فقد دخل الموت معه في ثيابه واستقرت صورته في عقله وقلبه جميعًا، واشتد استئثارها به بمقدار ما قرب الأمد في الزمان والمكان بين الفتى وبين الميدان. وهو يلقى صاحبته باسمًا لها، ولكنه لا يريد إلا أن تبقى معه في غرفته، هو لا يبتغي إثمًا ولا لذَّة، وإنما يبتغي فرارًا من الوحدة، فرارًا من نفسه، وفرارًا من صورة الموت، وصاحبته ضيقة بذلك أول الأمر، ولكنها لا تلبث أن تطمئن إليه؛ فضرورات الحرب وقسوة الحياة وطلب العيش هي التي اضطرتها إلى هذه المهنة البغيضة. ولا تكاد الفتاة تتحدث إلى الفتى حتى يعلم أنها محاربة، وأنها تتجسس لمواطنيها الثائرين بالعدو المحتل. قالت ذلك للفتى حين أمنته واطمأنت إليه، وهي في أول أمرها وفي أيام السلم كانت تتهيَّأ لصناعة الموسيقى، والفتى مشوق إلى الموسيقى، مشوق إليها أي شوق! ومَن يدري، لعل الموسيقى ترده إلى هذه الصلاة التي لم يفرغ لها إلى الآن! وهو لا يكاد يسمع عزف الفتاة حتى يحبها أعمق الحب وأقواه، وهي أيضًا قد أحبته والفتى كلف بالفتاة إلى أقصى غايات الكلف، ولكنه على ذلك لا يريد إلا صحبتها، وإلا صحبتها التي تتصل حتى تسلمه إلى الموت، صحبتها التي تسليه عن الموت ما امتدَّ الليل، وتسلمه إلى الموت حين يسفر الصبح. وهما يطعمان ويشربان ويتحدثان، ولكن الباب يطرق، وإذا صاحبة الدار تدعو الفتاة لأن القائد يريدها، والفتى يأبى أشد الإباء ويمسك الفتاة معه، وينفق كل ما عنده من نقد، وينزل حتى عن بعض ملابسه وعن حذائه لتبقى معه الفتاة، وما يمنعه أن يلقى الموت غير كامل الزي، وأن يلقى الموت حافيًا؟ وما يصنع الموت بزيِّه وحذائه؟ إنما يريد الموت مهجته وحدها.
وقد بقيت معه الفتاة ورقَّتْ له وأقسمَتْ لتنجينَّه من الموت؛ فستأتي سيارة القائد في آخِر الليل لتحمل إليه الفتاة، وسائق السيارة بولندي مثلها وهو عدو مثلها للألمان، فستصطحب الفتى معها في السيارة وستنحرف السيارة بهما قليلًا، وسيفران إلى قرية تعرفها الفتاة في شِعْب من شِعَاب الجبل، والفتى لا يكره ذلك ولكنه يطمئن بشرط أن يصطحب رفيقَيْه، وما يمنع أن يفروا جميعًا إلى ثِنْي من أثناء الجبل، فيعيشون فيه حتى تضع الحرب أوزارها؟ وقد مضت بهم السيارة مع الصبح، وهم جميعًا فيها يحاولون أمرًا، وقد دبَّر القضاء أمرًا آخَر؛ فقد نظر فتانا أندريه في ساعته، فإذا هو يقرأ الساعة السادسة، ولا يكاد يحول عينه عن ساعته حتى تنشق السيارة نصفين؛ سقطت عليها قنبلة فجعلتها ومن فيها حطامًا. ويفكر الفتى: أين هو؟ وأين يداه ورجلاه؟ وينظر في سكرة من سكرات الفجاءة، فيرى يدًا قد خرجت من حطام السيارة هي يد صاحبته تلك التي أقسمت له لتذهبن به إلى حيث يلقى الحياة الناعمة.
أي القطارين كان دقيقًا في المحافظة على موعده أعظم الدقة وأشدها؟ أهو ذلك القطار الذي حمل الفتى ورفاقه إلى الميدان، أم هو قطار آخَر هيَّأه القضاء ليحمل الناس من الحياة إلى الموت!