في قلب الحوت
فُتح الباب … وظهر «جاتمان» بوجهه الذي يُشبه وجه الثعلب، وتقدم مسرعًا بعد أن أغلق الباب خلفه وقال: «بلور» معي في الخارج، لقد أحضرنا كل شيءٍ معنا؛ فقد اكتشف «بلور» أن هناك أيديًا قد عبثت في غرفنا الثلاث … وأعتقد أن وراءنا قوةً منظمة، وليس مجرد هذين الطفلين.
أشار «مندوزا» بمسدسه إلى «أحمد» و«إلهام» … فتقدم «جاتمان» مسرعًا وأخرج من جيبه شريطًا لاصقًا. وبيدٍ مدربةٍ ألصق جزءًا منه على فم «أحمد» وجزءًا آخر على فم «إلهام» … استخدم نفس الشريط في ربط يدَيْ كلٍّ منهما خلف ظهره. وأشار «مندوزا» بمسدسه فاتجه الصديقان ناحية الباب … وأطل «جاتمان» قبلهما فلم يجد ما يريب في الخارج.
وبعد لحظاتٍ كانوا جميعًا في سيارةٍ قويةٍ و«بلور» في مكان القيادة وانطلقت السيارة تشق طرقات القرية الساكنة، ثم غادرَتْها في اتجاه البحر، ثم حاذَت الشاطئ ومضَتْ في طريقها.
كان «أحمد» و«إلهام» يفكِّران في نفس الشيء … إنهما أخيرًا سيدخلان عرين الأسد ويعرفان ما هي الحكاية بالضبط. ولم يكن أحدهما يفكِّر في مصيره الشخصي. كانا يفكِّران فقط فيما سيفعلانه … وماذا حدث للأصدقاء الثلاثة «خالد» و«زبيدة» و«عثمان» وهل عرفوا ما حدث أو لم يعرفوا؟ وحاول «أحمد» أن يُدير وجهه إلى الخلف لعله يرى سيارة تتبعهم … ولكن لم يكن هناك إلا الظلام الكثيف الذي تضيئه النجوم البعيدة وقال في نفسه: لو أن هناك سيارةً تتبعهم لاكتشفها «بلور» ولكن من الواضح أن الأصدقاء الثلاثة الباقين قد فقدوا أثرهم.
مضَتْ نحو ساعةٍ والسيارة تشقُّ طريقها بقوةٍ وبسرعة. وكان «بلور» قائدًا ماهرًا حقًّا فرغم الرمال والمطبات كانت السيارة تمضي دون أن تخفض سرعتها قط مطفأة الأنوار إلا بين لحظةٍ وأخرى فقد كان «بلور» يكتشف طريقه بإطلاق الأنوار لحظاتٍ ثم يعود إلى إطفائها.
أخيرًا أخذت السيارة تُهدِّئ من سرعتها تدريجيًّا حتى توقَّفَتْ تمامًا عند نقطةٍ مهجورةٍ من الشاطئ … وأدار بلور السيارة بحيث واجهت البحر ثم أطلق نورها مرتَيْن … ومضت ثوانٍ ثم أطلق الأنوار مرةً واحدةً ثم نزل.
قال «مندوزا» موجهًا حديثه إلى «أحمد» و«إلهام»: هيا! ونزل الجميع وقال «جاتمان»: إنها فرصتنا أن نتخلَّص منهما الآن. ونُلقي بجثتَيْهما في البحر.
زمجر «مندوزا» قائلًا: اخرس أنت! سوف نجبرهما على الإدلاء بالمعلومات التي نُريدها! إن عندنا وسائلنا في الاستجواب.
مضَتْ لحظات ثم سُمع في الصمت صوت مجاديف تعمل في الماء … وظهر شبح زورقٍ أسود يشقُّ طريقه بسكون ناحيتهم، ورسا الزورق … ونزل شبحان اتجها ناحيتهما فقال «مندوزا»: هيا!
وتقدم الجميع وحمل «بلور» و«جاتمان» الأشياء التي أحضراها معهما … ثم ركب الجميع الزورق … وانطلق بهم على صفحة المياه السوداء.
كانت الشعلات العالية فوق آبار البترول البعيدة تُضيء ما حولها. وعلى وهجها البعيد كانت المدينة تتلألأ بالنور …
وفكَّر «أحمد» في منزلهم بالقاهرة وتصوَّر ما يحدث هناك في ذلك الوقت فابتسم.
كان القارب المطاط الكبير يشقُّ طريقه مسرعًا بواسطة المجاديف متجهًا إلى داخل البحر … وفجأة أحس بكوع «إلهام» في جانبه … لم يكن هناك شك في أنها تنبهه إلى شيء، ونظر في عينيها ورغم الظلام استطاع أن يلمح بريق أمل قوي يلمع فيهما، ولكن أمل في أي شيء؟!
وعادت «إلهام» تلكزه بكوعها … وأغمضت عينيها عندما نظر إليها مرة أخرى … إنها تبلغه رسالةً ما، ولكن ما فحوى الرسالة! قالت «إلهام» في نفسها: إنني أشجعك فقط!
بعد مسيرة حوالي ساعة أخذت ضربات المجاديف تخف … ومال أحد الرجلَيْن داخل الزورق ثم شاهد «أحمد» و«إلهام» قنبلة فسفور تنطلق في عمق البحر فتضيء ما حولها ثم أخذت تتلاشى حتى اختفَتْ.
وتوقَّف القارب تمامًا … وفجأةً ومن أعماق المياه المظلمة ارتفع برج مستدير كشفته الأضواء البعيدة … برج من الصلب وقال «أحمد» في نفسه: «غواصة.» ولكن البرج أخذ يرتفع تدريجيًّا وظل على استدارته … لم تكن غواصة، كان مجرد برج من الحديد يشبه الطبق، وقد بدت في جانبه فوهات إطلاق الطوربيد … وأجهزة أخرى معقدة.
أثار ظهور البرج سلسلة متتابعة من الأمواج أخذت تعبث بالزورق حتى كادت تغرقه، ثم انفتح جانب البرج الحديدي عن باب امتدت منه شرفة من الحديد … وسرعان ما انتقل الجميع إلى هذه الشرفة … وأفرغ الرجلان الزورق المطاط من الهواء وسحباه إلى داخل البرج … وانسحبت الشرفة وأغلق الباب وبدأ البرج يغوص في الماء.
وجد «أحمد» و«إلهام» نفسيهما ينزلان سلَّمًا من الحديد ثم هبطا إلى صالة مربعة مضاءة بقوة … وكان صوت الماكينات الدائرة في مكانٍ ما من البرج واضحًا.
اتجه الرجال الثلاثة إلى غرفةٍ جانبية مضاءة … بينما اقتاد بعض البحارة «أحمد» و«إلهام» عبر طرقات تنتشر فيها الأجهزة المعقدة إلى غرفة مصفحة من الصلب وألقيا فيها ثم خرج البحارة.
كان التخلُّص من القيود بالنسبة لهما مسألةً سهلة … فقد استدارا بحيث أصبح ظهراهما ملاصقًا أحدهما للآخر، ثم استطاع «أحمد» في ثوانٍ قليلة فك الشريط اللاصق من على يدَيْ «إلهام»، وسرعان ما فكَّت هي قيوده، ثم رفعا الشريط اللاصق كل منهما من على فمه.
أسرع «أحمد» حسب التدريبات التي تلقاها في فحص الغرفة التي سُجنا فيها … كانت غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن مترَيْن في ثلاثة أمتار. والباب كباقي الغرفة من الصلب، وأخذ «أحمد» يدقُّ الجدران وهو يستمع إلى الرنين ثم التفت إلى «إلهام» قائلًا: سجن محكم لا طريق إلى الفرار منه.
قالت «إلهام»: ما هي خطتك؟
أحمد: لا شيء … فلننتظر ونرَ … إنني أتوقَّع أن يعودوا إلى استجوابنا. كل واحدٍ على حدة … وبالطبع نحن لا نعرف شيئًا … كل شيءٍ حدث بالصدقة. ومرت بوجه «أحمد» سحابة من الضيق وهو يقول: إنني أتوقَّع أن نتعرَّض لتعذيب!
ردت «إلهام»: أظنُّ أن في إمكاننا أن نتحمَّل …
أحمد: ما أخشاه هو أن يعذبوكِ أمامي …!
أرادَتْ «إلهام» أن تبعد هذه الخواطر من رأسه فقالت: إن هذه الغواصة غريبة؛ فليس لها قوام الغواصة المستطيل.
أحمد: إنها ليست غواصة … إنها أشبه ببرجٍ من الصلب قادر على الظهور والغوص فقط … ولكنه لا يبحر، بل تقوم غواصات أو سفن بسحبه أو ربما يبحر ولكن بسرعة بطيئة.
إلهام: هذا أول شيء من نوعه أراه …!
أحمد: لقد صُمم من أجل غرض معين لا أدري ما هو!
سمعا صوت أقدام تقترب، ثم فُتح الباب الصلب فظهر رجلان في ملابس الغوص السوداء … وأشار أحدهما إلى «إلهام» فاتجهَتْ للخروج … وأحس «أحمد» أنه يريد الانقضاض على الرجل ولكنه كان يدرك أن من العبث مقاومة كل من في هذا البرج من رجال … ومن الواضح أنهم كثيرون …
أخذ الرجلان «إلهام» وأغلقا الباب ونظر «أحمد» حوله وأحس أنه سينفجر من الضيق … وتخيل استجواب «إلهام» وأخذ يدور في الغرفة كالنمر الحبيس وهو يفكر في الساعات القادمة … وما يمكن أن يحدث لأحب مخلوقٍ لديه في هذا العالم …!
سارت «إلهام» مع الرجلَيْن على طرقات البرج الحديدية … بين مئاتٍ من العدادات الدائرة، والأضواء القوية، ثم اقتاداها إلى باب ضغط أحدهما على شيء فيه … فسلط ضوء قوي عليه ثم اختفى الباب وظهرت غرفة واسعة كان «مندوزا» يجلس فيها ومعه رجلٌ آخر طويل القامة في ملابس ضباط البحر وقد أطلق لحيته … وبجوارهما وقف ثلاثة رجال عمالقة عراة الصدور، وكان واضحًا على وجه «مندوزا» أنه في أقصى حالات غضبه.
قال «مندوزا» بعد أن جلسَتْ «إلهام» على مقعد أمام الرجلين: ليس أمامنا وقتٌ نضيعه … ستقولين لنا فورًا ماذا تعرفين أنتِ والولد الآخر عنا … وإلى أي جهةٍ تنتميان؟! فورًا! فورًا!
وأطلق «مندوزا» كلمة فورًا كأنها قنبلة من فم مدفع … ولكن «إلهام» ظلَّتْ ساكنة، فتقدَّم منها كالثور المهاجم ورفع يده ليلطمها ولكنَّ الرجل ذا اللحية صاح به: صبرًا يا «مندوزا» إن أعصابي لا تحتمل رؤية فتاة صغيرة تتعذَّب. ثم أشار إلى العمالقة الثلاثة قائلًا: خذوها …
تقدم العمالقة الثلاثة من «إلهام» وفكرت في أن تقاوم … ولكن كانت تعرف عبث المقاومة فوقفت … وامتدت الأيدي الغليظة تجرها إلى غرفة التعذيب … وفي تلك اللحظة دوَّى انفجار مكتوم واهتزَّت الغرفة … وصاح ذو اللحية: ماذا هناك؟ ومد يده إلى جهاز تليفون ورفعه إلى فمه وصاح: غرفة المراقبة، ماذا حدث؟
ومرة أخرى دوَّى انفجار آخر … واهتزَّت الغرفة اهتزازًا شديدًا وارتفع صوت هرج ومرج وبدأت الأشياء تتمايل وغادر ذو اللحية مكانه مسرعًا … وجرى «مندوزا» خلفه ثم تبعهما الرجال الثلاثة … ووجدت «إلهام» نفسها وحيدةً في الغرفة فاندفعت خارجة منها … ووجدت الرجل الذي أخذها هي و«أحمد» إلى السجن مندفعًا إلى الغرفة … كان واضحًا أنه يبحث عنها ليُعيدها إلى السجن، كان في مواجهتها مباشرةً وبينهما الباب الحديدي المفتوح … وبضربةٍ من قدمها اندفع الباب الثقيل وصدم الرجل صدمةً هائلةً سقط على أثرها متكومًا في الأرض … وانحنت فوقه … كانت سلسلة من المفاتيح في حزامه فانتزعتها مسرعة ثم أزاحته حتى لا يراه أحد … وجرت في الطرقات الفولاذية تبحث عن «أحمد» وكانت تلتقي في الدهاليز المتشعبة بالرجال يجرون في كل اتجاه … وسمعت أحدهم يقول: حادث غريب!
واستطاعت في النهاية أن تصل إلى الممر الذي ينتهي بالغرفة المحبوس فيها «أحمد» وأخذت تجرِّب المفاتيح، وسرعان ما فتحت الباب، وعندما نظرت داخل الغرفة لم تجد أحدًا! …
كانت مفاجأة ﻟ «إلهام» ولكن مفاجأتها زالت عندما قفز عليها من خلف الباب شخص … ووجدت نفسها تقع على الأرض، ونظرت، وقد أخذتها الدهشة إلى «أحمد» الذي كان يرفع يده ليهوي على رقبتها بضربة قاتلة … ولكن يده توقفت في منتصف الطريق وصاح: إلهام؟!
ومد يديه يساعدها على الوقوف … وكاد يضمها إلى صدره، وقلبه ينبض بالفرحة، ولكن «إلهام» صاحَت: هل أحسست بما حدث؟
أحمد: طبعًا انفجاران!
إلهام: سمعتهم يقولون إنه حادث غريب …
أحمد: ما العمل الآن؟
إلهام: لا أدري بالضبط … ولكن يجب ألَّا ندعهم يضعون أيديهم علينا مرةً أخرى.
أحمد: لنبحث عن مخزن الثياب … لو استطعنا أن نصل إلى ملابس الغوص فقد نجد بدلتَيْ غوص مناسبتين لنا، ولن يعرفنا أحد في الاضطراب الموجود حاليًّا.
إلهام: إني أعرف الطريق إلى غرفة القبطان … هيا بنا فقد يكون المخزن قريبًا منها.
وخرجا مسرعين … واجتازا الدهليز جريًا. وتوقفا عند نهايته وفجأة برز رجل في ملابس الغواصين فتوارى «أحمد» و«إلهام» عند جدار الدهليز … وكان الرجل مندفعًا يجري وهو يمسك بيده جهاز إضاءة صغيرًا يطلق موجات متقطعة من الضوء وكان يصيح معلنًا أن المياه تتسرَّب إلى داخل البرج الحديدي …
وقفز «أحمد» إلى فوق وأطلق ساقه بضربة ساحقة أصابت وجه الرجل فتهاوى على الأرض … وأسرع «أحمد» يجره إلى أقرب غرفة … ونزع ثيابه، وأعطاها ﻟ «إلهام» قائلًا: سنحتاج لهذه الملابس … ليس للتمويه فقط، ولكن للعوم أيضًا … يبدو أن البرج يغرق.
وبعد لحظات كانت «إلهام» في ملابس الغوص وقال «أحمد»: سأبدو كأنني أسيركِ وسأمشي أمامك … احملي جهاز الإضاءة كأنكِ أحد البحارة!
وحملت «إلهام» الجهاز ومضت خلف «أحمد» الذي تقدمها بثبات وهي توجهه إلى غرفة القبطان … وبدا الدهليز الذي يسيران فيه وكأنه شيء يتلوى كالثعبان على الأرض … كانت المياه تندفع إلى داخل البرج وأدرك «أحمد» و«إلهام» معًا أن الموقف في غاية الخطورة … فإن البرج الضخم يغرق في قاع البحر … وقد تكون هذه المغامرة هي الأولى والأخيرة بالنسبة لهما.