مِنْ أدَبنا الحَديث
بين أجيالنا الأدبية المعاصرة شيء من الجفوة طال عليه الزمان، وكثر فيه القول حينًا وكاد ينتهي إلى شيء من القطيعة بين الشباب والشيوخ من الأدباء.
يشكو الشباب من أن شيوخ الأدباء لا يحفلون بهم، ولا يلتفتون إليهم، ولا يمهدون لهم طرق النجح، ولا يعرفونهم إلى القرَّاء، كأنهم يؤثرون أنفسهم بما أتيح لهم من ارتفاع المنزلة وبُعْد الصوت. ويشكو الشيوخ من الشباب أنهم يُكبرون أنفسهم ويسرفون في الاعتداد بها، ولا يكادون يقدرون ما لقي الشيوخ من عناء، وما احتلوا من مشقة، وما ذللوا من عقاب.
وهذا الخلاف بين الأجيال طبيعي لا غرابة فيه، ولكنه يوشك في مصر أن يتجاوز الحد الذي ينبغي له؛ فهناك تضامن بين الأجيال يجب أن يرعى، وحقوق للأبناء على الآباء يجب أن تُؤدَّى، والآباء بطبعهم قد قطعوا أكثر الشوط فيجب أن يُعِينوا أبناءهم على أن يخلفوهم فيحسنوا خلافتهم، ويحققوا من الأمر ما لم يجدوا إلى تحقيقه سبيلًا.
وهناك حقوق للآباء على الأبناء يجب أن تُؤدَّى في شيء من البر والرفق والتلطُّف، وألَّا يحول الغرور والطموح دون تأديتها، والآباء معلمون والشباب متعلمون، ولا ينبغي أن تنقطع الصلة بين أولئك وهؤلاء.
وأريد أن أخصِّص طائفة من هذه الأحاديث لأدب الشباب الذين لم ينصفهم النقد ولم يعلمهم أيضًا، وقد شبع الشيوخ نقدًا وتعلُّمًا، وعلَّمَتْهم التجاربُ أكثر مما علَّمهم النقد، فليس كثيرًا أن ينفعوا أبناءهم ببعض ما انتفعوا به من التجارب والخطوب التي تعرضوا لها على اختلاف الليل والنهار، وتتابُع الأحداث والخطوب.
وبين يدي طائفة من الكتب كثيرة، ليس من الممكن أن أتحدَّث عنها في فصل واحد، ولا بد من أن أختار أحدها لأتحدَّث عنه اليوم.
فَلْيكن الحديث إذن عن هذه القصة الضخمة التي كتبها الأستاذ يوسف السباعي وسمَّاها «إني راحلة»، وهي قصة ممتعة حقًّا أخذت في قراءتها فلم أَدَعْها حتى أتممتها، ولم أفعل ذلك متكلفًا له أو صابرًا نفسي عليه، وإنما القصة هي التي اضطرتني إليه اضطرارًا، وحملتني على أن أفرغ لها وأترك ما بين يدي من عمل لم يكن تركه يسيرًا.
والأستاذ يوسف السباعي يحدِّثنا في مقدمة كتابه بأنه لم يألف كتابة القصة الطويلة حتى دعاه إلى ذلك المازني — رحمه الله — فأقبل عليه ذات صيف، ولم ينصرف عنه حتى أتم قصته هذه التي تتجاوز صفحاتها المئات الأربع، وأتمها في عشرين يومًا. ومعنى ذلك أن فنَّه واتاه، وأن خياله أمده، وأن لغته لم ترهقه من أمره عسرًا. وإذا كان هو قد كتب قصته في عشرين يومًا، فإني قرأتها في أربعة أيام لم أجد أثناء قراءتها سأمًا، أو شيئًا يشبه السأم، وإنما وجدتُ رغبةً وإقبالًا وحرصًا على أن أفرغ منها، بل على أن أنتهي إلى غايتها.
والقصة يسيرة من جهة وعسيرة من جهة أخرى؛ يسيرة لأنها تحدِّثنا عن أمر الحب بين فتيين، وما أكثر ما يتحدث الناس عن الحب، وعن الحب بين فتى وفتاة! ولكنه أثناء حديثه عن هذا الحب وقف في غير استطراد عند أشياء كثيرة صوَّرها فأحسن تصويرها، وعند أشياء أخرى حلَّلها فأجاد تحليلها. فتاة كانت تنظر إلى ابن خالتها في كثير من التجهم والإعراض أثناء الصبا، وكان يلقاها بمثل ذلك حتى شبَّ كلاهما، والتقيا ذات مساء، فوقع كلٌّ منهما في نفس صاحبه، وأكبر الظن أن هذا التجهم والإعراض لم يكن في حقيقة الأمر إلا مظهرًا لحب دفين كشف عن نفسه حين أتاحت له الظروف أن يكشف عن نفسه، حين أصبحت الفتاة ناهدًا يمكن أن تحقِّق معنى الحب، وحين أصبح الفتى ضابطًا وسيم الطلعة يمكن أن يصبو وأن تصبو إليه القلوب.
وقد دار هذا الحب بهذين الشابين ألوانًا مختلفة من الدوران، أنكر نفسه أول الأمر مع أنه لها عارف وبها مؤمن، ثم جعل يخلص قليلًا قليلًا من هذا الإنكار ويكف عن هذه المداورة، حتى صرح عن نفسه ذات مساء ولم يترك للعاشقين سبيلًا إلى جحوده أو الشك فيه.
أزال من طريقه إذن تلك المصاعب الخاصة التي كانت في نفس هذين العاشقَيْن، والتي ترجع أكثر ما ترجع إلى بعض هذه العُقَد النفسية التي تعرض للصبية والشباب، ولم يكد يخلص من هذه المصاعب حتى ثارت في سبيله مصاعب أخرى جاءت من أسرة الفتاة؛ فأبوها رجل من كبار الباشوات له مطامع لا تنتهي، وهو على ذلك من طراز الآباء الذين لا يعرفون لبناتهم حقًّا في الحرية أو الاختيار، وإنما يأخذونهن بالشدة والعنف والطاعة في غير جمجمة ولا اعتراض، وهو من أجل ذلك يرد خطبة الفتى ويقدِّم ابنته ضحية لمطامعه، فيزوِّجها كارهةً من فتًى سخيفٍ لا خطر له إلا أنه من أبناء رجل عظيم من رؤساء الوزارة السابقين، والذين يمكن أن تعود إليهم رياسة الوزارة، والفتاة يائسة ولكنها صابرة، والفتى يائس ولكن فيه شيئًا من إباء، وقد زُفَّتِ الفتاة إلى زوجها البغيض ولم ينتظر عشيقها هذا الزفاف فتزوَّج من فتاة أخرى لا يحبها ولا يهواها. ولا يكاد الزمن يتقدَّم حتى تستكشف هذه الفتاة الخيانة من زوجها ومن رفاقه المترفين، فتفر من بيتها بعد خطوب، وينتهي بها التطواف إلى تلك الساقية القديمة التي ظهر فيها حبها لذلك الفتى، وظهر فيها حب ذلك الفتى لها في صراحة لا تحتمل جدالًا، وفي عنف لا يقبل مقاومة، وتريد الأقدار التي يدبِّرها الكاتب كما يحب هو أن تلقى الفتاة عند هذه الساقية عاشقَها القديم، وما هي إلا أن يفرَّا إلى الإسكندرية هاربين بحبهما، مرضيين لحاجتهما من هذا الحب في عشٍّ بعيد على ساحل البحر، ولكنهما لا يعودان من هذا الفرار، وإنما يستأثر بهما الموت.
ولم ألخِّص القصة، فليس من اليسير أن تُلخَّص قصة بهذا الطول في مثل هذا الحديث، وإنما أشرت إلى سياقها إشارةً هي إلى اللمح أقرب منها إلى أي شيء آخَر. وقد ذكرت أن القصة أخَّاذة مشوقة تبدأ قراءتها فلا تستطيع عنها انصرافًا حتى تتمها، وهي مع ذلك قد كُتِبت في لغة عربية فصيحة رائقة على هنات تلقاها هنا وهناك.
وما أحب أن أخفي على صاحب القصة أني لم أرضَ عن كثير مما اضطره إليه فنُّه اضطرارًا، ولن أذكر له ذاك في إطالة، وإنما أشير إليه كما أشرتُ إلى سائر القصة.
هناك أشياء تنكرها كتمزيق الخيط، وتمزيق الشعر، وتذكير المؤنث، وتثنية ما حقه أن يكون جمعًا. وهناك أشياء لا يسيغها الذوق، وما أكثر ما يتورط الشباب من كتَّابنا فيما لا يسيغه الذوق.
فهذان العاشقان يتحدثان في موطن من مواطن الحب العنيف الذي يريد أن يُخفِي نفسه فلا يستطيع، وإذا هما ينتهيان في بعض حديثهما هذا، الذي كان يجب أن يخلص من المادة، عن المسطردة والعدس والكوشري والدقة، وأسخف ما يمكن أن يتحدَّث عنه أصحاب الشره والنهم في موطن من مواطن الجوع والازدراد والالتهام.
وهناك أشياء لا يسيغها الفن نفسه، وإنما هي متكلَّفَة مصطنَعة قد شُدَّتْ من شعرها كما يقول الفرنسيون، فهذه الزوج البائسة اليائسة التي فقدت أملها واستكشفت خيانة زوجها وكرهت حياة المترفين وحياة الناس، وكادت تقضي على نفسها بالموت، وانتهت آخِر الأمر إلى ساقيتها تلك القديمة تذكر حبَّها الضائع وأملها الخائب، وإنها لفي ذلك وإذا عاشقها القديم يُقبِل عليها كأنما كانا على ميعاد، وهو لا يُقبِل عليها زوجًا بائسًا يائسًا مثلها، وإنما يُقبِل عليها حرًّا طليقًا قد ماتت زوجته لأن القصة أرادت أن تموت.
وهناك عيب في القصة يوشك أن يفسدها لولا أنه يقع في آخِرها، حين تنتهي من قراءتها، فالفتاة هي التي تكتب القصة، وهي التي تُنبِئنا منذ السطر الأول بأنها ستموت بحيث ننتظر موتها كلما دنونا من آخِر الكتاب، فإذا بلغنا موتها رأيناه منكرًا غريبًا نابيًا لا يسيغه الفن المتقن.