حماة أيام اليونانيين
دخلت حماة مع سوريا في جملة ما استولى عليه الإسكندر من البلدان، وبقيت من سنة ٣٣٢ قبل الميلاد إلى سنة ٦٢ تتعاقب عليها عمال المملكة اليونانية، ولم تنجُ من الحروب الطائلة في تلك الأزمنة.
في حدود سنة ٣١٢ مَلَكَ البلاد السورية سلوقلس، فبنى مدينة أنطاكية واستقام بها، وسماها أنطاكية باسم أبيه أنطوكيوس، وبنى مدينة سلوقية — تُسمى الآن «السويدية» — عَلَى ضفة نهر العاصي، وبنى أفاميا — وبدلها الآن قلعة المضيق — وسماها أفاميا باسم امرأته، وبنى باسم أمه لوزيقة مدينة اسمها الآن اللاذقية، وبنى قلعة حلب، وجاء إلى حماة فأمر بتسوية جبل القلعة على الاستدارة فسوي، وأمر ببنائها عَلَى صورة قلعة حلب.
ثم ما زال بعده الملوك يُزيدون بها ويُحسنون بناءها حتى أصبحت في الأزمنة الغابرة من أدهش القلاع، فقد بُنِيَتْ عَلَى هيئة من الإتقان غريبة، ينظر الداخل إلى باب لها مشمَخِر تلوح عليه العظمة والأبهة، مبني بحجارة عظيمة على خمس جسور مرتفعة فوق الخندق، ثم يدخل إلى منعطفات الأبراج فيرى البلد من النوافذ المفتوحة للحراسة الواسعة من الداخل والضيقة من الخارج، ومن فوقها النوافذ الواسعة التي سُدت بشبك من الحديد عظيم، وبعد قطع المدخل بنايات عظيمة من دار الحكومة ومحل الذخائر وبيوت السكن يحيط بها سور عظيم مرتفع. وفي مقابله جامع أبي الفداء جامع للقلعة ذي منارة شامخة، ومنه إلى الجهة القبلية بمسافة واسعة حمام كبيرة جدًّا. وفي طرفها الشرقي المُطل عَلَى طريق باب الجسر بئر واسع فيه ماء عذب جدًّا يأتي من مكان خفي من نهر العاصي يقال إن ماءه لم يزل جاريًا في باطنها حتى الآن. ولها طريق تحت الأرض يصل إلى العاصي من جهة الشمال مارًّا من تحت بستان الدوالك متصلًا ببعض البيوت، وكانت مرصونة بالحجر الأملس من أسفل الخندق إلى حيطان السور لئلا يصعد إليها العدو. ولها خندق دائر حولها عميق جدًّا لا يكاد الواقف عَلَى السور أن يرى أسفله كان العاصي مرتفعًا عنه، ولهذا الخندق طريق إلى الماء — من المكان المسمى الآن جسر الهوى في مدخل محلة باب الجسر — كانوا إذا أرادوا الحصار يفتحون منه ماء العاصي فيمتلئ من جميع جوانب الخندق فلا يقدر أحد أن يصل إلى القلعة.
وقد وصفها ابن جبير في رحلته حينما قدم حماة في دور سنة ٥٧٠، فقال: وبإزاء ممر النهر بجوف المدينة قلعة حلبية الوضع، وإن كانت دونها في الحصانة والمنع. سُرِّب لها من النهر ماء ينبع فيها، فهي لا تخاف الصدى، ولا تتهيب مرام العدى. انتهى. فقوله: «حلبية الوضع» يكفي لأن ننظر إلى قلعة حلب فنعرف حقيقة قلعة حماة، غير أن قلعة حلب أمنع من قلعة حماة بالنسبة لأهمية مركزها. وقال ياقوت: وفي طرف المدينة قلعة عظيمة، عجيبة في حصنها وإتقان عمارتها، وحفر خندقها مائة ذراع وأكثر. انتهى.