حياة سوفوكليس
١
ليست الصورة الأدبية التي حفظها التاريخ لسوفوكليس بمباينة كل المباينة، ولا بموافقة كل الموافقة، لما قدمنا من صورة أيسكولوس؛ فبين الرجلين من التشابه في بعض الصفات ما يخيل إليك أن ليس بينهما من فرق، وبينهما من التباعُد ما يخيل إليك أن ليس بينهما من صلة. وحياة الرجلين والظروف الخاصة التي أحاطت بهما هي مصدر هذا الاختلاف والاتفاق الشديدين كما سيظهر لك بعد حين.
وُلِدَ سوفوكليس بن سوفيلوس في قرية «كولونا» بالقرب من أثينا سنة سبع أو خمس وتسعين وأربعمائة قبل المسيح. ولسنا نعرف من حياته الأولى شيئًا كثيرًا، ولكن إلمامنا بما كان يسلك الأثينيون إلى تربية أبنائهم في هذا العصر من طريق، ونصوصًا قليلة حفظها التاريخ يدلنا بعض الدلالة على نشأة سوفوكليس، وقد روى مؤرخوه أنه كان حسن الصورة جميل الخلق رشيق الحركة خفيفها ظريفها متأنقًا في كل شيء، وتدلنا آثاره الأدبية على أنه قد جمع إلى هذه الصفات رجاحة العقل وشدة التؤدة والرزانة، وشيئًا غير قليل من الاحتفاظ بالعادات الموروثة والآثار الدينية، فكان محبًّا للآلهة يُجِلُّهُم ويتَّقيهم ويُنزلهم من نفسة منزلة ملؤها الكرامة، فإذا أردنا أن نعرف مصدر هذه الحياة التي التأمت فيها هذه الصفات المتباينة والخصال المتناقضة عرفنا أن سوفوكليس قد خضع منذ طفولته لمؤثِّرَيْن مختلِفَيْن كل الاختلاف: الأول حياة القرى، والثاني حياة المدينة؛ فقد ولد في «كولونا» وهي قرية كان لها ما لغيرها من قرى أتيكا في هذا العصر من التمسُّك بالقديم والحرص على العادات الموروثة وعدم الكلف بالحياة اللينة والعيش السهل، فنشأ في أول أمره نشأة قروية خشِنة بعض الخشونة، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى المدينة فتأثَّر بما فيها من لين العيش ونعومته ومن خفض الحياة وسهولتها ولا سيما في هذا الوقت الذي كانت قد وصلت فيه أثينا إلى شيءٍ من الرقي المادي والمعنوي لم تعهده من قبل.
فهذان النوعان المختلفان من حياة القرية والمدينة تعاونا على أن يُكسِباه جسمًا قويًّا متين البنية ولكنه رشيق الحركة، وعقلًا راجحًا ولكنه مع ذلك سريع التنقل إلى الموضوعات المختلفة، لا يكاد يُلِمُّ بموضوع حتى يأخذ منه خلاصته كالنحلة تنتقل في الرياض من زهرةٍ إلى زهرة فتجتني رحيقها عذبًا سائغًا؛ ومن هنا جمع سوفوكليس في حياته المادية بين القوة والرشاقة، وفي حياته المعنوية بين الجِدِّ والفكاهة، فأصبح أحسن مثال لهذه الأرستقراطية الأدبية التي عاشت في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح، فصورت الحياة اليونانية صورة خاصة عُرِفَتْ في اصطلاح العلماء والأدباء باسم التأتُّك أو الحياة الأتيكية.
هذه الحياة الأتيكية هي المثل الأعلى لحياة الأمة اليونانية في كل شيء، نقول لحياة الأمة اليونانية؛ لأنها لم تقتصر على أهل أتيكا بل تجاوزتهم إلى غيرهم من يونان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ونقول إنها كانت المثل الأعلى للحياة اليونانية في كل شيء؛ لأنها لم تتناول لونًا واحدًا من ألوان الحياة، بل تناولت الحياة في جميع فروعها، سواءٌ في ذلك الفلسفة والسياسة والعلم والأدب والفن والاجتماع، فقد كانت أتيكا في القرن الخامس مركزًا ينبعث منه الضوء فيشرق على جميع أجزاء العالم اليوناني، ومعملًا — إن صحت هذه العبارة — تأخذ فيه نتائج العقل والشعور اليونانيين صورها الحقيقة. فما كان يظهر في جزءٍ من أجزاء البلاد اليونانية عالم أو فيلسوف أو أديب إلا أحس الحاجة إلى أن يرحل إلى أثينا، ليعرض بضاعته على أهلها وينال رضاهم وإعجابهم، وما هي إلا أن ينزل هذه المدينة حتى يتأثر بها ويصطبغ بصبغتها ويصبح أثينيَّ العقل والشعور واللغة، بل أثينيًّا في زيه ونظام حياته الخاصة، ولعل أصح تعبير عن هذه الاستحالة التي تناله إنما هو التعبير اليوناني؛ فقد كانوا يقولون أتك فلان أي اتخذ ما لبلاد أتيكا من عادةٍ ونظام.
تأثر أيسكولوس بما كان لدميتير في أولوزيس من أثر ديني، فنشأ ورعا ديانًا كما قدمنا. أما سوفوكليس فلم تكُن القرية التي وُلِدَ فيها من شدة التمسك بالدين والحرص على الاحتفاظ به بمكان أولوزيس، ولكنها لم تَكُنْ من التهاون به والإعراض عنه بمكان المدن المتحضرة، فنشأ سوفوكليس مقتصدًا في دينه، لا معرضًا عنه، ولا مسرفًا فيه، وسنرى أثر ذلك في حياته الشعرية.
كان أيسكولوس سليل أسرة أرستقراطية تكره الديمقراطية وتنفر منها وإن لم تجهد في ممانعتها وإشهار الحرب عليها. فتأثر بما لهذه الأسرة من عقيدةٍ وخطة سياسيتين، ولم نعرف أنه عني بالأمور السياسية أو اشترك في أعمال الجمهورية ذات الخطر. أما سوفوكليس فلم يكُن أرستقراطيًّا ولم يكن من سفلة الناس، وإنما نشأ في أسرة من أسر هذه الطبقات الوسطى التي تقوم بين الأرستقراطية والدهماء مقام الصلة، فتجمع إليها ما لهاتين الطبقتين من فضيلة؛ لذلك لم يكن سوفوكليس متشددًا ولا متعصبًا لرأيٍ سياسي إنما كان معتدلًا في السياسة، ليس بالديمقراطي المسرف ولا بالأرستقراطي المتعنت. ولئن كان فَنُّهُ قد استأثر بأكثر وقته فذلك لم يمنعه من أن يبذل فضل ذكائه وحياته العملية للجمهورية؛ فقد انتُخِب مرتين «ستراتيجوس» أي قائدًا من قواد الجيش فقبل الانتخاب ولم يسخط عليه مواطنوه. لم يكن سوفوكليس ذا مطامعٍ سياسية ولكنه لم يكُن يُهمل السياسة كل الإهمال، ولقد فشل الجيش الأثيني في حملته على سقليا فشلًا منكرًا حمل الأثينيين على أن يحاولوا تغيير نظامهم السياسي، فانتُخِب سوفوكليس عضوًا في الجماعة التي وُكِّل إليها هذا التغيير، ولكنه لم يلبث أن استقال حين رأى ميل هذه الجماعة إلى الاستبداد بالحكم دون الشعب؛ فهذا يبين لنا مقدار ما كان عليه من توسُّطٍ في الرأي وبُعد عن الإسراف والإفراط.
كان أيسكولوس من هذه الجماعة الأتيكية التي كانت تشهد استحالة أتيكا ساخطة غير راضية، والتي كانت مُعجَبة كل الإعجاب بالقديم قاصدة كل القصد في الرضى عن الحديث، والتي حاربت الفرس فقهرتهم، وكانت تَوَدُّ بعد ذلك لو أعاد لها هذا الانتصار ما كان لها من عزةٍ وسلطان، ولكنها لم تظفر بما كانت تريد فظلت هادئة تتربص الفرص وتتريث مترقبة حوادث الأيام. أما سوفوكليس فقد نشأ إبان هذه الاستحالة فلم يتأثَّر تأثُّرًا شديدًا بآراء شيوخ أتيكا ومحافظيها، وإنما كان شابًّا يملأه مجد أمته إعجابًا وفخرًا فيضيف هذا كله إلى هذه الحياة الجديدة التي تناولت كل شيء فغيرته وبدَّلته ودانت ما بينه وبين الكمال. أتراه بعد انتصار أثينا في «سلامين» شابًّا لم يتجاوز السابعة عشرة قد رَأَسَ طائفة من الشباب يتغنَّون ويوقعون في حفلٍ أقامه الأثينيون شكرًا للآلهة على ما منحوهم من فوز، فهو يتيه ويختال ويُظهر من براعته في التوقيع، ورشاقته في الحركة، ومن حسن زِيِّهِ وجمال منظره ما ينبئ بمكانته في الحياة الأثينية بعد حين، أترى بعد ذلك أنه يُمكِن أن يميل عن نصر هذا الحديث الذي ملأ شبابه كبرًا وإعجابًا، والذي استبقى له في شيخوخته من الذكرى ما لم يكن لينساه.
لم نعرف كيف نشأ أيسكولوس؛ لأن نُظُم التربية في القرن السادس ليست بالواضحة ولا الجلية، ولكنا نعرف أن سوفوكليس لم يَكَدْ يتجاوز سن الطفولة حتى روى الشعر القصصي والغنائي وتعرف ما فيهما من جمالٍ، وحتى اختلف إلى أساتذة الموسيقى فأحسن الأخذ عنهم، وأظهر براعته الفنية أكثر من مرة وأنه تردد إلى أماكن الألعاب الرياضية واشترك فيها، فأكسبته من قوة الجسم وجمال الخلق ورشاقة الحركة ما أشرنا إليه آنفًا. فهو إذن مَدِينٌ بحياته المعنوية للأدب والموسيقى وبحياته المادية للألعاب الرياضية. لم يختلف سوفوكليس إلى دروس الفلاسفة ولم يُعْنَ بحل المعضلات الفلسفية، ومع ذلك فقد كان فيلسوفًا؛ أي إنه يفهم الحياة الإنسانية فهمًا خاصًّا معقولًا لاءم فيه بين إرادة الإنسان وإرادة القضاء، ولكن هذه الفلسفة ليس لها مصدر إلا الذوق الذي اكتسبه من درس الشعر القديم، وإلا تجربته الشخصية التي كانت تجد من الحياة العامة والخاصة في أثينا حينئذٍ موضوعًا حسنًا للبحث والتمرين. هناك شيء لا بد من الإشارة إليه إذا أردنا أن نستقصي المؤثِّرات التي عملت في تكوين الآثار التمثيلية لسوفوكليس، هو هذه الجماعة الأثينية التي عاشرها الشاعر في جميع أطوار حياته منذ بلغ رشده، ولم يظفر بمعاشرتها أيسكولوس إلا بعد أن تقدمت سِنُّهُ. كانت هذه الجماعة تُمَثِّلُ أرقى طبقة مفكرة في العالم اليوناني، بل في العالم كله حينئذٍ، وماذا ترى في جماعة كانت تتألَّف من سيمون وبيركليس وهيرودوت وفيدياس وألكمين وغيرهم من زعماء السياسة والأدب والفن. أولئك الذين ازدانت بهم أثينا وبلغت بهم أقصى ما قُدِّرَ لها أن تبلغ من مجدٍ ورُقِيٍّ في كل شيء. كانت هذه الجماعة مُحِبَّةً للحياة كَلِفَةً بلذاتها تَستمع بها غير مُسرِفَةٍ ولا مغرقة. وكان أحب شيء إليها أن تجتمع إلى الطعام والشراب متجاذبة أعذب الحديث وأطيبه، متنقلةً من جِدٍّ إلى هزل متحاورة متناظرة في أطرف الموضوعات وأظرفها، وفي أشدها للنفوس استهواء وأحسنها في القلوب موقعًا، فما أشد تأثير هذه الاجتماعات في ترقية الحوار وتهذيبه وجعله من الرِّقَّة والدِّقَّة بحيث يلائم هذه العقول التي كانت تفهم فتسرع في الفهم، وتتعمق فيه، وتعبر عَمَّا تريد فتنتقي أشد العبارات دلالة عليه، مجتزئة في كثيرٍ من الأحيان بالإيماء والإشارة، محملة للجملة الصغيرة أكبر المعاني وأدقها، متفننة في ذلك التفنن كله!
كل هذا تراه واضحًا جليًّا فيما اشتملت عليه قصص سوفوكليس من حوارٍ أو جدال. أضف إلى هذا أن مدينة أثينا في القرن الخامس كانت ملتقى الوفود اليونانية من كل أَوْبٍ، وأن جماعتها السياسية والقضائية كانت تدرس أجلَّ الموضوعات خطرًا مُقَلِّبَةً إياها على جميع وجوهها يتناظر فيها الخطباء وزعماء القول لا يريدون إظهار مهارتهم أو الإعجاب بما كان لهم من قدرةٍ أو تفوُّق، إنما يريدون المنفعة والإصلاح. فكانت هذه الحركة البرلمانية والقضائية من أشد الأشياء تأثيرًا في تحسين المنطق وترقيته من جهة وفي أخذ الخطباء والمحاورين بالقصد والأناة فيما يقولون ويفكرون من جهة أخرى. وأضف إلى هذا وذاك أن العين لم تكُن تقَع من أثينا إلا على ما يملؤها جمالًا وبهجة، فكما أن الخطباء والفلاسفة كانوا يتسابقون إلى الإجادة والاستئثار بنفوس الجمهور، وكما أن القُوَّاد وزعماء السياسة كانوا يتنافسون في رَفع شأن المدينة وبسط سلطانها، فقد كان زعماء الفن الجميل يبذلون أقصى ما يملكون من جهدٍ في تزيين المدينة وتجميلها والملائمة بين منظرها المادي وجلالها الأدبي والسياسي. فاستحالت المدينة إلى معرضٍ من معارض الفن الجميل لا تخطو فيها خطوة إلا رأيت بناءً فخمًا أو تمثالًا جميلًا، وكانت أثينا في ذلك الوقت غنية موسرة وزعماؤها أجوادًا لا يبخلون بفضل مالهم بل بصميم مالهم على تشجيع المَهَرة من الفنيين، فقام في هذا العصر «البرتينون» وغيره من المعابد ذات الصوت الطائر وصنع فيه هذا التمثال المشهور، تمثال أثينا أقامه «فيدياس» من الذهب والعاج إلى غير ذلك ممَّا لسنا في حاجةٍ إلى ذكره الآن.
فإذا كان الشاعر من ذكاء القلب ورِقَّة الطبع ونفاذ البصيرة بمكان «سوفوكليس» ثم عاش في عصر كهذا العصر لا تسمع الأُذُن فيه إلا جميلًا ولا تقع العين فيه إلا على جميل، ولا تستشعر النفس فيه إلا مجدًا وعظمة وإلا رفعة وفخارًا، فليس من شكٍّ في أنه بالغ من النبوغ في شعره والوصول بفَنِّهِ من الكمال درجةً رفيعة إلى حيث بلغ سوفوكليس.
يذكر المؤرخون أن سوفوكليس كان هَيِّن الأخلاق حسَن العشرة لطيف الحديث، متحببًا إلى الناس متألِّفًا لهم، وأنه لم يكُن يبخل على نفسه بشيءٍ من اللهو والدعابة؛ فقد كان يرى أن يستمتع بما في الحياة من لَذَّةٍ وأن يأخذ ما أعطته الأيام من طِيبةٍ من غير أن يسترسل في ذلك فيفسد نفسه ويضيع وقته.
على أن هذه الحياة لم تَخْلُ من سحابة همٍّ غَشِيَتْهَا فنغَّصت صفوها بعض التنغيص، وعمِلت في تكوين الرجل وتكميل خلقه. فمثل الحياة تملؤها اللذة لا يشوبها ألم، والفرح لا يعترضه حزن مَثَلُ الطعام لا مِلح فيه، تعافه النفس وتنفر منه.
لم يكتفِ سوفوكليس بالحياة المنزلية المشروعة، فمع أنه كان زوجًا ناصحًا وأبًا شفيقًا، كلف بامرأة من «سيكيون» وعاشرها فكان له منها ابن سماه «أرستون» وكان لأرستون هذا ابن هو سوفوكليس الشاب، مثل قصة لجده بعد موته.
بين هذا الولد غير المشروع وإخوته، كانت خطوب وإِحَنٌ تَأَلَّمَ لها الشاعر، ويقال إنها وقفته بين أيدي القضاة، ومهما يكُن من شيءٍ فإن ما امتلأت به حياة سوفوكليس من لذةٍ وألم، ومن خيرٍ وشَرٍّ، لم تشغله عن فنه ولم تمنعه من إتقانه والإجادة فيه، فيروي المؤرخون أنه كان يُقدِّم إلى المسابقة أربع قصص في كل سنتين. بدأ في ذلك قبل أن يتجاوز الثامنة والعشرين فانتصر على أيسكولوس سنة ثمانٍ وستين وأربعمائة، ويقول الرواة إنه انتصر عشرين مرة؛ أي إن ثمانين قصة من قصصه قد راقت الجمهور. ويقولون إنه لم ينهزم قَطُّ فكان إما سابقًا أو لاحقًا، فأما الصف الثالث فلم يعرف مرارة الانحطاط إليه. ظل كذلك لا يبطره الانتصاره ولا توئسه الهزيمة ولا تناله الغَيرة إذا تفوق عليه أحد من خصومه إلى أن مات سنة خمسٍ وأربعمائة من غير أن يفارق وطنه إلا جادًّا في خدمته؛ فقد طلب إليه كثير من طغاة المدن اليونانية أن يرحل إليه فأبى ذلك لأنه كان يحب أثينا، ولأن أثينا كانت تحبه. فأما حُبُّه إياها فكل ما قدمناه يدل عليه دلالة واضحة، وأما حبها إياه فحسبك دليلًا عليه أنه لم يَكَدْ يفارق هوى الحياة حتى اتخذت له المدينة معبدًا وعبدته، وقدمت إليه الضحايا والقربان في كل سنة، كما كان يفعل اليونان بأبطالهم.
فلننظر الآن إلى آثاره الأدبية لنرى ما بينها وبين هذه الحياة من صلة.
٢
كان التمثيل قد بلغ من الرُّقِيِّ درجة عظيمة كما قدمنا قبل أن يحاوله سوفوكليس؛ فقد رأينا كيف نشأ وكيف منحه «تسبيس» صورته الأولى، وكيف أكمل أيسكولوس هذه الصورة، ورأينا معظم ما اخترع أيسكولوس في التراجيديا من اختراعات مادية أو معنوية وصلت بها من الرُّقِيِّ إلى حيث نراها فيما ترجمنا ولخصنا من آثار هذا الشاعر. إذن فقد وجد سوفوكليس أمامه طريقًا ممهدًا وخططًا مرسومة لم يكُن له أن يتجاوزها أو يعدِل عنها، فلم ينفق من نبوغه شيئًا كثيرًا في هذه المُعَدَّات التي ليس منها بُدٌّ ليوجد فن من الفنون، والتي تَحرِم صاحبها في كثيرٍ من الأحيان لذة الاستمتاع بآثاره والشعور بأن الناس يضيفون إليه ما اشتملت عليه من جمال. فمهما أتقن البناء ووضع الأساس وأقام الدعائم لقصرٍ ضخم بديع؛ فإن إعجاب الجمهور منصرف عنه إلى هذا الذي أتم بناءه ومنحه من الزينة والتحسين ما يملأ النفوس بهجة والقلوب روعة.
لم يُنفِق سوفوكليس شيئًا من نبوغه في وضع أساس التمثيل وإقامة دعائمه، وإنما أنفقه كله في ترقيته وتحسينه، وسلك به طريق الاستحالة والانتقال من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، ومع هذا فقد أبى مؤرِّخوه إلا أن يضيفوا إليه اختراعات أساسية لا شك في أن حظ الإسراف منها كثير.
فقد زعموا أنه أوَّل من عدل عن الرباعية المتصلة، فقدم إلى المسابقة رباعية منفصلة، وفي الحق أنَّا لا نعرف لسوفوكليس رباعية متصلة كما نعرف لأيسكولوس، ولكن ممَّا لا شك فيه أنه ليس مبتدع الرباعية المنفصلة؛ فقد سبقه إليها أيسكولوس كما قدمنا، وإنما رأى سوفوكليس أمامه طريقين من طرق التمثيل، طريق الوصل بين القصص والفصل بينها فآثر أن يسلك أيسرهما وهي الثانية، وأحسن كل الإحسان لأنه حَرَّرَ الفن من قيودٍ كانت تقف الشاعر مواقف لا تخلو من حرجٍ كثير.
وزعموا أنه أول من جعل عدد الممثلين ثلاثة، وكان أيسكولوس قد جعله اثنين، ولا شك في أن هذا أيضًا متكلَّف مبالغ فيه؛ فقد رأينا أن أيسكولوس قد قسَّم غير قصة بين ثلاثة من الممثلين، وإنما عدل سوفوكليس كل العدول عن القصة الثنائية التي لا يلعبها إلا اثنان. وكان أيسكولوس يشعر بشيءٍ من الضيق والوحشة في تقسيم قصته بين الممثلين الثلاثة، أما سوفوكليس فقد أحسن الانتفاع بهذه البدعة واستخدمها في ترقية الحوار ووضع أشخاص القصة مواضِعَ ثابتة رَحْبة ليست بالضيقة ولا بالمضطربة، فاستطاع كل شخص من أشخاص القصة أن يحسن الإعراب عمَّا في نفسه، وأن يجلي أخلاق البطل واضحة لا يشوبها الغموض ولا يحول بينها وبين الوضوح الشديد ضيق المقام.
وزعموا وربما كان هذا حقًّا أنه زاد عدد الجوقة، فجعل أعضاءها خمسة عشر وقد كانوا اثني عشر. وأنه مع ذلك قد جعل خطرها في التراجيديا غير جليل فأصبحت التراجيديا أقرب إلى التمثيل منها إلى الغناء. ولكنَّا قد قدَّمْنا أن طبيعة الفن كانت تستلزم هذه الاستحالة، وأن عمل الجوقة أخذ يَقِلُّ ويتضاءل شيئًا فشيئًا منذ أيام تسبيس، ورأينا هذه الاستحالة ظاهرة في قصص أيسكولوس؛ فالمستجيرات وهي أقدم ما بقي لنا من آثاره توشك ألَّا تكون إلا غناءً، والفرس وهي أحدث منها يَعظُم فيها حظ الغناء ولكن حظ التمثيل فيها غير قليل، ثم ما يزال التمثيل ينمو والغناء يتضاءل، حتى إذا نشأ سوفوكليس وجد هذا القانون قد أصبح لا سبيل إلى تغييره فأحسن الأخذ به والاستفادة منه كما سنرى.
يظهر أن ليس من شَكٍّ في أن سوفوكليس قد أحدث في التمثيل شيئًا ماديًّا لم يكن مألوفًا من قبلُ، ولكنه كان شديد الإفادة؛ لأنه أعان الجمهور على الفهم وقارَب بين التمثيل وبين الحقيقة الواقعة، وهو أنه صوَّر على الحائط الذي كان يقوم دون المسرح كل ما كانت تشتمل عليه القصة من منظر. فهذه هي الاختراعات التي تُنسب إلى سوفوكليس، وسواءٌ أصحت هذه النسبة أم لم تصح فلا شك في أن سوفوكليس قد كان أمهر في استعمال هذه البدع من أيسكولوس وأنه قد أحسن الانتفاع بها في ترقية التمثيل.
٣
على أن نبوغ سوفوكليس لم يظهر أَثَرُهُ في هذه الترقية المادية للتمثيل، وإنما يظهر واضحًا جليًّا في ترقيته المعنوية؛ فليس من سبيلٍ إلى الشك في أن سوفوكليس قد غَيَّرَ معنى التراجيديا وغايتها تغييرًا بَاعَدَ ما بينها وبين الصورة التي كانت في نفس أيسكولوس.
وأول ما نشهده من ذلك هو الفَرْقُ بين القاعدة التي اتَّخَذَها سوفوكليس والتي اتخذها أيسكولوس للتمثيل. فبينما كان أيسكولوس يرمي دائمًا إلى تمثيل ضعف الإنسان أمام قوة الآلهة أو قوة القضاء، وبينما كان يحاول أن يظهر إرادة الإنسان ضئيلة واهنة سيئة النظر في المستقبل يملكها الغرور فيحملها على ممانعة القوة القاهرة واعتراض الإرادة التي ليس إلى اعتراضها من سبيل، فتفعل ثم لا تلبث أن تلقى جزاء هذا التهوُّر والإسراف اللذين ليس لهما مصدر إلا الغرور، وبينما كان هذا التصوُّر نفسه للحياة الإنسانية يحمله على أن يجعل للآلهة أو للقضاء في القصة مركزًا ذا خطر، وأن يجعل مركز الإنسان دونه بحيث تصبح القصة كأن الغرض الحقيقي منها إنما هو تمثيل هذه القوة القاهرة وعبثها بالإنسان، نقول بينما كانت هذه حال أيسكولوس كان سوفوكليس قد اتَّخَذَ من الناس والآلهة صورة أخرى، فما كاد يلاحظ هذه الصورة في إنشاء قصصه التمثيلية حتى ظهر الفرق جليًّا بين الرجلين، وأصبحنا نرى أن كلًّا منهما إنما يمثل عصرًا خاصًّا، له ما ليس لصاحبه من حياة العقل والشعور.
كان سوفوكليس ابن هذا العصر الحديث الذي رقي فيه العقل اليوناني والشعور اليوناني، وأصبح فيه الإنسان يشعر أشد الشعور بوجوده ويعترف أشد الاعتراف بشخصيته ويَوَدُّ لو أكره كل شيء على أن يعترف بهذه الشخصية ويشعر بذلك الوجود.
نشأ هذا كله عمَّا كان من الاستحالة الاجتماعية والاقتصادية اللتين غَيَّرَتَا ما كان لليونان من نظامٍ سياسي، وجعلتا الحرية حظًّا شائعًا بين أفراد الشعب جميعًا سواء منهم الفقير المُعدَم والغني المثري، وسواء منهم الشريف الرفيع والسوقي الوضيع.
فكَّر كل إنسان وعمل كل إنسان وأحس كل إنسان بأن لتفكيره ثمرة ولعمله نتيجة فعرف أنه شيء يُذكَر واعتقد أنه موجود لا ينبغي لأحدٍ أن يهمله أو يفكر لوجوده من خطر أو قيمة، ونشأ عن ذلك اعتقاده أن له إرادة حرة تستطيع أن تمانع فتفوز في الممانعة، وأن تنازع فتنتصر في النزاع.
على هذا الأصل الذي هو إلى السياسة أقرب منه إلى الفلسفة قامت قصص سوفوكليس؛ فهو يرى أن الإرادة الإنسانية تملك من الحرية ما يمكنها من العمل، ومن هنا كانت آثاره الفنية اعترافًا بالشخصية الإنسانية وتحريرًا لها من رِبقة القضاء الذي كان قد سيطر على الأمة اليونانية منذ عصورها الأولى، فقد رأينا في حياة أيسكولوس أن الشعر القصصي يدلنا على أن اليونان كانوا يرون الآلهة الخالدين لُعبة في يد قوةٍ قاهرة لا مَرَدَّ لما أمرت به ولا محيد عمَّا قصدت إليه، وهي قوة القضاء وأن ما كان يعتقد الإنسان لنفسه من قوةٍ أو حرية إنما هو غرور باطل وانخداع بظواهر الأشياء، ورأينا أن أيسكولوس لم يجحد هذه القضية بل آمن بها وأَصَرَّ عليها، ولكنه لطَّفها بعض التلطيف فمثل الإنسان عاملًا بعض العمل، مريدًا بعض الإرادة، ولم يُحاوِل التوفيق بين هذه الحرية الإنسانية وبين قوة القضاء؛ لأنه لم يسأل نفسه عن معنى هذه الحرية ولا عن ما يمكنه أن يكون بينها وبين قوة القضاء من توفيق.
أما سوفوكليس فإنه لم يحاول التوفيق أيضًا ولم يجرؤ على أن يظهر الإنسان ممانعًا للآلهة متفوِّقًا عليهم؛ لأنه لم يكُن يعتقد ذلك من جهة، ولأنه لو اجترأ عليه لأسخط الجمهور من جهةٍ أخرى. ولكنه جعل التمثيل إنسانيًّا؛ أي إن ما تشتمل عليه القصة التمثيلية ليس حربًا بين هذه الإرادة الإلهية وبين إرادة الإنسان وإنما هي حرب بين إرادتين إنسانيتين. ومن هنا أصبح مكان الآلهة في قصص سوفوكليس غير ذي خطر؛ فقد كنا نراهم في الشعر القصصي يخالطون الناس ويداخلونهم في كل شيء، ثم رأيناهم في شعر أيسكولوس يشرفون على أعمالهم من كثَب ثم نراهم في شعر سوفوكليس يدبرون الحياة الإنسانية من بعيد.
ليست لذة تمثيل سوفوكليس فيما نرى من عظمة الآلهة وشدة بطشهم وافتنانهم في إرغام الإنسان على أن يُذعِن له، وإنما هي فيما نشهد من الممانعة الشديدة والحرب العنيفة بين إرادتين إنسانيتين قد أصرَّت كل منهما على ما عزمت فهي لا تعدل عنه ولا تميل، وما تزالان تتمانعان وتتشادَّان حتى يبلغ النزاع أقصاه، وهنا يفصل بينهما الآلهة فصلًا يظهر ما لهم من قوة وبأس.
انظر إليه في أنتيجونا كيف مثل إرادتها قوية شديدة الحرص على ما صمَّمت عليه من دفن بولينيس لا يصرفها عن ذلك صارف، تُلِحُّ عليها أختها فتردها ردًّا عنيفًا وتنصح لها الجوقة فلا تحفل بنصحها، وينذرها الملك فتحتقره وتزدريه، ثم يقضي عليها بالموت فتلقى ذلك ثابتة غير مضطربة في رأيها ولا متحولة عنه. وكيف مثل كريون معتزًّا بسلطان الملك والقانون يريد أن يأمر فيُطاع، فقد أزمع ألَّا يدفن بولينيس وأعلن أن دافنه مقتول، ثم يظهر له أن بولينيس قد دُفِنَ وأن بنت أويديبوس هي التي دفنته، وأن أهل المدينة كلهم لهم أنصار وأن ابنه يحبها ويكلف بها ولا يستطيع أن يستمتع بعدها بالحياة فلا يحوله ذلك عمَّا أصدر من أمر. بل انظر إليه يزدري الجوقة حين تنصح له بالقصد ويُهين الكاهن حين يعلن إليه أمر الآلهة. كلا الخصمين مُصِرٌّ عنيد وكلاهما يلقى ثمرة إصراره وعناده.
يخيل إلى الجمهور أن الآلهة هم الذين عاقبوا كريون على ما قدم إليهم من إهانة، ولكن المتأمِّل في القصة يرى أن هذه العقوبة لم تكُن إلا نتيجة منطقية لما كان من إصراره وإعراضه عن اللِّينِ. يعلن إليه ابنه أنه قاتل نفسه إن قتلت أنتيجونا، فلا يحفل بذلك، ويمضي ابنه يائسًا قد أزمع الموت. ثم يندم كريون لأنه لم يسمع لنصيحة الكاهن، فيحاول أن يخلص أنتيجونا ولكن «سبق السيف العذل»، قد ماتت أنتيجونا والتزمها ابنه يعانقها مرة ويقبلها مرة أخرى، ثم يقتل نفسه فيمتزج دمُه بدمِ من أحب، وأبوه شاهد قد ملكه الذهول وكاد يجن جنونًا. حتى إذا عاد إلى القصر وجد الخبر قد سبقه إليه ووجد زوجه قد قتلت نفسها بأسًا لموت ابنها، فينوء به الحزن ويتركه سوفوكليس أمامنا متولِّهًا أبلهَ لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول.
تغيير معنى التراجيديا ووجهتها، غير اللذة التي يشعر بها النظارة أو القارئ. فقد كان الحوار عند أيسكولوس يبهرنا بما اشتمل عليه من جلالٍ وضخامة، أما عند سوفوكليس فهو يخلبنا لدقته ولطف مأخذه.
شعورنا وحده هو الذي كان يتأثَّر في أكثر الأحيان بحوار أيسكولوس. كنا نُحِسُّ كأن شيئًا ضخمًا يبهظنا. أما عند سوفوكليس فلم يفقد الشعور شيئًا من لَذَّتِه، وقد أخذ العقل من هذه اللذة بنصيب. ليس من سبيلٍ إلى أن ننكر حين تقرأ سوفوكليس أن الكاتب قد كان يتأثر بحياة هذا العصر الذي أخذت تظهر فيه الفلسفة، ولا سيما فلسفة السوفسطائيين. هذه الفلسفة التي كان قِوامُها الافتنان في المحاورة والاجتهاد في الأخذ بتلابيب المحاور والتضييق عليه من غير أن يظهر في ذلك تعنُّتٍ أو تكلُّف.
يشعر قارئ سوفوكليس بأنه يعيش في عصر سقراط، حوار مَرِنٌ مقنع دقيق، مع أنه يخيل إليك أن الذين يتجاذبونه لا يجهدون أنفسهم ولا يتعمقون في البحث. كل ما بين سقراط وسوفوكليس من الفرق هو أن سوفوكليس لم يكُن يتَّخذ الفلسفة لحواره موضوعًا ولم يكُن يتكلف لغة الفلاسفة، إنما كان يتخذ موضوعًا لحواره ما للنفس الإنسانية من خُلُقٍ أو هوى، وكان يتكلم هذه اللغة الذي ألِفها الجمهور باختلافه إلى ملاعب التمثيل.
أخذت التراجيديا بفضل سوفوكليس صورة جديدة. فقدت شيئًا من هذا الجلال الذي كان يميز قصص أيسكولوس، ولكنها بذلك نفسه قرب ما بينها وبين الناس، واكتسبت شيئًا — من الدقة والتلطُّف في تحليل العواطف والميول — لم يكُن لها من قبل. وليس من الغُلُوِّ القول بأن سوفوكليس هو أول من وضع التمثيل البسوكولوجي.
فلم يقصد إلى إظهار سلطان الآلهة وضعف الإنسان، وإنما أراد قبل كل شيء أن يُظهر النفس الإنسانية واضحة جَلِيَّة إبَّان ما يعترضها في الحياة من خطوب، فتراها مطمئنَّة هادئة، ثم تراها وقد أخذت تضطرب وتجيش، ثم تراها وقد لقيت الخطب ثابتةً مُزْمِعة احتماله، وهي في جميع هذه المواطن تُحسِن الإعراب عمَّا ينبعث فيها من عاطفة، أو يبعثها على العمل من ميلٍ وهوى.
٤
يمكن أن نقول إن أشخاص سوفوكليس يُمثِّلون عصره، ويمكن أن نقول إنهم لا يمثِّلونه. فقد تأثر سوفوكليس بشيئين متباينين؛ الأول: الشعر القصصي الذي استعار منه موضوعاته والذي كان يمثل عصر الأبطال، والثاني: هذه الحياة الحديثة، حياة القرن الخامس قبل المسيح.
وقد عمل هذان المؤثِّران معًا في تكوين قصصه. ففي أشخاصه شيء غير قليل من جلال الأبطال، ولكنهم خاضعون لما امتاز به أثيني القرن الخامس من رشاقة الحركة وخفة الروح، وشيءٍ من الهُزء والسخرية حتى بأشد الأشياء جلالًا وأقربها من الدين منزلة. كأن سوفوكليس قد أراد أن يُمَثِّلَ أبناء عصره منزَّهِين من نقائصهم، تزينهم فضائل الأبطال أو كأنه أراد أن يمثل الأبطال تزينهم خصال عصورهم الأولى من غير أن يبعد ما بينهم وبين الناس.
في أشخاصه قوة وعزة وفيهم صلابة وعنف، ولكنهم مع ذلك يلينون ويضعُفون وينالهم الألم والإعياء.
لم يُحسن أيسكولوس كما قدمنا تمثيل المرأة؛ لأنه كان لا يميل إلا إلى القوة ولا يُعجَب إلا بالقوة، ولأن الضعف وما امتاز به النساء من سرعة الحركة والانتقال من طور ٍإلى طور، ومن شدة التأثُّر بالأشياء لم يكُن لينال نفسه القوية الخشنة. أما سوفوكليس فقد كان حضريًّا مترفًا، وكان غَزِلًا يحب المداعبة، وكان قد عاش في عصر لِينٍ ويُسر، واستمتع من لَذَّاتِ الحياة بشيءٍ غير قليل فبلا أخلاق الناس، ولم يَقِفْ في تمثيله عندما رسم الشعر القصصي، وإنما استعان الحياة الواقعة على تصوير أشخاصه. فكانوا إلى الحقيقة أقرب منهم إلى الخيال.
أصرَّت أنتيجونا على دفن أخيها ورضيت الموت، ولكن ذلك لم يمنعها أن تجزع وأن تبكي شبابها وأن يمتلئ قلبها حسرة لهذا الموت، يتعجلها قبل أن تبلو الحياة وتذوق لذة الزواج.
أزمع أياس قتل نفسه، وعَدَلَ عن كل ما قدمت إليه زوجه من نُصحٍ واستعطاف، وأرهف السيف وأثبته في الأرض، ولكن ذلك لم يمنعه أن يذكر وطنه وأُمَّهُ وأباه، وأن يحيي الشمس والبحر والهواء.
ذلك دأب الشاعر في جميع أشخاصه يَصِفُهُم من الفضيلة بما يحتمله النوع الإنساني لا يداني بينهم وبين الآلهة، وقد قدمنا أنه فشِل حين أراد أن يمثل هيراقل؛ لأنه حين جعل هيراقل إنسانًا كغيره من الناس، أفسد صورته الجميلة التي كان قد صوره بها الشعر القصصي.
هناك أشخاص آخرون يملَئُونك إعجابًا بهم ورضى عنهم، هم الأشخاص الذين ليس لهم في القصة أثرٍ عظيم. لم يتكلف سوفوكليس أن يحليهم بصفات الأبطال وإنما مَدَّ يده فتناولهم من حوله وأتى بهم في الملعب؛ فهم يمثلون أبناء أثينا أحسن تمثيل.
مولاي! لا أقول لك إني قد طرت إلى هذا المكان سريع الخطا؛ فإن الخواطر المختلفة التي كانت تملأ نفسي في هذه الطريق قد اضطرتني إلى أن أرجع أدراجي أكثر من مرة. فقد كان قلبي يحدثني مرة قائلًا: أيها الشقي! ما بالك تسرع إلى ما ينتظرك من العقاب؟! ومرة أخرى: أيها التعس! ماذا يقف بك؟! لو أن كريون علم هذا النبأ من غيرك فأي عذاب قد قدر لك؟ وأنا في هذا الاضطراب والتردُّد لم أكن أتقدم إلا بطيئًا؛ فإن أقصر الطرق يطيله مثلُ هذا التردد. وبعدُ فقد أكرهت نفسي وأقدمت. سأتكلم وإن كنت لا أستطيع أن أشرح لك شيئًا؛ فإني قد جئت وأنا واثق أني لن ألقى إلا ما قدره لي القضاء.
اقرأ ذلك وتعرف صورة الرجل أو الشاب من عامة أثينا في القرن الخامس تجدها مطابِقة كل المطابقة لما قرأت. هؤلاء الأشخاص كثيرون في قصص سوفوكليس، ومع أنهم يكسبون هذه القصص فائدة تاريخية فقد كانت لهم فائدة أخرى هي أنهم كانوا ينفسون عن الجمهور ويريحونه وقتًا ما من تتبُّع القصة وما فيها من جد.
فقد رأينا في هذا الفصل الموجَز ما بين سوفوكليس وأيكسولوس من وجوه التشابُه والافتراق، وكل ما قدَّمناه ينتهي بنا إلى نتيجةٍ واحدة هي أن الفرق بين الرجلين ليس إلا فرقًا بين عصرين مختلفين لأمةٍ واحدة، ثانيهما استمرار لأولهما وإن امتاز منه بخصالٍ خاصة وصفات اقتضتها الاستحالة والانتقال.
٥
أشرنا إلى أن حياة سوفوكليس كانت خصبة منتجة، فكثُرت آثاره التمثيلية، وقد رأينا أنه قد فاز في ثمانين قصة، ويذكُر المؤرِّخون الإسكندريون أن مجموع قصصه تبلغ ثلاثًا وعشرين ومئة قصة، ويَرَى المُحدَثُون أن ليس في هذا شيءٍ من المبالغة كثير. ومهما يكُن من شيء فلم يَبْقَ لنا من آثاره إلا قصص سبع أقدمها أياس، مثل فيها الشاعر قتل أياس نفسه، بعد ما أصابه من الجنون الذي مثَّل له قطعان الغنم والبقر كأنها جيش اليونان فأنحى عليها ضربًا بالسيف. وهذه القصة على قِدَمِ عهدها، وعلى أنها تمثل الشاعر مبتدئًا لم يتوثق من الفن ولم تثبت قدمُه فيه، تشتمل على آياتٍ من البلاغة خليقة بالإعجاب.
ثم مثل «أنتيجونا» وهي ما كان من دفن أنتيجونا لأخيها بولينيس برغم أمر الملك وما كان من القضاء عليها أن تُدْفَنَ حَيَّةً، وليس من شكٍّ في أنه قد تأثَّر فيها بأيسكولوس ولكنه فاقه في تصوير عواطف المرأة والتقريب بينها وبين الحقيقة.
ذلك شأنه في «إلكترا» التي تُمثِّل ما كان من انتقام أورستيس لأبيه وقتله أمه كلوتيمنسترا، ولكن الشخص الأول في هذه القصة إنما هو إلكترا؛ لأنها هي التي كانت تشهد فجور أمها وانتصار قاتل أبيها، فتألَم لذلك ويشتد حرصها على الانتقام.
وأعظم قصص سوفوكليس حظًّا من الجمال إنما هي «أويديبوس ملكًا» وقد قدمنا تلخيص موضوعه في مقدمة «السبعة يهاجمون طيبة».
وأشدها ضعفًا هي «التراكينيات» مثَّل فيها غيرة ديجانيرا؛ لأن زوجها هيراقل أحب غيرها، وإهداءها إليه ثوبًا مسمومًا لَبِسَهُ فمات بعد ألمٍ شديد.
ثم مثل «فيلوكتيتيس» وهو بطل من أبطال الإلياس. كان يملك سهام هيراقل فأصابه سهم منها في ساقه وعجز اليونان عن مداواته، فتركوه في جزيرة مُقفِرة، ثم يحتاجون إليه فيحتالون في رده إلى معسكرهم أمام تروادة.
وآخر قصة من قصصه هي «أويديبسوس في كولونا» لعبها الممثِّلون بعد موته، وهي تمثل أويديبسوس بائسًا يعيش من المسألة، بالقرب من أثينا، وما كان من تضييف هذه المدينة له.
ولنأخذ الآن في تلخيص قصصه وترجمة ما نختاره منها، فذلك أوضح طريق تنتهي بنا إلى ما كان له من نبوغ.