ذات
١
نستطيع أن نبدأ قصة ذات من البداية الطبيعية؛ أي من اللحظة التي انزلقت فيها إلى عالمنا ملوَّثةً بالدماء، وما تلى ذلك من أول صدمة تعرَّضت لها، عندما رُفعت في الهواء، وقُلبت رأسًا على عقب، ثم صُفعت على أَلْيتها (التي لم تكن تنبئ أبدًا بما بلغته بعد ذلك من حجم من جرَّاء كثرة الجلوس فوق المرحاض). لكنَّ بدايةً كهذه لن يرحِّب بها النقَّاد؛ لأن الطريق المستقيم، في الأدب والأخلاق على السواء، لا يؤدِّي إلى شيء ذي بال، ولن يتمخَّض عنه في حالتنا هذه سوى إضاعة وقت كلٍّ من القارئ والكاتب، وهو الوقت الذي يستطيعان استغلاله مع التليفزيون على سبيل المثال، من موقعَين مختلفَين، بما يعود عليهما بفائدة أكبر بكثير ممَّا قد تجلبه مئات الصفحات الورقية، وبالإضافة إلى هذا فإن النظرة العصرية لفن القص هي نظرة حسية ذكورية تمامًا، تُساوي بين المداخل المختلفة من حيث أهميتها للعملية إياها؛ أي القص، ومن حيث الخاتمة المحتومة التي تنتهي أو لا تنتهي بها، وتشجِّع الكاتب على أن ينتقي ما يروق له منها، وما يتفق مع مزاجه وقدراته، فيقتحمه مباشرة، وينتهي من الأمر كلِّه بعد عددٍ محدود من الصفحات.
تحفل حياة ذات بالكثير من هذه المداخل التي اقترنت بصدمات لا تقل شأنًا عن صفعة الأَلية الأولى، وبعضها نمطي تمامًا، مثل اللحظة التي اكتشفت فيها أن ما ظنَّته جرحًا عارضًا، إنما هو خاصية جديدة اكتسبها جسمها، فأصبح قادرًا من الآن على إفراز مياهٍ ملوَّنة بغير اللون الذهبي، فلم يهيِّئها أحد لهذا التطوُّر (لأن الأب، ككل الآباء، دأب على تجاهل أمثال هذه الأمور وتركها للأم، التي دأبت بدورها، ككل الأمهات، على تأجيل لحظة المكاشفة خشية أن يترتَّب على تفجُّر النبع الأحمر من مكان، نضوبه من مكان آخر).
البعض الآخر من هذه المداخل المقترنة بالصدمات يمثِّل تنويعًا على النمط السائد لا يخلو من طرافة، من قبيل ما حدث عندما أمسكوا بها وفتحوا لها فخذَيها عنوة، ثم اجتثوا ذلك النتوء الصغير الذي سبَّب إزعاجًا شديدًا للمصريين من قديم الزمان. وإن كان من الأمانة أن نسجِّل أن الاجتثاث، لحسن الحظ أو لسوئه (حسبما تكون وجهة النظر)، لم يكن تامًّا؛ فالأم التي جُرِّدت مبكِّرًا من العضو المزعج، كانت — على عكس ما يتوقَّع المرء — حريصةً على ألَّا تتمتَّع ابنتها بفرصة التسلية (قبل الزواج)، ثم التعويض (بعده) التي حُرمت هي منها. أمَّا الأب فكان، عكس ما يتوقَّع المرء أيضًا، راغبًا في إعفاء ابنته من العملية التقاليدية، متصوِّرًا (إنْ صوابًا أو خطأً) أنها المسئولة عمَّا آل إليه أمر نتوئه الخاص. ولمَّا كان توازن القوى النتوئي في قمته، كان لا بد من حلٍّ وسط. هكذا سمح بالإبقاء على جزء من النتوء الجليل ممَّا أتى بنتيجة عكسية؛ فبدلًا من أن يصبح تعويضًا عن الجزء الضائع، صار تذكرةً دائمةً به.
لماذا نذهب بعيدًا ولدينا مدخل طبيعي، مُحمَّل بقدر عالٍ من الدراما، بل الميلودراما، ونقصد بذلك لحظة الصدمة الكبرى، ليلة الدخلة؟
هذه الليلة الفاصلة جاءت بعد شهور طويلة من التقارب التدريجي بين ذات وعبد المجيد حسن خميس، تمَّ خلالها ارتياد أماكن الفسحة المتاحة في ذلك الحين (منتصف الستينيات)؛ كازينو فونتانا وسط النيل، كازينو قصر النيل، الهيلتون، حديقة الأسماك، جزيرة الشاي، برج الجزيرة (الذي أقامه عبد الناصر، بديلًا عن حركة الأصبع الشهيرة، بالملايين الثلاثة من الدولارات التي حاول الأمريكان شراءه بها)، كما تمَّ ما هو أهم، ونقصد بذلك التعرُّف على الطفل المعجزة نفسه، الذي استوى عملاقًا بمجرَّد مولده؛ أي التليفزيون، الذي سيلعب دورًا رئيسيًّا في حياتهما المشتركة إلى أن يصبح الرابطة الوحيدة التي تجمع بينهما (وهو المصير الذي لم يتوقَّعه والد ذات لنفسه عندما أحضر الجهاز إلى منزله متحمِّلًا عبء أقساطه الشهرية، على أمل أن يتمكَّن بواسطته من تجنُّب أي شكل من أشكال الرباط بأمها).
كانا يجلسان — ذات وزوج المستقبل — أمام الجهاز بالساعات، تحت عينَي الأم الساهرة، واهتمامهما موزَّع بين تمثيل عبد الغني قمر في المسلسل، والمحافظة على الوسائد في أماكنها؛ فقد كان ذلك هو عصر الميني الساحر، الذي خلق للوسائد وظيفةً جديدةً إلى جانب وظائفها المعروفة (البريء منها وغير البريء)؛ فبوضع واحدة صغيرة فوق الركبتَين صار بوسع ذات أن تسترخي في جِلستها كما تشاء، دون أن تكشف ما لم يَحن الوقت بعدُ لكشفه، وأمكن للأم أن تتفرَّغ لمتابعة أحداث المسلسل، مكتفيةً بنظرة جانبية بين الحين والآخر تَطمئن بها على ثبات الوسادة في موضعها، وإن كانت هذه النظرة السريعة كفيلةً بتشتيت انتباهها إذا حدث وامتدَّت، بالرغم منها، إلى فخذَي العريس المرتقب والوسادة المماثلة التي استقرَّت فوق حجره؛ إذ تحار في معرفة الغرض منها طالما أن عبد المجيد يملك ساترًا طبيعيًّا ممثَّلًا في بنطلون بذلته الأنيقة. وبمرور الوقت توصَّلت المرأة الساذجة التي تتميَّز بضآلة التجرِبة وسعة الخيال، بقدرٍ يماثل ما لديها من ضيق أفق وتحجُّر في المشاعر، إلى قناعة ملأتها بالإشفاق على ابنتها؛ فقد تصوَّرت أن احتياج خطيب ابنتها إلى ساتر إضافي، مبعثه ضخامة ما هو مضطر لحجبه عن الأنظار.
ما لم يكن عبد المجيد مضطرًّا إلى حجبه كان أكثر ضخامة، ونقصد بذلك أَليته أو مؤخِّرته أو عجيزته (فالمعجم لا يمدنا بوصف يقارب في الدقة والإحكام المورفولوجيين ذلك الذي تؤدِّيه الكلمة البذيئة الموجودة الآن على طرف لسان القارئ أو القارئة)، وهو الجزء الذي تضاءل وانكمش على مرِّ الزمن في تناسب عكسي مع ازدهار قرينه لدى ذات.
فيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يعيبه؛ كان وسيمًا، أنيقًا، مسلَّحًا بالضروريات الذهبية؛ علبة السجائر والولاعة (رونسون)، الخاتم، عطر أولد سبايس، الحذاء الضيق المدبَّب، معرفة بأنواع الطعام وبروتوكولاتها، شكوى دائمة من سياسة الدولة المتحيِّزة للقطاع العام والتصنيع، طريقة متعالية في الإشارة لسائقي التاكسي تُجبرهم على التوقُّف، وتملأ ذات بالزهو، أهمية بالغة يضفيها على كل حرف يخرج من بين شفتَيه، آراء قاطعة في مختلِف الأمور يدلي بها في ثقة تُجبر الآخرين (أو على الأقل ذات) على الاقتناع بها، وتنتهي عادةً بالكلمة التي حيَّرتها طويلًا هي وأبيها المحدود الثقافة، إلى أن أَنِست إليه، بعد الزفاف بالطبع، ووجدت الشجاعة لأن تستفسره، فرفع حاجبَيه في دهشةٍ أخجلتها، وتكرَّم موضِّحًا: «أوف كورس؟ بالطبع.» وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك مواقفه العنترية ومعارك الدفاع عن العزة والكرامة، فضلًا عن الحق، التي لم يُتَح لها أن تشهد شيئًا منها؛ لأنها كانت تجري إمَّا في البنك الذي يعمل به، أو في العمارة التي يسكنها، أو في الجامعة التي «لا» يتردَّد عليها.
نعم، غيمة واحدة في سماء عبد المجيد الصافية؛ إنه لا يحمل شهادةً جامعية، لكن بينه وبينها امتحان واحد حالَ مرضُه دون التقدُّم إليه، وهو يتقاضى الآن مرتَّبًا مرضيًا، وأبواب المستقبل مفتوحة أمامه على مصراعَيها.
كانت تلك فترة الآمال العريضة، والتطلُّعات الجسورة والأحلام؛ أحلام النوم وأحلام اليقظة بكافة أنواعها (الجاف منها والمبتل). أمام بِركة البط في حديقة الميريلاند قالت له: غسيل الملابس لم يَعُد مشكلةً بفضل الأومو. قليل منه في طبق ماء من البلاستيك، ويُقلِّب حتى يصنع رغوةً كبيرة، ثم تلقي الواحدةُ فيه بالقميص أو البلوزة وتنصرف لعمل الشاي أو الطبيخ. وبعد ذلك دعكة أو دعكتَين، ولا حاجة إلى هري الأصابع أو الغسالة (تقصد المرأة التي تغسل وليس الآلة، التي لم يكن عصرها قد حلَّ بعد).
استقبل عبد المجيد هذا الإعلان عن النوايا بغير حماس؛ ذلك أن صورة الغسَّالة الجالسة أمام الطشت كاشفةً عن فخذَيها وأحيانًا ثديَيها عندما تنحني لتقبض بحزم على ياقة القميص أو قعر الكيلوت، وتدعك أيًّا منهما في أناة أولًا بقطعة صلبة من صابون «الميزان»، ثم بقبضة اليد. هذه الصورة كانت تعشِّش في ركن من رأسه، ليس فقط كذكرى أول إطلالة على العالم المثير إياه، وإنما أيضًا كإمكانية محتملة في المستقبل المديد.
إلى جانب الأومو كانت هناك أصابع مُزيلِ العرق وحبوب منع الحمل، بالطبع، وأخيرًا الثالوث المقدَّس الذي لم يَعُد من الممكن أن يستغني عنه المنزل العصري، والذي جعله عبد الناصر في متناول الجميع؛ السخان وبوتاجاز المصانع الحربية، وثلاجة إيديال. هكذا وصلنا إلى بيت القصيد؛ العش.
رسم عبد المجيد الحدود بلهجته القاطعة؛ ثلاث غرف وصالة (فكري في الأطفال)، بلكونة على الشارع (لا بد أن نكون على وش الدنيا)، الطابق الثاني (خير الأمور الوسط)، عمارة جديدة وجيران محترمون، حي نظيف وراقٍ، أوف كورس، لا يكون بعيدًا عن البيت الكبير (قاصدًا، بالطبع، بيت أهله لا أهلها؛ ممَّا خلق الشجار الأول الذي لم يتوقَّف منذ ذلك الحين ولا حتى بعد انتقال سكان البيتَين الكبيرَين جميعًا إلى بارئ الكل).
كان الحديث، بالطبع، عن شقة للإيجار (فلم تكن بدعة التمليك قد ظهرت بعد)، لكن جمال عبد الناصر، المنتشي بهتاف الجماهير ومطالبتها بالمزيد، أجرى تخفيضَين متعاقبَين لإيجارات المساكن، جلبا له تصفيق الساكنين الفعليين وسخط أقرانهم المحتملين؛ لأنه ترك للبيروقراطيين من أصحاب المؤخِّرات الكبيرة العناية بالتفاصيل، وهكذا أذاب عبد المجيد عدة أزواج من الأحذية الضيقة المدبَّبة قبل أن يحالفه الحظ.
ففي أحد أطراف حي مصر الجديدة، على مسافة متساوية من منزل أهله في العباسية ومنزل أهلها في الزيتون، وفي شارع داخلي قريب من خط الترام المُلقَّب بالمترو، الذي كان ما يزال مفخرة الحي في الانتظام والنظافة (لقرب العهد بالوجود الأجنبي، قبل أن يُضفي عليه المصريون الأُصَلاء طابَعهم القومي الصميم، فتنوء عرباته بوطأة الزحام، وتختفي قضبانه أسفل أكوام القمامة)، عثر عبد المجيد على مقاول طيب من فئة غير المستغلين، بنى لنفسه عمارة، وشغل شقَّتَين منها، وأجَّر الشقق الباقية، دون خلو، لمستأجرين محترمين، بينهم واحد من الشرطة وآخر من الجيش، يشتركون جميعًا في أنهم حديثو عهد بالزواج، وأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامهم على مصاريعها.
رحَّب عبد المجيد بالسُّكنى في عمارة العرسان رغم السلبيات؛ فالشقة الوحيدة المتاحة كانت في الطابق الرابع، ولا تُطِل على مدخل العمارة. هذه الخاصية الأخيرة دفعت بالدموع إلى عينَي ذات؛ إذ داهمها يقين بأنها قد حُرمت إلى الأبد من الإطلال على وجه الدنيا. على أنها لم تلبث أن تبيَّنت الإيجابيات على ضوء السباق القائم بينها وبين أختها الكبرى زينب (التي تحطَّم زواجها على صخرة الشقة)، وابنة خالتها عفاف (التي تقيم مع زوجها المحاسب في بدروم)، وأعز صديقاتها هناء (التي تعيش مع زوجها الضابط في غرفتَين بناهما له أبوه فوق سطح منزله)، وصفية (التي هاجرت إلى الإسكندرية لتُقيم مع زوجها عند أهله)، ومنال التي تعيش أيضًا مع أهل زوجها في انتظار حصوله على بعثة الدكتوراه، وأخيرًا أبوَي ذات نفسها اللذَين يُقيمان في شقة رطبة مظلمة بالطابق الأرضي.
تضاعفت الإيجابيات عندما تسلَّما الشقة جاهزةً للسُّكنى (ففي تلك الأيام لم يكن المستأجر ملزمًا بدهان الحوائط وتبليط الأرضيات وتركيب الحنفيات والمواسير؛ لأن المُلَّاك وقتها كانوا من الغفلة بحيث يقومون هم أنفسهم بكافة التشطيبات الضرورية، بل إن مالك عبد المجيد الطيب تقبَّل بصدرٍ رحب الطلب الذي تقدَّم به كشرط لتوقيع عقد الإيجار، وهو تركيب مصباح أحمر فوق باب غرفة النوم يضيء تلقائيًّا عند إغلاق بابها من الداخل بالمفتاح (ممَّا يعطينا فكرةً عن الأهمية التي كان عبد المجيد يعلِّقها على هذه الغرفة في مطلع حياته الزوجية). انشرح صدر ذات، وأخفى عبد المجيد رضاه خلف تقطيبة صارمة، وهما يطوفان بأرجائها يتشمَّمان رائحة الطلاء الطازجة، ويتأمَّلان الجدران الناصعة؛ لا صراصير وفئران، وآثار أيدٍ فوق دواليب المطبخ، وأجزاء مكسورة من بلاط الحمَّام، وحُفَر مسامير متناثرة فوق الجدران، ومقابض أبواب منزوعة، وأسلاك مدلاة من الأسقف وقد تراكمت عليها الأتربة ومخلَّفات الذباب. قطيعة كاملة مع ماضٍ مليء بالأركان المهملة والوساخة المتراكمة لصالح مستقبل مفتوح الأبواب على مصاريعها، سينقلهما في الوقت المناسب من ظهر الدنيا إلى وجهها.
بكت ذات بدموعٍ غزيرة وهي تُغادر منزل أبوَيها لآخر مرة في رداء الزفاف المقترض من ابنة خالتها، معتمدةً على ساعد عبد المجيد المتألِّق في بذلته السوداء، لتُقِلهما إلى منزل الزوجية سيارةُ أجرة، يتبعهما الأهل والأقارب وأخلص الأصدقاء والصديقات في عددٍ من السيارات المماثلة (ما زلنا نتحدَّث عن عصر لم يكن فيه امتلاك سيارة خاصة أسهل من الحصول على شقة). تفقَّد الجميع الشقة وأثاثها وسط الضحكات الخجولة، ثم انسحبوا بعد أن تجرَّأت زينب وأطلقت زغرودةً عاليةً تُشهد بها العالم على الظلم الذي حاق بها، أو تستعطف بها الحظ، وتبعتها منال المشهورة برعونتها؛ ممَّا أثار استنكار عبد المجيد المصمِّم على بداية جديدة تمامًا لا مكان فيها لِمَا هو مبتذل وبلدي. وأصبح العروسان أخيرًا بمفردهما.
تمنعنا ظروف النشر الراهنة من التعرُّض بالتفصيل لواحدة من أخطر اللحظات في حياة كلٍّ من ذات وعبد المجيد؛ لهذا سنتركهما بعض الوقت، وقد انهمك عبد المجيد في فضِّ زجاجة ويسكي ليهدِّئ ما انتابه من رَوع، ثم نعود إليهما بعد حوالي الساعة، لنجدهما جالسَين على حافة الفراش، عاريَين تمامًا، وهما يبكيان.
الذي حدث أن عبد المجيد اكتشف، أو ظنَّ أنه اكتشف، أن البضاعة التي أنفق عليها كلَّ مدَّخراته، ورهن بها مستقبله، لم تكن سليمةً تمامًا، وأن آخر، وربما آخرين، سبقوه للعبث بمحتوياتها أو على الأقل بغلافها. هل هذا يدعو للبكاء؟ ربما، لكن المُسيل الأساسي لدموعه لم يكن الاكتشاف وإنما الشك؛ فقد أقسمت ذات بكل يمين، أمام الملاءة البيضاء من كل سوء، أن أحدًا غيره لم يلمسها، وقامت تبحث عن كتاب الله لتعزِّز القسم، فأُتيحت له الفرصة ليرى البضاعة من الخلف في كامل عريها، وسرَّه ما رأى فجفَّت دموعه. أمَّا ذات فقد تبيَّنت أنها غفلت عن إحضار المصحف الذي أهداه أبوه إليهما (ربما لهذا السبب بالتحديد، أو لأننا ما زلنا في الستينيات، وعلى أية حالٍ فإن هذا السهو سيتم تداركه في المستقبل إذ ستمتلئ الشقة بكافة أنواع المصاحف)، فعادت إلى مكانها بجواره واستأنفت البكاء. لماذا؟ لأنها اكتشفت أن الشيء الذي عانت كثيرًا من أجل المحافظة عليه لم يكن موجودًا من الأصل.
سنقفز الآن عبر مجموعةٍ من اللحظات الهامة في حياة ذات، تصلح كلٌّ منها مدخلًا لقصتنا؛ الأيام الحزينة التي تبيَّن فيها أن الجيش المصري لا يتقدَّم في سيناء شرقًا وشمالًا، وإنما جنوبًا وغربًا، الانسحاب الدرامي الذي قام به جمال عبد الناصر ومن بعده فريد الأطرش وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، اللحظة التي وقعت فيها عيناها على الفخذَين العاريَين المبهرَين لجارتها الشابة، وتلك التي أصبحت فيها، أو ظنَّت أنها أصبحت شيوعية، والأخرى التي اكتشفت فيها طريقةً مبتكَرةً لعمل دريسنج للطورطة من مواد محلية رخيصة.
سندع كل هذه اللحظات المصيرية جانبًا، الآن على الأقل، ونتوقَّف عند واحدة لا تقل عنها أهمية.
ففي زمان بِركة البط في حديقة الميريلاند أعلنت ذات، التي كانت تستعد للمرة الثانية لامتحان أول سنة في كلية الإعلام، أنها تنوي مواصلة الدراسة لتعمل بعد التخرُّج، في إحدى الصحف، أو إذا ما أسعدها الحظ، في التليفزيون.
اصطدم إعلان النوايا الثاني بالرفض القاطع من جانب عبد المجيد، الذي كان قد نجح لتوِّه في عدم التقدُّم لامتحان التخرُّج من كليته، وأعلن بلهجته الحاسمة، وهو يصوِّب إليها نظرةً صارمةً ذكَّرتها بأبيها فألجمتها، أن البيت سيحتاج إلى كل وقتها خصوصًا بعد أن تبدأ المفرخة عملها، فضلًا عن أنه قادر على تلبية كل احتياجاتهما من الآن، فما بالك بعد أن يحصل على الليسانس الموعود؟ ومن جديد رسم عبد المجيد الحدود؛ داخل البيت لها وخارجه له.
استقبلت ذات الحدود المقترحة بشيء من الارتياح؛ فقد استكانت إلى المظلَّة المتينة المهداة إليها والتي مثَّلت امتدادًا طبيعيًّا لمظلَّة أبيها. ووجدت فيها فرصةً لتسجيل نقطة على ابنة خالتها التي أجبرها زوجها على العودة إلى العمل منذ اليوم الأول لزواجهما كي يتمكَّنا من الصعود إلى سطح الأرض، كما أنها لم تكن متحمِّسةً كثيرًا لمواصلة الدراسة، فبسبب محدودية العملية التقاليدية التي أُجريت لها في طفولتها، كانت تجد صعوبةً بالغةً في التركيز، وتنتابها حالة غريبة عند القراءة أو الكتابة، تمتطي فيها الكلمات ظهر بعضها البعض، فتختلط الألفاظ والمعاني.
انقطعت ذات عن الكلية، واستراحت من مشاكل المواصلات ومضايقات الزحام، وتفرَّغت لرعاية بيتها وتشغيل الحضنة، وواصل عبد المجيد عدم التقدُّم لامتحان التخرُّج السنوي، بينما لم تتوقَّف تكاليف المعيشة عن الارتفاع، إلى أن جاء اليوم الذي أُعلن فيه بنفس اللهجة القاطعة أن بقاءها في المنزل ليس له «ميننج»، وأنها لا بد أن تعمل كالأخريات.
كيف؟! وهي لم تَعُد مؤهَّلةً لأي عمل، بل وأوشكت أن تنسى مبادئ القراءة والكتابة، ولا تُجيد غير أعمال المنزل، بل إن هذه كثيرًا ما تختلط عليها تحت وقع نظرات عبد المجيد الصارمة (فتضع الملح بدلًا من السكر، أو الخل بدلًا من ماء الورد، أو تتجمَّد أمام حلة اللبن أو كنكة القهوة، متردِّدةً بشأن اللحظة الملائمة لإبعادهما عن النار إلى أن تفور محتوياتهما).
لكن مجيد، كما ألفت أن تدعوه في لحظات الصفاء، القادر على كل شيء، أوجد لها عملًا في صحيفة يومية، عن طريق أحد مديريها الذي كان من عملاء البنك، وفي قسم لا يتطلَّب أي موهبة على الإطلاق؛ لأنه كان مسئولًا عن متابعة وتقويم عمل الجريدة كله.
كان عمل القسم يتلخَّص في مراجعة المواد المنشورة لاكتشاف الأخطاء المطبعية واللغوية والسياسية والمهنية، ثم مقارنتها (المواد لا الأخطاء) بما تنشره الصحف الأخرى لتعيين أوجه السبق أو التقاعس، وإثبات هذا كله في تقرير يومي يُرفع إلى رئيس التحرير ليرفعه إلى رئيس مجلس الإدارة. ولمَّا كانت الصحف اليومية كلها تستقي أنباءها من نفس المصدر، والأخطاء المطبعية واللغوية، فضلًا عن غيرها، أفدح من أن يكتشفها العاملون في القسم الذين لا يتعدَّى تعليمهم مرحلة الجامعة، والذين جاءوا إلى القسم من مناح شتَّى، كما جاءت ذات فيما بعد، ولمَّا كان رئيس مجلس الإدارة يُلقي بالتقارير في سلَّة المهملات بيده اليسرى؛ لأن اليمنى لا تُفارق سماعة التليفون التي يتلقَّى عبرها التعليمات الخاصة بما يجوز وما لا يجوز نشره من أقل العاملين شأنًا في مكتب وزير الإعلام أو رئاسة الجمهورية بعد أن يُبلغه بآخر الأنباء والإشاعات، فإن رئيس القسم، وهو رجل أربعيني طيب القلب يحمل اسمًا مصريًّا صميمًا له عبق التاريخ، هو أمينوفيس فلتس قلته، ويعمل منذ سنوات في إعداد موسوعة ضخمة للشخصيات المعروفة التي زارت القاهرة (بصفتها عاصمة حركات التحرُّر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية)، توصَّل إلى طريقة عملية لإنجاز مهامِّ القسم تسمح له بالتفرُّغ لسِجِله الهام، فأعدَّ بنفسه سبعة تقارير نموذجيةً لأيام الأسبوع السبعة، وبينما ينهمك معاونوه في قراءة الصحف والتلفنة والثرثرة، وازدراد السندوتشات والشاي والقهوة، ثم يتسلَّلون إلى الخارج واحدًا بعد الآخر، يعمل هو في صمت، فيُخرج أحد التقارير السبعة النموذجية من حقيبته، وينسخه في الورق المخصَّص لأعمال القسم (فلم تكن ماكينات تصوير المستندات قد انتشرت بعد)، ثم يضع عليه تاريخ اليوم ويبعث به إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة، وينصرف إلى مؤلفه الجليل. وفي اليوم التالي يختار تقريرًا آخر حتى ينتهي الأسبوع ويبدأ أسبوع جديد، فيُعيد الكَرَّة بنفس التقارير مُبدِلًا في ترتيبها بحيث لا يتكرَّر أحدها في يوم معيَّن إلا مرةً كل ٤٩ يومًا، طِبقًا لجدول دقيق أعدَّه لذلك.
أحرزت خطة أمينوفيس نجاحًا باهرًا، وأصبح القسم مضرب المثل في الإنجاز، إلى أن استدعاه رئيس مجلس الإدارة في أعقاب الانقلاب الذي قام به السادات ضد أعوان عبد الناصر، وقال له وهو يتفحَّصه بإمعانٍ: «أوشى بك أحدهم يا أمينوفيس.»
بوغت الرجل الطيِّب وظنَّ أن خطته افتُضحت، لكن رئيس مجلس الإدارة أضاف أن المباحث استفسرت عنه وعمَّا إذا كان عضوًا في التنظيم السري الذي شكَّله عبد الناصر، في السنوات الأخيرة قبل وفاته، من أعضاء تنظيمه العلني ليجعلهم في حيرة من أمرهم.
أقسم أمينوفيس بالأب والابن والروح القدس أنه لم يهتمَّ بالسياسة في يوم من الأيام، وأن عضويته في الاتحاد الاشتراكي عضوية روتينية، عادية، شأن بقية المصريين.
أطرق رئيس مجلس الإدارة، الذي كان هو نفسه من كِبار المسئولين عن التنظيم السري داخل التنظيم العلني، ثم قال: «عارف يا أمينوفيس، عارف. نفس ما قلته لهم.» وأضاف أنه شهد لصالحه مستنِدًا إلى تقاريره النموذجية التي سيتم تدريسها يومًا ما بكليات الصحافة والإعلام، وأن الواشي في رأيه ليس إلا مجرَّد طامع في رئاسة القسم الذي يتولَّاه أمينوفيس بكفاءة.
تعدَّد الطامعون، وتكرَّرت الوشايات، لكن أمينوفيس صمد في موقعه وازداد تشبُّثًا به، فرغم أنه كان يواصل الترقي حتى أصبح في درجة نائب رئيس التحرير ومن حقِّه أن يرأس صالة التحرير، إلا أنه رفض التخلِّي عن قسمه؛ إذ انحصر كلُّ طموحه في الحياة في إنجاز موسوعته التي ازدادت ضخامةً نتيجة تدفُّق الأعلام والمشاهير على البلاد بعد انفتاحها على حركات التحرُّر في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
خلال ذلك كانت ذات، التي لم يفارقها شعورها بالتطفُّل على مجتمعٍ من العاملين المؤهَّلين جيدًا للعمل الذي يتفانون في عدم أدائه، تدفن رأسها بين الصحف والمجلات، لا ترفعها إلا حين تحين فرص التلقي. فبسبب الهدوء الذي يسود المكان؛ نتيجة انهماك أمينوفيس ومساعديه في عملهم، أو نتيجةً لغلبة النساء بينهم على الرجال؛ وبالتالي وجود فائض قابل للتصريف، أو لمجرَّد الملل الذي يعانيه من يبذلون جُهدًا خارقًا في عدم العمل، فإن القسم صار ملتقًى لعدد من المحرِّرين يعقدون فيه جلسات البث المتبادل التي تحرمهم منه صفحات الجريدة، بينما تجلس ذات صامتة، مبحلقة العينَين، تتلقَّى الصدمات تلو الأخرى، وخاصةً من مصوَّر سمين خفيف الدم يُدعى منير زاهر، ظهر في القسم أول مرة حاملًا مسجِّلة، ودون أن يعبأ بأمينوفيس الذي كان مستغرقًا في مراجعة كشوف رُكَّاب الترانزيت في مطار القاهرة الدولي، أدار أحد الأشرطة. عدوية؟ ولا حتى الشيخ إمام: «يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، منكم وفلاح زيكم. بازرع أرضي بإيدي وعرقي. ما سبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت واستلف بالفايظ عشان أشتري تذكرة سفر، أو عقد عمل مزوَّر للعمل في ليبيا أو السعودية .. النهارده ٢٦ فبراير ١٩٨٠، النهارده بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي ورفعوا عليها علمهم. يا أهالي أجهور .. أنا خلاص قرَّرت أدفع دمي عشان نبقى فوق .. أنا معايا اتنين رهاين من أفراد الشعب الغلبان .. وإذا كان الخديوي السادات خايف على حياتهم؛ يطرد السفير الإسرائيلي فورًا من القاهرة خلال ٢٤ ساعة وإلا أقتل الرهاين وأقتل نفسي.»
الصدمات كانت متنوِّعة؛ آلة الطباعة بالغة الحداثة التي أمر رئيس مجلس الإدارة بشرائها بعشرات الآلاف من الدولارات، ثم أودعت البدروم بعد أن تبيَّن عدم الحاجة إليها، وبعد قليل تمَّ تكهينها وبيعت لأحد أقاربه بعشرات المئات من الجنيهات. صاحب العمود اليومي الذي شنَّ حملةً على اختفاء قطرة للعين، ثم قام برحلة لأوروبا على حساب الشركة التي تُنتجها. المحرِّر الذي تخصص في تزويد رئيس التحرير لا بالأخبار وإنما بالفتيات، والآخر الذي يزوِّد السيدة الأولى بالأخبار والتبرُّعات، والثالث الذي يحج كل عام إلى بيت الله الحرام على حساب خادمه (البيت لا الصحفي)، والرابع الذي ترقَّى من كتابة تقارير المباحث إلى إعداد خطب رئيس الجمهورية.
حصيلة وافرة لا تحلم بها واحدة من ماكينات البث المنتشرة في البيوت والمكاتب والتجمُّعات؛ ممَّا دفع ذات، بعد أن استعادت مَلَكة القراءة، إلى محاولة التغلُّب على صعوبة تحريك اللسان التي لازمتها منذ الصغر وتفاقمت على يدَي، أو بالأحرى عينَي عبد المجيد (فما إن تبدأ في محاولة ترتيب الحروف فوق لسانها، وصياغتها في كلمات، حتى يرميها بإحدى نظراته الصارمة، ويقاطعها بلهجته الحاسمة مؤكِّدًا لها خطأ ما تنوي قوله، «أوف كورس»، فتتبعثر الحروف، وتمتطي ظهر بعضها البعض). وساعدها الحظ؛ إذ بدأت تظهر على عبد المجيد آثار اتساع الهُوَّة بينه وبين أحلامه (فالحلم الرأسمالي الذي كان يبدو قريب المنال في ظلِّ اشتراكية عبد الناصر، صار للعجب مستحيلًا في عهد رأسمالية السادات).
استمع عبد المجيد دون مقاطعة لنبأ الشريط إياه، ثم علَّق باقتضابٍ قائلًا إن صاحبه مجنون أو شيوعي (الأمر الذي أثار قلقها لأسباب تتعلَّق بأيام الدراسة)، وتلقَّى بغير مبالاة أنباء الفضائح والمباذل، وباهتمام واضح قصص الثروات الضخمة التي تتكوَّن بين يوم وليلة (إذ وجد فيها شيئًا من الإشباع رغم أنها كانت تتكوَّن بعيدًا عنه). وبالتدريج أخذت ذات تحمل معها يوميًّا جعبتَين؛ واحدةً للسندوتشات والمخللات تذهب بها إلى العمل، وأخرى لمواد البث تعود بها إلى المنزل وتستعين بها على مدِّ قنوات الاتصال، التي دبَّ إليها الوهن، مع عبد المجيد، وعلى مواجهة المنافسة الشرسة أثناء الزيارات العائلية. وسارت الأمور على هذه الوتيرة إلى أن وقعت حادثة الصورة.
فعندما مات جمال عبد الناصر وأصبح السادات رئيسًا للجمهورية، أراد البيروقراطيون أن يضعوا صورة الأخير مكان صورة سَلَفه على جدران المكاتب الحكومية والمؤسَّسات المختلفة، لكن السادات رفض ذلك الإجراء، مقدِّمًا لمواطنيه درسًا قيِّمًا في الوفاء؛ فقد رُوي عنه قوله، إن الأفضل من رفع صورة عبد الناصر تركها حتى تقع من تلقاء نفسها. هكذا استقرَّ الوجه المتبتِّل ذو الزبيبة إلى جوار سَلَفه الباسم ذي الفَودَين الأشيبَين حتى تحقَّقت نبوءة السادات وأخذت صور عبد الناصر تتساقط من تلقاء نفسها (وقد بدأت هذه الظاهرة في الشركات التي تأسَّست طبقًا لقانون الاستثمار الجديد، ثم انتقلت منها إلى بقية المؤسَّسات). لكن الغرفة التي تضم قسم متابعة الأخبار وتقويمها احتفظت بالصورتَين متجاورتَين بفضل ذات التي كانت تتلقَّى زيارات ليليةً من العملاق الباسم ذي الفودَين الأشيبَين بالتناوب مع أبيها (الذي انضمَّ إلى عبد الناصر، في السماء لا على الجدار)، إلى أن اغتيل السادات.
أصبح لدى البيروقراطيين خبرة بتغيُّر الرئاسة، فجرى على الفور توزيع صور الرئيس الجديد المؤطَّرة على المكاتب والمؤسَّسات. وطبقًا لمبدأ الوفاء الذي أرساه الرئيس المقتول كان يتعيَّن الإبقاء على صورته إلى جوار صورة الرئيس الجديد. ولم يتسع جدار غرفة قسم المتابعة والتقويم لصور الرؤساء الثلاثة الكبيرة بإطاراتها السميكة، فسنحت بذلك فرصة التخلُّص من أولهم. لكن ذات لم تقبل الإطاحة برئيسها المحبوب، وفي شجاعة نادرة لم تَبدر منها من قبلُ أو من بعدُ قالت: «إذا كان لا بد أن يذهب أحدٌ فليكن السادات.»
أدرك أمينوفيس الخطر الكامن في هذا الموقف؛ إذ سيُحيي من جديد الاتهام الموجَّه إليه بعضوية التنظيمات السرية؛ ممَّا قد يؤدِّي إلى الإطاحة به من رئاسة القسم، خاصةً وأن أحدًا لم يكن يعرف بعدُ أين يميل الرئيس الجديد، رغم أنه أعلن أكثر من مرة: «ماي نيم إيز حسني مبارك.» ولكي يُخلي نفسه من المسئولية كتب تقريرًا بالأمر (هو أول تقرير جديد له منذ التقارير السبعة التاريخية)، رفعه إلى رئيس مجلس الإدارة. وأسفرت القصة كلها عن الإطاحة بشخصَين؛ عبد الناصر وذات.
نُقلت ذات إلى الأرشيف الذي يحتل الطابق الأخير من مبنًى قديم مجاور، يصعد إليه درج مظلم وكئيب، وتتصدَّره صالة طويلة ضيِّقة غَصَّت بالمكاتب الخشبية والمعدِنية المتلاصقة، والمقاعد الخالية، وحَملت جدرانُها المدهونة حديثًا بلون أخضر قاتم، بصماتِ الأيدي وحواف المقاعد، بالإضافة إلى صورة واحدة، للرئيس الجديد بالطبع، يجلس أسفلها رئيس القسم (من غيره؟) وهو رجل ضئيل الجسم، تخلَّل شعره الشيب، لم يَحلق ذقنه منذ أيام، يرتدي قميصًا متسخ الياقة. تأمَّلها بعينَين أشبه بالمكحولتَين، وأشار لها بِيد التوت أصابعها الرفيعة على نفسها نحو الكف كالمخالب؛ لتجلس فوق مقعد قريب منه، ثم دفن رأسه في إحدى المجلات، وتجاهلها تمامًا، لا عن خجل أو ضغينة، وإنما لأنه لم يكن يعرف ماذا يفعل بها.
هكذا أُتيحت لها الفرصة لأن تتأمَّل، من موقع الرئاسة، مسرح عملها الجديد؛ الملفات المكوَّمة فوق المكاتب تعلوها الأتربة، الصحف والمجلات المتناثرة في إهمال، أرفف المجلَّدات المصفوفة في نظام يَحول دون الاستدلال إلى أحدها، والسدنة؛ شاب هادئ يقرأ كتابًا مستعينًا بقلم يخطِّط به السطور؛ ممَّا يَقطع بأنه طالب في إحدى الكليات، وعدة نسوة قبيحات الوجوه؛ اثنتان في حجاب الرأس (إحداهما في بلوزة رمادية وجيبة سوداء، والثانية في فستان من قماش مستورد صارخ الألوان كمكياجها وأثقال من الذهب حول رقبتها ومعصمَيها وفي أصابعها وأذنيها)، والثالثة في حجاب كامل، بمنكبَين عريضَين وملامح أسيانة، والرابعة في فستان عادي، ماكسي، أسود اللون، سواد الشامة التي تُزيِّن خدَّها، والخامسة بوجه يشبه وجه الأرنب، وجيبة مزركشة مع بلوزة وردية اللون.
مرَّت لحظة التأمُّل في صمت، وما إن اكتشف السدنة أن زميلتهم الجديدة، التي سبقتها دعاية واسعة، تبدو (كما ستبدو لهم دائمًا) ضئيلة الشأن قليلة الحيلة، حتى انصرفوا إلى العمل. انطلقت وجه الأرنب إلى الركن الذي تجلس به الشامة السوداء إلى جوار الطالب الجامعي، ووضعَت يدها على قلادة من حلقات كبيرة الحجم تتدلَّى فوق صدرها، هاتفة: «إيه رأيكم في الإكسسوار ده؟ العقد والحلق. بتوع بنت أختي. عندها شنطة مليانة.» وبسطت صاحبة المنكبَين العريضَين صحيفة اليوم فوق مكتبها، وأخرجت من أحد أدراجه لفافة السندوتشات وعلبة المخلِّلات، ثم وجَّهَت الدعوة إلى الرئيس، والزميلة الجديدة، والأخريات اللاتي لم يستجب منهن، طِبقًا لاتفاق سابق، سوى الشامة السوداء ووجه الأرنب، التي انتهزت الفرصة لتقدُّم عرض الإكسسوار الصباحي في الركن الآخر من الغرفة.
الماكينات العاكفة على مضغ الفول والمخلل، ثم ابتلاع الشاي (الذي أعدَّته صاحبة المنكبَين العريضَين فوق سخَّان صغير على الأرض بجوار ملفَّات قديمة بالية)، كانت من الكفاءة بحيث لم تتوقَّف عن البث لحظةً واحدة:
من الزيتون إلى أسعار الجوارب، في بورسعيد أيضًا، وأفضل أنواع أغطية المائدة، ثم أدوية الصداع وعسر الهضم، والاحتمالات المختلفة لتأخُّر الدورة الشهرية (بصوت خافت بعض الشيء ونظرات مختلسة إلى معسكر الرجال)، وسر الآلام المباغتة في منطقة بين المعدة والعانة، وكيفية إجبار الأطفال على شُرب اللبن، والأزواج على استبدال الأنتريهات. والأصوات عالية، قوية النبرة، تقطِّر صحةً وعافية، لا تعترف بفترات الصمت أو الراحة، وتربط بينها خيوط غير مرئية من الأُلفة والتعادي، تستبعد الغرباء، مثل ذات، التي شعرت فجأةً برغبة في البكاء، عاودتها عند الانصراف، وبعد أن وقفت أكثر من ساعة في انتظار سيارة السرفيس، وحقَّقتها بمجرَّد عودتها إلى البيت، وأثناء إعداد الطعام، وعندما تهرَّبت الصغيرة «دعاء» من غسيل الأطباق، وعندما طلب منها عبد المجيد فنجانًا من القهوة، وخلال الفُرجة على التليفزيون، وقبل النوم، وبمجرَّد أن اقترب منها عبد المجيد مستثارًا (وقد ارتبطت الدموع بمشاعره الشبقية منذ ليلة الصدمة الكبرى، الأمر الذي سيدفعها إلى الالتجاء إلى المرحاض عندما تريد إطلاق العِنان لها).
تعوَّدت ذات أن تحمل في حقيبة يدها منديلًا صغيرًا من القماش المطرَّز الحواف، تمسكه في يدها عندما تعرق، أو ترتبك، وتمسح بطرفه ما قد يتجمَّع في ركنَي عينَيها من إفرازات، أو يسيل حولهما من كحل في الأيام الحارة. وقد ظلَّت متمسِّكةً بهذه المناديل الصغيرة رغم انتشار بدائلها الورقية؛ إذ كانت عاجزةً عن تمثُّل نفسها في صورة أخرى غير السيدة ذات المنديل القطني الصغير، لكنها اضطرَّت أخيرًا أن تحني رأسها أمام زحف الحضارة، عندما عجزت المناديل التراثية عن مواكبة غُدَدها الدمعية، فملأت حقيبة يدها بكُتَل من البدائل الحديثة، واحتفظت بعلبةٍ كاملة منها في درج مكتبها. وبهذا صار في إمكانها أن تتخلَّص سريعًا من أية إفرازات غير مناسبة؛ لتنكَبَّ على لصق وتضبير القصاصات التي يختارها الرئيس في الأيام التي يتصادف وجوده فيها (لأن موسوعته على عكس أمينوفيس تتطلَّب الحركة)، وعلى تصفُّح مصادرها الأصلية التي تتراكم في الأركان قبل أن تُباع بالكيلو؛ صحف ومجلات لا حصر لها. استجابت للضيق الشائع بالخطاب السياسي الفارغ وبالشعارات الطنانة، فقدَّمت خدمةً صحفيةً جديدةً بالمرة، احتلَّ فيها النبأ الخاص بأن الأرز ليس مسئولًا عن البدانة، مكان المانشيت القديم الممل عن الاعتداءات الإسرائيلية، أو المرحلة الجديدة (دائمًا جديدة) التي تواجه العمل القومي. وبمرور الوقت بدأت تشارك في جلسات الأكل والبث، التي تلقَّت خلالها فيضًا من المعارف المفيدة، فماذا قدَّمت هي؟
ذات الطيبة لم تكن تملك غير براعتها في التنظيم والإدارة التي اكتسبتها على يد الأم الصارمة؛ فهي تحتفظ في الفريزر بكمية من البصل المبشور والثوم المهروس، وفي الثلاجة بنحو كيلو ونصف من اللحم المسلوق، وصلصة مطهية. وقبل النوم تعكف على تنظيف الخضراوات وهي تتفرَّج على التليفزيون، ثم تغسلها وتودعها الثلاجة. وفي الصباح تخرجها وتتركها على طاولة المطبخ (الفورمايكا)، وبهذا يكون كل شيء معدًّا عندما تعود من العمل بعد الظهر، بحيث يجري إعداد وجبة تكفي يومَين أو ثلاثة، بينما تقوم بغسيل الأطباق والأكواب المتخلِّفة من الإفطار، ولمِّ الأشياء التي تبعثرت في الصباح (قميص نوم دعاء، وجورب متعفِّن لعبد المجيد)، ونقع الملابس المتسخة في المياه استعدادًا لتشغيل الغسالة بعد الظهر. وفي المساء تقوم بتنقية الأرز أمام التليفزيون، وتغسله في الصباح وتطهوه عند عودتها من العمل، وبهذا يتوفَّر لها الوقت في اليوم الثالث لإعداد طبق إضافي أو بعض الحلوى (كريم كرامل أو جيلي) أو ترتيب دولاب الملابس، أو تنظيف دواليب المطبخ، أو رتق الجوارب وتثبيت الزراير، أو، أو، إلى آخر أعمال البيت التي لا تنتهي.
تتميَّز ماكينات الأرشيف بالشراهة؛ ولهذا فخبرة مثل هذه لا تصلح إلا لمرة بث واحدة، تحوِّل اهتمام الماكينات بعدها إلى قنوات أكثر إثارة، فتورَّطت ذات في سباق لم تكن مؤهَّلةً له؛ جرَّبت ما يحدث لها في يومها فألفَته تافهًا غير جدير بالماكينات الجليلة، وحفظت عن ظهر قلب نكات دعاء وزينب وعفاف وهناء، فوجدت أنها تنساها بمجرَّد أن تدخل القاعة وتتجه إلى مقعدها (بخطوات متعثِّرة ووجه مذعور) وسط خطوط البث المتشابكة، واستعانت بأحد أفلام عبد المجيد (الذي تعرَّض فيه لتهديد ثلاثةٍ من اللصوص المسلَّحين بالمُدى، فلكم أحدهم بيده اليمنى، والثاني بساقه اليسرى، ونال الثالث بضربة قاضية من مقدِّمة رأسه)، فارتفعت الحواجب ومُصمصت الشفاه.
هل تسرَّب إليها اليأس؟ أبدًا؛ فما إن تنتهي من ذرف الدموع المناسبة، حتى تحاول من جديد.
٢
وزير الإعلام: «الرئيس أمر بحل جميع المشاكل أمام التونسي، سواءٌ من ناحية التمويل أو تخصيص الأراضي الزراعية اللازمة.»
محكمة أمن الدولة العليا في قضية «الحركة الشعبية»: «المتهَمون تعرَّضوا للتعذيب البدني في سجن القلعة على يد مباحث أمن الدولة.»
تكوين مجموعة عمل مشتركة من وزير الزراعة ووزير الاقتصاد ووزير شئون مجلس الوزراء ومحافظ الجيزة؛ لدراسة إمكانيات التوسُّع في استثمارات التونسي ومزارعه.
تقرير أمريكي يسجِّل ظهور نزيف دموي في بول الفلاحين المصريين في نفس اليوم الذي استُخدم فيه مبيد «جاليكرون».
«في ١٢/ ١١/ ٨٤ قُبض على ابني وصدر الأمر بحبسه لأنه لا يحمل بطاقة هُوية، ومع استمرار حبسه ٧ أيام استمرَّ الضابط الذي اعتقله في تعذيبه بكل صنوف التعذيب من ضربٍ بالكراسي على أم رأسه، إلى إطفاء السجائر في جسده النحيل حتى لقي حتفه بنزيف داخلي صباح ١٩ /١١/ ٨٤، وفي اليوم التالي أخفَوا جثته، ولا أعرف مكانها حتى الآن، وحسبي الله ونعم الوكيل. مصطفى بلتاجي.»
يمكنك الآن أن تحصل على عملات ذهبية فئة مائة جنيه باسم
الكعبة الشريفة. للحجز والسداد اتصل
وضع حصيلة النقد الأجنبي لدى البنوك تحت تصرُّف البنك المركزي لإعادة توزيعها وفقًا للسياسة الاقتصادية للبلاد.
إلغاء الاستيراد بدون تحويل عملة بحيث يقوم المستوردون بدفع قيمة السلع المستوردة بالجنيه المصري، وتتولَّى البنوك تدبير قيمتها بالنقد الأجنبي.
يذبحون عجوزًا ويعبِّئون جثته في أكياس بعد تمزيقها لأنه طالب أحدهم بتسديد مبلغ ٦٠٠ جنيه.
أوَّل بيوت الأزياء المتخصِّصة في ملابس المحجَّبات.
في البداية نسأل السيدة هدى عبد المنعم: في بريطانيا يطلقون على مرجريت تاتشر اسم المرأة الحديدية، وفي مصر لماذا يسمُّونك بالمرأة الفولاذية؟
وساطات لتعيين ابن أحد الوزراء وكيلًا لشركة أمريكية كبرى.
انخفاض مفاجئ في طاقة التوربينَين الأمريكيَّين الجديدَين للسد العالي بعد تركيبهما بشهور.
٣
لم يكن ماراثون البث وحده هو المسئول عن تدفُّق إفرازات ذات الدمعية؛ فالغدد الدقيقة القابعة خلف عينَيها (اللتَين طالما أطرى عبد المجيد جمالهما أيام بِركة البط) كانت تَنشَط بفعل عوامل كثيرة متنوِّعة من قبيل صعود ابنة خالتها عفاف من شقة البدروم الرطبة إلى أخرى تدخلها الشمس وتُطل على البحري، وزواج زينب بلا شقة وسفرها إلى الخليج مباشرة، ثم عودتها بسيارة فارهة وديب فريزر يتسع لاحتياجات مطعم كامل. وانتقال منال من أمريكا إلى جنيف بعد أن أصبح زوجها الدكتور من خبراء الأمم المتحدة. وتغيير هناء لفرش شقَّتها تغييرًا شاملًا، ابتداءً من ورق الجدران الملوَّن إلى استبدال إيديال ١٠ قدم بوستنجهاوس ٢٠ قدمًا، وتليمصر ١٦ بوصةً بناشيونال ٢٦ بوصة.
ولماذا نذهب بعيدًا في البحث؟ فالشارع الذي كان هادئًا ظليلًا عندما قطنته؛ امتلأ بالدكاكين وورش السيارات، وغطَّته مياه المجاري والقاذورات، والأرض الفضاء المجاورة التي كان مخطَّطًا لها أن تصبح حديقةً صارت مزبلة، والعمارة نفسها اسودَّ لون جدرانها، وتحطَّم زجاج منورها، واحتلَّت القطط سُلَّمها.
فبسبب هجرة العمالة سعيًا وراء قُمامة الخليج الثمينة، تراكمت القُمامة المحلية في الصفائح المتروكة أمام أبواب الشقق؛ ممَّا أتاح للقطط إقامة مهرجانات صاخبة تستمر طول الليل، وتتبعثر محتويات الصفائح على أثرها (على نطاقٍ أكبر ممَّا يُحدثه الزَّبَّال أثناء تفريغها)، وبصورة تُجبر السكَّان على توخِّي الحذر أثناء الصعود والهبوط، والسير فوق أطراف الأصابع، مع شد ذيول البناطيل والفساتين، دون أن يفكِّر أحدٌ منهم في التعرُّض لرزق القطط، فيما عدا ذات.
علينا أن نفترض (من منطلق الأمانة لتراثنا القومي) أن ذات مريضة، أو على الأقل غير طبيعية، أو أنها، بضغط الظروف، قرَّرت أن تعمل بالقاعدة الذهبية للبث، التي تنص على صناعة مادته ولا انتظارها. المهم أنها تحدَّثت إلى البوَّاب الكهل (القادم من أقاصي الصعيد حيث يتمتَّع بمكانةٍ مبعثها منصبه في القاهرة) عدة مرات؛ في المرة الأولى أعلن أنه ليس مسئولًا عن تنظيف السلَّم إلا مرةً واحدةً في الأسبوع، وفي الثانية اقترح وضع السم للقطط فرفضت بشدة، وفي الثالثة اتفقا على أن يتم استبدال الصفائح المعدِنية بجرادل بلاستيكية مزوَّدة بالأغطية، وفقًا لبرنامج زمني تمكَّنت القطط خلاله من التدريب على إزاحة الأغطية، وفي الرابعة قرَّرا الدعوة إلى اجتماع عام لبحث الأمر من كافة جوانبه.
بعد تحضير طويل واتصالات مكثَّفة، انعقد الاجتماع الأول والأخير في تاريخ العمارة، بشقة ضابط الشرطة (فتهيَّأت له بذلك حصانة كافية في مواجهة قانون الطوارئ)، وحضره كافة السكَّان (من الرجال بالطبع)، عدا أصحاب الشقة المفروشة وقاطنيها، وموظَّف وزارة الزراعة الذي رفض الحضور دون إبداء الأسباب، كما شارك فيه عم صادق البوَّاب واقفًا (وعاتب عبد المجيد فيما بعدُ على أنَّ أحدًا لم يدعُه للجلوس)، واستمرَّ عدة ساعات أسفرت عن اتفاق كامل على ثلاث نقاط؛ عدم وضع بقايا الدجاج والأسماك للقطط أمام أبواب الشقق (وهو ما كانت ذات تفعله بدافعٍ من منهاجها في التنظيم والإدارة الذي يقضي بتقليل عنصر الهالك لأقصى حد). الامتناع عن تقديم رعاية خاصة للقطط الحوامل والوليدة على صورة أقفاص موسَّدة بورق الصحف أو الخِرق (وهو ما كانت ذات تفعله بدافعٍ من طيبة قلبها). دق مسامير ملوية على شكل حرف اللام (اللاتيني لا العربي بالطبع) فوق جدران السلم، إلى جوار كل شقة، وعلى عُلو مناسب، وتعليق جرادل القُمامة فيها بحيث تصبح بعيدةً عن متناول القطط.
قامت لجنة خاصة من عبد المجيد وضابط الجيش وموظَّفٍ بشركة مقاولاتٍ بشراء المسامير المطلوبة وتركيبها، بينما تولَّى عم صادق الإشراف على استبدال الصفائح والجرادل الموجودة بأخرى تتميَّز بأغطيةٍ لها مقابض تسمح بتعليقها في المسامير، وفقًا لجدول زمني تمكَّنت القطط خلاله من التدرُّب على القفز إلى داخل الجرادل المعلَّقة بعد إزاحة أغطيتها.
على أن الضربة القاصمة لقرارات المؤتمر جاءت من جهة غير متوقَّعة بالمرة؛ ففي أثناء ممارسة عم صادق لمهامِّه في الإشراف على تنفيذها، لاحظ أن تفريغ صفيحة الجبن القذرة الصدئة التي اتخذتها زوجة ضابط الشرطة لقُمامتها، (والتي لم يكن البرنامج الزمني للاستبدال قد لحق بها بعد) يترك حولها كميةً من القُمامة أكثر من التي يُحدثها عبَث القطط بها وهي مليئة، فقرَّر أن يصاحب الزبَّال أثناء قيامه بتفريغها، ظانًّا أن إهماله هو السبب. وعندما وقف إلى جواره يُتابعه بدقة وهو يرفع الصفيحة ليُفرغها في مقطفه، فوجئ بمحتوياتها تتساقط من تلقاء نفسها على السلَّم؛ لأنها كانت بلا قعر.
وجد عم صادق أن الصلاحيات المخوَّلة له في الاجتماع الذي عُقد تحت مظلَّة ضابط الشرطة، تُعطيه الحق في التخلُّص من الصفيحة المهترئة، ففعل باندفاعٍ لا يتفق وحكمة سِنه، ودون حساب للنتائج.
فعندما اكتشفت زوجة الضابط فعلته اتصلت بزوجها بالتليفون اللاسلكي أثناء وجوده في سيارة الشرطة، فحضر بها على الفور، ومن مدخل العمارة، حيث وقف يحيط به جنوده، أصدر أمره بإعادة الصفيحة إلى مكانها.
لم يفكِّر أحدٌ من السكَّان في الاجتماع مرةً أخرى؛ إذ أدركوا بالتليباثي عبث التغلُّب على القطط، فعادوا يقدِّمون إليها بقايا الدجاج والأسماك على أوراق خاصة مفضَّضة، ويهيِّئون للحوامل منها أقفاصًا موسَّدة، وأنزلوا صفائح القُمامة من عليائها، بل وانتزعوا المسامير الملوية، واستأنفوا التدرُّب على شد ذيول البنطلونات والفساتين، والتسلُّل بحذق بين القاذورات. أمَّا ذات فوجَّهت اهتمامها إلى قضية أخطر، ونقصد بها مسيرة الهدم والبناء.
فقد أبدى السكَّان — شأنهم شأن بقية المصريين — انصياعا تامًّا للتوجيه الذي تلقَّوه عبر جهاز البث المركزي في صورة ربة منزل تنهال بالمطرقة على جدران مطبخها المغطَّاة إلى منتصفها بطلاء زيتي قاتم، فتحطِّمها هي والدواليب الخشبية المليئة بالصراصير، أو دواليب الصاج التي أكلها الصدأ، وما إن تنتهي حتى يظهر المطبخ في صورة أخرى زاهية وقد اكتست جدرانه وأرضيته بالسيراميك الملوَّن المستورد، ودار بها تشكيل متناسق من الدواليب والرفوف، تحتضن فيما بينها الثلاجة والأفران وأحواض الصلب الذي يصدأ، ثم تمتَد يد المطرقة إلى جدران الحمَّام وأرضيته؛ ليتغطيا بعد ذلك بالسيراميك الفتَّان، وإلى حوض الاستحمام المستطيل الضخم، فتستبدله بآخر مربَّع صغير أو العكس، وإلى حوض الاغتسال فتضع مكانه واحدًا ذا قاعدة انسيابية، يؤلِّف مع المرحاض وصندوق السيفون وحدةً واحدةً متناغمةً مادةً ولونًا. وخلال ذلك بالطبع يتم استبدال المواسير والحنفيات البالية، محلية الصناعة، بأخرى إيطالية، ذات لمعان سوبر ديوتي أو طويل المفعول.
بدأت مسيرة الهدم والبناء في العمارة على يد موظَّف الزراعة عندما فتح اللهُ عليه إثر اشتعال المنافسة بين شركات المبيدات الحشرية الأجنبية المورِّدة للوزارة، وانتقلت الراية من بعده إلى المدرِّس العائد من الكويت، ثم الحاج فهمي، الجزار الذي انضمَّ إلى سُكَّان العِمارة في مرحلةٍ متأخِّرة وبالأسلوب العصري؛ أي الامتلاك لا الاستئجار، إلى أن تلقَّفها العسكر؛ ضابط الشرطة بعد عودته من مهمَّة أمنية في سلطنة عُمان، وضابط الجيش بعد عودته من مهمَّة تدريبية في الولايات المتحدة. على أن القائد الحقيقي كان باشمهندسًا مهذَّبًا ناعم الملمس، ليست له مهنة محدَّدة غير زواجه من مدرِّسة سليطة اللسان، عظيمة الصدر، يسكن معها فوق شقة ذات مباشرة، قام بزيارة موظَّف الزراعة عندما لاحظ فتحَ الله عليه، مرتديًا أفخر ملابسه، مدلِّيًا من رقبته سلسلةً ذهبية، ومؤرجحًا في يده مفتاح سيارة (عهد بها صاحبها إليه ليتولَّى بيعها) ليعرض عليه خدماته بوصفه مهندسًا للديكور. وبفضل جهود الباشمهندس انضمَّت العمارة كلها إلى المسيرة، عدا الطابق الذي تُقيم به ذات (والذي يضم شقةً مفروشة، وأخرى مغلقة، وثالثةً سكنها حديثًا زوجان منعزلان)، وذات نفسها التي تابعتها باهتمام، من خلال المعالم الواضحة؛ شكائر الأسمنت والجبس والرمل وعلب الطلاء، وضجة التكسير التي تُزوِّد السيمفونية المؤلَّفة من نداءات الباعة وزمامير السيارات وتكبير المؤذنين بالإيقاع الخلفي الضروري، ثم أحواض المياه ولفائف الموكيت وألواح الأخشاب، وأخيرًا المخلَّفات؛ علب فارغة، وأحواض مكسورة، ومواسير ملوية، وبقايا طوب وخزف وخشب وأسمنت وأتربة، تتكوَّم فوق السلالم حتى تتولَّى الأقدام توزيعها على الجيران المنتظرين لدورهم في تلهُّف.
حافَظ سُكَّان العمارة على الجدول الزمني للمسيرة بنجاح؛ فلم يحدث أن التحقت بها شقتان في آنٍ واحد، أو تغيَّر موعد انطلاقها (تمَّ ذلك دون اتفاق مباشر وبنوع من التليباثي)؛ فهي تبدأ كل عام مع حلول موعد رش القطن؛ إذ يقوم موظَّف الزراعة بتغيير ورق الحائط بلون أكثر حداثة، أو تدعيم نظام التكييف، وعندما ينتهي يتلقَّف المدرِّس العائد من الكويت الراية، فيستبدل الموكيت، أو يضيف جهازًا كهربائيًّا جديدًا إلى مجموعته النادرة، ثم يتلوه الذي إلى جواره أو فوقه، حسب الجدول. وعندما يحل موعد الرش التالي تكون الجولة قد اكتملت وعادت الراية إلى موظف الزراعة، فيستبدل ورق الحائط بالأخشاب، وهلم جرًّا.
كانت هناك، بالطبع، حالات استثنائية محدودة، انتقلت فيها المبادرة من موظَّف الزراعة إلى ضابط الشرطة (مرة واحدة عندما أُعير مؤقتًا لمباحث مكافحة المخدرات)، وإلى ضابط الجيش (مرَّتَين؛ الأولى عندما حصل على شقة جديدة من مشروع إسكان تابع للقوات المسلحة وباعها في الحال بضعف ثمنها، والثانية عندما انتقل إلى جهاز الخدمة المدنية العسكري، حيث أصبح على احتكاك مباشر بسوق البناء العظيم)، وفيما عدا ذلك حافظَت المسيرة على دورتها المنتظمة التي تقفز فيها دائمًا من الطابق الثالث إلى الطابق الخامس دون أن تتوقَّف عند ذات؛ ممَّا يؤدِّي إلى هياج غددها، وخاصةً عندما تُضطر إلى لفِّ قطعة من القماش حول ماسورة الحمَّام لمنع تسرُّب المياه، أو عندما تقع عيناها على طبقات الدهون والدخان المترسِّبة فوق جدران المطبخ، وبوجه أكثر خصوصيةً عندما تعلِّق أختها زينب على السيفون القديم المصنوع من الحديد الزهر والمعلَّق قرب السقف، تتدلَّى منه سلسلة معدِنية تستقر عادةً على رأس الجالس فوق المرحاض، قائلةً ببراءة مصطنعة: «معقول يا ذات! .. إنت لسه عندك حاجة زي كده؟»
لم تغفر ذات لزوجها مسئوليته عن أمثال هذا الموقف؛ فبطريقته القاطعة رفض عبد المجيد الالتحاق بالمسيرة دون إبداء الأسباب، ثم تعطَّف بعد قليل وشرح لها الاعتبارات العملية التي تُحتِّم الانتظار إلى ما بعد الحصول على الليسانس الذي لا يتقدَّم لامتحانه أبدًا، أو عقد العمل في رأس الخيمة الذي لم يأتِ أبدًا.
تعدَّدت الزيارات الليلية التي تتلقَّاها ذات والتي كانت قاصرةً على أبيها وجمال عبد الناصر؛ فقد انضمَّ إليهما زوج منال بعد حصوله على الدكتوراه، وزوج هناء بعد انتقالها إلى شقة الهرم، وزائر قديم من أيام الجامعة، بلا مناسبة، هو عزيز، زوج صفية، بالإضافة إلى زيارة مفاجئة لم تتكرَّر من منير زاهر، الصحفي البدين. وتميَّزت هذه الزيارات بدرجة كبيرة من الرقة والعذوبة، إلى أن تسلل إليها العنف؛ فقد دأب جمال عبد الناصر على أن يتحوَّل عنها فجأةً وينطلق إلى المطبخ فيتناول مطرقةً وينهال بها على جدرانه ودواليبه، ثم ينتقل إلى الحمَّام. وتَهب ذات من نومها مفزوعةً وهي تهتف: «المطبخ .. الحمام ..» فيُهرع عبد المجيد ليجلب لها كوبًا من الماء، منزعجًا من فكرة تردُّد جمال عبد الناصر على شقته، متبيِّنًا في سلوكه إزاء الجدران إضافةً منطقيةً لسِجِله الحافل بالجرائم والاعتداءات على حقوق الغير وأملاكهم. وعندما يعود بالكوب يكون بعض الأمل قد خامره، فيسأل زوجته: «أنت متأكِّدة أنه عبد الناصر وليس السادات؟»
نجحت عدوانية عبد الناصر في إجبار عبد المجيد على التخلي عن بعض عنته. فسمح لذات أن تقتاده في جولة تفقُّدية بين دكاكين الأدوات الصحية، توقَّفت فيها طويلًا أمام طاقم حمَّام من الرخام الصناعي يتألَّف من تسع قطع؛ حوض استحمام بالسلم طراز فرساي (سألته: يعني إيه يا عبد المجيد؟ فتمتم غاضبًا)، حوض ورد بالعامود، بيديه، كومبينشين، رف لوضع الشامبو والبلسم، فواطة عمود، وراقة، زوايا زخرفية، بالإضافة إلى أربع قطع لفرش الأرض، حوض للزهور، خلاط مياه ودوش على هيئة تليفون. والثمن؟ ضعف راتبه (بالحوافز) لمدة سنة.
أفلحت هذه الجولة في إغلاق ملف المسيرة مؤقَّتًا، لكنها لم تفعل شيئًا لمواسير الحمَّام وحنفياته السيالة، فاضطُر عبد المجيد لأن يلتجئ إلى أحد السباكين. حصل على إجازة عارضة، وذهب إلى السبَّاك في الموعد الذي اتفقا عليه، وانتظره إلى أن هلَّ بعد ساعتَين بوجه مقلوب، وبالفعل قال: «خليها لبكرة لأنه مليش مزاج.» ثم استجاب لرِقة عبد المجيد واستعطافه فسأله: «معاك إيه؟»
لم يفهم عبد المجيد للوهلة الأولى ما يعنيه السباك، ثم أدرك أنه يستفسر عن طراز السيارة التي جاء بها، فاحمرَّ وجهه من الخجل وهو يُجيب بأنه ليس معه شيء، الأمر الذي أثار تعجُّب السبَّاك: «طب وحارجع ازاي؟!»
السبَّاك الذي دخل شقة عبد المجيد بالفعل أثار فيه الرَّوع عدة مرات؛ عندما ركع ببنطلون من القطيفة الثمينة على أرضية الحمَّام ليفحص ماسورة المرحاض، وعندما خاض بحذاء من طراز «كوتشي» في المياه القذرة المندفعة من البالوعة، وعندما أعلن تكلفة الإصلاحات المطلوبة والتي تضمَّنت، بتشجيعٍ من ذات، إزالة البلاط والقيشاني، الذي لم يَعُد يُستخدم، حسب قول السبَّاك، ولا حتى في المباول العمومية، واستبدالهما بالسيراميك الخلَّاب، والمرة الأخيرة عندما رفض باستعلاء الجنيهات الخمسة التي عرضها عليه عبد المجيد مقابل جهده في الفحص والتقدير، وأعلن من مقعد ارتمى عليه ببنطلون القطيفة المبتل أنه لا يقبل أقل ممَّا يتقاضى الطبيب عند فحص المريض ووصف العلاج.
ظهر مهندس الديكور في اليوم التالي مباشرةً أمام شقة ذات، مؤكِّدًا فعالية شبكة التليباثي المحلية، عارضًا خدماته في أدب جم، مقترحًا القيام بعملية محدودة للغاية تتمثَّل في استبدال ماسورة المرحاض والحنفيات، إلى أن يفتح الله على عبد المجيد أو ذات أو الاثنَين معًا. وفي نفس الليلة انضمَّ إلى زُوَّار ذات السريين، وظلَّ يتردَّد عليها إلى أن انتهت العملية المحدودة، فاختفى ليظهر من جديد عندما اشتكى الحاج فهمي الذي يسكن تحتها مباشرةً من رشح سقف حَمَّامه بالمياه. وبالرغم من الشواهد الواضحة، نجح مهندس الديكور في إقناع الضحيتَين — عبد المجيد والحاج فهمي — بأن الأمر يتعلَّق بالعهد القديم؛ أي قبل أن يقوم بإصلاحاته المحدودة. والحل؟ أن يقوم، هو نفسه، بعملية جديدة محدودة، يتم فيها تعرية السقف ليجف، ثم إعادة دهانه، على نفقة عبد المجيد، بالطبع.
الاعتراض الوحيد على هذا الحل جاء من جانب ذات، التي انتابتها الشكوك (رغم الزيارات الليلية وربما بسببها) في كفاءة مواسير الباشمهندس، فتهوَّرت وأبدت رأيها في أن الطريق إلى سقف حمَّام الحاج فهمي يبدأ من أرضية حمَّامها. أزاح عبد المجيد اعتراضها كعادته، وتشبَّثت هي بوجهة نظرها؛ ذلك أن ذات تغيَّرت ولم تعد تلك المستمعة المبهورة المأخوذة، وبفضل تمرينات البث لم تعد الكلمات تتعثَّر على لسانها، وتمتطي حروفها ظهر بعضها البعض، الأمر الذي أثار غضب عبد المجيد فاتهمها بأنها لا تفهم شيئًا، «أوف كورس»، ثم خاصمها لمدة أسبوع، أنجز الباشمهندس خلاله عمليته المحدودة، وتأمَّلت هي في عمق مسيرة الهدف والبناء، فتوصَّلت إلى قناعة جديدة بشأن المستقبل.
تتميَّز المرأة المصرية، كأغلب النساء في كل زمان ومكان، بقدرتها على تدبير احتياجاتها بنفسها، كما يشهد على ذلك شارع الهرم. لكن هذا الطريق ذي الشهرة العالمية (في بلاد القُمامة الثمينة على الأقل) كان مغلقًا في وجه ذات لاعتبارات عديدة، يتعلَّق بعضها بالاقتصاد وقوانينه (مثل قانون العرض والطلب)، ويتصل البعض الآخر بالخوف الغريزي الذي أثارته تجرِبة مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة؛ ذلك أن موظَّف الزراعة غضب لتردُّد الإخوة الخليجيين على مدام سهير، فأقدم على خطوتَين متزامنتَين؛ جَمَع براز القطط المتناثر على السلم ودَهَن به باب شقتها، وقام بتركيب جهاز بث وتلقٍّ (إنتركوم) إلى جوار باب شقته.
لم تكن ثمة علاقة بين الأمرَين، كل ما في الأمر أن موعد رش القطن كان قد حل. لكن العلاقة نشأت بعد ذلك؛ فقد دأب الإخوة الكويتيون والسعوديون، ذوو الخبرة الواسعة بأرقى العواصم العالمية، على التوقُّف أمام شقة موظف الزراعة، وطرق بابها، ظنًّا منهم أنهم أمام مكتب الاستقبال (رسبشن) الخاص بالمؤسَّسة التي يقصدونها، ممَّا دفعه إلى القيام بخطوتَين متزامنتَين جديدتَين؛ إلغاء خط الإنتركوم، وإبلاغ الشرطة.
لم تُسفر الخطوة الأخيرة، بالطبع، عن شيء ذي بال، لكنها كانت كافيةً لتبديد ما يكون قد خالج ذات من آمال وأوهام، وتوجيهها إلى مجالات الاعتماد على النفس الأخرى من قبيل توزيع قُمصان النوم المهرَّبة من بورسعيد، والاتِّجار في المواد التموينية. لكن عائد هذه المجالات لم يكن مجزيًا بالدرجة المرجوَّة؛ بسبب تعدُّد حلقات سلاسلها، الأمر الذي دفع ذات إلى الترحيب بمشروع الحلة عندما عرضَته عليها جارتها سميحة.
كانت سميحة شابةً صغيرةً لم تُكمل بعدُ ربيعها العشرين، كما يقول الأدباء، شاحبة الوجه من جرَّاء سوء التغذية في الطفولة، حديثة عهد بالزواج وبسكنى العمارة. فزوجها، وجدي الشنقيطي، الذي يكبرها بعشرين ربيعًا أخرى، كان مهندس بناءٍ في مدينة ميت غمر، ومتزوِّجًا من قريبة له متخصِّصة في إنجاب البنات، فقرَّر أن يتزوَّج ابنة ملاحظ البناء؛ لتتخصَّص في إنجاب الأولاد، وجاء بها إلى القاهرة حيث حصل على وظيفة بمجلس حي مصر الجديدة، وعلى الشقة المجاورة لذات بعد أن دفع فيها كلَّ مدَّخراته؛ ولهذا خلت من كافة أنواع الأجهزة، ممَّا حال بينه والتقاط البث التليباثي، فعجز عن الالتحاق بمسيرة الهدم والبناء.
اقتصرت العلاقة بين سُكَّان الشقَّتَين المتجاورتَين على تحية اللقاء على السلَّم؛ فأوجه الاتصال اليومي المألوفة التي يتم فيها تبادل رغيف خبز ببصلة أو قليل من الملح كانت محظورةً على سميحة؛ لهذا يمكن أن نتصوَّر دهشة ذات عندما فتحت باب شقتها استجابةً لدق الجرس، لتجد الشنقيطي أمامها مضطربًا شاحب الوجه: «المدام محتاجة لك.»
لبَّت ذات النداء، وتبعت الشنقيطي إلى صالة مزدحمة بأثاث متواضع ذي قطع كبيرة الحجم؛ مائدة سفرة مركونة لصق الجدار، مقاعد موسَّدة بلون وردي لامع ومغطاة بالبلاستيك، أنتريه من الإسفنج دموي اللون موزَّع في الأركان، لوحات الكانافاه المحتومة على جدرانٍ تلطَّخت بآثار الأصابع والرءوس وحفر المسامير وزوايا المقاعد. سميحة نفسها كانت ملطَّخةً بآثار من نوعٍ آخر؛ ففي غرفة النوم وفوق الفِراش رقدت منفرجة الساقَين وقد استقرَّت بينهما قطعة قماش ملوَّثة بالدماء. هكذا كانت الإطلالة الأولى على فخذَي سميحة المُبهرَين.
أحضر الشنقيطي طبيبًا نجح في وقف النزيف، وفشل في الحيلولة دون تكراره، فتكرَّرت الاستعانة بذات، وتعمَّدت العلاقة بين المرأتَين بالدماء؛ فسميحة المتفرِّغة لشئون مفرخة فشلت محاولات تشغيلها، والمحرومة من أي نشاط اجتماعي غير زيارات الأهل في المواسم والأعياد وجدت في ذات الناضجة نافذةً على عالم لا تعرفه إلا في التليفزيون، وذات وجدت فيها متلقيًا جديدًا متلهِّفًا، في حالة دهشة دائمة، ومصدرًا طازجًا للبث، محيطًا بأنواع المواد التموينية التي تحملها العربات العسكرية إلى ذوي الحاجة من سُكَّان العمارة، والأطعمة الجاهزة التي تجلبها يوميًّا زوجة موظَّف الزراعة ومدام سهير، وتطوُّرات مسيرة الهدم والبناء.
فالعزلة التي عاش فيها الشنقيطي وزوجته لم تمنعهما من تأمُّل المسيرة إياها في عمقٍ واستخلاص النتائج الضرورية. وفي زيارة شبه رسمية لذات وزوجها حملا ابنة أفكارهما؛ حلة واسعة من الألومونيوم تتألَّف من قطعتَين متماثلتَين، تقوم إحداهما بدور الغطاء للثانية؛ ولهذا تحمل مقبضًا خشبيًّا بالإضافة إلى مقبس كهربائي متصل بشبكةٍ من الأسلاك الداخلية.
جرت تجرِبة الابتكار الجديد في مشهد احتفالي؛ قُطعت دجاجة إلى نصفَين وُسِّدا متجاورَين في قاع الحلة، ثم وضعت فوق نيران البوتاجاز بعد إغلاقها، وأولج القابس في المقبس، ووصَّل الغطاء بالتيار الكهربائي. وبعد ربع ساعة بالضبط تصاعدت رائحة الشواء. وعلى الرائحة حسب الشنقيطي وعبد المجيد بقلم وورقة التكلفة والربح للإنتاج بالجملة.
أصبح الأربعة في الأيام التالية من حاملي الحلل؛ تعاون الرجلان في الإشراف على تصنيعها في دُكَّان قريب لتصليح الغسالات. وباع عبد المجيد واحدةً في البنك لرئيس قسم الأوعية الادخارية، وباع الشنقيطي أخرى في مجلس الحي للمسئول عن إعطاء تراخيص المنشآت الصناعية، وباعت ذات اثنتَين في الأرشيف وثالثة لصديقتها هناء، واحتفظت لنفسها بواحدة، ثم اشترت أخرى من الطراز المعدَّل الذي لم يقيَّض لعامة المستهلكين أن يحصلوا عليه؛ إذ توقَّف المشروع بعد أن ارتفع عدد القِطع المنتجة إلى سبع، ووصل السوق إلى درجة التشبُّع.
الذين يتذوَّقون لذَّة الابتكار والخلق، لا يسلونها. هكذا ظهر الشنقيطي وزوجته في زيارة رسمية جديدة، وقالت سميحة بانفعال: «مدام ذات .. ما رأيك في أن تدفعي عشرين جنيهًا الوقت، وتاخدي خمسة آلاف بعد شهر؟» اعتبرت ذات الأمر نكتة، فضحكت وهي في سبيلها لإعداد الشاي، لكن الشنقيطي الذي لا يعرف المزاح قال في صرامة: «الموضوع جد.»
بسط المشروع الجديد القادم من ألمانيا (كما قال): تدفع الجنيهات العشرين في صورة حوالة بريدية لشخص تعرفه، وتُقنع خمسة أشخاص آخرين بأن يدفع لكِ كلٌّ منهم نفس المبلغ على نفس الصورة، ويكرِّر كل واحد منهم الأمر مع خمسة أشخاص آخرين، وهلم جرًّا.
لم يستوعب عبد المجيد (فضلًا عن ذات) العملية الرياضية المعقَّدة التي شرحها زائره؛ فقد شرد عدة مرات، لا في أوجه تحصيل المبلغ الضخم، وإنما في أوجه إنفاقه؛ يشارك أحدًا في شراء سيارة أجرة وتشغيلها؟ يستأجر كافيتريا؟ أو ميني ماركت؟ أمَّا ذات فقد تسمَّرت عيناها على جدران المطبخ، ولاح لها شبح جمال عبد الناصر منهمكًا في تكسيرها، وخلفه عكف أنور السادات، في عناية شديدة، على تثبيت قِطع السيراميك الملوَّن الفاخر.
ظهر الباشمهندس في اليوم التالي (وقد وصلته الأنباء بالتليباثي) عارضًا خدماته، مؤكِّدًا ضرورة فتح ملف الحمام لمعالجة الآثار الجانبية للعملية المحدودة التي قام بها في سقف الحاج فهمي، مقترحًا القيام بعملية محدودة أخرى يتم خلالها تبييض الشقة كلها. ولم يكد ينصرف حتى طرق الباب زائر جديد، كهل فوق الستين، يتحسَّس خطواته في حذر من خلف نظارته السميكة؛ عم محروس الحلَّاق.
لم يكن محتاجًا لتقديم نفسه؛ فهو مستأجر الدكَّان الوحيد في العمارة منذ إنشائها، وتربطه علاقة طيبة بذات وعبد المجيد رغم أنهما لم يستعينا بخدماته؛ لأنه متخصِّص في الحلاقة النسائية، ولأن ذات ظلَّت أمينةً لحلاقها القديم، ولأنه غالبًا ما يهجر مهنته الأصلية بين الحين والآخر إلى تجارة السيارات المستعملة، وسمسرة الشقق المفروشة.
سأل عم محروس بعد أن شرب الشاي: «الباشمهندس كان هنا النهارده؟»
ردَّ عبد المجيد بالإيجاب.
واصل عم محروس: واقترح عليكم تغيير الأدوات الصحية (نعم)، وبياض الشقة (نعم)، وعمل ديكورات (نعم)، وإزالة هذا الحائط (نعم)، واستبدال العفش …
هنا اعترض عبد المجيد: «لا. اقترح فقط تنجيد الأنتريه.»
أطرق محروس: «مفهوم. وعرض عليكم شراء الثلَّاجة؟»
قالت ذات: «قال بس إنه يقدر يساعدنا في الحصول على واحدة جديدة.»
قال محروس: «مفهوم، مفهوم. حيعرض عليكم شراء الأثاث كله.»
احتجَّ عبد المجيد: «لكن إحنا مش عايزين نبيع.»
كان هذا أمرًا مفهومًا أيضًا من جانب عم محروس، الذي كان بوسعه أن يدبِّر لهم أمر بياض الشقة بمعرفته ليجنِّبهما الوقوع في شباك الباشمهندس الذي سيُحضر العُمَّال ويأمرهم بإزالة هذا الحائط أو تبييضه بسرعة دون أن يُعنى بحماية الأثاث، ثم يُبدي أسفه لإهمال العُمَّال واستعداده لتحمُّل مسئولية جريرتهم بشراء العفش كله. وفي اليوم التالي يحضر شخصًا يقوم بتثمينه. وهيلا هوب يأخذ العفش بتراب الفلوس، ويجدِّده ثم يبيعه من جديد.
تذكَّرت ذات: «فعلًا .. لمَّا كُنَّا نتكلَّم في موضوع البياض كان يتحسَّس المقاعد والسفرة والثلاجة».
أبدى عبد المجيد ضبطًا رائعًا للنفس أمام نظرات ذات الشامتة (ألم أقل لك؟) ودهاءً بالغًا إزاء توقُّعات عم محروس، فأكَّد له أنه سيستعين بخبرته عندما يشرع في البياض، لكنه بدأ في اليوم التالي مباشرةً البحث عن سَبَّاك صادق وأمين، يأخذ الآلاف الخمسة، وشاركته ذات البحث، حتى حالفهما الحظ، وعثرا على واحد، وإن كان مِن تخصُّص مختلف بعض الشيء.
فقد ذهبت ذات إلى طبيب الجريدة تشكو من سُعال مزمن، فنصحها بأن تعرض نفسها على جرَّاح متخصِّص «من باب الاطمئنان». وفي المساء ذهبت مع عبد المجيد إلى ميدان الجامع لشراء حذاء، وأثناء عبور الشارع بالقرب من ميدان صلاح الدين لمحَت مبنًى حديث البناء من طابق واحد مُقسَّم إلى عيادات طبية في مختلِف التخصُّصات، حملت إحداها اسم جرَّاح مشهور طالما لهج أبوها بذكره.
صعدا إلى عيادة ما زال العمل يجري في دهان جدرانها، لكن الطبيب رحَّب بالكشف عليها، معترفًا بأنه ليس هو الجرَّاح الشهير، وإنما قريب له من بعيد.
خضعت ذات لكشفٍ دقيق ومستفيض لدرجةٍ أثارت شكوكها؛ إذ ظلَّ الطبيب يتحسَّس ثديَيها ويضغط عليهما إلى أعلى وإلى أسفل ويعتصرهما ويفعص حلمتَيهما. كان واقفًا أمامها ورأسها في مستوى بطنه، وقاومت أن تهبط بعينَيها إلى أسفل لتحسم الشك، وحسم هو الأمر عندما هزَّ رأسه في وجوم، ثم أعلن لها أن العناية الإلهية ساقتها إليه في الوقت المناسب (له بالطبع)، وأنه سينتظرها في الصباح ليستأصل أحد ثديَيها في محاولة لإنقاذ حياتها.
لم تضمِّن ذات برنامج البث المسائي المشترك مع سميحة شيئًا عن زيارتها للطبيب؛ لأن سميحة سبق أن أعربت، مرارًا، عن إعجابها بثديَي ذات المتكوِّرَين وأسفها لأن ثديَيها هي لم يتجاوزا حجم الليمون؛ وبهذا لم تدرك فداحة الكارثة إلا عندما لجأت إلى الفراش، فانهمرت دموعها، وشاركها عبد المجيد البكاء (لأول مرة منذ ليلة الدخلة)؛ ذلك أنه لم يفقد حرصه على سلامة البضاعة، بالرغم من أن سنوات الحياة المشتركة قد ارتقت بها إلى مستوًى إنساني.
من هذا المنطلق (سلامة البضاعة) رفض عبد المجيد اقتراح الاستئصال، ولم تتقبَّله ذات بالمثل، فرغم عدم استخدام الثديَين بالكثرة الملائمة (الرضاعة بكافة أشكالها)، فإنهما كانا جزءًا من صورتها الخارجية، ومن جهاز لم ينتهِ بعد عمره الافتراضي. هكذا توصَّل الاثنان في الصباح إلى قرار حاسم؛ لا عملية.
بدأت رحلة التفعيص على أيدي كبار الأطباء (لا في الثديَين وحدهما) بعد الانتظار عدة ساعات تحت الإشراف الصارم لعدسات الفيديو، في قاعات مكيَّفة، مكتظَّة بخليط من بنات العائلات والبيروقراطيين والسباكين؛ أي بخلاصة الكريمة، ومزينة بالآيات القرآنية والصور الفوتوغرافية المكبَّرة للقطب الشمالي، واللوحة الروسية للطفل الباكي، والشهادات الأجنبية بالعالمية التي لا تشهد في الحقيقة على أكثر من الاشتراك في المؤتمرات (التي تنظمها شركات الأدوية لترويج بضاعتها).
تضمَّنت الرحلة الكابوسية زياراتٍ لأماكن عديدة متباعدة لأسمائها رنين يبعث على الرهبة؛ مستشفى المعادي العسكري حيث رآها طبيب أمريكي من تكساس، عجز عن القطع برأيٍ في شأنها، فنصحها بالاستئصال قائلًا إنه أصبح في أمريكا إجراءً عاديًّا مثل استئصال اللوزتَين «أو النتوء إياه عندكم». ومستشفى عين شمس التخصَّصي حيث ذهبت لعمل الأشعة وجلست تنتظر دورها برفقة الفنيين إلى أن تذكَّر أحدهم المريض الراقد تحت الكاميرا فهُرع إليه وهو يردِّد: «ربنا يستر. مفيش حاجة إن شاء الله.» وعندما استدعَوها توسَّلت إليهم ألَّا ينسَوها تحت الكاميرا، واعترضت على المحقن المستعمل الذي أرادوا ضخَّ المادة الملوَّنة به في أوردتها، وعلى الملاءة القذرة التي بسطوها لها، فتوسَّلوا هم إليها: «سلِّمي أمرك لله سبحانه وتعالى.»
هكذا فعلت هي وعبد المجيد الذي عرف هو الآخر طريق الله، فبدأ يصلي بانتظام، لا من أجل خلاصها، وإنما من أجل خلاصه هو؛ ففي الركن الجنوبي الغربي من رأسه الأصلع، تجمَّعت خيالات غامضة، احتلَّت فيها امرأة أخرى أكثر قابليةً لفنون الرضاعة المختلفة، مكان ذات التي أصبح اختفاؤها متوقِّعًا، الأمر الذي كان يدفعه إلى الاستماتة في الدعوة لها بالشفاء، واللهاث وراء أنباء الاكتشافات الجديدة، ومعجزة الفليبيني الذي يستخرج الورم بيدَيه دون جراحة، وقصص الذين نجَوا، والذين لم ينجَوا.
خاتمة المطاف جاءت في معهد السرطان، أو الأورام، كما يلقِّب نفسه تحشُّمًا، وسط الفلاحين والفلاحات القادمين من أقاصي النجوع، ببطون وأعناق ومثانات وأرحام وأثداء متورِّمة، المقرفصين إلى جوار جدران قاعة انتظار مظلمة وباردة، كفيلة وحدها بإحداث أخبث الأورام، حيث رحَّب عددٌ من الأطباء الشبان بالتفعيص فيها مقابل نصف جنيه، وتحت إشراف أستاذ كبير غاضب من غرام الناس بالتدخين، أعطاها حكم البراءة دون أن يتخفَّف من غضبه، كأنما عزَّ عليه إفلاتها؛ ولهذا أرشدها إلى طريقة التفعيص الذاتي، لتبدأ به يومها كي تأتيه المرة القادمة في اللحظة المناسبة.
خلال ذلك كانت حكاية الجنيهات العشرين التي تتحوَّل إلى خمسة آلاف جنيه قد طواها النسيان، وحلَّ محلَّها الأمن الغذائي؛ سيارة كارفان مجهَّزة بالأرفف والبوتاجاز والثلاجة، تقف في ميدان روكسي لتبيع السندوتشات للعابرين ورُوَّاد السينما. حسب الشنقيطي التكلفةَ والربح بالقلم والورقة، وبدأ يقوم هو وسميحة بزيارات ليلية سرية لذات التي تحمَّست للمشروع الجديد، وتطوَّعت لمسئولية المخللات، فملأت المطبخ والصالة بل والطرقة المؤدِّية إلى غرفة النوم، ببرطمانات كبيرة من الزجاج والبلاستيك، عُبِّئت بالخيار والليمون والفلفل والبصل.
لم تمضِ أيام حتى بدت على المخللات علامات النضج، وسرعان ما أصبح كل شيء جاهزًا فيما عدا السيارة التي تطلَّبت وقتًا أطول. وكان الشنقيطي هو الذي نجح في الحصول عليها، لكن المشروع لم يقدَّر له التمام؛ فمن ناحية كانت المخللات قد انقرضت على يد أصحابه، ومن ناحية أخرى كانت السيارة لا تسمح بوقوف أحد داخلها ولا تتسع لأي تجهيز؛ لأنها كانت من نوع نادر هو الفيات الصغيرة التي يرجع عهدها إلى بداية الستينيات، لكنها كانت كافيةً على أية حالة لأن تدفع عم صادق البوَّاب (الذي يتقاضى خمسة جنيهات في الشهر من كل ساكن كي ينظِّف له سيارته كل فجر ليجدها لامعةً متلألئةً عندما يهبط في الضحى) لأن يستوقفها على السلَّم قائلًا في إشفاق دَفَع بالدموع إلى عينَيها: «ما فاضلش إلا إنت يا ست من غير عربية. يالله شدي حيلك.»
شَدُّ الحيل قامت به سميحة الشنقيطي؛ فبعد تشكيلة من البلوزات والقمصان الفاخرة، وسترات الشامواه والجلد، والجيبات الحديثة والأحذية الغالية والعدسات اللاصقة والنظارات الكارتييه، ظهرت الأعراض المألوفة؛ علب الدهان وصناديق السيراميك، وحوض الصلب الذي يصدأ، ومجموعة الحمام الملوَّنة. وازدحمت الطرقة المفضية إلى الشقتَين بلفافات الموكيت، وتمَّ استبدال الأنتريه الإسفنجي المتهالك بآخرَ جديد، وغسالة إيديال البائسة بواحدة فول أوتوماتيك (وستنجهاوس)، والسفرة المستطيلة بأخرى دائرية لها مقاعد أنيقة (ستيل) مدثَّرة بالقطيفة الزرقاء.
هكذا اقتربت المسيرة من باب ذات، وقَسَرتها على الانخراط في ركابها، رغم معارضة عبد المجيد. وبعزيمة عزَّزتها خيانة الشركاء طبَّقت سياسةً اقتصاديةً رشيدة، وعملت على سحب أكبر كمية نقود من عبد المجيد، وأخفت ما تتلقَّاه من علاوات ومكافآت (وهو أمر لم يَغِب عن فطنة عبد المجيد فأخذ يُخفي ما يحصل عليه هو الآخر)، ثم كوَّنت جمعية ادخار محدودةً في الأرشيف من عشرة أشخاص (اشتركت فيها سميحة بنصيبَين) يقبض كلٌّ منهم ألف جنيه في شهر مُعيَّن. وما إن حلَّ شهرها الموعود حتى توكلت على الله، بعد أن أمَدَّتها ماكينات الأرشيف بالسبَّاك المطلوب، واضعةً عبد المجيد أمام الأمر الواقع؛ ممَّا أشعل غضبه ودفعه إلى مخاصمتها ومقاطعة الأمر كله، لا من قبيل المعارضة للمبدأ وإنما للإجراءات.
لم تكفِ الألف جنيه لمواجهة المهام المطروحة، فاقتصرت ذات على استبدال مرحاض الحمام بواحد حديث (كومبيشان كما أصرَّت هي والسباك رغم المحاولات التصحيحية التي تبرَّع بها عبد المجيد من وراء حواجز المقاطعة)، ثم أولت اهتمامها للمطبخ؛ فأطاحت بجدرانه، وغطَّتها هي والأرضية بالسيراميك المصقول الفاخر وردي اللون.
توقَّف جمال عبد الناصر عن المجيء حاملًا مِعول الهدم، لكن أنور السادات واصل زياراته الليلية وفي يمينه قِطَع السيراميك المعهودة؛ ذلك أن جعبة ذات المالية نفدت قبل أن يصل السيراميك إلى السقف بمسافة شبرَين، واضطُرت إلى استكمال المساحة الباقية بدهان الزيت المألوف.
٤
جريدة واشنطون بوست: «شركة أمريكية يرأسها عضو سابق في وكالة المخابرات الأمريكية تقوم بالإشراف اليومي ومراقبة ١١ وزارةً حكوميةً في جزيرة «مسندم» بسلطنة عمان.»
أول دفعة من طائرات ميراج ٢٠٠٠ تصل مصر خلال أيام.
جنرال موتورز تعلن في الصحافة الأمريكية: «العقد تمَّ توقيعه.»
الطائرة المختطفة هي نفسها التي اختطفها الأمريكان في حادث السفينة الإيطالية.
راكب أسترالي: «المقتحمون لم يكونوا يعرفون مَن هم الخاطفون، فأطلقوا النار على كل شيء أو شخص يتحرَّك.»
صحيفة أمريكية: «لم يكن لدى الوحدة المصرية معلومات تتعلَّق بخصائص الطائرة المخطوفة ومن هو الخاطف ومن هو الضحية.»
مسئول أمريكي: «هجوم الكوماندوز المصريين الذي أنهى اختطاف الطائرة سيوطِّد التحسُّن الملحوظ في علاقات القاهرة وواشنطون.»
وزارة الخارجية الأمريكية تعلن: ١١٠ ملايين دولار نقدًا لمصر
المبلغ هو جزء من المعونة الاقتصادية المقرَّرة لمصر وكان محتجزًا في انتظار بعض الإصلاحات الاقتصادية التي طلبت الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تنفيذها في مصر.
الصحف المصرية: «الولايات المتحدة رفضت زيادة المساعدات العسكرية بمقدار النصف، وإعفاء القاهرة من أعباء ديونها العسكرية، وخفض سعر الفائدة على الديون من ١٥ بالمائة (السعر السائد عام ١٩٧٩) إلى ٧٫٥ بالمائة (السعر السائد حاليًّا).»
المعارضة المصرية: «عقد جنرال موتورز يعني تسليم قاعدة إنتاج السيارات المصرية إلى شركة أمريكية كُبرى.»
ثمرة التعاون المشتركة بين سوني اليابانية والشركة الإسلامية الدولية للكمبيوتر (كمبيولاند) والمصرف الإسلامي الدولي وشركة بنها للصناعات الالكترونية (ق.ع).
٥
لم يكن ثمة ما يجذب عبد المجيد في فخذَي الشنقيطي، وهو على أية حال لم يُتَح له التملِّي منهما قط، ولو كان هذا قد حدث ما تغيَّرت النتيجة؛ إذ إنه تجاوز من زمن بعيد المرحلة التي تتوهَّج فيها هذه الاهتمامات (والتي كان يجري خلالها مقارنة الأحجام والأشكال والملامس في ملاعب المدرسة ودورات مياهها، وربما تطوَّر الأمر إلى أشكالٍ من المساعدات المتبادلة، اختفت الآن تمامًا من ذاكرته بفضل طول مقامه بين الفخذَين الشرعيَّين).
ومع ذلك توطَّدت العلاقة بين الرجلَين — رغم فارق السن الذي يبلغ عقدًا ونصف عقد — بحكم الاتفاق في المشارب والاهتمامات؛ فإذا كانت الظروف لم تسمح لعبد المجيد — كما سمحت لذات — بالتملِّي من كامل بهاء الفخذَين اللذَين يحوزهما الشنقيطي، فإن القليل الذي لمحه عبد المجيد منهما في المناسبات المختلفة (وخاصةً الفترة التي قضاها راقدًا على ظهره بعد أن كُسرت ساقه عندما انزلق فوق أرضية المطبخ المسرمكة)، كان كافيًا لإثارة اهتمامٍ تغذَّى على أجنحة الخيال (وهو أمر لم يَغِب عن فطنة ذات وأثار لديها مشاعر مختلطةً يمكن تسميتها بالغيرة المركبة أو المتعدِّدة الأطراف، أو باستخدام المصطلحات الدقيقة: الغيرة عبر الأطراف).
إلى جانب ذلك، كان الاتفاق تامًّا بين الرجلَين فيما يتعلَّق بالأمور العامة؛ فقد رحَّبا سويًّا بالسلام وكامب ديفيد، واشتركا في توجيه اللعنات إلى الاشتراكية وعبد الناصر والعروبة وفلسطين والسوفييت، وفي الشكوى من الأسعار والمدارس والمواصلات، وفي استعراض سلبيات مشاريع الدواجن والتاكسي، وفي تقديم الحلول الناجحة لمسابقات الفوازير، وفي عدم الفوز بجوائزها.
الرغبة في مدِّ الجسور ودعمها دفعتهما إلى التدرُّج في فنون المسامرة. وكانت المبادأة من نصيب الشنقيطي الذي قضى خدمته العسكرية في التدرُّب على إقامة الكباري، فبادر عبدَ المجيد ذات مساء بكلمة السر المصرية الصميمة: «سمعت آخر نكتة؟» أجاب عبد المجيد في اهتمام مصطنع: «لا. إيه؟» قال الشنقيطي في أناة مكَّنته من تذكُّر التفاصيل التي تدرَّب طول اليوم على حفظها وإلقائها: «واحد كان يشرب خمرًا فسأله صديقه لماذا تشرب؟ أجاب: لكي أنسى. سأله: تنسى إيه؟ فكَّر الآخر قليلًا، ثم قال: مش فاكر.»
انفجر عبد المجيد ضاحكًا وعاد في اليوم التالي من البنك بكلمة سر مماثلة: «واحد اسمه حمار زهق من اسمه فغيَّره، وذهب إلى صديق له سعيدًا: مش أنا غيرت اسمي؟ قال الصديق: مبروك. خليته إيه؟ أجاب: سمكة. سأله الصديق مستغربًا: تعرف تعوم؟ قال: لا. قال الصديق: تبقى حمار.»
انفجر الشنقيطي ضاحكًا، بل وضرب فخذَيه براحتَيه، مفتتحًا فترةً من ضرب الأفخاذ لم تستمرَّ طويلًا؛ إذ سرعان ما نضب المعين الذي نهلا منه؛ فالتقدُّم التكنولوجي الذي حقَّقه المصريون أدَّى إلى تراجع قدراتهم الإبداعية في المجال الوحيد الذي تميَّزوا به تاريخيًّا على سائر الأمم، وقلَّ عطاؤهم بالتدريج كمًّا وكيفًا، إلى أن استنفدوا تيماته المحدودة؛ السياسية (البقرة الضاحكة)، والطائفية (الصعايدة).
الزوجتان الراغبتان في الانفراد للبت في أمور بالغة الخصوصية، أجبرتا الرجلَين على تطوير ماكينتَيهما، ومرةً أخرى كانت المبادأة من نصيب الشنقيطي الذي لم يجد من سبيل لملء الثغرات في بثِّه — دون التطرُّق إلى حياته السابقة في ميت غمر — إلا بالاغتراف من تاريخه العسكري: «(بأسًى) بدلًا من سنة التجنيد المألوفة وقعت في حرب الاستنزاف. سبع سنوات ضاعت من حياتي في خنادق القناة من منتصف ١٩٦٧ — بعد الهزيمة مباشرةً حتى أكتوبر ١٩٧٤ — بعد النصر مباشرة. (بحماس) عندما حلَّت ساعة الصفر يوم ٦ أكتوبر كنا قد أصبحنا مثل الياي المضغوط المنكمش المستعد تمامًا للامتداد. الكل متحفِّز. الجميع متفائلون؛ فلأول مرة نأخذ المبادأة بعد تدريب وإعداد، وفي الساعة الثانية ودقيقتَين، قبل ساعة الصفر ﺑ ١٨ دقيقة، مرَّت من فوق رءوسنا أربع طائرات ميج ٢١ منخفضة جدًّا، فوق الأرض تقريبًا، عبرت القناة نحو الشرق، ودوَّت صيحتنا فوق القناة كلها: الله أكبر. بعد كده هدرت المدفعية، وبدأ نفخ القوارب وإعداد الكباري. بعد ساعة واحدة كُنَّا على الضفة الشرقية، وبعد خمس ساعات كُنَّا حطَّمنا خط بارليف الشهير الذي تكلَّف مليارَين دولار، واعتبره الإسرائيليون خطًّا أبديًّا. (ضاحكًا) فاجأنا إسرائيل من غير كيلوت زي ما قالوا. (باعتزاز) المهندسون كانوا عصب كل شيء؛ فك الكباري وتركيبها، فتح الثغرات في حقول الألغام وفي السواتر الترابية، فتحنا ٤٤ ثغرةً في الساتر الترابي الهائل لخط بارليف.»
لم يلتقط الشنقيطي النكتة التي حاول عبد المجيد صياغتها، مجرِّبًا قدرته الإبداعية لأول مرة، عندما أشار إلى ثغرة الدفرسوار باعتبارها إحدى الثغرات التي ساهم الشنقيطي في فتحها، غير أنه وجد فيها فرصةً لنكتة من طراز آخر: «القائد المسئول كان سليط اللسان، وكانت عنده خطة لإغلاق الثغرة، لكن قائده الأعلى الذي كان يتميَّز بمؤخِّرة ضخمة للغاية رفضها، فصاح به الأول في التليفون بصوت سمعه الجميع: أظن ناوي تقفلها بطيزك؟» (ها نحن قد قلناها).
تلمَّس عبد المجيد طريقه إلى نكتة أخرى: «والملائكة؟ شفتها؟ كانت تقاتل معكم في لباس أبيض؟»
هزَّ الشنقيطي رأسه نفيًا (فلم يكن قد وقع بعدُ في براثن الشيخ سلامة): «لم نكن في حاجة إليها. كان الجنود يهاجمون دبابات العدو بأيديهم وأجسامهم. هل تذكر عبد العاطي وبيومي؟ في يوم واحد أصاب كلٌّ منهما ١١ دبابة. هل تذكر سعيد خطاب الذي تطوَّع ليوقف تقدُّم دبابات العدو فألقى بنفسه أمامها ومعه أربعة ألغام، ونجح في تعطيلها باللغم الذي انفجر في جسمه والدبابة؟ واحد آخر رأيته بنفسي .. عريف اسمه السيد الشحات، وغيره، وغيره. (بانفعال) كان هجومنا صاعقًا حطَّم أسطورة التفوُّق الإسرائيلي. رأيت بعينَي الدبابات الإسرائيلية تدور حول بعضها في فوضى وتصطدم ببعضها البعض، ورأيت جنودهم يجرون أمامنا في رعب، ورأيت هجماتهم تتحطَّم وترتَدُّ حاسرة. (بأسًى) كان بإمكاننا أن نُلحق بهم هزيمةً ساحقةً تهدِّد وجودهم في الأساس. (برصانة) لكن أمريكا أنجدتهم، زوَّدتهم بالطائرات والدبابات والصواريخ والقنابل التليفزيونية والمنزلقة ومعِدَّات التدخُّل الإلكتروني وصور الأقمار الصناعية.»
كشفت المسامرة العسكرية عن وجه آخر من أوجه التقارب بين الرجلَين، هو فهمهما الواقعي لحقائق الحياة، وما يتحلَّيان به من تسامح وسعةٍ في الصدر والأفق (فضلًا عن أماكن أخرى). تجلَّيا عندما جاء ذِكر الولايات المتحدة، وكان من الممكن لعلاقتهما أن تزداد تعمُّقًا لو أسعفتهما اللغة الإنجليزية؛ فقد حصل الشنقيطي من مضيف جوي في مصر للطيران (خط نيويورك) على كتاب بهذه اللغة، تضمَّن رسومًا أجرت الدماء في عروقه، لا بسبب ما اتسمت به من إباحية، وإنما لأنها صوَّرت رجلًا يضرب معشوقته العارية بالسياط في أماكن مختلفة من جسدها.
لماذا (التأثير لا الضرب)؟ الإجابة تتطلَّب معرفةً عميقةً بالسيكولوجيا، لا يتبقَّى أمامنا من دونها سوى السطح البارز؛ فبسبب النزيف المتكرِّر، دأبت سميحة على التهرُّب ممَّا كان الشنقيطي (ومعه عامة الفقهاء والأطباء ومحرِّرو رسائل القُرَّاء) يُعلون منزلته بإضفاء صفة الواجب المقدَّس عليه.
حمل الشنقيطي الكتاب إلى منزله، وعكف على محاولة اجتلاء النص المكتوب بلغةٍ لم يَعُد يذكر شيئًا من مفرداتها بسبب السنوات التي ضاعت منه في حرب الاستنزاف. وكان هذا شأن سميحة التي خفَّت إلى معاونته بعد أن أثارت الرسوم قلقها المشروع، فلم تتذكَّر شيئًا من إنجليزيتها (بسبب السنوات التي أضاعتها في محاولة تعلُّمها). ولمَّا كان من الصعب على الشنقيطي أن يُقر بعجزه في مواجهة جاره، تعيَّن على سميحة أن تحمل الكتاب إلى ذات، وهذه عرضته بدورها على عبد المجيد أوف كورس.
اعتقدت ذات في البداية أن عبد المجيد مُعرض عن الكتاب بسبب ما به من عهر، ثم اكتشفت بالتدريج أن الأمر مرتبط بما ضاع منه في حروب استنزافه العديدة، وظلَّ الكتاب مغلقًا دونهم، فضاعت بذلك فرصة توثيق العلاقات بين الرجلَين، وربما بين الأسرتَين، وعلى الأقل بين أفراد كل أسرة على حِدة، وهي الفرصة التي سنحت بعد قليل — لحسن الحظ — بفضل عُشَّاق سميحة.
فسميحة هي الأخرى كانت تتلقَّى زياراتٍ ليليةً وإن اقتصر زُوَّارها على نجوم السينما المصرية، وعندما فتح الله على الشنقيطي تفتَّحت شهيتها للزيارات النهارية. هكذا تلقَّت ذات الدعوة لتتفرَّج على الشنقيطي وهو يقوم بتوصيل جهاز الفيديو بالتليفزيون، وفي نفس الليلة قام بزيارة سرية خاطفة لذات، وفي اليوم التالي صحبت ذات عبد المجيد، في زيارة رسمية للجارَين؛ للتهنئة والفرجة على عُشَّاق سميحة في الفيلم الذي استعارته من نادي الفيديو القريب، وحملته طول الطريق بأطراف أصابعها؛ حتى يسهل أرجحته أمام العيون المطلَّة من النوافذ والشرفات، تحقيقًا لشروط الإشهار العلني في هذه الحالات.
لزم عبد المجيد الصمت في الأيام التالية، منزويًا أمام تليفزيونه، في روبه الصوفي (الذي حال نسيجه بعض الشيء عند المرفقَين)، وإلى جواره علبة السجائر السوبر، وابنتاه (فعندما لم تحقِّق «دعاء» المطلوب منها؛ أشفعها ﺑ «ابتهال»)، بينما ذات في شقة سميحة تتفرَّج على عُشَّاقها، وبين الواحد والآخر تأتي لمتابعة ابنتَيها أثناء أدائهما لواجباتهما التليفزيونية، وكان الشنقيطي هو الذي أخرجه من صمته وانزوائه.
فقد وجد الأخير في الفيديو فرصةً لتعويض بعض ما فقده في حرب الاستنزاف؛ عن طريق الأفلام إياها التي تتميَّز لغتها البصرية بوضوح يُغني عن لغتها المنطوقة. ومن هنا كان الْتجاؤه إلى جاره، لا من أجل العرض الجماعي لأحد هذه الأفلام (لو كان هذا قد حدث لمضت التطوُّرات في اتجاه آخر أقل مأساوية وأكثر تحضُّرًا)، وإنما من أجل عرض خاص، للذكور فقط.
لم يكن بوسع الشنقيطي أن يقبل عرضًا كهذا في شقته، تنزوي سميحة خلاله في غرفة النوم، بينما يجلس هو وجاره في الصالة يتفرَّجان (حتى مع إلغاء الصوت وهو أمر غير مستحب)، لكن كان بوسعه أن يتصوَّر وضعًا مماثلًا في شقة عبد المجيد بالرغم من وجود ذات وابنتَيها. ولأنه كان ينطلق من مركز قوة، كما كان عبد المجيد متلهِّفًا إلى تعويض ما فاته في حروب استنزافه، فإن هذا هو ما تمَّ التوصُّل إليه. وتحدَّدت ساعة الصفر بعد منتصف ليلة محايدة، وسط الأسبوع.
فبعد أن اطمأنَّ عبد المجيد إلى استغراق ابنتَيه في النوم، وأنصت إلى شخير ذات المنتظم، فتح باب شقته في هدوء، وطرق باب جاره، الذي استجاب في الحال. وتعاون الاثنان على نقل جهاز الفيديو إلى شقة عبد المجيد وتوصيله بالتليفزيون. وبعد تجارِب عديدة تمَّ التوصُّل إلى درجة الصوت المناسبة والكفيلة بعدم إيقاظ النائمات.
كانت التجرِبة مثيرةً وتثقيفيةً في آنٍ؛ فعندما انتهى العرض وتعاون الرجلان على إعادة الجهاز إلى شقة الشنقيطي، أطفأ عبد المجيد الأنوار وتأكَّد من إغلاق النوافذ وصنبور الغاز، ودون أن يعبأ بغسل أسنانه، هُرع إلى غرفة النوم المظلمة وإلى زوجته النائمة.
وقف بالقرب من رأسها يُنصت إلى صوت تنفُّسها المنتظم، وعندما ألفت عيناه الظلام تبيَّن عينَيها المغمضتَين. لكنها لم تكن نائمة.
وُهبت بعض الكائنات الضعيفة قدراتٍ حسيةً متباينةً تعوِّض بها مواضع النقص لديها. وكانت ذات على غِرار هذه الكائنات؛ فهي تتمتَّع بحاسة سمع مرهفة بالنسبة لأصوات التردُّد المنخفض، تزداد إرهافًا بعد منتصف الليل، عندما تخفت أصوات التردُّد المرتفع (الصادرة من الباعة الجائلين، والأولاد اللاعبين، والشيوخ المؤذِّنين، والسائقين المزمِّرين، والسكان المتصايحين)؛ ولهذا فشلت التحرُّكات المرتبطة بلم شمل الفيديو على التليفزيون في إيقاظها من سباتها، بينما نجحت التأوُّهات الخافتة التي تلتها في ذلك.
بالإضافة إلى السمع المرهف، كانت ذات تتمتَّع بنفاذ البصيرة؛ ولهذا لم يكد العرض ينتهي، ويغادر الشنقيطي الشقة بجهازه، ويقترب عبد المجيد من مكانها حتى تظاهرت بالاستغراق في النوم.
تدرَّجت محاولات عبد المجيد لإيقاظ زوجته من فتح النافذة ثم إغلاقها، إلى التعثُّر في ساقَيها أثناء صعوده إلى الفراش ليحتلَّ مكانه المعهود إلى جوار الحائط، ومن جذب الغطاء المشترك من فوقها ليندرج تحت لوائه، إلى الارتطام عفوًا بأَليتها المتضخِّمة. وعندما فشلت كل هذه المحاولات انتقل إلى الوسائل المباشرة؛ فأحاطها بذراعه محاولًا تقبيلها، لكن شفتَيه لم تتمكَّنا من لمسها؛ إذ انغرز في حاجبه الطرف المدبَّب لأحد المسامير البلاستيكية البارزة من بكر شعرها، فاشتعل غضبه وقرَّر أن يأخذها عنوة، وهنا لم تجد ذات بُدًّا من الاستيقاظ.
الْتجأت ذات أول الأمر إلى الحجج المعهودة في الترسانة النسائية (والرجالية أيضًا في الواقع) من التعب والصداع، إلى الأطفال والوقت المتأخِّر، لكن عبد المجيد ازداد تصميمًا، فلم يعد أمامها سوى الاستسلام. ولأنها لم تشأ لتضحيتها أن تذهب هباءً، وأيضًا كي تسهِّل له الأمر، وتُجنِّب نفسها أية مضاعفات، فقد استنجدت بالفيديو الداخلي، وقامت بمونتاج خلَّاق حقًّا من الفيديو المجاور، تداخلت فيه مشاهد القبلات المستهيمة في أفلام الستينيات العربية، مع لقطات مكبرة (كلوز أب) للنتوء الرجالي (دون أن تغفل الاستعانة — خلسة — بالآخر المبتور)، وفي صحبة موسيقى تصويرية من الأصوات التي الْتقطَتها بسمعها المرهف، وبذلك أمكنها أن تُحقِّق درجةً من المشاركة سمحت لعبد المجيد أن يبدأ العرض، الذي احتملته في صبر المرأة المعهود. ولم تَطُل معاناتها؛ لأن عبد المجيد، في غضبه وانفعاله، كان سبَّاقًا إلى تيتر النهائية. نفس ما وصل إليه الشنقيطي مع بعض الفوارق التقنية البسيطة.
سميحة كانت غارقة، حقًّا، في النوم بين أحضان عُشَّاقها، وكانت صغيرة السن، غير مقدِّرة للعواقب؛ ممَّا أمَدَّها بجُرأة تفتقد ذات إليها. فما إن حاول الشنقيطي إيقاظها، وقد جثم فوقها كالثور، حتى صرخت فيه بحِدة: «نام يا وجدي.» واستدارت فوق جانبها جاذبةً الغطاء فوقها، فتدحرج بعيدًا عنها دون أن يفقد وضعه المتحفِّز.
استسلمت سميحة لعُشَّاقها، بينما جثم زوجها إلى جوارها يتملَّى خطوته التالية. كان يعرف من حرب الاستنزاف أن فتح الثغرات يتطلَّب أن يكون المهاجم في وضعٍ دفاعي، ومسيطرًا على مواجهات واسعة، ثم يركِّز هجومه على مواجهة صغيرة إلى أن تنضم إليه وحدات دعم، لكنه كان في وضع هجومي وليس دفاعيًّا، ولم يكن مسيطرًا على أي مواجهات، ولا يتوقَّع دعمًا من أي وحدات؛ لهذا لم يبقَ أمامه سوى الانسحاب. وكان الانسحاب تكتيكيًّا، لا يعني التخَلِّي عن الهدف الاستراتيجي.
مضى إلى المطبخ فأعد لنفسه كوبًا كبيرةً من القهوة، حملها إلى الصالة ووضعها على مسند المقعد الوثير المواجه للتليفزيون، ووضع علبة السجائر إلى جوارها، ثم أعاد الشريط إياه إلى بدايته، وحرَّك المقعد قليلًا بحيث يكون قادرًا على رؤية سميحة إذا ما غادرت غرفتها إلى الحَمَّام، ثم أدار الشريط واستقرَّ في المقعد وبدأ يعتمد على نفسه.
تكرَّرت العروض الفيلمية، وتكرَّر انسحاب الشنقيطي واعتماده على نفسه، كما تقاعست ذات عن المشاركة ولو في مرحلة الاستهلال؛ ولهذا فسرعان ما لحق عبد المجيد بجاره، فما إن ينتهي العرض، ويعود كلٌّ منهما إلى موقعه حتى يُعِد الشنقيطي كوب القهوة ويضعه إلى جوار علبة السوبر، بينما يكون عبد المجيد قد حذا حذوه، وجلس على بعد خطوات، موليًا ظهره لظهر جاره، لا يحول بينهما سوى الحائط الفاصل بين الشقتَين، ثم يُدير كلٌّ منهما جهاز الفيديو الخاص به، ويبدأ في الاعتماد على نفسه.
وسواء تمَّ الأمر بالتليباثي أو بدونه، فإن تكنيك «الانسحاب والاعتماد على النفس» انتشر بين سُكَّان العمارة من الجنسَين، ومختلِف الأعمار (ابتداءً من سن المراهقة بالطبع)؛ فما إن ينتهي البث التليفزيوني الرسمي بعد منتصف الليل حتى يكرِّسوا أنفسهم له، ويَبرزون من شققهم في الصباح بعيون محمرَّة ووجوه متجهِّمة، وأعصاب مشدودة؛ ذلك أن التكنيك الجديد لم يكن مشبعًا تمامًا، وخاصةً بالنسبة للأزواج والزوجات الذين طالت إقامتهم بين الأفخاذ الشرعية؛ فقد تلوَّنت مشاعر هؤلاء وأحاسيسهم بحيث صاروا يفتقدون حرارة المشاركة ولو كانت سلبية، وهو ما يجعلنا نفهم سلوك كلٍّ من عبد المجيد وذات يوم حادثة سنجر.
في ذلك اليوم كان عبد المجيد واقعًا تحت ضغط شديد مبعثه أمران متباعدان لا رابطة بينهما (كالعادة في هذه الأحوال)؛ أولهما خاص بسيرة عبد الرحيم مبروك، والثاني يتعلَّق بوديعة نفيسة أبو حسين.
فمنذ بعض الوقت أصبح الموضوع اليومي للبت بين أقران عبد المجيد هو فضيحة البنك الذي قام بتهريب أكثر من نصف مليار دولار (٦٠٠ مليون دولار) إلى الخارج تحت سمع السلطات وبصرها، بل وبموافقةٍ رسمية من البنك المركزي. وتداول العاملون بالطبع الشائعات المتناثرة عن السيرة الشخصية لعبد الرحيم مبروك، مدير البنك المفضوح، والتي لم يُعِرها عبد المجيد اهتمامًا إلى أن قرأها بعينَيه هذا الصباح في إحدى صحف المعارضة.
تخرَّج عبد الرحيم مبروك من كلية التجارة عام ١٩٧١، والْتحق بالجيش ضابطًا احتياطيًّا، مشاركًا بذلك في حرب الاستنزاف الأولى، حتى عام ١٩٧٥ عندما الْتحق بالبنك الأهلي ليشارك في حرب الاستنزاف الثانية، مقابل خمسين جنيهًا في الشهر، ارتفعت فجأةً إلى مائتَين عندما انتقل إلى البنك العربي المحدود، حيث تعرَّف على الأردني حليم السلفيتي، الذي كان يحتكر عمليات تصدير البنكنوت الأجنبي (اسم الشفرة لعمليات تهريب النقد للخارج بصورة رسمية). وفي عام ١٩٨١ انتقل إلى البنك المفضوح مديرًا عامًّا بمرتب ٢٠٠٠ دولار شهريًّا (ألفَي دولار شهريًّا) تصل إلى الضعف بعد إضافة البدلات والحوافز. وبعد الفضيحة انتقل إلى بنك هونج كونج (الذي يرأسه الدكتور حامد السايح) بمرتب ٣٨٠٠ في الشهر عدا البدلات والحوافز.
أجرى عبد المجيد المقارنات الضرورية مستعينًا بحرفَي «لو» (دون أن يُغفل الدور الذي لعبه عم لعبد الرحيم كان وزيرًا للري ثم رئيسًا لبنك المهندس)، واستخلص النتائج الطبيعية بصحبة فنجان قهوة وسيجارة، وعندئذٍ طلب منه رئيسه البيانات الخاصة بوديعة نفيسة أبو حسين.
استخرج عبد المجيد أوراق الوديعة المحرَّرة بواسطة أبو حسين نفسه، والمحوَّلة من بنك الرافدَين العراقي، وراجع بياناتها، ثم قام بالمقارنات الطبيعية (بمصاحبة الحرفَين العتيدَين)، ولم يكد يشرع في استخلاص النتائج الضرورية حتى فرضَت عليه نفيسة أبو حسين بنفسها مقارناتٍ ونتائج من نوع آخر.
مثلَت أمامه بالصورة التي توقَّعها؛ عطر أجنبي أخَّاذ، فستان من قماش ثمين ذي ألوان متناسقة (لم يستبعد أن ينتهي من أسفل بشبشب زنوبة)، وجه أبيض (البياض التركي المشرب بالحمرة وليس الأوروبي الشاحب) تحيط به طرحة سوداء رقيقة، وتُطل منه عينان خجولتان تتجنَّبان الاصطدام بعيون الآخرين، بالإضافة إلى ذلك كان ثمة ما لم يتوقَّعه.
محركات الشهوة لدى عبد المجيد أثناء العمل لم تتأثَّر بالحواجز العديدة التي أُقيمت في وجهها؛ فالسواتر الأمامية التي أُضيفت إلى المكاتب، لتحول دون الإطلال على سيقان الجالسات خلفها، تمَّ تعويضها في حينها بفتحات الصدور الواسعة، وثورة الحجاب التي انتشرت بين العاملات انتشار النار في الهشيم حتى انضوت المسيحيات تحت لوائها، عوَّضت بتكديس متعمَّد للمكاتب في مساحة ضيقة تسمح بما هو أكثر جدوى من الإطلال، ونقصد بذلك الاحتكاك بالحواف والزوايا البارزة، لكن كل هذا يمكن وضعه في كوم، وما أطلَّ عليه عبد المجيد في وجه نفيسة أبو حسين في كوم آخر.
فالصدمة الكبرى التي تلقَّاها عبد المجيد في مطلع حياته الزوجية لم تكن قاصرةً على سلامة البضاعة، وإنما شملت أيضًا عزوفها عن ممارسات مُعيَّنة في الحلال، وبالتحديد أشكال من الرضاعة الشرعية لا تحتاج إلى مجهود كبير، تعلَّمها في المقاعد الخلفية لسينما أوديون أيام أن كانت متخصِّصةً في عرض الأفلام الروسية، ممَّا تمخَّض عن أشكال مبتكرة لتمضية الوقت؛ لهذا بوسعنا أن نتصوَّر الضغط الذي تعرَّض له عبد المجيد، العائد لتوِّه من رحلة الحرفَين العتيدَين، وقد ألفى نفسه مطلًّا على ثغرة ذات ضفتَين عريضتَين، ناعمتَين، مكتنزتَين، صبغهما أصبع الروج الداعر بلون الدم القاني.
في مساء نفس اليوم جلس عبد المجيد أمام التليفزيون يتابع مباراة كرة بغير تركيز نتيجة الضغط الذي كان يعانيه، بينما وزَّعت ذات اهتمامها بين مشاركة ابتهال في حفظ آية قرآنية والانفراد بكَي زِيِّها المدرسي، في ضجة صاخبة مبعثها الجغرافيا؛ فبسبب عطل المقبس الكهربائي في غرفة البنتَين، أقامت ذات طاولة الكي في الصالة، بينما احتفظت ابتهال بموقعها أمام طاولة الدرس في غرفتها، وجرى الحوار بين الاثنتَين عبر باب الغرفة المفتوح، وبمشاركة نَشِطة من دعاء، ودعمٍ قوي من باعة الفول وحب العزيز وغزل البنات.
انتهى الحفظ والكي، فتولَّت ذات، كالعادة، إعداد العشاء وهي تستمع شاردةً إلى ثرثرة ابنتَيها، حتى احترق منها رغيف الخبز أثناء تسخينه. وبعد العشاء جاء دور الاغتسال، والشكوى من حنفية الحمام، ومن نفاد معجون الأسنان. وأخيرًا توارت البنتان في غرفتهما، وساد الهدوء، وبطرف عينه رأى عبد المجيد زوجته تنقل طاولة الفورمايكا الصغيرة إلى مدخل البلكونة، ثم ترفع ماكينة الحياكة من مكانها في الركن، وتضعها فوق الطاولة، ثم تَجُر كرسيًّا وتقتعده وتبدأ في تشغيلها.
لم تكن الحياكة التي من هذا النوع تتفق والسيناريو الذي أعَده عبد المجيد في رأسه للسهرة. وعندما قامت ذات لتُعِد كوبًا من الشاي، كان الضغط الذي يُعانيه قد صعد من أسفل إلى أعلى، وهدَّده بالاختناق، فقام إلى البلكونة ليستنشق الهواء النقي، وكان لا بد وأن يزيح طاولة الفورمايكا من مكانها، وقد فعل ذلك بعصبية أدَّت إلى انزلاق سنجر إلى الأرض.
جاءت ذات مسرعةً من المطبخ على الصوت، ووقفت مبهوتةً أمام المنظر الذي طالعها، وكان عبد المجيد قد هرب من الموقف إلى البلكونة وقد اشتعل غضبه؛ على سنجر لأنها وقعت، وعلى نفسه لأنه لم يتوخَّ الحذر، وعلى ذات لأنها السبب في الأمر كله.
تقدَّمت ذات من الماكينة وانحنت فوقها تتلمَّس ما أصابها، ثم ارتمت على المقعد، وانفجرت بالبكاء.
لم تُصَب الماكينة بأذًى، فيما عدا طيران الغطاء البلاستيكي الصغير لمخزن الإبر والخيوط، وتناثره أشلاءً فوق الأرض. هل يكفي هذا لتنشيط الغدد الدمعية لدى شخص حسَّاس مثل ذات؟ بالطبع، ولا يمنع أيضًا من وجود أسباب أخرى.
على عكس زوجها، لم تكن لمحرِّكات الشهوة علاقة مباشرة بالأمر، بفضل انتظام الزيارات الليلية وتزايد عددها في الآونة الأخيرة، فذات كان لديها محرِّكات من نوع آخر.
فتكنيك «المشاركة بالمادة المصنوعة» الذي الْتجأت إليه في تعاملها مع ماكينات الأرشيف، وحقَّق نجاحًا لا بأس به في البداية، فقد فاعليته بمرور الوقت؛ ذلك أنه كان بطبيعته محدودًا، لا يسمح بكثير من التجديد والابتكار، كما أن الماكينات الشرهة، التي لا تتوقَّف فتحاتها عن الحركة بثًّا ومضغًا وابتلاعًا، لم تستطع صبرًا على طريقة ذات في البث، فعندما شعرت هذه بأن الفرص المتاحة لها في انكماش مستمر، أخذت تتعمَّد الإطالة بقدر ما تستطيع، عن طريق المقدِّمات المستفيضة، وألوان التشويق الأخرى التي تعلَّمتها من المسلسلات التليفزيونية العربية. وبالإضافة إلى هذا، كانت ذات عاجزة، بطبيعة الحال، عن المساهمة في الموضوعات المفضَّلة لدى الماكينات؛ وهي مشاكل السيارات، والفروق الدقيقة بين أكثر من أربعين نوعًا منها تجري في شوارع القاهرة، والسرمكة والمدارس الأجنبية وأسواق الخليج (الحرة وغير الحرة)، وعقود العمل في الخارج، وشرائط الفيديو، إلخ. هكذا تدحرجت بالتدريج من خطوط البث إلى خطوط التلقِّي.
وبالتدريج أيضًا بدأت توقن أن الماكينات تتجاهلها عن عمد، فتتجنَّب توجيه تحية الصباح إليها، وتتناسى دعوتها إلى الشاي المشترك، وتتغافل عن أخذ رأيها في أمور العمل. ولم تلبث أن وصلت إلى قناعة محدَّدة بوجود مقاطعة منظمة ضدها. لماذا؟
ظنت في البداية أن السبب هو جمال عبد الناصر، فكفَّت عن الإشارة إليه في أحاديثها (وإن كانت لم تتمكَّن من وقف زياراته)، وأعادت شرائط عبد الحليم حافظ إلى منزلها (وكانت قد اشترت أغانيه الوطنية، المرتبطة بذكريات طفولتها، عندما سُمح بتداولها إثر مقتل السادات بعد أن كانت ممنوعةً في عهده، وأحضرتها إلى الأرشيف لتتسلَّى بالاستماع إليها على مُسجِّلة وجه الأرنب، ولتجعل منها ومن الذكريات المرتبطة بها موضوعًا للبث)، بل وأخفتها في ركن قَصِي من خزانة الملابس بعيدًا عن متناول ابنتَيها، اللتَين ما كانتا تحفلان بمثل هذه الأغاني البالية على أية حال، لكن المقاطعة لم تتوقَّف.
وفي أحد الأيام انضمَّت إليهن زميلة جديدة تُدعى نادية، ضئيلة الحجم، ضامرة، منطوية على نفسها وخجولة، بدا كأنها جاءت مطرودةً من قسم آخر مثل ذات، فتعاطفت معها، وأخذت على عاتقها تعريفها بواجباتها غير الواضحة، واندفعت في هذه المهمة بحماس، وقد وجدت فيها متلقيًا صاغرًا صابرًا لإعادة من شرائط البث القديمة ففاتها أن تلحظ المقاطعة الفعلية التي تعرَّضت لها صديقتها الجديدة. واكتشفت الأمر عندما تغيَّبت نادية مرة، فأرادت أن توقِّع باسمها في دفتر الحضور، كما جرت العادة التضامنية بين العاملين، وإذا بوجه الأرنب تنفجر فيها وقد ارتفع حاجباها المزجَّجان: «مبقاش إلا المسيحية دي كمان نمضيلها!»
ذات الطيبة السمحة كانت ابنةً مخلصةً لثورة جمال عبد الناصر، تربَّت على أنَّ البشر متساوون، لا يفرِّقهم دين أو جنس أو مال أو جاه أو منصب؛ لهذا فاتها أن تتقصَّى لقب نادية لتتعرَّف على هُويتها، وهو الأمر الذي لم تُغفله الماكينات اليقظة. ولكي تكفِّر عن خطئها أقبلت تُراجع قناعاتها، وتستعيد في ذهنها صور المسيحيين الذين عرفتهم؛ أشكالهم الخارجية، ملابسهم، لهجتهم، أنواع أكلهم وشرابهم، تصرُّفاتهم؛ بحثًا عن سِر هذا الإجماع الغريب ضدهم. لم تجد غير وشم أخضر برسم الصليب في باطن الرسغ الأيسر لنادية، وصليب ذهبي يتأرجح بين ثديَي إحدى المحرِّرات، وتمثال برونزي للعذراء يستخدمه أمينوفيس في حماية أوراق موسوعته، لكنها كانت جبانة، فكفَّت عن زيارة أمينوفيس في مكتبه، وقاطعت نادية.
لم تتقبَّل الماكينات، فيما يبدو، القُربان المسيحي، واستولى القنوط على ذات عندما فشلت في إدراك سِر الاضطهاد الذي تتعرَّض له، وضاعف من يأسها أن المقاطعة لم يكن لها منطق؛ فقد كانت تخف أحيانًا وتتلاشى كما حدث أثناء الصعود الظافر لألواح السيراميك فوق جدران مطبخها، وعندما نجحت دعاء في امتحان الإعدادية، وفي أحيان أخرى تشتد وتتعاظم. عندما توقَّفت السرمكة قبل بلوغ السقف، وعندما رسبت ابتهال في الابتدائية، وإثر الْتحاق سميحة بالمسيرة، وحصولها على الفيديو، وعقب أن ثبَّت موظف الزراعة الإنتركوم على باب شقته، وأضاف مدرِّس الكويت جهاز تكييف جديد إلى مجموعته، واستبدل ضابط الجيش سيارته اﻟ ١٣١ القديمة بواحدة مازدا على الصفر، وفي كل يوم تتخلَّص فيه مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة، من علب الكباب والجاتوه الضخمة. باختصار، كانت هناك علاقة خفية بين اشتداد المقاطعة ونوبات البكاء التي تنتابها.
العلاقات الخفية في قصة ذات لا تنتهي؛ فعندما خرج عبد المجيد من ملجئه في البلكونة ورآها تبكي؛ انفثأ غضبه، واشتعلت مكانه المشاعر إياها، المرتبطة بليلة الدخلة الباكية، فتقدَّم منها ومدَّ ساعدَيه ليحتضنها، فإذا بها تصيح في وجهه لأول مرة في حياتها: «ما تلمسنيش!»
لم يخطر على بال سنجر عندما اخترع ماكينته أكثر من تسهيل مهمة الحياكة على المرأة، لكن الماكينة الملقاة على جانبها فوق الأرض مكَّنت ذات ممَّا هو أكثر أهمية؛ التعبير عن النفس الذي تدرَّج من اتهام عبد المجيد بالهدم (بالنظر إلى سوابقه في كسر الأكواب الزجاجية، والطاجن المصنوع من الفخار، وطبق البايركس الذي كان جزءًا من عفش الزوجية، ومسئوليته عن ضياع البطانية التي تركها على حافة البلكونة فأطارها الهواء)، والتخريب (فلولاه لكانت أكملت تعليمها وصارت الآن صحفيةً أو مذيعة)، والأنانية (المتمثِّلة في اهتمامه بنفسه وأسرته وتجاهل احتياجاتها من أحذية وسيراميك وخلافه)، والبلادة (وإلا فبماذا يوصف تقاعسه عن السفر إلى الخارج لتحسين حياتهم التعسة؟)
سَيل منهمر من الاتهامات أصاب عبد المجيد بالذهول، لا من قِصر المسافة التي تقود من سنجر إلى هوفر (غسالة الملابس الكهربائية نصف الأوتوماتيكية التي تُقيِّد من يقوم بتشغيلها إلى جوارها على عكس زميلاتها كاملة الأوتوماتيكية الموجودة لدى زينب وفتحية وسميحة)، وإنما من ذاكرة ذات الحديدية؛ فهذه المرأة التي تعجز عن تذكُّر بضعة أسطر في جريدة الصباح إلا إذا تدرَّبت على حفظها، لا تتذكَّر فقط عدد الأكواب الزجاجية التي تسبَّب في تحطيمها، وإنما تفاصيل المناسبات التي تمَّ فيها ذلك، وما قاله بالحرف منذ خمس سنوات عندما كان يفك رباط حذائه، بل وما كان يفكِّر فيه آنذاك.
انسحب عبد المجيد (بغير اعتماد على النفس هذه المرة) إلى فِراشه، بينما الْتجأت ذات إلى المرحاض، وانقضت الأيام التالية في حوار صامت بين الاثنَين، يستعرض فيه كل طرف الحجج المدعِّمة لوجهة نظره، في انتظار الفرصة الملائمة لمواجهة الآخر بها، وهي الفرصة التي أتاحتها كارثة سيارة الرحلات.
ففي يوم الجمعة التالي نظَّمت مدرسة ابتهال رحلةً إلى منطقة الأهرامات وحديقة الحيوانات. وفي طريق العودة أراد سائق السيارة أن يختصر الطريق بعبور الخط الحديدي المتجه إلى المرج، من فتحة شقَّها المواطنون بأقدامهم المستقلَّة قبل سنوات (لأن المسافة بين كل معبر شرعي وآخر تصل إلى أربعة كيلومترات)، وأسمَوها (بسبب النتائج): مزلقان الموت. لكن القُمامة المكوَّمة في تلالٍ فوق القضبان، عاقت السيارة وعطَّلتها إلى أن أطاح القطار بها وبحياة سبعين طفلًا مرةً واحدة.
لم تشترك ابتهال في الرحلة بسبب ارتفاعٍ مفاجئ في درجة حرارتها؛ ولهذا لم تسمع ذات بالكارثة إلا صباح اليوم التالي في الأرشيف؛ إذ كان الحادث على رأس موضوعات البث، بعد أن نشرته الصحف تحت عنوان يطمئن فيه مأمور قسم مصر الجديدة الجمهور بأنه تمكَّن من السيطرة على الموقف وإزالة جميع المعوِّقات الخاصة بدفن الجثث. وأثناء عودتها إلى منزلها في نهاية اليوم شاهدت بنفسها أمهات الضحايا، القادمات من مساكن الحلمية والمطرية والزيتون والقبة، يزحفن مُولولات على مستشفى هليوبوليس، التي استقبلت بناتهن. ولم تكَد تبلغ منزلها حتى انفجرت في العويل هي الأخرى.
بعد توسُّلات عدة من جانب عبد المجيد أوضحت ذات أن عويلها ليس من باب التضامن مع أمهات الضحايا، وإنما لأنها هي نفسها كان من المفروض أن تكون من بينهن. أمَّا المسئول عن ذلك فهو عبد المجيد بالطبع؛ لأنه ترك ابنتَيه للمدارس الحكومية، ولم يلحقهما بمدارس اللغات، الأمر الذي سيحرمها أيضًا من الفرص التي يستمتع بها أبناء هناء ومنال وعفاف وزينب.
المواجهة الجديدة أتاحت لذات التلميح بغلطة العمر التي ارتكبتها، فضلًا عن تحديد الثوابت؛ أنها أضاعت عمرها في المطبخ وتربية البنتَين ورعاية عبد المجيد، وأن المهام العاجلة لا تتوقَّف على اللحاق بالمسيرة وإنما تتعدَّاها إلى الاستعداد من الآن لزواج البنتَين.
اختتم عبد المجيد دفاعًا تقليديًّا عن النفس بسؤال: «أعمل إيه؟ .. أسرق؟»
وردَّت ذات على الفور: «وما له؟ .. فيها إيه؟» ثم عالجته بسؤال آخر حسم الجولة (لأنه لم يتمكَّن من الإجابة عليه): لماذا لا يسافر مثل الآخرين للعمل في الخارج؟
انفضَّت جلسة الحوار بالْتجاء كلٍّ منهما إلى قاعدته؛ هو إلى الفراش وهي إلى المرحاض. وفوق حلقته البلاستيكية (التي فقدت إحدى مُفَصلَّتَيها في واحدة من عمليات عبد المجيد التخريبية) وجدت أن دموعها جفَّت، فشعرت بحاجة مُلِحة للبت، ولم يكن هناك من يصلح للتلقِّي سوى واحدة؛ سميحة لا، صفية.
٦
…
إن كل شيء في هذا العقد كُتب بحكمة وأمانة. وأقسم لكم غير حانث إنه عقد شريف كتبه الشرفاء. نهاية قولي: أيها الخجل أين حمرتك؟ والسلام عليكم (تصفيق).
الآن!
المصحف الشريف بالذهب على ورق البردي.
للحجز والسداد
وحدات سكنية، محلات تجارية،
أرضيات موكيت، واجهات ألومنيوم،
سيراميك، إنتركوم
قريبًا
واحة آسيد الخضراء
بأقل من سعر شقة.
محاكمة رئيس شركتَي «تريكونا ودقهلتكس للملابس» (ق.ع) بتهمتَي الرشوة والإضرار بمال الدولة.
ملابس شركة الإسماعيلية
تجدونها في المحلات الآتية في مصر:
استجواب في مجلس الشعب حول عدم توفُّر «السكر» في الأسواق.
مدير تموين الإسكندرية يصرف ٣٥٠٠ كيلو «سكر» لحلواني سعد زغلول الذي لا تزيد حصته عن ٢٤٠ كيلو.
أنا مصرية الجنسية مقيمة بالولايات المتحدة وقد جئت إلى مصر لقضاء بعض الوقت مع أهلي وأصدقائي، ولا أخفي عليك أني لمست تقدُّمًا كبيرًا في البرامج الثقافية في مصر. ومن أجمل ما رأيت برنامج تليفزيوني عن الأمراض التي يسبِّبها الإفراط في تناول «السكر» للشعب المصري، وقد حمدت الله لوجود هؤلاء العلماء العظماء، ونرجو في المرَّات القادمة عند قدومي إلى مصر أن أرى مزيدًا من تلك البرامج الثقافية لزيادة توعية الشعب المصري.
صحيفة «الشعب»: مجموعة من كِبار المسئولين السابقين والحاليين يستولَون على أراضي البحيرات المرة بأسعار زهيدة رغم أنها مملوكة للدولة وممنوع بيعها قانونًا وبها منطقة عسكرية.
الأحياء الشعبية في الإسكندرية تغرق في مياه المجاري بعد بدء تشغيل المرحلة الأولى من مشروع الصرف الصحي العاجل الذي رصدت له الدولة أكثر من ستين مليون جنيه. الأهالي يذهبون إلى المحافظ فيحتجز بعضهم ويأمر باعتقال البعض الآخر.
٧
استقبلتها رائحة العفونة المألوفة المنبعثة من الملَّاحات عند مشارف الإسكندرية، لكنها استمرَّت بل وتضاعفت كلما اقتربت السيارة البيجو برُكَّابها الثمانية (بزيادة واحد رفيع حشره السائق في المقعد الأمامي قائلًا في وداعة مصطنعة: بيت الحبايب يساع خلايق) من سُرة المدينة، وكانت في انتظارها عندما غادرت السيارة في سيدي جابر، وحفت بها وهي تسير إلى جوار شريط الترام، ثم تنتقل إلى الشوارع الجانبية الضيقة، خائضةً في أكوام القاذورات، غائصةً في أرضٍ رِخوة مطينة، وتلكَّأت معها في مدخل المنزل المتواضع، وصاحبتها على السلم الذي تكدَّست القُمامة فوق درجاته، ولفحت وجهها عندما فتحت لها صفية الباب.
صفية عباس، التي تكبرها بعدة سنوات، صاحبة الشفتَين الناعمتَين، اللتَين كان لهما مذاق سكري في أيام «أكتب إليك بالقلم الأحمر علامة الحب المشتعل»، والمواثيق المؤكدة بالصداقة الأبدية، التي تحقَّقت بدخول نفس الكلية، وأحلام الزواج من شقيقَين، والسكنى في شقتَين متجاورتَين، التي لم تتحقَّق؛ لأن الاثنتَين وقعتا، بالطبع، في غرام نفس الشخص؛ عزيز عبد الله، الشيوعي، زميل صفية في الصف الدراسي وضيف المعتقلات، الذي تزوَّجها بمجرَّد تخرُّجهما وانتقل بها إلى الإسكندرية، ممَّا دفع ذات إلى قَبول الزواج من عبد المجيد أوف كورس، مستريحةً إلى نجاتها من مصيرٍ محفوف بالخطر، ومكتفيةً بالزيارات السرية من عزيز، بصحبة صفية في أغلب الأحيان.
من خلال الأحضان، وبقبلات على الوجنات وحدها، تجنَّبت الشفاه، ليس هربًا من المذاق السكري، وإنما من روائح الطعمية التي الْتهمتها ذات في موقف أحمد حلمي، والتهاب اللِّثة المزمن الذي تعاني منه صفية، بدأ البث: «معقول. والله فيكي البركة. عرفتي ازاي؟»
– «عرفت إيه؟»
– «عصام.»
– «ما له؟»
– «جاي بكره.»
عصام شقيق صفية الأصغر، والرفيق الصغير — بالشورت — لأيام الدراسة، وحامل الرسائل الملتهبة في غيرهما.
«أخذ الليسانس والماجستير مع بعض.»
في ماذا؟ لا غير الفلسفة.
مناسبة أخرى لمزيد من قبلات الوجنات ولتأمُّل آثار الزمن؛ الخيوط البيضاء في الشعر الملموم، بشائر الجيوب أسفل العينَين، الثديَين المتهدِّلَين تحت الجلبية الكستور، بالإضافة إلى شيء آخر في نظرة العينَين أو مسحة الوجه أو لون البشرة، لا علاقة له بصفية القديمة، أو لعله الحركة البطيئة المتمهِّلة لمن كانت تمشي وكأنها تقفز.
التي جاءت تحكي كان عليها أن تستمع إلى قصة طويلة، مروية على طريقة الروايات السائدة؛ أي بالتفصيل الممل، الذي يتجنَّب كل ما هو جوهري، وبمساحة واسعة لأكاذيب صغيرة بدأت بنفس الإجابة (الحمد لله) عن كل سؤال، ثم انكمشت بالتدريج لحساب الحقائق؛ عزيز لم يَعُد صحيًّا كما كان من قبل، التردُّد المستمر على المعتقلات وأقسام الشرطة (آخر مرة عندما انفجرت مواسير المجاري في العيد) أصابه بالسكر والضغط، وبسبب عزيز فُصلت من عملها (العلاقات العامة) بشركة الكروم، وهناك قضية أمام المحاكم سيستغرق الفصل فيها عدة سنوات؛ ولهذا اضطُرَّت للعمل في التدريس، وحصلت على عقدٍ للعمل في السعودية، لكن عزيز غير موافق (رغم أنه من الممكن إيجاد عمل له هناك أيضًا)، والأولاد كبروا؛ آخر العنقود تريد أن تتعلَّم البيانو، ومصطفى يحتاج إلى دروس خصوصية، أمَّا الأكبر؛ عادل، فيطالب بسيارة يذهب بها إلى الجامعة («عندنا واحدة متهالكة ١٢٨، وأنت؟» بخجل: «لسه»)، ثم الشقة، انظري حولك.
كانت ذات قد نظرت حولها بالفعل عدة مرات، والْتقطت التفاصيل الضرورية؛ قروح الجدران، مفرش المشمَّع المتآكل فوق المائدة الخشبية المائلة والمزنوقة في الحائط كي لا تتهاوى، ثلاجة إيديال (٨ قدم) تقشَّرت زواياها، حُشرت حشرًا بين المائدة وباب الشقة. وبنظرة إضافية استجابةً إلى طلب صديقتها أحاطت بأباجورة مكسورة في الركن وستارة متربة من الدانتلَّا فوق شباك الصالة، تحت إشراف نظرة فاحصة من صاحبة المنزل، تتقصَّى أي أثر للشماتة والارتياح المتوقَّعَين، لكن ذات أخفت مشاعرها ببراعة، وبدافعٍ من إحساسها بالذنب عرجت على درب الذكريات؛ عندما طلب منها عزيز الاشتراك، مع صفية، في برنامج صيفي لمكافحة أمية الكبار (في دور المعلمة بالطبع)، وكيف انسحبت من أول جولة: «كنت سأُجن من عدم قدرة رجالٍ محترمين بشوارب على التمييز بين هذا وهذه»، ناسيةً أنها هي نفسها ما زالت تخلط بينهما.
الْتمعت عينا صفية لأول مرة: «وأمين الاتحاد الاشتراكي .. فاكراه؟ اللي رفض تعليق لافتة مكافحة الأمية .. (مقلدةً صوت الحكمة) يا بنتي .. لو علَّمناهم القراءة والكتابة فمن يعمل في الحقول والنظافة؟»
ضحكت ذات: «خبطتيه بيتين شعر للراجل ده اللي اسمه .. اسمه زي البيض نصف سوا .. تصوَّري نسيته.»
صفية لم تنسَ: بريخت .. فاكرة البيتين؟ .. تعلم أبسط الأشياء فلم يفت الأوان بعد.»
لم تتمكَّن من الإكمال لأن الدموع انهمرت فجأةً من عينَي ذات، لا بسبب بريخت، وإنما تمهيدًا للفقرة التالية في البث. واستمعت صفية في فضول لقصة المقاطعة الغامضة، ثم لشكوى مُرة من عبد المجيد انتهت بجملة درامية: «خلاص .. ما عدتش أطيقه.»
قامت صفية بالدور المطلوب منها، فاستعرضت قائمةً طويلةً بحسنات عبد المجيد (فهو لا يجري وراء النساء، ولا يلعب القمار، ولا يتعاطى المخدرات، ولا يجلس على المقاهي، بالإضافة إلى أنه يحبها ولا يهينها ولا يضربها)، مقابل العيوب التي أبرزتها ذات (الهدم والتخريب والأنانية والبلادة. باختصار؛ خيبته). وبالنتيجة كشفت عن تناقضها: «إمَّا أسيبه أو أحبل منه تاني.»
وجَّهت صفية سؤالًا منطقيًّا: «قوليلي .. فيه حد تاني؟» تلقَّت عنها إجابةً منطقية؛ بالنفي، في إباء؛ فذات الفاضلة تعلَّمت من الصغر أن هناك أشياء لا يعترف المرء بها ولا حتى لنفسه، وأن طوق النجاة في الحياة هو تجنُّب ذِكر الحقيقة في أي حال.
هكذا لم تكتم ذات فحسب أن هناك العشرات وليس مجرَّد «حد تاني»، وإنما أخفت أيضًا، وربما عن نفسها أساسًا، الدافع الحقيقي الذي أتى بها إلى الإسكندرية؛ وهو إشعال إحدى الجمرتَين الخامدتَين في حياتها الروحية القاحلة، الأمر الذي تبيَّن من الوهلة الأولى عدم جدواه.
فصفية، بسحنتها الذابلة المهمومة، وجلبابها الكستور فوق ثديَيها المتهدلَين، والإشارب الذي حال لونه حول شعرها الملموم، ألقت جردلًا من المياه الباردة فوق واحدة، وتكفَّل عزيز بالثانية عندما وصل في المساء بوجهٍ شاحب ملأته التجاعيد وجلَّلته الفضة قبل الأوان.
كان في صحبة ماكينة بثٍّ من نوع آخر؛ شيخ العرب، عجوز قصير القامة، أبيض شعر الرأس، ناري النظرات، باسم الوجه، دائب الحركة، يتيه بنفسه إعجابًا، يرتدي قميصًا مفتوحًا يكشف عن صدر عريض امتلأ بغابة من الشعر الأبيض الكثيف، ابتدر المرأتَين في مرح: «السلام على من اتبع الهدى.»
في المطبخ، أمام براد الشاي، وبين جدران غير مدهونة حتى بالزيت، ولا شبر واحد، تساءلت ذات هامسة: «شيوعي؟» فقالت صفية: «إنه شخص طيب .. لكن لا يمل الحديث عن أمجاد الماضي. حتاخدي نصيبك.»
وما كان شيخ العرب ليصمد أمام إغراء مستمع جديد: «سنة ٤٦ كنت أعمل في مصنع نسيج في شبرا، وخرجنا في مظاهرة كبيرة حتى باب الحديد، وحملني العُمَّال على أكتافهم. واستمرَّت المظاهرة حتى ميدان الإسماعيلية، التحرير الوقت. وكان عندي صورة وأنا أهتف والرصاص يتطاير حولي لكن المباحث خدتها، وكان صوتي قويًّا يرن في الميدان بدون ميكروفون. كنا نهتف بكفاح الطبقة العاملة والطلبة والشعب المصري وسقوط بريطانيا. وجاء عمال شبرا الخيمة وطلبة الأزهر والموظَّفون وكل الطوائف، والشوارع بقت عِمم وطرابيش. ثم اشتدَّت المظاهرات وبدأ ضربها بالرصاص من ثكنات قصر النيل، مكان الهيلتون الوقت، فردينا عليهم بالحجارة وكرات النار. كان معنا عامل في قسم تشحيم الماكينات، خلع جاكتته ولفَّها وأشعل فيها النار وطوَّحها على الثكنات، وبدأت قوات الشرطة تُطلق النار علينا، وحاصرتنا بالنيران، فألقى كثيرون بأنفسهم في النيل، واستُشهد العديد من المتظاهرين، لكن الجيش الإنجليزي انسحب بعد ذلك من معسكرات القاهرة؛ قصر النيل والزيتون والعباسية ومن الإسكندرية وغيرها إلى منطقة القناة.»
الإنجليز تركوا خلفهم الإقطاعيين والرأسماليين، و٤٦ تلتها سنوات أخرى أغلبها في السجون، لكن صفية اعترضت التسلسل الزمني بتعلية التليفزيون ليسمعوا نشرة الأخبار، وفقد شيخ العرب مستمعيه لصالح رئيس الجمهورية الذي كان يقول: «خفض دولار واحد في سعر برميل البترول معناه خفض ٧٥ مليون دولار في إيراداتنا، ومع ذلك أوضاعنا مستورة والحمد لله»، ومن بعده وزير الحكم المحلي: «المرحلة القادمة بداية لتطوُّر جذري في ديمقراطية التخطيط والتنفيذ»، ثم تمثيلية، زيادة، بطلها عمر الحريري. خلال ذلك أدرك شيخ العرب أن الليلة ليست له، فانسحب في وقار.
بانسحاب شيخ العرب ألفى عزيز نفسه وحيدًا؛ فالمرأتان اللتان تجلسان على بعد سنتيمترات منه، وتربطه بهما خيوط موغلة في الزمان فضلًا عن المكان (في حالة إحداهما على الأقل)، أصبحتا تبعدان عنه بمسافة ضوئية وقد استغرقتهما أحداث التمثيلية التليفزيونية. حاول أن يسخر من عمر الحريري الذي كان يمثِّل دور موظَّف مطحون، بينما كان شعره الفضي مكويًّا، فاحتدَّت صفية مؤكِّدةً أن شعره هكذا في الحقيقة، ومرة أخرى سخر من الحماة الطيبة التي تحب زوجة ابنها وتحرص على سعادتها، فاحتدَّت ذات مؤكِّدةً وجود نماذج من هذا النوع. وفي أثناء ذلك أصيب طفل الموظَّف المطحون بورم في المخ، بينما عهد إليه رئيسه بأربعة آلاف جنيه يحتفظ بها حتى الصباح، فهتف عزيز منتصرًا: «سيُضطر لإنفاقها على علاج طفله، ثم يذهب إلى السجن.» لكن المرأتَين كانتا تبكيان فعلًا أمام المأساة، فلزم الصمت، وأشعل السيجارة الأخيرة المسموح له بها.
أعَدَّت لها صفية مكانًا للنوم فوق مرتبة صلبة مليئة بالنتوءات، ووسائد مشبعة برائحة العرق. وقبل أن تفرغ من استعراض أحداث اليوم كانت الزيارات الليلية قد بدأت، باختلاف بسيط عن السابق، فرضته، بالطبع، هذه الأحداث نفسها.
رأت نفسها تسير في أحد شوارع الإسكندرية عندما شعرت برجل يخطو إلى جوارها، ثم يقترب منها حتى أوشك أن يلتصق بها. رمقته بنظرة جانبية، فطالعها صدر عريض وقميص مفتوح عند العنق يكشف عن شعر أسود كثيف، فضلًا عن انبعاج تحت العانة لا يحتمل أكثر من قراءة واحدة. تراءى لها أنه معجب بنفسه، يستعرض رجولته، فقرَّرت أن تسخر منه. وفجأةً ارتطم فخذه بساقها، فالتفتت إليه تريد أن تقول له إنها تدرك ما يسعى وراءه، وإذا بها تلمح عبد المجيد في صحبة امرأة لا تعرفها. وهنا تغيَّر المشهد، لا في اتجاه تراجعي، وإنما في الاتجاه العكسي تمامًا.
ها هي واقفة في صالة انتظار ما، إلى جوار الرجل ذي القميص المفتوح، وقد بدا الآن شبيهًا بعصام، العائد في الغد، بينما يقف عبد المجيد ورفيقته على بعد خطوات، وها هي ومرافقها يستديران قليلًا بحيث يتواجهان، ويضغط انبعاجه على فخذَيها فيبتلَّان وتشرع في الالتذاذ، لكن شيئًا يحدث قبل أن تهزَّها الرعشة المبتغاة؛ تستيقظ.
عندما استأنفت النوم بعد لحظات كانت تحت سيطرة الرادع الداخلي فلم تتمكَّن من استعادة اللحظة المراوغة، وألفَت نفسها بدلًا من ذلك، أو ربما بسبب ذلك مع أبيها، الذي كان عائدًا من غيبة طويلة، في ملابس جديدة وطربوش لامع الحمرة. عتبت عليه غيابه دون إعلان أو حتى ورقة صغيرة، ولم يستمرَّ هذا الحوار طويلًا؛ لأن الرادع الداخلي لم يكن قويًّا بما فيه الكفاية، فسرعان ما ألفت نفسها مستلقيةً على فراش منزل الطفولة المواجه للميدان، تفكِّر، للعجب، في المطبخ وشكله الآن بعد السنوات التي انصرمت، وكيف أن محتوياته المتداعية قد استُبدلت بالتأكيد بالبلاكارات وأحواض الصلب الذي يصدأ، فضلًا عن الخلاطات والعصارات. ولتتأكَّد من الأمر نادت أباها، فجاءها في جلبابه البيتي الناصع البياض، لكن ملامح وجهه هذه المرة لم تكن واضحة، توطئةً لِمَا حدث بعد ذلك؛ إذ انحنى عليها وقبَّلها، لا قبلة المساء المعهودة فوق خدِّها، وإنما أخرى ألذ، متأنية، في شفتَيها، حثَّتها على أن ترفع جسمها إلى أعلى كي تلمس بقية جسمه، وعندئذٍ تبيَّنت وجهه بوضوح؛ شيخ العرب.
ألاعيب الرادع الداخلي؟ لكنها على أية حال أدَّت الهدف المنشود؛ إذ تحوَّلت مغامراتها في اتجاهٍ مغاير تمامًا، وانهمكت في حديث حادٍّ مع فتاة رائعة الجمال، لا تشبه أحدًا تعرفه، تكلل بلمسةٍ ودية من يد الفتاة في المكان إياه، ثم بغزوة أصبع مفاجئة، جلبت الرعشة المتمنَّاة.
لم يتبقَّ من هذا النشاط المحموم، عندما استيقظت في الصباح الباكر، سوى إحساس بالرضا والراحة، تبدَّد على الفور عندما وقع بصرها — وهي في الطريق إلى الحمام — على ابن صفية المراهق، الراقد فوق كنبة في الصالة، وبالتحديد على الخيمة المشرعة التي صنعها الغطاء بين ساقَيه؛ فقد تذكَّرت كل شيء، عندما استعاذت بالله من الشيطان الرجيم. وكان مقدَّرًا لها أن تتذكَّر الاثنَين؛ الله والشيطان، عدة مرات خلال اليوم.
ففي السابعة تمامًا كانت سيارة عزيز اﻟ ١٢٨ المتهالكة تُقِلهم جميعًا إلى الميناء، وخلفها سيارة نصف نقل أتى بها أحد معارف عزيز من العُمَّال. جلست صفية بالطبع في الأمام إلى جوار عزيز، واستقرَّت ذات في الخلف مع الطفلَين، لكن الطفل الذي جاورها مباشرةً كان هو نفسه صاحب الخيمة، وبعثت ساقه التي الْتصقت بساقها بصورة طبيعية سخونةً محبَّبةً تضاعفت في المرات التي قامت فيها الطفلة الأخرى بقفزة مفاجئة في صراع الحدود الذي نشب بينها وبين أخيها، أو عندما قامت ذات نفسها باحتضانه لإبعاده عن شقيقته، ممَّا أدَّى إلى احمرار أذنَيه.
لم تخلُ الرحلة من البث؛ فالأبراج السكنية الجديدة استدعت من عزيز قصة عبد المنعم جابر، الذي تحوَّل في عشر سنوات من عامل نسيج إلى مالك لخمسة أبراج وشركة مقاولات وأخرى للسياحة، قبل أن يهرب بالملايين المقترضة من البنوك، والرائحة الجاثمة في كل الأركان أتاحت لصفية أن تروي مسلسل الصرف الصحي الذي تحوَّلت الإسكندرية في ظلِّه، خلال شهور قليلة، من عروس إلى مباءة.
حملت صفية معها مبلغَين من المال؛ واحدًا أكبر لجمرك السيارة والعفش اللذَين أحضرهما عصام معه أودعته حقيبة يدها، والثاني أصغر للمصروفات النثرية، وزَّعته على جيوبها، وبدأ استهلاكه على الفور؛ تصريحات الدخول، المنادي الذي انبثق فجأةً في ساحة الانتظار القريبة من المرسى، الصبي الذي هنَّأهم بسلامة الوصول المتوقَّع، وآخر بشَّرهم بتمام الوصول الفعلي، وثالث أبدى استعداده لأي خدمة، وعندما تجاهلته صفية مدَّ يده قائلًا: «الحمد لله على السلامة.» ورابع انشقَّت عنه الأرض عندما رست السفينة إلى جوار الرصيف وتطوَّع لأنْ يصعد إليها وينبِّه عصام — الذي يرونه ولا يراهم — إلى وجودهم، ثم رجل أنيق يرتدي قميصًا فاخرًا وردي اللون ونظارةً مذهبة الإطار، يخطو في وقار واعتداد، تجاهل عزيز إذ تبيَّن على الفور موقع الخزانة، فقدَّم لصفية بطاقةً لامعة السطح امتلأت بأرقام التليفونات قائلًا: «كامل الرشيدي .. مخلِّص سيارات .. تحت أمركم.» وأخيرًا عزيز نفسه الذي مدَّ يده قائلًا: «أعطيني حاجة للحمالين.»
عاد عزيز بملف يضم ورقتَين أعطاه لصفية: «السيارة عليك وسأهتم أنا بالعفش.» واتجه إلى موقع الجمرك ساحبًا الولد والبنت خلفه، بينما تأبَّطت صفية ذراع ذات قائلة: «تعالي ندوَّر على الرشيدي.»
جرى البحث حول المبنى المخصَّص لجمارك السيارات، بين عشرات الرائحين والغادين والمتسكِّعين، الذين كانوا جميعًا مستعدِّين لأي خدمة بوجوه باسمة، إلى أن تذكر صفية اسم الرشيدي، فتتلاشى الابتسامات وتلتوي الرءوس نافيةً أي معرفة بالاسم وصاحبه. واحد فقط كان موقفه مختلفًا؛ كان كهلًا ضامر الصدر، منتفخ البطن، يرتدي بنطلونًا قديمًا متهدِّلًا، وقميصًا مكويًّا في عناية هدفت لإخفاء قدمه، ونظارةً طبيةً مشروخة الإطار، وترتعش يده بصورة مستمرَّة. اقترب منهما في تردُّد وعينه على الملف الذي تحمله صفية في يدها: «خدامكم كمال، مخلِّص سيارات. أي خدمة؟» ثم قادهما بعد تفكير إلى ممرٍّ صغير بين مبنيَين وقال: «استنوه هنا. جاي بعد شوية.»
وفعلًا هلَّ الرشيدي بعد لحظات بخطواته المعتدة، فأخذ منهما الملف، وتقدَّمهما إلى أحد المبنيَين مرورًا بكمال الذي جلس القرفصاء إلى جوار الحائط مع عددٍ من زملائه المخلِّصين، ولم يشأ أن يدع الفرصة تمر، فخاطب الرشيدي قائلًا: «أنا اللي قلت لهم عليك.» ودون أن يبطئ هذا من سيره ردَّ عليه مؤنِّبًا: «يا وسخ. كان عندي موعد معهم.»
انبرت ذات، صاحبة المواقف الإنسانية، للدفاع عن الكهل المظلوم، الذي لمست فيه شيئًا مألوفًا، كأنما التقت به من قبل، أو يذكِّرها بشخص تعرفه جيدًا، فأكَّدت للرشيدي أنه الوحيد الذي ساعدهما على الوصول إليه، لكن هذا لم يتراجع عن موقفه: ده دني. كل همه نص جني وبس.»
دناءة المُخلِّص الكهل كان لها أوجه عديدة؛ فهو مريض بالسكر، ويفقد أعصابه بسهولة، ويُسيء معاملة الزبائن، وبالإضافة إلى ذلك: «خدي مثلًا حالة مثل حالتك. هل يتم التخليص من غير الرش؟ لو اديته أوراقك ومعاها عشرين جنيه للمصاريف؛ أي للرش على الموظفين، يحجز نص المبلغ على الأقل لنفسه، والنتيجة على رأس الزبون.»
استوعبت صفية ما ظنَّته رسالةً غير مباشرة، فأخرجت مادة الرش. وداخل صالة واسعة، صُفَّت بها عشرات المكاتب في صفوفٍ غير منتظمة، وحولها عشرات الأشخاص الذين يتكلَّمون في آنٍ واحد؛ ولهذا يتنافسون في المقدرة على الإسماع، أُتيح لذات أن ترى المخلِّص الكهل مرةً أخرى على الطبيعة.
كان يحمل ملفًّا أزرق اللون، ويحاول الحديثَ عبثًا إلى أحد الموظَّفين. وتقدَّم الرشيدي بملف صفية إلى نفس الموظَّف، فاستقبله في ترحاب وتناول منه الملف على الفور. واستدار الكهل إلى شاب عابس الوجه، فغمز له بعينه، بطريقة تآمرية، وأشار بيده إلى فضيلة الصبر، ثم اتجه إلى موظَّف آخر لم يعبأ به، فوقف لحظةً جامدًا يتطلَّع إلى الفضاء بين المكاتب ويده اليسرى لا تكف عن الارتعاش. وبعد لحظة استدار وعاد إلى صاحب الملف، وسمعته ذات يخاطبه قائلًا: «لا بد أن ننتظر قليلًا فهناك مشكلة في ورقك. لكن لا تقلق. سأحلها لك.» وتركه متجهًا إلى موظف آخر.
خلال ذلك كان الرشيدي قد حصل، بالطبع، على التوقيعات والأختام المطلوبة، ولم يبقَ سوى توقيع رئيس الإدارة الذي لم يكن، بالطبع، في مكتبه، ولا يعلم أحدٌ أين ذهب، لكن الرشيدي المدرب عثر عليه في مكتب جانبي غارقًا في حديث تليفوني عن خطوط السفن ورحلات العطلات، سرعان ما انتقل إلى قطع غيار السيارات وعيوب الميكانيكيين قبل أن ينتبه إلى وجود الرشيدي ومرافقتَيه، فتناول منه الملف وفتحه وشرع يقرأ محتوياته، مواصلًا الحديث، أو بالأحرى التلقي، بينما يقلِّب الأوراق، تتابعه عيون المرأتَين المتلهِّفتَين، في انتظار أن يبلغ الصفحة الأخيرة ويمهرها بتوقيعه، لكنه لم يكن بهذه السذاجة، فقبل أن يصل إلى النهاية عاد إلى البداية، ودقَّ قلبا المرأتَين وهما تتابعان أصابعه في رحلة تقليب الصفحات ذهابًا وإيابًا، حتى اكتشفتا أنه يفعل ذلك بصورة ميكانيكية دون أن يقرأ شيئًا.
انتهت المكالمة أخيرًا، وأعاد الرئيس السمَّاعة إلى مكانها، شارعًا في بداية جديدة مختلفة؛ إذ ركَّز بصره على أحد السطور متمعِّنًا فيه، ودقَّ قلب ذات في عنف عندما تناول السماعة وأدار رقمًا بنفس اليد، ثم رفع رأسه للرشيدي وقال وهو يناوله الملف باليد الأخرى: «فؤاد بيه.»
خارج الغرفة تطلَّع الرشيدي إلى سماعته في تقطيب، وتطلَّعت إليه المرأتان في قلق، وصحَّ ما توقعتاه؛ ففؤاد بك انصرف فعلًا، كما أن الخزانة تغلق في الواحدة والنصف، ولا بد من دفع الرسوم وتقدير الأرضية: «سيبي الملف معايا وتعالي بكره.»
في الطريق إلى جمرك العفش التقتا بالمخلِّص الكهل الذي حرص على تجنُّبهما، رغم أن ذات رغبت في الحديث معه لتكتشف سر الألفة التي تشعر بها نحوه، وهو السر الذي شغلها طوال الساعتَين التاليتَين من الانتظار بين الحمَّالين والسائقين المستعدين لأي خدمة، إلى أن خرج إليهم عزيز والفيلسوف الذي خلعت عليه صفية لقب الدكتور، ومن خلفهما العفش (مكتب وسرير ومقاعد وثلاجة وغسالة وتليفزيون؛ مبرِّرات اللقب العلمي) الذي بدأ تحميله فوق سيارة النقل، فهل انتهت المحنة؟ كلا.
أحاط الحمَّالون بعزيز يجادلونه في أجرتهم. وسبق الآخرون إلى اﻟ ١٢٨، حيث انبثق المنادي فجأةً لينبِّههم إلى أن أحد إطارات السيارة نائم، عارضًا استعداده لأي خدمة وتركيب الإطار الاحتياطي، مستحقًّا بذلك الجنيه الذي أخذه، ومتيحًا لذات فرصة التعبير عن إيمانها بالنوع الإنساني: «لا يا شيخة»، عندما أسرَّت لها صفية شكَّها في أن الأمر لا يعدو أن يكون تمثيليةً من إخراج المنادي من أجل مضاعفة دخله بطريقة مشروعة.
جلست ذات في المقعد الخلفي إلى جوار الدكتور الذي بدا حائرًا في كيفية مخاطبتها، وقد ألف أن يناديها أيام طفولته ﺑ «الأبلة». وانضمَّ إليهم عزيز أخيرًا، لكنه لم يكد يدير موتور السيارة حتى لحق بهم، جريًا، أحد الحمَّالين الذين كانوا يحاصرونه، وهو يجر صبيًّا صغيرًا من خلفه، ومال على النافذة مشيرًا إلى الصبي: «ده حمادة.»
تساءل عزيز في دهشة: «حمادة مين؟»
قال الحمَّال: «ابني.»
أخذ الابن نصيبه قبل أن يتحرَّك الموكب في اتجاه بوابة الميناء، حيث استوقفهم عند الكشك الزجاجي للحاجز كهل مهيب يرتدي نظارةً طبيةً سوداء، وضع يده على مقدمة السيارة، وانحنى على النافذة قائلًا: «حمد الله على السلامة. كل سنة وانتم طيبين.»
أخرجت صفية من جيب سترتها جنيهًا وقدَّمته إليه، فأعاده إليها في كبرياء: «لا. خليه لك. يمكن تحتاجيه.»
انفجرت صفية ثائرةً وهي تُخرج جيبَي سترتها الفارغَين، وتفتح حقيبة يدها تحت بصره: «معدش معانا ولا مليم.»
أخرجت ذات جنيهًا آخر من جيبها أعطته للكهل، فأشار إلى شرطي عجوز بعدة شرائط يقف على بعد خطوتَين وقال: «هو كمان يستاهل.»
دار البحث في جيوب رُكَّاب السيارة جميعًا، بما فيهم الطفلة، حتى تمَّ جمع ثلاث ورقات من فئة ربع الجنيه، قبلها الشرطي في امتعاض، وعندئذٍ رفع الكهل المهيب يده عن مقدمة السيارة، سامحًا للركب بالخروج.
علَّق الدكتور الذي كانت دراسته ذات طابع نظري، كما أن غربته طالت: «لم أكن أتصوَّر العودة صعبةً هكذا»، قاصدًا مجموعةً من الصدمات لم يكن هو الوحيد الذي تعرَّض لها؛ فبسبب ضيق المقعد الخلفي في اﻟ ١٢٨، والضخامة التي اكتسبها عاصم في الغربة، فضلًا عن نتائج كثرة تردُّد ذات على المرحاض، لم يكن ثمة مَفَر من التماس الذي حدث. وعلى عكس ما جرى في رحلة الذهاب، كانت حُمرة الأذنَين هذه المرَّة من نصيب ذات؛ إذ كان مفعول الساق القوية الصلبة أقوى من سابقتها المراهقة.
تسبَّب عصام في مضاعفة حُمرة أذنَي ذات عندما وضع حقيبةً صغيرةً أنيقةً من الجلد فوق ركبتَيه، وفكَّ شفرة قفلها، وتناول من داخلها إطارًا لنظارة طبية قدَّمه إلى ذات قائلًا: «إيه رأيك في ده؟»
تضاعفت حُمرة أذنَيها مرةً أخرى عندما أعاد ما ظنَّته هديةً إلى الحقيبة بعد أن أبدت استحسانها، وأخرج مجموعةً من الإطارات المتنوِّعة، عرضها عليها متسائلًا: «تفتكري لها سوق في مصر؟ معايا توكيلها.»
كانت الحقيبة الجلدية تحتوي بالإضافة إلى الإطارات على أشرطة فيديو من نوع جديد يتميَّز بقوة تحمُّل أكثر من الأنواع السائدة؛ لأن محوره الدوَّار صُنع من المعدِن بدلًا من البلاستيك، وأجهزة إلكترونية صغيرة لمكافحة الناموس، أمَّن الجميع على حاجة كل بيت في مصر إليها.
في هذه اللحظة أدركت ذات — مستغربة — بمن كان مخلِّص السيارات الكهل يذكِّرها؛ عبد المجيد.
٨
بسم الله الرحمن الرحيم
دار تعدين الأمة المحدودة
هدية عيد الفطر إلى أمة المسلمين
الحد الأدنى للاكتتاب صك مرابحة لحامله قدره عشرون دينارًا ذهبيًّا إسلاميًّا، وقيمته ٨٦٢ دولارًا أمريكيًّا. يتم استلام الدينارات الذهبية على عشرين دفعةً متساويةً بواقع دينار واحد كل ثلاثة شهور، وعلى خمس سنوات عن طريق البنك السويسري المعتمد.
حلال لا يشوبه الربا
تقدِّم الجديد دائمًا
دسبنسر، كلارك سي ١٦، هاند دراير، السانور، تايم مست وندو، كويك كلين، بوليش، كولار أند كتس أوفن، لوندرال كلينتك، فابريك سوفتنر، بليدج، مارثون ١٥، إس تي ١٠٠، بودر بور، دراي رنز، فوم.
جريدة الشعب تتهم … وزير البترول بأنه اتفق مع الشركة الإيطالية الدولية للنفط على استرداد قيمة آلات ومعدات بستة ملايين جنيه رغم استخدامها في البحث والتنقيب.
لم يتقاضَوا أجورًا منذ ١٨ شهرًا بعد أن توقَّفت الشركة عن العمل، وهرب رئيسها عبد الفتاح إسماعيل إلى أمريكا.
جريدة الشعب تتهم … وزير البترول بمسئوليته عن مشروع مجمع البتروكيماويات الذي تكلَّف ألف مليون جنيه ويحقِّق خسارةً سنويةً قدرها ٧٠ مليونًا، فضلًا عن إهدار آلات ومعدات بعشرة ملايين دولار.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
تطلب الوظائف الآتية: (١) رئيس لمجلس إدارة شركة لتوظيف الأموال، ويفضَّل وزير سابق من وزراء المجموعة الاقتصادية. (٢) مدير مسئول لمدارس إسلامية ويفضَّل وزير تربية وتعليم سابق.
ملحوظة: نشاط الشركات واستثماراتها يقوم على نظام المشاركة الإسلامية مع الهيئات والأفراد، والله الموفق: أحمد رائف.
جريدة الشعب تتهم … وزير البترول بالتستُّر على أخطاء الشركة الإيطالية المنفِّذة لمشروع الإثيلين وتحميل الجانب المصري لقيمة المعدَّات والآلات التي استوردتها بالإضافة إلى ٤٫٥ ملايين دولار فرق تكاليف تمَّ دفعها نتيجة أخطاء الشركة المنفِّذة لأعمال المنصة البحرية.
جريدة الشعب تتهم … وزير البترول بتمرير تعديل من مجلس الشعب لاتفاقية التنقيب مع شركة فرنسية رغم إنهائها للتعاقد، ممَّا يعطيها الحق في المطالبة بتعويض مقداره ٨٠ مليونًا من الدولارات.
ومبي، دجاج كنتاكي، هارديز، دجاج تكا، فلفلة أمريكانا، أمريكانا كليك، باسكن روبنز.
أسعار خاصة لقضاء يوم الصيام في غرف مكيفة الهواء ومزوَّدة بأحدث أفلام الفيديو.
اكتشاف ٦٠٠ طن من الدجاج الفاسد مستورد من ألمانيا الغربية بشهادة صلاحية.
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
آي سي سنتر المهندسين يفتتح طابقًا خاصًّا لملابس المحجَّبات،
إقبال شديد من المواطنين على إيداع أموالهم لدى شركة آي. سي. سنتر إنجازات لتوظيفها.
رجل أعمال يمثُل أمام النيابة بتهمة تسهيل «دعارة» ابنته.
٨٧ شركةً تحقِّق نسبةً عاليةً من الخسائر تفوق رأس المال، على رأسها شركات كلوريدا، المصرية الكويتية للأحذية، والشركات المملوكة لبنك مصر إيران الذي كان يرأسه فؤاد سلطان وزير السياحة، ومجموعة الشركات المملوكة لعثمان أحمد عثمان.
المعاينة على حساب الشركة بعد التعاقد.
ثلث طلبة الجامعات المصرية يتعاطَون «المخدرات» وسن الإدمان انخفض إلى ١٥ عامًا.
معدات ثمنها مليون وربع مليون جنيه في العراء بشركة الخشب الحبيبي بالمنصورة.
زوجة رئيس «بنك» تقترض حتى منتصف ١٩٨٤ مليونًا وثلث مليون جنيه وربع مليون دولار.
إجمالي «ديون» شركات القطاع الخاص للبنوك ستة ملايين من الجنيهات.
في سوبر ماركت ألفا، بازار لوكس، بريمادونا، جيزة ستورز.
السلطات تقطع المياه والنور عن كفر الدوَّار.
«وأخذ هؤلاء الضبَّاط يخبرونني بأن أسلوب التعذيب اليوم تطوَّر كتطوُّر العصر، وأن ما سيفعلونه بي سيُفقدني عقلي ورجولتي، ولن يمكنني ممارسة الحالة الجنسية بعد ذلك، وأخذوا في استجوابي عن زملائي العُمَّال وأحداث المصنع ومن الذي دبَّرها، وأخذوا في شتمي، وضربني ضابط على وجهي وهو يصيح: ابعتوا هاتوا مراته الكلب ده واحنا ﻧ… وحنخلِّي العسكري ﻳ… وﻧ… هو كمان. وجرَّدوني من ملابسي وقيَّدوني من ذراعي فوق القيد الذي بيدي وطرحوني أرضًا على ظهري، ووضعوا كرسيًّا فوق صدري جلس عليه ضابط ممسكًا بجهاز كهربي أخذ يضعه …»
٩
حملت ذات — من عبد المجيد بالطبع — بالطريقة المألوفة التي تتبعها غالبية النساء، ولا نقصد بذلك الجوانب التكنيكية أو الإجرائية وحدها. ورحَّب عبد المجيد بهذا التطوُّر على أملَين؛ أن يتمخَّض عمَّا عجز عن تحقيقه حتى الآن بالدعاء أولًا ثم الابتهال بعد ذلك، وأن يؤدِّي تشغيل المفرخة إلى امتصاص حالة الاستياء المتنامية لدى زوجته، وهو ما تحقَّق على يد «ماجدة»؛ الاسم الذي أطلقته على ولي العهد.
لم تكن هذه التسمية راجعةً إلى عجزها القديم عن التمييز بين «هذا» و«هذه»، وإنما كانت مجرَّد مناورة لتأمين وصول «أمجد»؛ الاسم الحقيقي لولي العهد الذي اختاره عبد المجيد، معبِّرًا بصيغة التفضيل عمَّا يحدوه من آمال، بمصادقة زوجته التي وجدت في القادم الملكي فرصةً لا تعوَّض لتحقيق هدف أكثر آنيةً هو تسجيل نقطة في مسيرة الهدم والبناء تتجاوز بكثير ما يمكن أن تحقِّقه السرمكة، أو الكمبشة (نسبةً إلى المرحاض الحديث)، أو الكندشة (نسبةً إلى جهاز التكييف).
حقَّق ولي العهد إنجازًا آخر هامًّا وهو بعدُ رهين الشرنقة الرحمية؛ إذ تمكَّن من تخفيف حدة المقاطعة التي تتعرَّض لها أمه في الأرشيف وإزالتها تمامًا؛ فمع تكوُّرها المتزايد، وخطوها المتباطئ، ارتفعت درجة اهتمام الماكينات بها؛ إذ رأت في حالتها مطيةً صالحةً لأهدافها؛ فقرة معادة عن متاعب الحمل والمضاعفات والمحظورات (المحجبة صاحبة المنكبَين)، فقرة دينية عن الصلوات والأدعية المناسبة؛ دعاء النزول من المنزل والدخول إليه، وعند لبس الثوب، وعند الفراغ من الطعام، وعند الركوب، وعند دخول المرحاض وعند الخروج منه، وفي السوق، وبعد البث (صاحبة المكياج الصارخ التي ترقَّت من حجاب الرأس إلى الحجاب الكامل)، دعم برنامج التغذية المشتركة ببطاطس طازجة تقلى على نار سخان كهربائي في البلكونة (الشامة السوداء)، تأجيل كثير من مهام العمل إلى ما بعد الولادة (الرئيس ذو المخالب).
على أنَّ أهم ما خرجت به ذات من فترة الهدنة التي التزمت بها الماكينات، هو تعرُّفها على محرِّرة نشطة (ومُطلَّقة في نهاية العقد الثالث من عمرها) تُدعى همت نظمي، تردَّدت على الأرشيف من أجل الإحصاءات الضرورية لمقال عن مخاطر تزايد السكَّان في مصر، فخرجت بسلسلة مثيرة عن مخاطر تناقصهم.
فقبل ذلك بفترة انضمَّ إلى الأرشيف ساعٍ جديد لخدمة الماكينات المثقلات بالعمل وتلبية احتياجاتها (ابتداءً من أكواب الماء والشاي، إلى التخلص من الوارد اليومي من الصحف والمجلات بمجرَّد وصولها). كان عيد أبو الراس شابًّا في نهاية العشرينيات، ويبدو في نهاية الأربعينيات بسبب الغضون التي تملأ وجهه، والتي ربما كان مبعثها الساعات الثماني التي ينفقها كل يوم في الطريق من وإلى القرية التي يسكن بها في محافظة المنوفية؛ الأمر الذي أثار شفقة ذات وجعلها تحدب عليه آملةً أن يؤدِّي موقفها منه إلى عدم انضمامه إلى المقاطعة، فشاركته التفكير في مشاكله المتعدِّدة (ومنها ما يعانيه من اضطهادٍ على يد زوجة أبيه) وكيفية مواجهتها، إلى أن مكَّنه الحظ من حلِّها كلها مرةً واحدة.
ففي أحد الأيام اشتكى من آلام شديدة ببطنه، فنصحته بالذهاب إلى طبيب الجريدة الذي أحاله إلى مستشفى الصدر بالعباسية، حيث أقام تحت العلاج لمدة شهر، خرج بعدها كما دخل. ونصحته ذات مرةً أخرى بأن يتوجَّه إلى عيادة خاصة، وجمعت له من الماكينات النقود الضرورية لذلك، والتي مكَّنته من إجراء أشعَّة كشفت عن وجود جفت شرياني في بطنه طوله عشرون سنتيمترًا، من مخلَّفات عملية استئصال طحال أقدم عليها قبل ثلاثة أشهر في مستشفى أشمون المركزي. وعاد أبو الراس إلى مستشفى الصدر الذي أحاله إلى عيادة ناصر الشاملة بالتأمين الصحي، التي أحالته إلى مستشفًى آخر أحاله — بعد جراحة عاجلة — إلى القبر.
نشرت همت نظمي قصة عيد أبو الراس في عدة حلقات، مطالِبةً بتحديد المسئول عن مصيره، وهي مطالَبة لم تُسفر عن شيء، بالطبع، سوى وضع أُسس الصداقة بينها وبين ذات، نصيرته الأولى، وهي الأُسس التي اهتزَّت، بعد ذلك، عند الترزي.
ففي أحد الأيام أعلن عبد المجيد في رصانة حاول أن يخفي بها انفعاله أنه مسافر في مهمَّة إلى الصومال، ضِمن وفد مكلَّف بافتتاح فرعٍ للبنك هناك. وفي اليوم التالي شاركت ذات بالنبأ في فقرة البث الصباحي، مع تعديل صغير، أصبح الوفد فيه مؤلَّفًا من شخص واحد، هو عبد المجيد بالطبع. وعند الظهر فاز النبأ بإضافة جديدة تمثَّل في أن عبد المجيد سيبقى في الصومال لإدارة الفرع الجديد، لكن اللامبالاة التي أبدتها الماكينات إزاء هذه الإضافة دفعت ذات إلى إجراء عملية تصحيح في الصباح التالي جلبت الأثر المنشود؛ إذ التمعت عيون الماكينات في حسد؛ فقد حصل عبد المجيد على عقد للعمل في السعودية.
تصدَّت ذات في حماس للمهام المترتِّبة على التطوُّر الجديد، وعلى رأسها إعداد فستان جديد ترتديه عند عودة عبد المجيد من زيارة قصيرة للسعودية لتوقيع العقد. ولمَّا كان الفستان المأمول يحتاج إلى ترزي ماهر، غير حائكة عين شمس، يتمتَّع بالخيال الذي يمكِّنه من تصوُّر الكسم الطبيعي للجسم المتكوِّر، ويكون في مستوى جلال المناسبة؛ فقد التجأت ذات إلى الماكينات طلبًا للعون، وتطوَّعت همت لأن تأخذها إلى الترزي الخاص بها.
أتاحت زيارة الترزي لكلٍّ منهما أن ترى الأخرى على الطبيعة؛ خطوات همت السريعة (التي تذكِّرها بصفية القديمة)، وصدرها البارز في تحدٍّ، الذي يجلب النظرات الجائعة والكلمات البذيئة والاحتكاكات العفْوية، وتعليقاتها الجريئة على الناس والأحداث التي تبلغ درجة الاستفزاز، وإحاطتها بالشوارع والاتجاهات، على عكس ذات، التي تجهل الخريطة، وتتعثَّر في الحُفر والأرصفة، ولا تلفت انتباه أحد، وتتردَّد قبل كل خطوة، وأمام كل موديل.
فبينما انهمكت همت في قياس جيبة، والاستماع (من الترزي) إلى بثٍّ مفصَّل عن الزبائن وفصولهن، أخذت ذات تقلِّب حائرةً في مجلات البوردا والفوج البالية، التي تمزَّقت أغلفتها وبعض صفحاتها، إلى أن وقع اختيارها على موديل غريب يشبه الروب الواسع؛ لأنه من قماش مشجَّر يبعث على البهجة، ثم تذكَّرت عمرها، فعدلت عنه إلى آخر أبيض بأكمام واسعة، ثم شعرت باليأس لعجزها عن الحسم، فالتجأت إلى همت التي اقترحت عليها موديلَين لم يعجباها، وأخيرًا تدخَّل الترزي الخبير قائلًا: «خليني أنا أختار لك.» ممَّا أراحها فأسلمت له جسدها خلف ستارة، وبعد أن دوَّن قياساتها على ورقة من الكرتون كانت في الأصل قاعدةً لصندوق سجائر، أعطاها لها لتكتب اسمها، فكتبت «مدام»، ثم اختلطت عليها حروف اسم خميس، فشطبتها وكتبت اسمها.
لم تعد ذات إلى الترزي مرةً أخرى؛ لأن عبد المجيد لم يذهب إلى أي مكان، كما أن همت انضمَّت إلى المقاطعة دون سبب مفهوم، وهي نفسها انقطعت عن الأرشيف، بعد أن وصل الحمل إلى نهايته، وانزلق ولي العهد المنتظر في صمت سيحافظ عليه عدة سنوات، اتخذ مكانه خلالها بين أبوَيه في فراشهما، معطيًا بذلك قوة دفع جديدة لسياسة الاعتماد على النفس.
أعطى ولي العهد قوة دفع جديدة لعمليتَين أخريَين مترابطتَين؛ هداية عبد المجيد الذي قاطع الخمر (وأفرغ نصف زجاجة كان يحتفظ بها للمناسبات في المرحاض)، وانتظم في الصلاة، كما انتظم في شراء مؤلَّفات الشيخ الشعراوي، وفي عدم قراءتها. وعلاقة ذات بجارتها التي لازمتها ملازمةً يوميةً في الأسابيع الصعبة التالية للولادة، استحدثت خلالها برامج بث جديدةً لها طابع تنويري: «حنبيع إيديال ونشتري واحدة مستوردة لها بابين وديب فريزر»، «لمَّا كنا جالسين وأنا صغيرة على الأرض حول الطبلية نتغدَّى»، «لا أجد أية متعة في العملية إياها واقترحت عليه أن يتزوَّج بأخرى».
لم يفعلها الشنقيطي لأنه لم يكن يملك الوقت الكافي للتفكير في مثل هذه المشروعات؛ بسبب انشغاله بمشروعات من نوع آخر مرتبطة بتجميل حي مصر الجديدة، أول ما يقابل السائح. فبالإضافة إلى تصاريح الهدم (للفيلَّات والعمارات القديمة المتينة التي لن تنهدم من تلقاء نفسها) والبناء (لناطحات السحاب الزجاجية التي تنهدم من غير تصريح)، خلق الكوبري، الذي أُقيم فوق ميدان الجلاء لتسهيل المرور في طريق صلاح سالم السريع، مشاكل جماليةً معقَّدة؛ فبعد الانتهاء من بنائه تبيَّن أنه يعترض طريق أحد خطوط المترو الفرعية، فنُقِل الخط وجُمِّل مكانه؛ الأمر الذي أخلَّ بالتوازن الجمالي بين مدخل الكوبري ومخرجه، وحُلَّت هذه المشكلة بوضع نموذج مجسَّم لرمسيس الثاني عند مخرج الكوبري، أحدث خللًا جديدًا في التوازن، تعدَّدت في شأنه الاقتراحات، ومنها إقامة نموذج مجسَّم من ساعة سيتيزين، أو تمثال للرئيس الأمريكي عند مدخله؛ وبذلك أتيحت الفرصة لخبراء التخطيط والتجميل كي يُدلوا بدِلائهم، وللشنقيطي كي يستبدل سيارته المتهالكة بواحدة ١٣١ أحدث عمرًا، ولمقاطعي ذات أن يُنهوا هُدنتهم.
على وجه التحديد، استُؤنِفت المقاطعة في أعقاب زيارة من ذات وعبد المجيد لابن عمته، في شقة أمه المتواضعة بأحد أزقة السيدة، بمناسبة عودته من التدريس في السعودية. استقبلهما في جلابية سعودية ناصعة البياض، ورصانة واعتداد جديدَين عليه، جدة الشارب الكث، والجسم المنتفخ، والخلفية المؤلَّفة من ورق حائط ملوَّن، وطاقمَين؛ واحد مُذهَّب للصالون، والثاني بايركس للشاي.
سعى ابن العمة منذ البداية للانفراد بالبث مغريًا ضيفه بسجائر داكنة اللون، أطول من المعتاد، وصندوق من الشكولاتة والبونبون؛ الطعام متوفِّر (هناك)، كل شيء موجود، والسكن فيلَّا، والمواصلات سيارة خاصة، طولها عدة أمتار، يطوف بها بعد الظهر كل يوم على زملائه من المصريين ويعود بهم إلى شقته ليلعبوا الورق؛ فليس هناك بديل آخر.
وجدت العمة فرصةً للإدلاء بعدة دِلاء: «لم يكد يصل من المطار حتى أخرج الكوتشينة وطلب مني أن أُلاعبه»، «الله يخليه. أهداني حجةً تكلَّفت ألفَي جنيه، فرأيت الكعبة وقبر النبي قبل أن أموت، ورأيت أيضًا الطرق الواسعة والكباري الهائلة والنظام والنظافة»، و«تصوَّروا؟ رخام الحرم النبوي مثلَّج في عز الحر .. معجزة النبي ﷺ».
لم يتقبَّل العقل العلمي لابن العمة هذا التفسير، فاعترض قائلًا إن هناك أنابيب تبريد أسفل الرخام. وسارعت الأم بتقديم معجزة أخرى من أجل الاحتفاظ بالميكروفون: الحمام الطائر فوق الحرم النبوي كله أبيض اللون ولا يتبرَّز مطلقًا. وردَّ عليها ابنها بمعجزة من نوع آخر: المصريون هم الوحيدون من العرب الذين يتمتَّعون بمحبة السعوديين.
ذات التي لا تتميَّز بسرعة التفكير، كانت ما تزال تفكِّر في أمر المعجزتَين الأوليَين، لكن هذا لم يمنعها من التوصُّل إلى تفسير للمعجزة الجديدة: «بسبب خفة دمهم.» نفاه ابن العمة على الفور وهو يتناول فرشاةً ناعمةً ويمر بها في رِقة شديدة على سطح ريكوردر كبير الحجم، ستريو: «أبدًا؛ لأنهم لا يتدخلوا في السياسة ولا يهتموا بحاجة ثانية غير تكوين نفسهم.»
نال الجهاز إعجاب عبد المجيد (وخاصةً عندما وضع فيه ابن العمة شريطًا أمريكيًّا من نوع الهشك بشك، فأضاءت في واجهته شاشة خاصة تحرَّكت عليها أضواء حمراء تبعًا لتغيُّر طبقة الصوت)، وشغلت هذه المعجزة تفكيره حتى إنه فوجئ عندما قالت له ذات (التي لم تنقطع عن التفكير في معجزة الحمام)، وهما في الطريق يبحثان عن تاكسي يعود بهما إلى مصر الجديدة: «مفيش غير تفسير واحد؛ يكون الحمام عنده إمساك.»
رماها عبد المجيد بإحدى نظراته النارية، ألجمتها دون أن تدرك نوع الخطأ الذي ارتكبته، ولم يمنعها هذا من ارتكاب خطأ جديد عندما توقَّفت السيارة الخاصة التي تتقدَّمهما فوق كوبري ٦ أكتوبر، وهبطت منها سيدة مُحجَّبة عبرت الطريق بسرعة دون أن تعبأ بالسيارات المندفعة وهي تشوِّح بيدَيها في انفعال وهياج شديدَين؛ فقد تساءلت عمَّا يدفع سيدةً محترمة، كما يبدو، لديها أسرة وأطفال وسيارة خاصة، لمثل هذا السلوك، في منتصف الليل؟ وعندما بلغ التاكسي ميدان روكسي كانت قد توصَّلت إلى تفسير ذكرته في تهوُّر لزوجها: «لازم عاوزة موكيت.»
ذات هي التي كانت تطالب في الأيام الأخيرة بالموكيت، ليس فقط لأن السجادتَين المفروشتَين في الصالة أصابهما الوهن، وإنما أساسًا من أجل موضوعٍ مثير للبث تقتحم به أسوار المقاطعة المضروبة حولها. لكن معارضة عبد المجيد كانت حاسمةً تستند لا إلى أُسس جغرافية (جونا الحار المترب)، أو حضارية (تراثنا الخاص من السجاد والحصير)، وإنما إلى اعتبارات عملية، تتمثَّل في كتلة جديدة من النفقات لا تقل عن خمسين جنيهًا في الشهر من أجل ولي العهد؛ ألبان جافة تعوِّضه عن جفاف لبن الأم، ودار حضانة تستقبله في الصباح لتتمكَّن من الذهاب إلى الأرشيف كي تواجه المقاطعة. ومن أجل الهدف الأخير ذهبت إلى مدينة زفتى.
ففي إحدى الأمسيات جاءتها سميحة بعيون دامعة: «بنت أختي.»
«ما لها؟» «تعيشي انتي.» «يا خبر! إيه اللي حصل؟»
«حادثة.» «هنا؟» «لا. في زفتى.»
حالت مشغوليات الشنقيطي في مشروعات التجميل بينه وبين مرافقة زوجته لأداء واجبات العزاء، فتوجَّهت إلى جارتها، وقد تبيَّنت فرصةً لعرض مواهبها في قيادة السيارات التي تعلَّمتها حديثًا: «متيجي معايا يا مدام ذات؟ حنروح بالعربية.»
رحَّبت ذات بالذهاب، وخاصةً بعد أن لمست رد الفعل في الأرشيف عندما أعلنت السبب لِما طلبته من إجازة عارضة؛ فقد تلاشت المقاطعة مرةً واحدة، وأقبلت الماكينات عليها؛ إحدى المحجبتَين حذَّرتها من ركوب البيجو السريعة التي حُرِّم استخدامها في بلادها الأصلية وما زالت تودي بحياة الآلاف على الطريق الزراعي، والثانية نبَّهتها إلى التريلَّات الضخمة التي تنفصل مقطوراتها عند المنحنيات وتُطيح بالسيارات المارَّة، والشامة السوداء طلبت حمصًا من عند السيد البدوي في طنطا، ووجه الأرنب طلبت حصيرًا معيَّنًا من بنها، بل وظهرت همت لتزوِّدها بالمعلومات: «تعرفي إن زفتى أعلنت الجمهورية في ثورة سنة ١٩١٩؟»
هكذا حملت ذات معها جعبةً لا بأس بها، وتكفَّل الطريق الزراعي نفسه بسد الثغرات؛ المباني الأسمنتية فوق الأراضي الزراعية، لافتات الشركات الاستثمارية ذات الأسماء الأجنبية الفكهة، مكتوبة أولًا بالحروف العربية ثم بالحروف اللاتينية؛ ميلكي لاند، إسلام بوليه، والكانتالوب، الفاكهة الجديدة التي وُلدت ولادةً شرعيةً باسم أجنبي، وأخيرًا سميحة نفسها، بتسريحة شعر طازجة، ونظارة شمسية غامقة، وفستان شيك أبرز فضلًا عن الفخذَين المبهرَين، استدارات حديثةً في أماكن عدة، مبهجةً للناظرين.
ولجتا المدينة من مدخل ضيِّق تزحمه الورش وعربات الباعة، وتطوَّعت سميحة في اعتزاز لأن تلعب دور المرشدة السياحية، فانطلقت إلى جوار الخط الحديدي، ثم انحنت يسارًا وسط صفوف من سيارات النقل الضخمة ومقطوراتها، وفوق أكوام من القُمامة والمخلَّفات، مرورًا بالمعالم الرئيسية؛ مجلس المدينة وخلفه السنترال الحديث، وصاري التليفزيون، والإذاعة، ومحطة الكهرباء، ثم موقف الأوتوبيس والمطافئ، وموقف آخر لعربات السرفيس والحنطور، وبعد ذلك الدوران المؤدِّي إلى مخرج المدينة أو العودة في الاتجاه المضاد، وسط القُمامة والمخلَّفات مرةً أخرى، فوق الأرصفة وتحتها، وأمام الفرن والبقَّال والجزَّار والصيدلية المزدهرة بالنتيجة.
تقطيبة الاشمئزاز على وجه ذات (التي لم ترَ في حياتها من المدن المصرية سوى القاهرة والإسكندرية) دفعت سميحة إلى أن تنحرف بالسيارة يمينًا في شارع جانبي ضيِّق تُطل عليه فيلَّات قديمة، ثم مصنع حديث للغزل ومركز للشرطة، وأخيرًا النيل ومن خلفه ميت غمر، لكن النهر العتيد لم يلبث أن اختفى وراء الحقول والمباني، وضاق الطريق الموازي له، وتقدَّمت السيارة ببطء وسط الماعز والإوز وروث البهائم وأكوام القاذورات وبِرك المياه الآسنة، يخطو بينها في ثقة وبراعة رجالٌ ملتحون في جلاليب بيضاء ناصعة، وصنادل جلدية تبرز منها أصابع أقدامهم العارية، وتتدلَّى المسابح من أيديهم، إلى أن ظهر النيل من جديد، محتجزًا جزءًا منه قرب الشاطئ فيما يشبه خليجًا صغيرًا راكد المياه امتلأ بالأطفال المستحمين اللاعبين، ملتقطي البلهارسيا ومتبولي الدماء، إلى جانب النساء والفتيات اللاتي انحنَين على أواني الألومنيوم يغسلنها ويدعكنها بالأتربة حتى تلمع كالجديدة، قارنتها ذات في حسرة بأوانيها المعتمة التي لا ينفع معها فيم أو كيم.
اكتفت سميحة بهذا القدر، وانحنت يمينًا في أحد الأزقة في اتجاه سُرة البلد، ومنه إلى زقاق آخر ثم ثالث، مهتديةً فيما يبدو بأصوات نواح وعويل تأتي من بعيد، إلى أن اعترضتها عربة حنطور بَرَك حصانها المنهك فوق الأرض وقد تكالب عليه الذباب، وعدة رجال يحاولون إرغامه على النهوض، فسنحت الفرصة لذات كي ترى الحلاق العجوز، من عهد الحجامة، وهو يستخدم آلة حلاقة كهربائية في رأس زبون، وحفل الذباب حول القدور الزجاجية الملوَّنة بالأحمر والأصفر والأبيض في دُكَّان عصير، ورأس معصوب لامرأة شابة، حسنة الملامح، يُطل من فرجة في نافذة مشربية صغيرة، ثم كوم القاذورات والمخلَّفات المعهود الذي استقرَّت فوقه امرأة متوسطة العمر، حافية القدمَين، تأكل من طعمية وخبز وضعتهما أمامها على الوسخ مباشرة. كما سنحت الفرصة لذات كي ترى عملية وضعٍ على الطبيعة؛ فعندما تحامل الحصان على نفسه أخيرًا ونهض، كانت المرأة قد انتهت من طعامها وقامت من مكانها، فقفز فأران صغيران من تحتها.
استأنفت السيارة سيرها، وازدادت أصوات العويل قربًا، حتى أشرفت على حارة صغيرة ظهرت الغربان المولولة في نهايتها، مطلةً برءوس انعقدت فوقها مناديل سوداء، من شُرفة منزل قديم مدهون بلون وردي، اصطفَّت أمامه بضعة مقاعد للمعزين، وحالت دون الوصول إليه بركة من مياه آسنة تتصاعد منها رائحة نتنة، وتحلَّق فوقها أسراب من الذباب والناموس، هاجمت السيارة التي تمكَّنت راكبتاها من إغلاق نوافذها في الوقت المناسب، فحطَّت على هيكلها الخارجي وغطَّته تمامًا، إلى أن عبرت السيارة البِركة وتولَّى الأطفال المحتشدون طرد الذباب لتتمكَّن القادمتان من مغادرتها.
في الداخل مزيد من العويل إلى جانب البث؛ مواسير المياه والصرف الصحي انفجرت كالعادة في شوارع الجيش وسعد زغلول وفلسطين والبحر، ثم جاءت الأمطار فحوَّلت الشوارع إلى برك ومستنقعات، واقتحمت المياه المختلطة البيوت، وعجزت عاملات مصنع النسيج عن اللحاق بمواعيد العمل، فوقفن في الطريق باكيات، وانشغل الأطفال في إقامة سدود من الطين أمام المنازل، ونزح الماء من داخلها إلى الشوارع، ما عدا جيهان.
فابنة أخت سميحة، التي سُمِّيت على اسم سيدة مصر السابقة، والمتفوِّقة في دراستها (حصلت في الإعدادية على مجموع ٩٥ بالمائة)، أصرَّت على الذهاب إلى المدرسة، وفي الطريق انزلقت قدماها في الأوحال، فتشبَّثت بعامود إضاءة، وصعقتها الكهرباء.
ألم يحاول أحد إنقاذها؟
أمسكها المارة ببطانية وجذبوها بعيدًا عن العامود وأسرعوا بها إلى المستشفى العام، لكن السر الإلهي كان قد خرج، وأفضى الطبيب إلى الأم بسر من نوع آخر؛ إذا ثبت أنها ماتت في حادث يتعيَّن تشريح جثتها، لكن هذا المصير البشع يمكن تجنُّبه إذا تحرَّرت لها شهادة وفاة على أساس أنها راحت ضحية هبوط في الدورة الدموية بسبب مرض مزمن. وللأب قال: «يا عم بنتك ماتت وخلاص. قدرها كده. عوضك على الله.»
وافق الأبوان، فهل انتهى الأمر؟ أبدًا.
في منتصف الليل استدعَوا الأب إلى قسم الشرطة وقالوا له إنهم تألَّموا لمصابه. طب وبعدين؟ إنهم يعرفون بأمر شهادة الوفاة المزوَّرة، لكنهم سيتغاضَون عن ذلك إذا وعد بألَّا يتكلَّم.
وعد وأُقسم على المصحف.
قال له ضابط الشرطة: «مش كفاية. لازم تساعدنا.»
كيف؟
بأن يُحضر شاهدَين يقرِّران مرض ابنته بالقلب من أجل إتمام المحضر: «تأكَّد أنه لا يوجد إهمال، فماذا يفعل المحافظ والمسئولون عن المرافق والكهرباء في عامود نور وسلك مكشوف وقت المطر؟ نصيبها كده.»
قال الأب: «مش كفاية إني سكت. مطلوب مني كمان شهود؟!»
قال الضابط: «إنت حر، وإلا سنضطر لاستخراج الجثة وتشريحها. ترضى بنتك تتعذَّب؟»
عادت ذات من زفتى من غير حمص أو حصير، وإنما بكيلوَين من الكانتالوب، وقصة جيهان التي تلقَّاها عبد المجيد بغير مبالاة وهو يلتهم محتويات ثمرة بملعقة صغيرة معلِّقًا: «نصيبها.» فحملت القصة في اليوم التالي إلى الأرشيف.
لم تلقَ القصة النجاح الذي توقَّعته ذات؛ فقد اتسعت العيون وارتفعت الحواجب ومُصمصت الشفاه، ثم انفَضَّ السامر وعاد كل شيء إلى سابقه، فحكت وجه الأرنب عن حريق البتانون الذي وصله رجال المطافئ بعد ساعة ونصف من نشوبه، ثم اكتشفوا أن خراطيمهم مخرومة، وروت صاحبة المنكبَين ما جاء في بريد الأسبوع عن الزوجة الثانية الصغيرة التي أصيبت بالعمى عندما دعا عليها أولاد زوجها، وقالت الشامة السوداء إن زوجها يطالبها بالتحجُّب، ثم انتقل الحديث إلى موعد الخروج ويوم العطلة المحتمل والعلاوة أو المكافأة القادمة وأماكن التصييف في العام القادم، ونصيب كل فرد من المساهمة الإجبارية في سداد ديون مصر، والبلاستيك الذي يلتصق بالزجاج من تلقاء نفسه فيحوِّل الزجاج الأبيض إلى لون الفيميه، والزوجة التي قطعت زوجها بالسكين.
أعادت ذات الحكاية مرةً واثنتَين، وعندما تأكَّدت من إحكام المقاطعة وجَّهت حديثها إلى الرئيس ذي المخالب الذي تصادف وجوده، ورفعت صوتها ليصله عبر الماكينات المنهمكة في البث، فاستمع إليها في اهتمام، وعندما انتهت قال لها دون أن تطرف له عين: «الحمد لله على سلامة البنت.»
هل تيأس ذات؟ أبدًا؛ فقد توصَّلت إلى تكتيك ذكي. لبثت تتحيَّن الفرص، منتبهةً للحوارات الدائرة، فإذا ما عرجت على الريف تدخَّلت بشهادة ذاتية من واقع رحلة الأمس التي لم تكن في الحسبان، وتمَّت بشكل مفاجئ بسبب ما حدث لجيهان. فإذا لم يعرِّج الحوار على الريف، فلا بد أن يمر بمنطقة الحوادث؛ انفجارات أنابيب الغاز وسقوط المنازل وحوادث السيارات، أو تكفي إشارة عابرة إلى حانوت ذي اسم أجنبي لتعلِّق ذات على الظاهرة كما لمستها في الطريق الزراعي المؤدِّي إلى زفتى. وبالطبع فهناك طرق أقصر هي؛ الصرف الصحي، الصعق بالكهرباء، والكانتالوب.
ما لم تدركه ذات أنها تواجه كتيبةً متمرِّسةً وملولة، بالإضافة إلى أنها تجاهلت أهم قواعد البث؛ فالأنباء — مهما بلغت أهميتها أو بشاعتها — تفقد طزاجتها، وبالتالي ضرورتها بمجرَّد تعرُّضها للهواء، ولا بد من استبدالها بغيرها في أي بث لاحق.
أتاحت لها زيارة عابرة من منير زاهر تجرِبة تكتيك أخير؛ فقد جاء المصوِّر البدين ليبث أحدث اكتشافاته؛ جهاز صغير اسمه فيديو سندر، يوضع فوق الفيديو، فينقل إرساله، عن طريق هوائي خاص، إلى أجهزة التليفزيون القريبة، في نفس العمارة والعمارات المجاورة، فارضًا على المتلقِّي ما يشاء صاحب الفيديو من بث. فكَّرت ذات على الفور فيما يُتيحه الجهاز الجديد من مزايا؛ فهو يوفِّر على الشنقيطي عناء نقل الفيديو إلى شقتهما بعد منتصف الليل، ثم إعادته إلى شقته بعد ذلك، والنتيجة؛ إطالة مدة البث، وتمكين عبد المجيد من الاعتماد على نفسه، وذات من النوم في سلام واطمئنان.
منير الذي لم يكن يعلم شيئًا عمَّا يجري في شقة ذات من أحداث بعد منتصف الليل، كان مشغولًا بإمكانيات أخرى للجهاز الجديد، يستغل فيها براعته في عمل مونتاج من الأفلام والشرائط، مستعينًا بجهازَين للفيديو: «تصوَّروا فيلم من الأفلام إياها (ابتسامة ذات مغزًى احمرَّ لها وجه ذات، وجلبت ضحكةً ممطوطةً من وجه الأرنب، وابتسامةً خجلى من الشامة السوداء، وتقطيبةً عابسةً من المنكبَين) تتخلَّله في الأماكن المهمة لقطة لوزير وهو يقص الشريط في افتتاح مشروع ما، أو لرئيس مجلس الشعب وهو يدق بمطرقته طالبًا الهدوء، أو لأحد الملوك العرب في المطار وهو ينحني ليتناول باقة ورد من طفلة، أو لزوجة رئيس الوزراء أثناء زيارة حضانة للأطفال .. والَّا بلاش .. خدي فيلم لعبد الحليم حافظ وساعة ما يبدأ الغناء أقطع على رئيس الوزراء في خطبة من خطبه المملة .. أقدر أخليه يظهر كأنه يغني. بذمتك مش جنان؟»
فعلًا، لكن ذات التي اجتذبتها خيالاته الطفولية، ورغبته في التسرية عن الآخرين، لم تنسَ لحظة قضيتها الحيوية، فانطلقت تسرد قصة جيهان، مرةً أخرى، وإنما من زاوية جديدة بالمرة، هي الواجب المهني.
كان رد فعل منير محبطًا: «تفتكري أنا حر في اختيار موضوعاتي؟ ثم إني مجرَّد مصوِّر ولازم يطلع معي محرِّر، والأغلب أن رئيس التحرير لن يوافق على موضوعٍ كهذا لأنه صديق لمحافظ الغربية، التي تتبعها زفتى. وهؤلاء المحافظون أمرهم عجب .. الواحد منهم يعتبر أي شكوى من أي شيء في محافظته موجَّهةً ضده شخصيًّا. إذا كان الموضوع يهمُّك جربي الصحف الأخرى، أو أقولك، عليك بصحف المعارضة.»
المعارضة؟ هذا هو الجنون بعينه، فإذا كانت صورة عبد الناصر قد نقلتها إلى الأرشيف، فإلى أين يؤدِّي بها الاتصال بالمعارضة؟
ذاقت عينة ساعة الانصراف؛ فقد رمقتها الماكينات بنظرات غريبة ولم يعبأن بالرد على تحيتها. مضت بخطوات متردِّدة ووجه مذعور وقد ساورتها شكوك لم تحسمها إلا مدام سهير.
كانت مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة، التي تتميَّز بملابسها الأنيقة، وشعرها الأشقر (بالطبع) موضع مقاطعة حقيقية من سُكَّان العمارة منذ حادثة الطلاء المخصوص الذي حظي به باب شقتها، وما أعقب ذلك من شرائها لسيارة ١٢٧ على الصفر. ذات الطيبة، التي خبرت عذاب المقاطعة، هي الوحيدة التي شذَّت عن الإجماع، وأقامت معها علاقةً ودية، وإن كانت متحفِّظة؛ لهذا كان من الطبيعي أن تلجأ الأخيرة إليها عندما احتاجت إلى العون.
ففي يوم واحد امتُحِنت مدام سهير مرتَين في عقيدتها، على يد زائرَين من العراق. كان أمر الأول سهلًا؛ إذ أدركت من اسمه أنه مسيحي، فاعتذرت عن تقديم خدماتها إليه. واشترط الثاني ألَّا يتلقَّى هذه الخدمات قبل أن يعقد عليها أولًا طبقًا للمذهب الشيعي الذي يدين به. ولم تكن مدام سهير، التي اختارت طريق الخدمة العامة هربًا من امتحان الشهادة الابتدائية، قد سمعت من قبلُ بأمر المذهب المذكور، فاستمهلته حتى تفكِّر في الأمر، وعندما أعياها التفكير قامت بزيارة مفاجئة لذات، وهي تهز في يدها سلسلةً ذهبيةً تتدلَّى منها مفاتيح اﻟ ١٢٧؛ لتستفسر عن المذهب المذكور وطريقته المريبة في الزواج.
كان عبد المجيد هو الذي تولَّى توعية مدام سهير، فأبدت إعجابها بسعة معلوماته وبشخصيته أيضًا، ولم تُخفِ ما تشعر به من حسد لِمَا تتمتَّع به ذات من جو أسري دافئ، بينما دارت الأخيرة شعورًا مماثلًا إزاء ما تتمتَّع به مدام سهير من حرية استقبال الزائرين بالنهار فضلًا عن الليل. وتكرَّرت زياراتها إلى أن جاءت النهاية الطبيعية في يوم اعتنى فيه الأستاذ بحلاقة ذقنه وحفِّ شاربه في الصباح، ووجدته ذات في المساء (عندما دفعها هاجس غامض إلى قطع برنامج البث مع سميحة والعودة إلى شقتها) منهمكًا في حديث ودود مع مدام سهير، وحدهما تمامًا؛ لأن الأستاذ أرسل البنتَين مع ولي العهد لشراء مصاصة (دون غيرها).
ذات العازفة عن أي حديث ودود مع عبد المجيد، لم تكن تقبل أن يُجرى هذا الحديث مع امرأة غيرها؛ لهذا أشارت إلى باب الشقة وطلبت منها ألَّا تعبر عتبته مرةً أخرى لأي سبب.
اهتزَّت مدام سهير لوقع الإهانة، ففقدت صوابها، وفرشت لذات على السلم ملاءةً عريضةً ملأتها بأقذع الشتائم، إلى أن فرغ قاموسها دون غِلِّها، وعندئذٍ تذكَّرت المذهب الغريب الذي يحلِّل ما حرَّمه الآخرون، فأرادت أن تصمها بالشيعية، لكنها كانت تعاني مثل ذات من الحالة التي تختلط فيها المعاني، وتركَّب فيها الألفاظ فوق بعضها البعض، فاستعصت الكلمة عليها وانتظمت حروفها بصورة أكثر طوعًا (لأسباب فسيولوجية لا أيديولوجية) للسانها المعوج: «شيوعية.»
استمعت ذات من خلف باب شقتها المغلق للشتائم المنهالة عليها دون أن تهتم، إلى أن بلغها الاتهام الأيديولوجي، فهبط قلبها — فعلًا — بين ساقَيها؛ إذ تأكَّد لها أخيرًا ما كانت تساورها بشأنه الشكوك؛ السبب الفعلي للمقاطعة.
١٠
ثمانية آلاف من جنود «الأمن المركزي» بالقاهرة
يتمرَّدون ويغادرون معسكراتهم صائحين:
الجنود المتمرِّدون يحطِّمون الواجهات الزجاجية لفندق «جولي فيل»؛ أي القرية الجميلة، المواجه لمعسكرهم في الهرم، وهو أحدث وأفخم فنادق القاهرة، ثم يقتحمونه ويُشعلون فيه النيران.
أحزاب المعارضة: «إذا كان لقُوَّات الأمن المركزي أية مطالب فكان يجب التعبير عنها بالطرق المشروعة.»
المسئولون: هناك ملامح مؤامرة منظَّمة.
جريدة الأخبار الحكومية: «ليس في مصر كلها رأي مكبوت، وليس هناك قيد على أحد حتى ينفجر في وجه السلطة على هذا النحو.»
للجندي ستة أرغفة خبز بدلًا من ثلاثة في اليوم وأربعة بطاطين بدلًا من اثنتَين وإجازة كل شهر بدلًا من كل شهرَين.
نجف كريستال للصالون اشتراس نمساوي (كريستال طبيعي)
مطلي بماء الذهب عيار ٢٤، بسعر يبدأ من ٦٦٠ جنيهًا للحجم الصغير، بمحلات القطاع العام.
يقدِّم دهانات لشقتك ماركة بلابوند، ورقًا للحائط، موكيتًّا، ديكوراتٍ للأسقف والأرضيات، والستائر والمطابخ والبلاكار والألومنيوم والكهرباء والسيراميك والصرف الصحي.
١١
فيما يبدو، فإن الانطباع الذي تكون لدى ولي العهد عندما تفتَّحت عيناه على عالمنا لم يكن مشجِّعًا؛ فقد عزف عن تشغيل ماكينة البث، وتمسَّك بموقفه رغم كل المغريات. وعندما بلغ الثالثة من عمره كان قد عثر على وسائل اتصال بديلة، واكتشف أساسيات علم السيميولوجيا الحديث، وحده دون مساعدة من أحد.
لم يجد عبد المجيد في هذا التطوُّر ما يضير، بل استراح إليه؛ ذلك أنه ألفى نفسه قادرًا على استيعاب مبادئ العلم الجديد بسهولة، وأصبح يستمتع بالاتصال بولي عهده عن طريقها، بل ويبتكر قواعد جديدةً منها تناسب الحال.
ذات هي التي لم تنتبه إلى نبوغ وليدها المبكِّر؛ فقد فاتها أن تلحظ علاماته وسط مسيراتها المتعدِّدة. وكانت صفية هي التي دقَّت جرس الخطر خلال زيارة عابرة (في طريق عودتها من الإسكندرية إلى السعودية عقب إجازة قصيرة)؛ إذ صاحت مستنكرةً عندما رأت عبد المجيد وولي عهده منهمكَين في حوار صامت بلغة الأصابع والإشارات، انضمَّت إليه ذات بعد قليل.
بدأت رحلة العلاج على الفور، واستمرَّت طويلًا حتى انتهت في عيادة حديثة بمستشفى الدمرداش خُصِّصت لأمراض البث (التي انتشرت بشكلٍ ملموس في السنوات الأخيرة وعلى رأسها اعوجاج اللسان)، حيث خضع الطفل النابغة إلى برنامج مكثَّف من عدة جلسات يجري خلالها تدريبه على تشغيل الماكينة.
اصطحب عبد المجيد ولي عهده إلى الجلسة الأولى، ولزم الفراش بمجرَّد عودته، عندما علم أن دوره في الانتقال إلى أحد فروع البنك في البلدان العربية قد تمَّ تجاوزه لصالح أحد مرءوسيه الذي يحمل شهادةً جامعية، وظلَّ طريحه حتى حان موعد الجلسة التالية، فاضطُرت ذات إلى القيام بالمهمة بدلًا منه.
كان موعد الجلسة في الواحدة بعد الظهر؛ لهذا أرسلت الطفل كالمعتاد إلى الحضانة، وحصلت على إجازة عارضة، ثم انهمكت في ترتيب الشقة، وأعدَّت صينية مكرونة بالباشَميل، وخلال ذلك زوَّدت عبد المجيد، طريح الفراش، بكوب من الشاي امتنع عن شربه لأنه كان من غير ليمون. وعندما انتصف النهار وبدأت تستعد للخروج، انفجر غضب عبد المجيد.
لم يكن الليمون هو السبب وإنما الروج؛ فبعد أن استحمَّت واستبدلت ملابسها، وقفت أمام المرآة، في مجال رؤيته، وأخذت تمر بأصبع الروج على شفتَيها. وهكذا ذكَّرته، لا بنفيسة أبو حسين، وإنما بمنير زاهر.
ففي مناسبة سابقة، علم عبد المجيد عندما أبدى إعجابه بلون الروج الذي تستخدمه زوجته أن زميلها المصوِّر يشاركه نفس الرأي، وتكرَّرت هذه المناسبة كما تعدَّدت أشكال المشاركة، إلى أن بدأ يشعر بالقلق.
أعلن عبد المجيد فجأةً من مرقده بلهجته الحاسمة: «لازم تتحجبي.»
تطلعت إليه — في المرآة — مدهوشةً من قوة التليباثي؛ فقد كانت تقلِّب الفكرة ذاتها في رأسها كوسيلة لنفي التهمة التي جلبها جهل مدام سهير بالمذهب الشيعي، لكنها — كالعادة — كانت متردِّدةً في الجهر بها خوفًا من رد الفعل — غير المتوقَّع دائمًا، والسلبي في معظم الأحوال — من جانب زوجها.
تكرَّم عبد المجيد بشيء من التحديد: «على الأقل تغطي راسك.» وكان هذا أيضًا هو ما يدور برأسها.
أكملت ذات استعداداتها بحذاء مرتفع الكعب؛ لتستمد من السنتيمترَين الإضافيَّين قدرهما من الثقة بالنفس، وسألته عمَّا إذا كان يحتاج إلى شيء، فشكرها بلهجة ما زالت غاضبة، قائلًا إنه سيعتمد على نفسه، وبذلك غادرت المنزل مطمئنة، وخاضت بحرص في الأتربة المكوَّمة فوق ما تبقَّى من الرصيف، وخلف السيارات المركونة إلى جواره، وأمام دكَّان تصليح الغسالات الذي رفع لافتةً جديدةً ملوَّنةً تُعلن عن «رجبكو برذرز للأدوات الصحية».
كان ولي العهد ينتظرها خلف قضبان نافذة الحضانة، مزاحمًا بقية الأطفال الذين تعلَّقوا بقضبانها ليُشبعوا شوقهم إلى الحرية. تدافعت الدموع إلى مآقيها وهي تعبر البلاط المكسَّر إلى باب مغلق فتحته فتاة محجَّبة، ليكشف عن صالة معتمة باردة، خلت من أي فرش، وتدفَّق إليها الأطفال لمعاينة الطارق، يحدوهم الأمل في إفراج مبكِّر، وعلى رأسهم ولي العهد، ناسيًا في لهفته حقيبته الصغيرة الحمراء، ولفافة السندوتشات.
لم ينسَ ولي العهد الشيء الأهم؛ فلم يكد يخطو إلى الشارع حتى قاد أمه المستسلمة في اتجاه الميكروفون الجَهْوري الذي يدعو إلى الإيمان بالله ونبذ الدنيا، والذي كانت ستقصده على أية حال.
ولجت الدكَّان الكبير الذي ثُبِّت الميكروفون فوق مدخله، ومرَّت من أمام رفوف الكتب الدينية وقصص الأنبياء وأقلام الفلوماستر، واللعب المستوردة من هونج كونج، وأغطية الرأس النسائية الإسلامية، والفتاة المحجَّبة التي تدير آلة حياكة، وأخيرًا الكهل الملتحي بطاقية بيضاء مربعة، الذي وقف خلف ماكينة لتصوير الوثائق، عاكفًا على تشغيلها وهو يبتسم في وداعة وطيبة مردِّدًا اسم الله، ومصليًا على رسوله، ومسلِّمًا على النبيِّين بلغة فصيحة؛ إذ كان يُمتَحن في إيمانه الذي من علاماته الحلم.
فالزبون الذي عهد إليه بأوراقه ليصوِّرها كان من النوع الذي يبعث به الشيطان عادةً لهذا الغرض؛ ولهذا أبدى اعتراضه على درجة نقاء الصورة، بل وطالب باستخدام الورق الخاص بالتصوير بدلًا من ورق الكتابة العادي الذي كان يستخدمه الكهل الملتحي. وتجنَّب الأخير الدخول في جدال حول نوع الورق، معلنًا في صوت قوي أن الصورة جيدة لأنها تُقرأ دون صعوبة، ونفى مبعوث الشيطان ذلك، فتلفَّت الكهل حوله بحثًا عن نصير، ولم يجد أمامه غير ذات، فمدَّ يده إليها بالورقة قائلًا بلغته الفصحى السليمة: «ما رأيك يا أخت؟»
الأخت كانت تجد نوعًا من تحقيق الذات في التوفيق بين الرءوس في الحلال، بدءًا من القيام بدور الخاطبة إلى لعب دور الحكم؛ لهذا انتهبت الفرصة، وقبل أن تفحص جسم الجريمة قرَّرت أن تقف في صف الجانبَين معًا، وتهوِّن عليهما الأمر، وتدعوهما إلى كلمة سواء بينهما، لكن الكهل لم يُطِق معها صبرًا، فألقى بالورقة جانبًا وهو ينادي في حِدة، ضاغطًا على مخارج الحروف، فيما خُيِّل لذات أنه النطق الإسلامي: «يا فَاطِمَة.»
برزت من أعماق الدكَّان فتاة محجَّبة، تحمل في يدها، ودون أن يطلب أحدٌ منها (كأنها تدرَّبت جيدًا على هذا الموقف) رزمةً جديدةً من الورق تناولها الكهل في عصبية، ووضعها مكان الورق القديم، ثم ضغط زرار التشغيل في عنف.
تحوَّلت الفتاة إلى ذات مستفهمةً عن طلبها، وكان ولي العهد قد حدَّده منذ الوهلة الأولى، في اتِّباع نموذجي للمثال القومي؛ إذ تسمَّر أمام رف السيارات حائرًا بين أحجامها، وموديلاتها.
النتيجة كانت متوقَّعة؛ فقد اختار الطفل أغلاها، واشترت ذات أرخصها، وكان لا بد من إلهائه عن البكاء، فعدلت عن تفقُّد أغطية الرأس، وجذبته من يده إلى أعلى بمجرَّد أن غادرا الدكَّان، متظاهرةً بأنها تلعب، وكي تجنِّبه الخوض في القُمامة. وكرَّرت القفزة أمام كتلة من الكابلات الكهربائية المنبثقة من جوف الأرض أمام دكَّان ملابس ذي واجهة زجاجية عريضة تعلوها لافتة تُعلن أن المكان مكيَّف الهواء. اندمج ولي العهد في اللعبة الجديدة فكرَّرها بصورة آلية عند الحاجز الثالث الذي لم يكن من طراز المرتفعات، وإنما عبارة عن حفرة عميقة، استقرَّ في قاعها وسط قليل من المياه.
أدَّت محاولة انتشال الغريق إلى التواء الكعب الطويل لحذاء ذات، الذي لم يكتمل أسبوع على شرائه. والْتجأ الاثنان إلى جوار الحائط ريثما خلعت حذاءها لتتبيَّن مدى الإصابة، وعندما قدَّرت أنه يستطيع أن يتحمَّل مشوار المستشفى أخرجت من حقيبة يدها منديلًا من الورق، أزالت به آثار المياه والطين من ملابس طفلها، وجرَّته في حزم إلى محطة الأوتوبيس.
أدركت ذات أن الحظ يحالفها في هذا اليوم، رغم البوادر غير المشجِّعة، عندما ظهرت سيارة أوتوبيس بعد قليل، وعندما تصادف وقوفها إلى جوار راكب هبط في المحطة التالية، فاحتلَّت مكانه على الفور، وهي تتوجَّه بالشكر الحار إلى راعي البشر أجمعين، متغاضيةً عن المتاعب الثانوية.
فقد أرادت أن تأخذ ولي العهد فوق حجرها لكنه رفض، وأوضح وجهة نظره باللغة الوحيدة التي يتقنها. واجتذب هذا الشكل النادر من البث اهتمام ماكينة تجلس بين ذات والنافذة، وتحمل فوق ساقَيها طفلةً صغيرة، فتأمَّلا ولي العهد في إشفاق (السيدة)، واستنكار للمنافسة غير المتوقَّعة (الطفلة). نقلت الأولى بصرها بين الطفل وأمه وهي تمصمص بشفتَيها تعبيرًا عن شعورها بالأسى، وإن كانت في الحقيقة تقوم بتسخين الماكينة استعدادًا للبث، لكن ذات فوَّتت عليها الفرصة متظاهرةً بالشرود.
لم تقنط الماكينة وتوسَّلت بالصبر حتى سنحت فرصة أخرى، عندما مالت عليها ذات لتبعد كتفها عن الجسم الصلب الذي أراد أن يندس أسفل إبطها، فلوت شفتها في اشمئزاز من هذا السلوك ومن جنس الرجال عمومًا، وتابعت مع ذات الرجل المقصود وهو يبتعد باحثًا عن ضحية أخرى، ثم يتجه إلى كتف أنثوية ممتلئة برزت من مسند أحد المقاعد بصورة متعمدة، تعلن عن استعدادها وتلهُّفها. وشرعت الماكينة في البث، لكن ذات كانت قد انشغلت بفك شفرة الأسئلة المتتابعة التي وجَّهها ولي العهد حول زحام الطلاب أمام الجامعة. وعندما ترك الأوتوبيس ميدان العباسية مندفعًا كالسهم في شارع لطفي السيد، غادرت مقعدها وجذبت الطفل أمامها، وشقَّت طريقها بصعوبة وسط الأجسام المتلاحمة نحو باب النزول، لكن الخروج من الحمَّام ليس دائمًا في نفس سهولة الدخول إليه.
وقفت إلى جوار السائق معتمدةً على قضيب حديدي، ثبَّته إلى القوائم المعدِنية الأصلية للسيارة؛ ليحميه من الماجما البشرية. كان شابًّا في نهاية العشرينيات، مهموم الوجه، ذا لحية نامية، عن إهمال لا عن دروشة، يرتدي قميصًا وبنطلونًا قذرَين مجعَّدَين، كأنما قضى ليلته نائمًا فيهما. وكان يسوق بقدم واحدة ينقلها بين المسرِّع والكابح، بينما ثنى الأخرى وأسندها، عاريةً من جوربها، كاشفةً عن أصابع متسخة، فوق عامود المقود.
وزَّعت ذات اهتمامها بين السيطرة على تحرُّكات أمجد، وحماية مؤخِّرتها من الاحتكاكات العَفْوية المقصودة (ومنها واحد بالذات بالغ الصلابة أصابها بالارتباك لأنه أوشك أن يهز دعائم موقفها المعادي لهذا اللون من السلوك)، ومتابعة السباق الذي اشترك فيه السائق مع سيارة يابانية حمراء اللون مزوَّقة برسم السوبرمان ونسر أسود ذي جناحَين هائلَين يقودها مراهق في ملابس رياضية وتتصاعد منها موسيقى هشك بشك، مرقت بجوار الأوتوبيس كالصاروخ، ثم أجبرها الزحام على التباطؤ حتى لحق بها الأوتوبيس ولاحقها بعد ذلك عندما انساب المرور، مائلًا نحوها حتى أجبرها على الابتعاد نحو الرصيف، لكن سائقها كان مصرًّا على البقاء في المقدِّمة، فعالجه سائق الأوتوبيس بانحرافات حادة مفاجئة أجبرته على السير بحذاء الرصيف.
أحاطت ذات ولي عهدها بساعدَيها، متناسيةً أمر مؤخِّرتها، مترقبةً في هلع النهاية المحتومة، عندما تجاورت السيارتان، ثم انحرف سائق الأوتوبيس بشكل مفاجئ نحو الشاب فأجبره على الصعود فوق الرصيف والمضي فوقه حتى وجد نفسه متجهًا نحو عامود نور فأوقف سيارته تمامًا، منسحبًا من السباق، بينما واصل الأوتوبيس طريقه بنفس سرعته، بعد أن ألقى سائقها بنظرة خاطفة غير مبالية على السيارة المهزومة في مرآته. وقبل أن تلتقط ذات أنفاسها ظهرت محطة المستشفى على مرمى البصر، فمالت نحوه، مستجمعةً كل ما تملك من رقة، قائلة: «المحطة الجاية وحياتك.»
لم يعبأ السائق بها واحتفظ بنفس سرعته، عازمًا على تقديم عرض قياسي من نوع آخر؛ إذ أوقف السيارة أمام المحطة بحركة مفاجئة، ألقت بالركَّاب إلى الأمام، فاصطدم الجالسون بظهور المقاعد التي تواجههم، بينما تدحرج الواقفون في اتجاه مقدِّمة السيارة، وتعرَّضت مؤخِّرة ذات لكثير من الأذى قبل أن تتمكَّن من مغادرة السيارة مع ولي عهدها.
وقفا في منخفض من الأتربة ينتظران أن يخف اندفاع السيارات كي يعبرا الطريق. وطال انتظارهما بينما انضمَّ إليهما زوجان ثم ثلاث سيدات وعددًا من التلاميذ. وانتهز الجميع فرصةً سانحةً خفَّ فيها ضغط السيارات، فاقتربوا من بعضهم البعض، ثم اندفعوا جريًا عبر الطريق مثل الدجاج المذعور. وفوجئت ذات بأن الرصيف الذي بلغته ضيِّق للغاية ويشغله عددٌ من سيارات المرسيدس المعروضة للبيع، فجعلت الطفل إلى يمينها ومضيا بين السيارات المندفعة، حتى طفا الرصيف الأصلي، فاعتلياه؛ وبذلك أصبح الطريق ممهَّدًا أمام ولي العهد.
فقبل أن تنتبه إلى نواياه كان قد عهد إليها بحقيبته، وانطلق يجري غير عابئ بصيحاتها، مجبرًا إياها على أن تخب خلفه بأقصى ما تملك من جهد، مشيرًا إليها بأصابعه أنه يعرف الطريق، منحنيًا في ممر جانبي، عابرًا بركةً من مياه المجاري، متجاهلًا أول بوابة في سور المستشفى، ومتوقِّفًا أمام البوابة التالية، حتى لحقت به لاهثة الأنفاس.
لكنه كان قد استحقَّ شرف القيادة التي تولَّاها بكفاءة ساحبًا ذات خلفه، وسط الزحام، وبجوار كوم من الحجارة والمخلَّفات المعتادة لمسيرة الهدم والبناء، وفوق السلَّم الداخلي لمبنًى تكوَّمت القُمامة أمامه، واقتعد درجته العليا عجوز في جلباب نظيف، بادي الإعياء، وعبر قاعة كبيرة حُفَّت بجانبَيها الغرف ومقاعد الانتظار وزحمها المرضى، وأسفل سلم خشبي اعتلاه عملاق انهمك في دهان السقف دون أن يعبأ بالمارة الذين لم ينتبهوا إلى وجوده وإلى الطلاء المتناثر من فرشاته إلا بعد أن تلوَّثت ملابسهم، وإلى باحة صغيرة في الطابق الأرضي اصطفَّت بها مقاعد خشبية مدهونة حديثًا بلون أخضر قاتم، تحيط بباب خشبي في نفس اللون، استقبلتهما خلفه عجوز في ملابس التمرجية المغبرة أعلنت أن الطبيبة لم تصل بعد، وعندما سألتها ذات: «وإمتى تيجي؟» ردَّت متعجِّبة: «لمَّا تيجي.» ثم وجَّهت اهتمامها إلى قادم جديد قبل أن تضيف بشيء من التنازل: «اسألي عنها في القسم.»
بدا الطفل متمرِّسًا بكل هذه التطوُّرات؛ إذ استدار على عقبَيه، وقاد أمه في الطريق الذي جاءا منه، وأسفل سلم الدهان إياه، حتى غرفة مجاورة لقسم الأورام، كشف الزجاج المبرقش لبابها المغلق عن ضوء فلورسنتي، لكنه لم يستجب لطرقاتهما، فأطرق برأسه إطراقة العارف الخبير، وانطلق كالسهم، وأمه خلفه، إلى الخارج دون أن تستوقفه غير ثلاث ظواهر؛ امرأة في جلباب أسود وشبشب، معصوبة الرأس بمنديل، انتشرت بقعة داكنة اللون حول صدغها الأيمن ورقبتها (قدَّرت ذات، بخبرة أيام التفعيص، أنها من أثر جرعة زائدة من الكوبالت)، وتمرجية مترهِّلة الجسم، لوَّنت القذارة كعبَي قدمَيها العاريَين البارزَين من شبشبها، تدفع في زهق مريضًا ممدًّا فوق نقَّالة معدِنية، فتصطدم رأسه بحافتها المعدِنية، صعودًا وهبوطًا، في حركة إيقاعية، ورجل خمسيني في ملابس أنيقة وعُوينات مذهَّبة، وشعر مصفَّف في عناية، برز من إحدى الغرف في عجلة وقد هُرع خلفه عددٌ من الشبَّان ذوي المعاطف البيضاء.
بلغت المسيرة منتهاها في قاعة انتظار ضيِّقة، تمثِّل جزءًا من طابق مسروق في المبنى المجاور، فارتمت ذات على أحد مقاعدها البلاستيكية، وهي تتنهَّد في ارتياح ما لبث أن تبدَّد.
فقد ألفت نفسها في مواجهة سيدة سمراء مكتئبة الوجه، ترتدي فستانًا رخيصًا، لكن شكلها العام، وأظافر يدَيها وقدمَيها المقصوصة في عناية دون طلاء ينطقان باهتمام بالغ النظافة. وكانت تحمل في حجرها طفلًا كبير الحجم والسن، معوج الساقَين، مبطَّط الوجه كأنه فطيرة. وإلى جوارها امرأة أخرى قمحية اللون، ذابلة البشرة، تهدَّل شعرها على كتفَيها، وكشفت فتحةُ صدر فستانها عن منبت ثديَين جافَّين، وبرز من صندلها كعبان فقدا لونهما الطبيعي من زمن، استقرَّت بينهما طفلة كبيرة الجسم حليقة الرأس، مالت بصدرها فوق الأرض، وزحفت بحوضها نحو كِسرة خبز ملقاة بجوار الحائط، فتناولتها ووضعتها في فمها. وعندما أرادت المرأة، في غير حماس، أن تنتزعها من يدها، تشبَّثت بها، ثم مسحت الأرض بكفِّها، ولوت جسدها وزحفت مبتعدة بعد أن أدارت وجهها ناحية ذات، التي طالعت ابتسامةً بلهاء وعينَين غريبتَين أشبه ببئرَين من غير قرار.
شعرت ذات بابنها يلتصق بها في خوف، متأمِّلًا الآخرين في استغراق، وألفت نفسها تتفحَّصه بأعين الأخريات باحثةً عن أوجه القصور لديه، فراودها الشك لحظةً في أن عينَيه قريبتا الشبه بالعيون المنغولية، الأمر الذي كانت تخشاه طول مدة الحمل، والذي كان محور أول سؤال نطقته بعد الولادة.
انتزعت عينَيها بصعوبة من وجه ولي العهد، فالتقتا فوق رأس الطفلة الزاحفة على الأرض بعينَي أمها المكتئبتَين. عندئذٍ نهضت فجأةً واقفة، وجرَّت الطفل خلفها إلى الخارج، عائدةً أدراجها إلى المبنى الأول، متوليةً القيادة هذه المرة. مرَّت من أسفل سُلم الطلاء الخشبي، وهبطت إلى الباحة الخضراء، لكنها لم تجد تمرجية «تيجي لمَّا تيجي»، وكان الباب الأخضر مفتوحًا، فولجته إلى ردهة تُفتح عليها عدة غرف مضاءة، لا أثر بها لأحد، وليس فيها سوى الأوراق والأقلام المتناثرة فوق المكاتب، فيما عدا الغرفة الأخيرة التي وجدت بها طبيبًا جالسًا إلى مكتبه، يعبث بعددٍ من مكعَّبات الأطفال الملوَّنة.
ابتسم لها الطبيب مرحِّبًا وأشار إليها أن تتفضَّل، فولجت الغرفة مع ابنها، وقدَّمت بطاقته العلاجية للطبيب، الذي ألقى عليها نظرةً سريعة، ثم توجَّه بالحديث إليه: «اسسمك ايه يييا شششاطر؟»
لم ينبس الشاطر بحرف، بل تطلَّع إلى الطبيب في جمود منكمشًا في حضن أمه، التي أبعدته عنها وهي تبتسم في خجل، وتهيَّب به أن يتجاوب مع الدكتور، ولكنه تشبَّث بصمته في عناد، فقرأ هذا من البطاقة: «أأأأأمجد ﻋﻌﻌﻌﻌ عبد الممممجيد ﺣﺤﺤﺤ ﺴن.»
استمعت ذات في صبر للحوار المتقطِّع (من طرف واحد) ظانَّةً أنه تكنيك متعمَّد للعلاج، ولم يلبث الشك أن ساورها وهي ترى المجهود الذي يبذله الطبيب في إخراج الكلمات المتقطِّعة من بين شفتَيه، وقطعت الشك باليقين عندما أعلن بعد نصف ساعة: «ﺧﺨﺨﺨﺨ ﻼص اننننننهاردده.»
ضبط النفس الذي أبداه ولي العهد في حضرة الطبيب تلاشى بمجرَّد خروجه إلى الشارع، فسدَّد أصبعه في تصويب حاذق إلى كشك السجائر والحلوى الذي عُلِّقت بنافذته أكياس العصائر المزوَّقة بصور ملوَّنة للفواكه المختلفة. وفقد أصبعه ثباته عندما اقتربا من الكشك، فتأرجح متذبذبًا بين أكياس الشيبسي والكاراتيه والبوزو والشوكو أب والكيمو، لكن ذات كانت حاسمةً فأشارت إلى السندوتشات الموجودة في الحقيبة وأعلنت: «عصير وبس.»
تناولت من الأظافر القذرة للبائعة ممصًّا من البلاستيك، فمسحته في بلوزتها، ثم طهَّرت طرفَيه بلعابها، وثقبت كيس العصير بأحد الطرفَين، ثم قدَّمته له آملةً أن يتكفَّل بإلهائه خلال رحلة العودة، التي اختارت لها، بعد حسابات معقَّدة، سيارة أجرة.
استمرَّت الحسابات داخل السيارة؛ فعندما انطلق السائق على مهل وعينه على المارة، آملًا في زبون آخر، وأوشك لذلك أن يصطدم بسيارة أخرى توقَّفت فجأةً ليشتري سائقها بضعة أرغفة من الخبز المعروض فوق قفص على قارعة الطريق، أصابها الهلع، فأنقصت الأجر الذي قدَّرته للسائق في كرم عندما توقَّف لها، من جنيه ونصف إلى جنيه. وعندما الْتقط سيدةً بدينةً وطفلتها، وأجبرها على الجلوس في الخلف إلى جوار ذات وولي عهدها؛ ليبقى المقعد المجاور له خاليًا من أجل راكب إضافي، تميَّزت من الغيظ، وبدأت تزن إمكانية خفض الجنيه إلى نصف جنيه. وعندما لم يفُز السائق بالراكب المأمول، رغم تلكُّئه في ميدان العباسية وأمام الجامعة والمستشفى التخصُّصي وفي التقاطعات وأمام المؤسَّسات العسكرية، رقَّ قلبها له، وتصوَّرته مجاهدًا في سبيل إطعام سبعة أفواه أو تسعة، فارتدَّت إلى الجنيه وأخذت تزن إمكانية رفعه إلى الرقم الأصلي الذي قدَّرته في البداية.
في هذه الأثناء كان ولي العهد قد انتهى من كيس العصير، ومن تأمُّل المنافسة الوافدة، فطالب بسيارته، وأجبر أمه على استخراجها وفض غلافها الكرتوني، ليكتشف أنها بثلاث عجلات. أوشكت أن تهوِّن عليه الأمر وتزعم أن السيارة من طراز خاص، لولا أن محور العجلة الرابعة كان مطلًّا برأسه، شاهدًا على الطراز الذي تنتمي إليه السيارة، فوعدته بإعادتها إلى البائع واستبدالها بواحدة سليمة، وبهذا أمكنه أن يمارس هوايته في التعرُّف على الأشياء، متسائلًا، بالإشارات: «إيه ده؟» أمام ضريح جمال عبد الناصر، والمدافع المهيبة التي تتصدَّر المباني العسكرية، والواجهات الحمراء لمحلَي «الويمبي» و«كنتاكي فراي تشيكن»، والمطعم الفخم ذي النجوم، واللافتات البارزة من العمارات الجديدة، معلنةً بحروف أجنبية عن مكاتب استشارية وتوكيلات أجنبية ومحلات أنتيكات وديكورات، ومستشفًى للولادة، وصفوف السيارات الخاصة المنتظرة في غير نظام خروج أولياء العهود من مدارس اللغات الواقعة في الشوارع الجانبية.
تولَّت ذات الرد على استفسارات ولي عهدها برحابة صدر؛ فلم تلحظ في الوقت المناسب أن السائق، بدلًا من أن يتجه إلى ميدان روكسي، قد انحنى يمينًا في اتجاه رئاسة الجمهورية ومنطقة الميرغني. توسَّلت بالصبر بضع لحظات على أمل أنه يقوم بالتفافة قصيرة لسبب ما، وعندما رأته ممعنًا في صراط مستقيم تجرَّأت وسألته في لطف، فقال إنه ذاهب إلى كلية البنات لتوصيل الراكبة الأخرى وولية عهدها. لم تستسلم بسهولة وجادلته في أسس المنطق، ومستشهدةً بأقوال من قبيل «ودنك منين يا جحا»، وأولويتها في الركوب وبالتالي في النزول، بينما كان هو مستمرًّا في طريقه لا يلوي على شيء، حتى تمَّ إيداع الراكبة الممتعضة (بالطبع) وابنتها بسلام في شارع جانبي خلف كلية البنات، وخلال ذلك كانت أجرته المتوقَّعة قد هبطت من جديد إلى نصف جنيه، ثم ارتفعت إلى الجنيه عندما أَسر إليها، وهو يتجه أخيرًا إلى الطرف الآخر من مصر الجديدة، أنه يسكن هناك وأنه عائد إلى منزله، وأن خط السير الذي اتبعه هو الخط المنطقي في مثل هذه الظروف. ناولته الجنيه وهي تجذب مصراع الباب، فانخلع في يدها، بينما أمسك هو الورقة البائسة بأطراف أصابعه في استهانة قائلًا: «خمسين قرش كمان.»
كانت في مركز ضعيف؛ فهو الذي يملك إطلاق سراحها، وقد فعل بعد أن ناولته الورقة الإضافية التي طلبها، فمال فوق ظهر مقعده وفتح لها الباب من الخارج، دون أن يغفل النظر إلى ساقَيها، متلمِّسًا فرصةً عند النزول تكشف له عن إحدى عتبات قدس الأقداس المتواري بينهما، ثم أغلق الباب خلفها في عنف، مشيِّعًا إياها بالشتائم الموجَّهة إلى أبيها وأمها وجنسها كله، بينما اتجهت هي إلى الميكروفون الجَهْوري الذي كان يدعو إلى الإيمان بالله ونبذ الدنيا، وأضاف الآن، في عويل يقطع نياط القلوب، الاستنكار لأن يكون هناك رئيس يُدعى حنا ويحمل إليه كوب الشاي من يُدعى محمد. استقبلتها فتاة محجبة لم ترَها من قبل، فشرحت لها بُغيتها بصوت حرصت على أن يبلغ مسامع الكهل ذي الطاقية البيضاء الذي كان في مكانه المعهود خلف ماكينة التصوير، يتمتم بالآيات والأحاديث المناسبة.
تحوَّلت الفتاة المحجَّبة إلى الكهل قائلة: «دكتور فتحي، المدام أخذت هذه اللعبة اليوم وفي البيت وجدتها بثلاث عجلات فقط.»
صاح الدكتور فتحي مهتاجًا، وقد تخلَّى نهائيًّا عن لغة القرآن: «وأنا أعملها إيه؟»
توجَّهت إليه ذات بالحديث، متوسِّلةً بكل ما تملك من منطق: «المفروض آخذ واحدة تانية بدلها.»
خبط الدكتور فتحي بيده على جهاز التصوير قائلًا: «مين قال ده؟ أنا أخدت البضاعة من صاحبها وانتي اشتريتي مني، فأنا مالي؟»
كان قد انتهى من التصوير، فناول الأوراق للزبون وأشار إليه أن يذهب إلى صندوق النقود بجوار المدخل، الذي تجلس خلفه كهلة محجَّبة، وتبعه متجهًا إلى الخارج قائلًا: «سأذهب للصلاة.»
وقفت ذات حائرةً في منتصف الدكَّان لا تدري ماذا تفعل، بينما اختفت الفتاة المحجَّبة في الداخل، وانشغلت الكهلة بحساب الزبون، وعندما فرغت منه تحوَّلت إلى فتاة صبوحة الوجه، تغطِّي رأسها بمنديل أزرق اللون، ولجت الدكَّان على استحياء واقتربت من الكهلة مستفسرةً عن الدكتور فتحي، موضِّحةً بصوت خافت أن زوجها يطالبها بالبقاء في البيت، بينما تريد مواصلة العمل؛ ولهذا تريد أن تعرف حكم الشرع في الأمر.
طمأنتها الكهلة بأن الدكتور سيعود من الصلاة بعد قليل، وتحوَّلت إلى ذات متسائلةً في برود: «أي خدمة؟»
فتحت ذات فمها لترد، لكن لسانها امتنع عن الحركة، فاضطُرت لإغلاقه بعد لحظة، وانسحبت بهدوء محتفظةً بالسيارة ذات العجلات الثلاث، ناهرةً ولي العهد في عنف عندما شرع يحرِّك أصابعه، ممَّا أطلقه في نوبة بكاء حارة من القلب. جرَّته خلفها إلى السوق الواقع خلف منزلها، فاشترت ليمونًا لعبد المجيد، دون أن يخطر لها أنها ستكون المستفيدة الأولى منه؛ لأنها انضمَّت إلى زوجها في فراش المرض بمجرَّد دخولها الشقة.
١٢
في اتحاد مُلَّاك قصر رشدي بالإسكندرية
الآن في مصر!
أجهزة التكييف الحديثة.
توضع على الأرض أو تعلَّق طبقًا للحلول الديكورية
المقر الرئيسي: جزر البهاما.
يقوم بكافة الأعمال المصرفية من المشاركة والمرابحة والمضاربة على المعادن الثمينة وتُجَّارة العملة بيعًا وشراءً. رأس المال٥٠ مليون دولار.
الأمطار لن تسقط على منابع النيل، ولن يكون هناك فيضان.
أسرع بحجز شقة لك!
وزير الري: الحالة مطمئنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
تقدَّم مركز أم كلثوم التجاري بعد أبراج النيل وأبو الفدا وسيدي جابر.
وزير الري يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع المساجد لمواجهة الجفاف وعدم سقوط الأمطار فوق منابع النيل.
تقرير حكومي: «٤٠ بالمائة من «المدارس» غير صالحة للاستخدام، ويوجد عجز في المعلمين قدره ٥٠ ألف معلم.»
١٣
برهن ولي العهد على أنه الطفل المعجزة؛ فلم يكتفِ باستعادة موهبة البث كاملة، وإنما أداره باللغة الإنجليزية مباشرة. وأيًّا كان الدور الذي لعبه الطبيب إياه في الوصول إلى هذه النتيجة الباهرة، فإن الفضل الأساسي فيها يعود بالتأكيد إلى الظاهرة المعروفة باسم «النَّفَس».
فبناءً على نصيحة الماكينات لذات بالشروع في التخطيط لمستقبله من الآن، وحجز الأماكن الضرورية له، ابتداءً من مقعد الدراسة إلى شقة الزوجية، وضعت العمامة التي أضافتها إلى إكسسوارها، واصطحبت سميحة في زيارة استكشافية للمدرسة الحكومية القريبة، التي تجمع بين المرحلتَين الابتدائية والإعدادية.
لم يسبق لها أن اقتربت من إحدى مدارس البنين؛ ولهذا كانت الزيارة مشحونةً بالمفاجآت؛ تلاميذ الفترة المسائية (التي تبدأ في منتصف النهار) ينتظرون أمام الباب، المؤلَّف من قضبان حديدية يغطِّيها لوح من الصاج الأسود، جالسين على الرصيف، وحقائبهم ملقاة في التراب، بينما اشتبك أربعة منهم في عراك حامٍ وصاخب، تردَّدت خلاله أقذع الشتائم، وانتحى خامس جانبًا ووقف يتبوَّل إلى جوار سور المدرسة؛ التلميذ الذي أخفى نصف سيجارة مشتعلة خلف ظهره، وفتح الباب لسيدة محجَّبة، مدرِّسة في الغالب، تحمل سلةً من الخضراوات، أرادت الخروج، فمرقت ذات إلى جوارها داخلةً ورفيقتها في أعقابها؛ الناظر المترهِّل الجسم، في بلوزة رخيصة رمادية اللون، وبنطلون من نفس اللون، وصندل مفتوحٍ من الجلد تبدو منه أصابع قدمَيه العاريتَين، والذي انهمك في توجيه الصفعات إلى ثلاثة تلاميذ تبادلوا اللكمات أثناء الدرس، وقذفوا ظهر المدرس بالكتب، ثم أطلق صيحةً يائسة: «يخرب بيوتكو يا ولاد الكلاب!» تكرَّرت عندما ولج الغرفة أربعة تلاميذ ومدرستان يحملون مدرسةً شابةً شاحبة الوجه: «ما لها؟»
أوضحت إحدى المدرِّستَين: «وقعت في الفصل. جاها نفس.»
فقال وقد تضاعف يأسه: «شوفوا لها كلونيا.»
ثم تحوَّل لذات: «أفندم؟»
وعندما عرف مطلبها قال لها في لهجة أشبه بالبكاء: «المبنى التاني.»
هناك تعرفت على ظاهرة النَّفَس، بعد أن عبرت، وسميحة من خلفها، منفذًا ضيِّقًا بين مبنى القسم الإعدادي وسور المدرسة، إلى فناء تناثرت في أنحائه علب السجائر الفارغة والأوراق الممزَّقة وقشور البرتقال، وعطَّرته الرائحة المنبعثة من بالوعة صرف مفتوحة، ووصلتا إلى مكتب الناظر، الذي فتنته ركبتا سميحة، فصحبهما إلى أحد الفصول التي ستستقبل ولي العهد بعد سنتَين (إن شاء الله)، ودفع بابه دون أن يطرقه، فانفرج عدة سنتيمترات، ثم توقَّف كأن شيئًا حجزه، وهبَّت خلاله رائحة خانقة أجبرتها على التراجع برأسها، بعد أن رأت أكثر من مائة طفل محشورين في مساحة صغيرة لا تزيد عن غرفة نومها، ضمَّت أربعة صفوف من المكاتب الخشبية، التي خُصِّص الواحد منها في الأصل لتلميذَين متجاورَين، فاحتلَّه الآن أربعة وأحيانًا خمسة، وجلس الباقون على الأرض بين الصفوف، فوق كتبهم وملابسهم.
امتنعت ذات عن التنفُّس لتتجنَّب الرائحة الخانقة، وأطلَّت برأسها من فُرجة الباب باحثةً عن المدرِّس، فاكتشفت ما يمنع الباب من الانفراج؛ صفوف التلاميذ الذين احتلوا الأرض خلفه وأمام السبورة وتحتها.
شعرت ذات، عندما ولجت مكتبها في اليوم التالي، بشيئَين؛ صعوبة في التنفُّس، وتجاهل من جانب الأخريات اللاتي تجمَّعن حول صاحبة وجه الأرنب تعرض عليهن غطاءً إسلاميًّا للرأس من حرير شفاف أخضر اللون، مزوَّدًا بما يُشبه العقال السعودي. وعندما حان موعد الانصراف كانت قد تأكَّدت من عودة المقاطعة بالرغم من العمامة التي وضعتها فوق رأسها. فهل تيأس؟ أبدًا.
حصلت على رقم التليفون من إحدى الماكينات المحجَّبة، ورفعت السماعة ثم أدارت القرص، وقبل أن تتفوَّه بكلمة جاءها صوت أنثوي رصين: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هنا الجامعة الإسلامية»، هكذا، في نَفَس واحد دون توقُّف، ثم طلب منها الصوت أن تنتظر على نغمات موسيقى فيلم «قصة حب» الأمريكي، حتى جاءها صوت آخر أكثر أنثويةً ورصانةً أقرأها السلام الكامل وقدَّم إليها المعلومات التي طلبتها. على ضوء هذه المعلومات ذهبت هي وسميحة إلى مبنًى حديث بالقُرب من نادي الشمس، عبارة عن فيلَّا من طابقَين وسط حديقة حسنة التنسيق، تؤدِّي إلى باب من الزجاج الفيميه المحاط بإطارات ألوميتال، يفتح على طاولة عريضة تُطِل عليها كلمة «الاستقبال» بالإنجليزية، من لوحة مضاءة فوق فتاة مُحجَّبة بادرت الزائرين بكلمة السر في نَفَس واحد: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أي خدمة؟»
استمع عبد المجيد إلى تفاصيل الزيارة باهتمام؛ القاعات الواسعة الأنيقة، الرسوم التوضيحية باللغة الإنجليزية، كتاب الصحة والعلوم الملوَّن (الصادر عن شركة يملكها علي لطفي رئيس الوزراء)، وأشرق وجهه عندما تخيَّل ولي عهده وقد حقَّق ما عجز هو عنه؛ ونعني بذلك قراءة الكتاب إياه، ثم اصفرَّ واخضرَّ عندما سمع عن الألف جنيه، فضلًا عن الملابس والكتب والباص (الأوتوبيس) فورًا والآن؛ لأن الطريقة الشرعية للالتحاق بالمرحلة الابتدائية تُحتِّم قضاء ثلاث سنوات تحضيريةً في نفس الجامعة.
نظرة التساؤل والترقُّب في عينَي ذات حملته إلى خارج المنزل. بدأ أولًا بعم محروس فترحَّما سويًّا على أيام السادات التي لم ينَل منها عبد المجيد شيئًا على عكس محروس: «مكانش يفوت يوم من غير ما أبيع سيارة أو ثلاجة، ثم الشقق المفروشة. كانت الأشيا معدن.» ثم انفرد محروس بالشكوى؛ من الضرائب التي تطالبه بعشرة جنيهات ظلمًا وجورًا؛ ولهذا علَّق لافتةً يعتذر فيها عن استقبال الزبائن، الهدف منها هو تضليل أولاد الأفاعي لأنه ما زال يعمل كالجن. ومن المرض؛ حصوة متشعِّبة في الكُلى وضغط مرتفع، ولإزالة الحصوة لا بد من جراحة تتطلَّب السيطرة على الضغط، لكن الضغط ناشئ عن الحصوة. ومن الابن وزوجته؛ وجد له عملًا وشقةً في مدينة العاشر من رمضان، لكن الهانم زوجته لا تريد الحياة هناك، وتصر على الإقامة في شقة الأب، وهنا بيت القصيد؛ فالبنت عينها على الشقة منذ علمت أن عقدها محرَّر باسم الابن (فعل محروس ذلك تهرُّبًا من الضرائب). بيت قصيد آخر: «محتاج لغطا صندوق تواليت من النوع القديم؟ عندي واحد زي الجديد تمام .. اشتريته غلط من زبون ومستعد أبيعه بتمن معقول.»
مرَّتان وفي الثالثة هرب عبد المجيد إلى الشوارع. بدأ بتلك القريبة من منزله، التي شُقَّت في الخمسينيات وبداية الستينيات؛ لتأوي أقرانه من أبناء القطاع العام (بما فيهم الكريمة من المديرين وكبار العسكريين) في عمارات متشابهة، ضاقت نوافذها وشرفاتها ومداخلها، وطرأ عليها ما طرأ على عمارته من تغيير، فتحطَّم زجاج مناورها، ونشعت جدرانها، واغبرَّت واجهاتها، وتكدَّست مخلَّفات الأعوام في أركان شرفاتها، فيما عدا الشقق المحظوظة التي فتح الله على أصحابها، فامتدَّت يدُ الدهان إلى نوافذها وبلكوناتها، والواجهات المحيطة بها، في حدود دقيقة لا تمتد إلى جيرانها، وقُفِّلت بلكوناتها، أو ظُلِّلت بالتندات الإيطالية المخطَّطة والمحبوكة، ودُمغت بصناديق التكييف وخراطيمه.
ما كان يمثِّل أطراف مصر الجديدة في الستينيات، أوشك أن يصبح في وضع المركز في الثمانينيات؛ ولهذا ألفى عبد المجيد نفسه، تبعًا للآلية التي تحكم حركة التاريخ، يتدحرج إلى الأطراف الجديدة التي مُدَّت إليها خطوط المترو والأوتوبيس، وشُيِّدت بها المجمَّعات السكنية الضخمة، على مدى سنوات طويلة من انتظار حاجزيها (بإحدى دول الخليج في أغلب الأحيان) تسلَّموا في نهايتها جدرانًا وأرضيات على العظم، بتركيبات صحية يتعيَّن استبدالها على الفور، بواسطة نفس المقاول أو السباك، بطبيعة الحال؛ لتُترك بعد ذلك مغلقةً لحين الحاجة إليها.
منظر الشقق المغلقة في انتظار حاجزيها، أو أولادهم وبناتهم عندما يشبُّون ويتزوَّجون، كان كفيلًا بدحرجة عبد المجيد، عكس حركة التاريخ، من الأطراف إلى المركز، عبر زوايا مشجَّرة، مخبَّأة جيدًا بين كتل الأبنية، لن يطول بها العهد قبل أن تلتقطها عيون النسور الحادة؛ لتقيم فوقها أكشاك الأمن الغذائي أو تحوِّلها إلى مقلب زبالة، وفوق أرصفة مكسَّرة شغلتها السيارات المنتظمة في صفوف، أول وثانٍ وثالث، وكأنما صار لكل مصري ركوبة، عدا عبد المجيد الذي تدحرج إلى عرض الطريق وهو يتأمَّل الحواف الانسيابية اللامعة، والمؤخِّرات العريضة المستقرَّة فوق عجلاتها في ثبات واعتداد، بنفس اللوعة التي يتأمَّل بها شقق الميرغني الرحبة بشرفاتها الواسعة المظلَّلة بالنباتات والأجهزة، إلى أن يصعد ثانيةً فوق أرصفة خلت من كل شيء عدا الحراس المسلحين، أمام قصور العروبة وفيلَّاتها التي تداولتها الأيدي، عبر التحوُّلات، من كريمة إلى أخرى، ثم فيلَّات الأربعينيات وعماراتها الراسخة، بمداخلها الرحبة (التي انتثرت أمامها زبالة لا يجد أحد الهمة لإزالتها)، وطوابقها القليلة (فيما عدا حالات التعلية)، تخدمها مصاعد بطيئة احتفظت أخشابها بروائح ذلك الزمان، وشرفاتها الواسعة، التي ظهر أثر الزمن على بعضها، في حالة من أخنى عليهم الدهر، أو من ينتظرون في أوروبا وأمريكا حتى تستقر الأحوال، بينما تحوَّل البعض الآخر، على يد الجيل الثاني أو الثالث، بعد تقفيله بالألوميتال والفيميه ودهانه باللون الأبيض الناصع أو البني الداكن، إلى مكاتب بيزنيس، عُلِّقت فوقها لافتات مضيئة تُعلن عن شركة سياحة، أو استيراد وتصدير، شحن وتفريغ، تنشيط وتنظيم، تنظيف وتحليل، تزيين وتجميل، تدكير وتأثيث، أو مجرَّد بوتيك، بواجهة زجاجية عريضة، يزيِّنها صندوق الكومبريسور، وخرطومه المعهود، إلى جوار لافتة كُتبت بحروف مذهَّبة، بالخط الكوفي أو الفارسي أو المغربي، خرجت من خطوط إنتاج متوازية، تمتد من مرجانة إلى كهرمانة، أو لورد فإمبراطور، أو باشا حتى أفندينا.
نهاية المطاف الحتمية في سُرة المركز، حيث عمارات البارون البلجيكي الذي أسَّس مصر الجديدة (منافسًا زميله الحلواني الذي شيَّد الأخرى القديمة)، فأعطى مبانيها ذلك الشكل الغريب المميَّز، الذي يجمع بين طرز مختلفة، يتجاور فيها الروماني مع الإسلامي والهندي، في نظرة إنسانية شاملة، على طريقة السلاطة، كانت لها مع ذلك جمالية خاصة، تجلَّت في السقوف العالية، والشرفات الرحبة، والبواكي المسقوفة، والمساحات الخضراء، وزالت بالتدريج، بعد نزوح الأرمن واليونانيين والطليان؛ إذ اكتسحها الطابع القومي، الذي عبَّرت عنه اللافتة الكبرى المعلَّقة فوق سُرة السُّرة، الحديقة الصغيرة وسط ميدان روكسي، التي حملت مناشدةً مسببة: «حافظوا على نظافة مصر الجديدة لأنها أول ما يقابل السائح»، لقت استجابةً واسعة؛ إذ امتلأ الميدان وامتداداته، فضلًا عن صناديق الزبالة التي زبلت ما حولها، بدكاكين التنظيف، للنفوس والأموال، حتى فندق هليوبوليس بالاس، الذي تحوَّل بعد تنظيفه إلى مقرٍّ لرئاسة الجمهورية.
جولة مرهقة تلقي بعبد المجيد في النهاية فوق أحد مقاعد مقهى الأمفتريون، حيث ظهرت عليه علامات العشق المفاجئ للآيس كريم، لا بأكله، وإنما بالفُرجة عليه؛ فالمقهى القديم الذي احتفظ بطابعه اليوناني، وبشرفته الواسعة المرتفعة عن الرصيف بأقدام قليلة، تمَّ تمصيره بماكينة بثٍّ عابرة لحاجز الصوت، وصندوق زجاجي مغبَّش من الوسخ، به أطباق الكفتة والكبدة والمخ والروزبيف، تحف بها عيدان ذابلة من البقدونس، وإناء مخللات، وعمود شاورمة، وثلاجة للسفن أب والكولا، وأخرى للآيس كريم.
هكذا أتيحت لعبد المجيد الفرصة لإشباع الرغبات المدفونة في ثنايا الدماغ منذ أيام سينما أوديون؛ فبعد أن يتدحرج من الأطراف إلى المركز، يجلس ساعةً أو اثنتَين وهو يتفرَّج على شاريات الآيس كريم، وأساليبهن المتنوِّعة في لعقه؛ مَن تبدأ من القاعدة العريضة متجهة في بطء وتلذُّذ نحو القمة المدبَّبة، فتطوف حولها باللسان قبل أن تلتهمها مرةً واحدة، أو تبدأ من القمة المدبَّبة فتزيلها في لعقة خاطفة، ثم تهبط إلى القاعدة في لحسات متعجِّلة عصبية، تتخلَّلها انحرافات جانبية لامتصاص ما سال على جوانب الشفاه، والاستمتاع بمذاقه، أو تتجاهل كلًّا من القاعدة والقمة؛ لتركِّز على السفوح، فتنحتها في رفق، بلمسات متمهِّلة من طرف اللسان، تتوخَّى إطالة أمد الالتذاذ، الذي تتبدَّى نشوته في العيون.
عندما تبلغ اللوعة بعبد المجيد القمة يقرِّر الانصراف، فيهبط أولًا إلى المبولة، متلمِّسًا في جيبه القروش التي سيدفعهما إلى حارسها، متمنيًا ألَّا يجده، لا عن بخل، وإنما من أجل إحراز انتصار ما أيًّا كان حجمه، يوازن به ما ينتظره من إحباط، عندما يقف أمام الحوض المعلَّق في الحائط، ويفك أزرار بنطلونه، مختلسًا نظرةً سريعةً إلى جاره، من أجل مقارنة للأحجام، تؤكِّد له ظاهرة الانكماش التي تطالعه مرةً أخرى في المرآة وهو يغسل يدَيه في حوض بلا صابونة، متأمِّلًا بشرة وجهه وعنقه، والشعر الأبيض الذي ينتشر في رأسه.
يبدأ عبد المجيد رحلة العودة بخطوات متثاقلة، فيتجه إلى الميدان الذي يتلألأ بشعلة من الأضواء على شكل أشجار متفرِّعة، زرعها الشنقيطي وزملاؤه حول الحديقة الصغيرة ولافتتها الشهيرة، وأمام الأبراج السكنية الجديدة التي خُصِّصت أدوارها الأرضية لأسواق تجارية، فيها البركة، وللطيبين فيها حلال، ثم يستقل المترو ويشرع في صياغة إحدى عنترياته من أجل ذات التي تقبع منتظرةً في العش هي وفراخها (ثلاثة خرجوا عليه بالسنج عند القيادة المشتركة، تصوَّروا، وطلبوا منه أن يُعطيهم ما معه، هل يفعل؟ لا وحياتكم، صرخ فيهم وانقضَّ عليهم ففرُّوا هاربين). وبذلك يرتكب خطأً فادحًا؛ لأن ذات لم تكن تنتظر.
فبينما كان عبد المجيد يتدحرج، جيئةً وذهابًا، بين الأطراف والمركز، مستمتعًا بالفرجة على الآيس كريم، عاقدًا ما شاء من المقارنات غير المجدية، كانت ذات تعمل في صمت، مستعينةً بكل ما تملك من مواهب في التدبير والتوفير والاقتراض، حتى تمكَّنت من وضع ولي العهد في الجامعة الإسلامية.
النتائج كانت متناقضة؛ ازداد عبد المجيد انكماشًا وقاطعها، أمَّا المقاطعة الأصلية في الأرشيف فقد تلاشت، وعاد الفرَّاشون يوجِّهون إليها تحية الصباح، وأقبلت الماكينات عليها، تتابع أنباء الطفل المعجزة الذي، كما أعلنت ذات في زهو، يقول «أورانج» و«أبل» في سلاسة تامة، لكنه يعجز عن التلفُّظ ﺑ «برتقال» و«تفاح». وجاءت همت ببثِّها الاستفزازي: «انتو يا غنم، عارفين رؤساكم عايشين ازاي؟» ثم لذات شخصيًّا (الأجهل وبالتالي أضعف الحلقات): «عارفة رئيس مجلس الإدارة بياخد كام لمَّا يسافر مع رئيس الجمهورية في الخارج؟ ألف دولار في اليوم بدل سفر .. تعرفي بيسافر كام مرة في السنة؟ كل ما الرئيس يروح بلد ياخده معاه .. احسبي بأه .. وغير كده الهدايا اللي في الظرف .. مرة من صدام حسين ومرة من الملك فهد .. وبعدين؛ عربية مرسيدس بسواق .. وكرتونة بيض من التونسي .. بدلة صوف من ستيا .. شقة على البحر من وزير الإسكان، وواحدة على النيل من وزير الميه، وثالثة على الهرم من وزير السياحة.» منير أيضًا ظهر ليعرض أحدث اكتشافاته؛ توصيل شاشة التليفزيون بجهاز كمبيوتر.
لم تدرك ذات أهمية الاكتشاف الجديد فتولَّى منير الشرح سعيدًا: «تصوَّري المذيعة بتقرا نشرة الأخبار أو فقرات من برامج الغد أو السهرة وهي بتقلع هدومها حتة حتة مع كل فقرة لغاية ما تبقى عريانة خالص.»
بحلقت ذات مذهولةً وقد نست أن يحمر وجهها (بعد أن تصوَّرت مذيعًا لا مذيعة): «إزاي؟»
ضحك منير سعيدًا: «بالكمبيوتر. طبعًا أنا معرفش شكلها ازاي وهي عريانة، ولابسة إيه. أنا أفترض بس. أغذي الكمبيوتر بأوصافها العامة ومقاساتها بالتقريب؛ الطول والعرض والصدر والهنش، وهو يلاقي أنسب شكل لها تحت الهدوم.»
مقدرة ذات على استيعاب التكنولوجيا كانت محدودة، وبالمثل قدرتها على تصوُّر التطبيقات العلمية لها، فلم تتجاوز تخيُّل رئيس التحرير، الذي يظهر في التليفزيون كثيرًا، وهو يفقد ملابسه أثناء دفاعه عن سياسة الحكومة الاقتصادية، بينما كان منير أوسع خيالًا؛ رئيس الوزراء يقترب من منصة تضم كبار المسئولين، وتبدأ ملابسه في السقوط، فما إن يصل إلى رئيس الجمهورية ويمد يده مصافحًا حتى يكون قد صار في الكيلوت، وأم كلثوم في قمة انفعالها وقد أوشك منديلها على التمزُّق، وصباح الثمانينيات بالطبع لا الأربعينيات. الإمكانيات الأخرى، إياها، طافت بذهنها أثناء عودتها إلى المنزل، عندما فكَّرت في الكيفية التي يمكن أن يستفيد بها عبد المجيد والشنقيطي (وبالتالي هي وسميحة) من الاكتشاف الجديد.
لم تحدِّث زوجها في الأمر لسببَين؛ الأول: هو تجنُّب إثارة غضبه الذي يشتعل إذا جاء ذكر اسم منير على لسانها، والثاني: أنها لاحظت انكماشًا في اهتماماته التليفزيونية في الآونة الأخيرة، منذ بدأت جولاته المسائية، وهو نفس السبب الذي حال بين سميحة ومُفاتحة زوجها هي في نفس الأمر؛ فالشنقيطي أيضًا كانت له جولاته.
أتيحت للجارَين فرصة توحيد الجولات عندما عرض الشنقيطي على عبد المجيد أن يصحبه في زيارة لمكتب أحد معارفه. ماذا يعمل؟ في السوق.
كان المكتب المذكور في عمارة حديثة من عمارات الأطراف، بمدخل من الألوميتال، أشبه بمداخل السوبر ماركت، وغرفة خارجية غصَّت بمكاتب الموظَّفين المعدِنية، وأخرى داخلية، غُلِّفت جدرانها بالخشب الذي أوشك أن يختفي خلف الآيات القرآنية ودولاب للكتب انفرد المصحف بأحد رفوفه، وأخيرًا المكتب الضخم الذي استقرَّ خلفه معرفة الشنقيطي؛ عملاق في جلابية مؤمن، ولحية ناسك، ومسبحة درويش.
لم يلمح عبد المجيد، فوق مكتب الموظَّفين، أو مكتب رئيسهم، أو على الجدران الخشبية وغير الخشبية، ما يُشير إلى طبيعة العمل الذي يمارسه معرفة الشنقيطي في السوق، واكتفى الأخير بإيضاحٍ مقتضب: «إنه رجل يعرف ربنا. إذا كان عندك قرشَين أعطِهم له يشغلِّهم لك.» وأجاب عبد المجيد بتنهيدة من الأعماق: «يا ليت.»
بعد أسبوع صحب عبد المجيد الشنقيطي إلى منزل واحد آخر من معارفه، من الذين يعملون في السوق، دون أن يحدِّد له ما إذا كان يعرف ربنا أو لا يعرفه، مكتفيًا — غالبًا — بلقب الحاج الذي يسبق اسمه؛ قرشي. ذهبا هذه المرة إلى عمارة حديثة من طراز عمارات الأطراف، أُقيمت في المركز، بجوار كلية البنات، وشغل الحاج طابقًا كاملًا من طوابقها، خُصِّص للمعيشة فيه خمس غرف مفتوحة على بعضها البعض، وبالتالي كانت هناك خمسة أنتريهات من طُرز مختلفة، جلسا فيها جميعًا.
لم يكن الحاج قرشي موجودًا عند وصولهما، فجلسا في الأنتريه الخارجي، حتى خرجت إليهما زوجته الشابة في ملابس ومكياج عصريَّين وشعر ذهبي، بالطبع، فرحَّبت بهما، وطلبت منهما أن يتنقَّلا إلى الأنتريه رقم ٢ حيث شربا الشاي في فناجين من البلَّور المنقوش حملتها صينية مذهبة. ثم اعتذرت عن تأخُّر زوجها واقترحت عليهما الانتقال إلى الأنتريه رقم ٣ لمتابعة المسلسل من تليفزيون وُضع فوق جهاز للفيديو، وتناولا عصير البرتقال. وعندما اشتكى عبد المجيد من قوة البث المثلج لجهاز التكييف عالي الكفاءة، قالت السيدة وهي تهم واقفة: «نو بروبلم.» وعرضت عليهما الانتقال إلى الأنتريه رقم ٤ حيث يوجد بث تليفزيوني آخر، بالفيديو أيضًا، بدرجة تكييف ملائمة، وحيث شربا القهوة، إلى أن وصل الحاج قرشي (وهو رجل خمسيني ضئيل الحجم في قميص وبنطلون، ولحية ومسبحة)، فانتقلوا جميعًا، بطبيعة الحال، إلى الأنتريه رقم ٥.
جرت هذه التنقُّلات وسط أعمدة مربَّعة الشكل، زُخرفت جدرانها بحيث تبدو كأنها مكوَّنة من صفوف من قوالب الطوب، ودُهنت بلون غريب يشابه لون الحناء، ومُدَّت فوقها صفوفٌ من المرايا في مربعات صغيرة، وقبعت عند قواعدها كلاب من الرخام في ارتفاع قامة الإنسان، وفازات من نفس المادة والحجم، تحيط بها ستائر من القطيفة بألوان الموكيت والأنتريهات، وموائد صغيرة من الرخام، وواحدة كبيرة للسفرة بعشرة مقاعد، وبوفيهات تحمل مجموعةً ملفتةً من الساعات المختلفة الأحجام والأشكال، تعلوها فوق الجدران لوحات من الكانافاه والآيات القرآنية المكتوبة بماء الذهب، وباختصار؛ سوبر ماركت كبير للأدوات المنزلية.
تولَّت خادمة فيليبينية بسط مائدة من المزَّات؛ كميات من الساليزون والبسطرمة واللانشون، وكل أنواع الجبن المعروفة، وخيار صغير لامع القشرة، وسلاطات متنوِّعة، بالإضافة إلى المكسرات والبرازق والبقلاوة، كل شيء تقريبًا ما عدا الخمر؛ لأن الحاج، كما همس الشنقيطي، لا يقربها.
انهمك الشنقيطي في حديث جانبي خافت مع الحاج، فاضطُر عبد المجيد إلى مسامرة سيدة الدار، مثنيًا على المزَّات، والمشويات التي تلتها، معتذرًا عمَّا قد تكون الزيارة قد سبَّبته من إزعاج. وهزَّت السيدة رأسها الذهبي مكرِّرة: «نو بروبلم.» أمَّا البروبلم الحقيقية التي تواجهها فتتمثَّل في الأُتَت.
لم يفهم عبد المجيد ما تعنيه إلا عندما أضافت: «الأُته تيجي كل يوم لشباك المطبخ وتقول ناو فافتح لها.» عندئذٍ انطلق يحكي لها بحماس معركة القطط التي شارك فيها، مقترحًا عليها أن تجرِّب نفس التكتيكات، لكنها أشاحت بيد سمينة قائلة: «أنا أسيب لها دايما حتة لحم. المشكلة أنها تاكل الأحمر بس وتترك السمين على الأرض.»
في تلك اللحظة لمح عبد المجيد حركةً أسفل مائدة السفرة، وتبيَّن طفلًا صغيرًا يزحف تحتها حاملًا في يده كأسًا من الآيس كريم في حجم عشرة من التي تهبل في الأمفتريون. أشار إليه أن يقترب، لكنه لم يستجب، وعلَّقت أمه: «هوا دايمًا كده لمَّا يكون عندنا زوار.»
انتهى الحديث الجانبي، فالتفت الحاج لعبد المجيد مرحِّبًا، ثم دخل إلى الموضوع مباشرة.
المطلوب: قرض من البنك مقداره ٤٥٠ ألف جنيه بضمان ٧٠٠ طن فول سوداني، والأوراق جاهزة وتتضمَّن بوليصة تأمين على البضاعة بحوالي ٢٠٠ ألف جنيه.
– ما هي البروبلم؟
همس الشنقيطي: «لا توجد هناك، في الحقيقة، حبة فول سوداني واحدة.»
– والعمل؟
– «دورك يا بطل؛ التسهيل والتسليك مقابل ١٥ في المائة تتقاسمها مع معاون لك أو تأخذها كلها.»
– ٦٧ ألف جنيه وكسور.
عبَّرت مدام الحاج قرشي عن مشاعر عبد المجيد في هذه اللحظة عندما أطلقت صرخةً قادمةً من أعماق باب الشعرية وأحواش الإمام: «يا لهوي!» معلِّقةً على سلوك طفلها الذي زحف حتى فيشة جهاز التكييف وجذبها في عنف.
لزم عبد المجيد الصمت لسبب بسيط هو أنه عجز عن تحريك لسانه، وأساء الشنقيطي تفسير الأمر، فانطلق في طريق العودة، يروي الحكايات عن قدرات الحاج قرشي، ونفوذه، وعلاقاته بكبار المسئولين.
هكذا سمع عبد المجيد بقصة سيارات الإنقاذ المتعدِّدة الأغراض؛ فقد تقدَّم الحاج إلى مجلس الحي بعرض توريد السيارة المذكورة بسعر ٤٢ ألف جنيه خفَّضها إلى ٣٥ ألفًا تعاوُنًا منه مع الدولة. وبعد ذلك بأربعة أيام تمَّ فحص العرض بمعرفة لجنة فنية، وفي نفس اليوم طلب المجلس من مساعد الوزير اعتماد ٦٨ ألف جنيه لشراء أجهزة وسيارات إنقاذ مجهَّزة. تعرف ماذا حدث؟ جاءت الموافقة في نفس اليوم، وشُكِّلت لجنة لعمل ممارسة وُزِّعت عروضها على بعض شركات القطاعَين العام والخاص دون أن يَرِد بها إشارة إلى السيارة المتعدِّدة الأغراض. وفي اليوم المحدَّد لفحص العروض اجتمعت لجنة الممارسة، وأثبتت بمحاضرها أن أحدًا لم يتقدَّم لتوريد السيارة إياها غير الحاج قرشي. كل شيء قانوني تمامًا. ثم قرَّرت اللجنة في محاضرها أنها تمكَّنت من إقناع الحاج بتخفيض ثمن السيارة من ٣٥ ألف إلى ٢٩ ألفًا، فضلًا عن أن الحاج تعهَّد بتزويد السيارة بكباشَين ثمنهما ثمانية آلاف دولار. جميل؟ لسه، هناك ما هو أجمل.
فالسعر لم يُعجب مساعد الوزير، وطلب إعادة الممارسة بمعرفة نفس اللجنة، فماذا كانت النتيجة؟ زيادة السعر بمقدار سبعة آلاف جنيه؛ إذ قبلت اللجنة العرض المقدَّم من الحاج قرشي على نفس السيارة بمبلغ ٤٢ ألف جنيه. حلو؟ وأعجب السعر الجديد مساعد الوزير فاعتمد قرار اللجنة، وتمَّ استخراج الشيك بالمبلغ.
هل هذا هو كل شيء؟ أبدًا وحياتك.
فعند استلام السيارة بواسطة لجنة الفحص تبيَّن أنها مزوَّدة بكباش واحد فقط. هنا أعلن الحاج قرشي أنه لن يستطيع توريد الكباش الثاني، فماذا فعلت اللجنة؟ أبدت سماحة صدر واسعةً إذ اعتبرت أن هذا النقص لا يمثِّل عجزًا فنيًّا يخل بإمكانيات السيارة، وقرَّرت خصم قيمة الكباش من استحقاقات الحاج، ثم أبدت مزيدًا من السماحة، فقدَّرت ثمنه بالجنيه المصري، وتقاضت من الحاج مبلغ ٢٥٠٠ جنيه مصري بدلًا من أربعة آلاف دولار، دفعها على الفور.
استخلص الشنقيطي النتائج الضرورية في بلكونته وأمام الزوجتَين: «الأمور ماشية كده. على الأقل الحاج قرشي لا يقدِّم بضاعة تالفة، ولا يهدِّد حياة أحد. سمعتم طبعًا عن حمدي فيات؟ وعن السيارات المصفَّحة اللي قدَّمها إلى الحكومة بثمن ٩٠ ألف دولار للواحدة، واللي تبيَّن في أحداث أسيوط أنها لا مصفَّحة ولا يحزنون، وأن الرصاص يقدر يخترقها لأنه قتل فعلًا عدد من ضُبَّاط وجنود الشرطة. مين الأفضل؟ الحاج قرشي ولا زميله القاتل؟»
السؤال كان مُوجَّهًا لعبد المجيد، لكن الإجابة صدرت عن ذات: «الحاج قرشي طبعًا.»
فرغم أنها لم تسمع بالعرض الذي طرحه الحاج على عبد المجيد، إلا أن إحساسها الداخلي كان دليلها، وقد أنبأها أن الوقت قد حان لتقفيل البلكونة من أجل توفير مكان لمذاكرة ولي العهد، وأن الجدران التي خربتها يداه ويدُ الزمن تحتاج إلى دهان، وأنه لا بد من الاستعداد من الآن لليوم الذي ستخرج فيه دعاء، وابتهال في أعقابها بإذن الله، دون عودة.
نفس الخواطر كانت تدور بذهن عبد المجيد وهو يقترب من البنك في الصباح بعزيمة ماضية تبخَّرت بمجرَّد أن جلس إلى مكتبه وتطلَّع إلى زملائه، فقد رأى الجالس في مواجهته يحدِّق في الأوراق المبسوطة أمامه ساهمًا، والجالس إلى يمينه يتأمَّل نقطةً على الأرضية وهو يلوك طرف القلم بين أسنانه، والجالس إلى يساره يتراجع في مقعده إلى الوراء، متحسِّسًا ولَّاعةً ذهبيةً انضمَّت أخيرًا إلى إكسسواره، ويختلس النظر إلى بقية زملائه فتلتقي عيناه بعينَي عبد المجيد الذي ارتعد لأنه شعر بأنهما يفكِّران في نفس الشيء. كان هذا قمينًا بتشجيعه (بالإضافة إلى ما يعرفه ويعرفه الجميع بشأن العمولات التي يتقاضاها المدير عن القروض، والآلاف التي استولى عليها موظفو الإدارة القانونية بطريقة مشروعة، والعلامات التي تظهر على الآخرين كالملابس والسيارات)، إلا أن ما حدث كان العكس؛ فقد شعر أنه مفضوح وانتابه الخوف، فاستغفر الله وانتوى أن يصلِّي تكفيرًا عمَّا كان يخطِّط له من تدليس، وأن يسعى للعمل في الخارج عن غير طريق البنك، لكن هذا القرار تبخَّر أيضًا بمجرَّد أن الْتقى بوفد محافظة سوهاج.
فعندما وصل إلى منزله بعد الظهر وجد عم صادق البوَّاب في كامل ملابسه الرسمية (لبدة الرأس واللفاعة البنية والحذاء ذو الرقبة والجلابية الصوفية السابغة بفتحة الصدر الكاشفة عن صديري من القصب المقلَّم)، مقتعدًا دكته ومن حوله ثلاثة رجال متبايني الأعمار، في ملابس مماثلة، يبدو من هيئتهم ونظراتهم المتسائلة أنهم من بلدياته، وهو ما تأكَّد عندما قرأهم السلام.
كانت العلاقة قد توثَّقت بين عبد المجيد والبوَّاب منذ معركة القطط، واكتشف الاثنان عبر الحوارات المتبادلة أن لهما موقفًا واحدًا رغم التفاوت الاجتماعي بينهما من قضية العقد والأرض؛ فكلاهما يحلم بعقد للعمل في الخليج، وكلاهما مرتبط بالأرض (مدخل العمارة بالنسبة لعم صادق، والمساحة الممتدة بين المركز والأطراف بالنسبة لعبد المجيد) لا يرغب في مفارقتها.
أمَّا ضيوف عم صادق الثلاثة فقد تخلَّوا، كما تبيَّن من حديثهم، عن الأرض مقابل العقد. كان أحدهم ذاهبًا إلى الإمارات، والآخران متجهَين إلى العراق، أو على الأقل هذا ما كانوا ينتوونه.
قال الإماراتي لعبد المجيد: «تصوَّر يا بيه، بقالي تلات أيام مستني تصريح العمل. واقف في الشمس، وبنام ع الرصيف، وانضرب بخراطيم الشرطة. دفعت لهم ميت جنيه في البنك، أخذ منها خمسة جنيه عمولة (هنا نظر عم صادق لعبد المجيد نظرة عتاب أجبرته على تخفيض عينَيه). لغاية النهارده صارف ٨٠٠ جنيه على تجهيز الورق، منها مية مصاريف شخصية. والمبلغ ده مستلفه وحياتك.»
فيما بدا أشبه بخطة مدبَّرة لإحراج عبد المجيد أضاف أحد العراقيَّين: «أنا طلبوا مني ٣٦٥ جنيهًا و١٨ دولارًا. رحت البنك عشان اشتري دولارات، قال معنديش (نظرة لوم من عم صادق). اشتريتها من السوق السودة بتلاتة جنيه ونص للدولار.»
العراقي الثاني كانت عينه على المستقبل، ورغم أنه لم يسبق له السفر إلى بغداد أو إلى أي مكان آخر، فإنه كان مزوَّدًا بمعلومات دقيقة عن كل خطوة: «أربع أيام يا بيه نشوف فيها العذاب. ممنوع حد ياخد معاه أكل عشان يشتري من الأوتوبيس. الغدا بسبعة جنيه ونصف عبارة عن عشر حبَّات لوبيا و١٦ حبة رز وتلاتة جرام لحمة. وكل شوية يطلبوا منك حاجة. وفي عمان ندفع تاني. واللي ما معهوش يضطر يبيع ساعته أو خاتم ذهب في إيده.»
صعد عبد المجيد السلَّم في بطء، ومع كل درجة كان يزداد تشبُّثًا بالأرض. وأمام باب الشقة المزركش ببقع الدهان (هي كل ما نالها من مسيرة الهدم والبناء أثناء صعودها وهبوطها)، ذكَّر نفسه بالوعد الذي قطعه على نفسه في الصباح، بأن يصلِّي طلبًا للمغفرة، وقرَّر أن يضيف طلبًا آخر، طالما أن الله، الغفور الرحيم، هو أيضًا الذي يرزق كل دابة من حيث لا تحتسب.
لم يُقدَّر له أن يضع قراره موضع التنفيذ؛ لأن الشيطان كان يتربَّص له بالمرصاد، فدعاء التي تقضي الوقت عادةً متنقلةً بين النافذة والمرآة، تمشِّط شعرها وتعقصه في أشكال غريبة، تركت شعرها وأمسكت بشعر أختها، وبدلًا من أن تنكَب الأخيرة على دروسها كدأبها، انكبَّت على سطح المائدة تبكي، بتضامن نشط من جوار ولي العهد، أمَّا أمهم فكانت حائرةً بين محاولة فض المعركة، والبطاطس الموضوعة على النار، والغسيل الذي ينتظر الشطف (لأن الغسالة ما زالت نصف أوتوماتيك).
بزعقتَين جَهْوريتَين من زعقاته الشهيرة فضَّ عبد المجيد الاشتباك، وعندئذٍ علم بالسبب، وهو الخلاف على من سيستفيد من البلكونة بعد تقفيلها. هكذا وجد الأرض مزروعةً بالألغام.
فعندما اطمأنَّت ذات على فضِّ الاشتباك وعلى البطاطس المقلية، وفتحت الحنفية على شطاف الغسالة، تحوَّلت إلى زوجها بنظرة متسائلة، مفعمة بالأمل. وأبدى هو من جانبه حصافةً وذكاءً بالِغَين، وبُعد نظر واستباقًا للتطوُّرات، فقد بادرها بالسؤال التقليدي: «أخبار الشغل إيه؟»
لم يأخذ عبد المجيد في البداية حكايات المقاطعة التي تتعرَّض لها زوجته في الأرشيف، بين الحين والآخر، على محمل الجد، واعتبرها من أوهام النساء، ودليلًا إضافيًّا على أنهن ناقصات عقل ودين، لكن التكرار يُعلِّم الحمار، وهكذا تحوَّلت المقاطعة إلى إحدى حقائق الحياة الثابتة التي يتابعها بصورة روتينية، متسائلًا عن تطوُّراتها، محلِّلًا دوافعها، مشاركًا في البحث عن وسائل تجنُّبها، ممَّا أعطاها مكانةً عائليةً مرموقة؛ إذ أصبحت من أهم وسائل مد الجسور، وكسر الرتابة، فضلًا عن المناورة.
تكلَّلت مناورة اليوم بالنجاح، كما تجلَّى فيما غشي وجه ذات من أسًى؛ ففي الآونة الأخيرة تقلَّصت المساحة التي شغلها ولي العهد في برامج البث الأرشيفية، وانصرف اهتمام الماكينات إلى أمور أخرى، فأرجعت ذات الأمر إلى تهمة الشيوعية المعلَّقة فوق رأسها. حقًّا إن هذا الصباح شهد تحسُّنًا ملحوظًا في الموقف؛ إذ استمعت إليها الماكينات في اهتمام وهي تتحدَّث عن الحاج قرشي وطيبته، ومشروع تقفيل البلكونة، لكن من يضمن للحال أن يستمر على هذا المنوال؟
سارع عبد المجيد إلى قطف الثمار الدانية، فألقى بالاقتراح الملائم، مدلِّلًا على دهائه: «الحجاب ده مينفعش .. لازملك حجاب كامل.»
دلَّل عبد المجيد أيضًا على فاعلية خطوط التليباثي؛ لأن ذات كانت تدير الفكرة في رأسها منذ بعض الوقت؛ فإذا كانت الماكينات الشرهة لم تقنع برأسها تدليلًا على حسن إسلامها، وعمق إيمانها، وصدق تديُّنها، فلتلقِ إليها إذن ببقية الجسد.
١٤
معمل التحليل الغذائي ببورسعيد يقرِّر صلاحية رسالة «شطة» للاستهلاك الآدمي بعد تظلُّم مستوردها من قرار سابق بعدم صلاحيتها.
جبن مستورد فاسد يقتل ٤٢ تلميذًا بالتسمُّم.
إشارة تليفونية من مكتب رئيس مصلحة الجمارك بالإسكندرية: «أتشرَّف بالإحاطة بأننا تلقَّينا كتاب الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات رقم ١٤٩/م والذي يشير إلى أن السلطات التركية أصدرت تعليماتها إلى مصانعها بوقف استخدام مادة «د. د. ب» التي تدخل في صناعة المنظِّفات الصناعية والصابون؛ لِما قد تسبِّبه من مخاطر تؤدِّي إلى الموت. هذا وتقوم بعض الشركات المصرية باستيراد المنظِّفات من تركيا. كما ورد في الكتاب المشار إليه أن هناك كميات كبيرةً من الشاي التركي الملوَّث بالإشعاع وغيره من المنتجات الزراعية التي يُحتمل تسرُّب كميات منها إلى البلاد. المبلِّغ: أ. محمود سعيد. مكتب وكيل أول وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية.»
وزير الصناعة: «الحكومة توقَّفت منذ أربعة أعوام عن استيراد مادة اﻟ «د. د. ب» القاتلة التي تُستخدم في صناعة الصابون، ولا توجد قطعة واحدة بالأسواق يمكن أن تضر بالصحة، كما أننا لا نستورد الصابون.»
«حول ما نُشر عن تسرُّب ١٢ رسالةً غذائيةً ملوَّثةً بالإشعاع من اللحوم والزبد واللانشون استوردتها الشركة، فإن الشركة تؤكِّد أن ما نُشر يخالف الحقائق التي أعلنتها الجهات الحكومية والمتخصِّصة في هذا المجال، والتي كشفت عن أنه لا توجد أي رسالة مشعَّة دخلت البلاد.»
مواطن يقيم «الدعوى» على وزارة التموين والصناعة والصحة بشأن دخول الأغذية الملوَّثة للبلاد.
١٥
لم يفلح الزمن الذي سجَّل علاماته على وجه عبد المجيد (ومؤخِّرته أيضًا)، في محو قدرته على إثارة البغتة المقرونة بالهلع لدى زوجته (على الأقل)، كما حدث ذلك الصباح أثناء قيامها أمام مرآة غرفة النوم بتمرين التفعيص اليومي لثديَيها، (الذي استأنفته أخيرًا بناءً على نصيحة طبيب شكت إليه بعض المظاهر الغامضة من قبيل الأوجاع المتنقِّلة، ونوبات السخونة المفاجئة، واضطراب المواعيد إياها). فبينما هي تضغط بأصبعها تحت الحلمة، بحثًا عن حمصة صلبة، رأت عبد المجيد، في المرآة، يقترب منها عاريًا، وقد ظهرت على وجهه علامات التركيز الشديد، حتى أصبح خلفها تمامًا، ثم رفع يدَيه إلى ثديَيه، وأخذ يتحسَّسهما في رفق وحدب.
ذهبت بها الظنون كل مذهب، ولم تدرِ إن كانت تُسَر لِما يمكن اعتباره بادرة غزل، أو تنزعج لِمَا قد تتطوَّر إليه الأمور، وتأكَّدت شكوكها عندما طلب منها أن تمد إليه يد المساعدة. في ماذا؟ هنا كانت المفاجأة: ألم تلحظ أن ثديَيه قد امتلآ بعض الشيء، وخفَّ الشعر المحيط بهما؟
فعبد المجيد لم يهتز في حياته لشيء قدر ما اهتزَّ للشائعات المتداولة بشأن مسئولية الدجاج عن فقدان الرغبة الجنسية لدى الرجال، وتضخُّم أثدائهم. ولم تكن هناك، بعد قرابة عشرين عامًا من الزواج، سوى الظاهرة الثانية، كأسهل وحدة للقياس. لكن ذات، للأسف، كانت رغم العشرة الطويلة، أو ربما بسببها، أجهل الناس بجسد زوجها؛ لهذا لم يعد أمامه سوى الانضمام إلى برنامج التفعيص اليومي، والامتناع عن أكل الدجاج. وتحمَّست ذات للشق الثاني، ليس حرصًا على توهُّج الرغبة الجنسية لديه، وإنما خوفًا على مستقبل ولي العهد.
استُبعِد الدجاج من قائمة الطعام، وتبعته اللحوم الحمراء بناءً على طلب عبد المجيد (وبترحيب من ذات بسبب ارتفاع أسعارها)، واعتمدت الأسرة على الأسماك والبيض والألبان إلى أن ظهر الدكتور فريش.
فبعد انتهاء عقد الأمم المتحدة عادت منال وزوجها عادل من جنيف إلى شقة فاخرة تمليك بالمهندسين (وإلى منصب للزوج في أكاديمية البحث العلمي، ومقاعد للأولاد في الجامعة الأمريكية)، ثم أقلَّتهما دبابة فولفو في إحدى الأمسيات إلى مصر الجديدة، وإلى ذات التي ألفت نفسها أمام سيدة رزينة أنيقة، بملابس حجاب فاخرة (سويسرية)، بدلًا من الفتاة الرعناء المغرمة بالزغردة، ورجل ناضج، معتد بنفسه، دكتور بحقيقي، بإكسسوار كامل من الذهب (إطار النظارة ومشبك الكرافت وسوار الساعة وعلَّاقة القلم، فضلًا عن سلسلة الرقبة)، بدلًا من الشاب الخجول الذي كان وجهه يحمر إذا ما خاطبه أحد.
كانت زيارة منال وزوجها تثقيفيةً في معظمها؛ فعندما قدَّمت ذات إليهما زجاجات الشويبس المثلَّجة، اعتذر الدكتور عن تناولها، وسأل عمَّا إذا لم يكن لديها برتقال فريش. لم يكن لديها، لكن النتيجة واحدة في الحالتَين.
فالدكتور كان من ذلك النوع من البشر الذي وهبه الله ثقافةً واسعة، وخبرةً عريضة، وذاكرةً حديدية، ولسانًا عفيًّا، ورغبةً عميقةً في أن يشاركه الآخرون معارفه؛ لخيرهم بالطبع؛ أي باختصار كان ماكينة بث من الطراز الأول.
فبعد أن استنكر خيبتنا الممثَّلة في بلد منتجة للبرتقال، يتناوله أهلها مصنَّعًا؛ أي مجرَّد مياه أضيفت إليها مواد كيماوية تعطيها اللون والطعم والرائحة، عرج على مظاهر الخيبة الأخرى؛ تلوُّث النيل والأسماك، أقراص مكافحة الناموس التي تسبِّب أضرارًا فادحةً للأطفال بينما يعلن عنها التليفزيون كل يوم، الأدوية المتاحة لكل من دبَّ في الصيدليات بينما هي محرَّمة في البلاد المتقدِّمة مثل النوفالجين (الذي يتعاطاه عبد المجيد لصداعه اليومي) وأسبرين الأطفال (الذي تعطيه ذات لولي العهد عند أي شكوى)، والمكسافورم (الذي أخذته لآلام القولون)، والفلدين الذي يشيد التليفزيون بفائدته للروماتزم.
من الأدوية إلى العمالة الزائدة، والحرب العراقية الإيرانية، والمعجزة اليابانية والبيروسترويكا، وبخل السويسريين، وعنصرية الأوروبيين، إلى المواد المضافة مرةً أخرى، عندما اقتحم ولي العهد الصالة ممسكًا ببقايا كيس من الشيبس، فأطلق الدكتور صيحة الخطر.
هبَّت ذات من مكانها مذعورة: «إيه؟ فيه إيه؟»
أعلن الدكتور في تؤدة عن خطورة كيس البطاطس؛ فأجزاء من الغلاف المصنوع من البلاستيك يمكن أن تذوب وتتسرَّب إلى البطاطس، أو يمتصها زيت القلية.
«وتعمل إيه؟»
منال، التي جلست حتى الآن صامتة، لا عن زهد، وإنما عن قلة حيلة، موزَّعةً بين فرحة الانتصار الذي سجَّلته على ذات من خلال عرض زوجها الساحق الذي ألجم عبد المجيد، وبين الملل من حديث تكرَّر على سمعها عشرات المرات، هي التي تولت الإجابة: «السرطان والعياذ بالله.»
تسبَّب تصرُّف، طبيعي بالتأكيد، بدر عن عبد المجيد في هذه اللحظة، في سقوط ذات في شباك الدكتور وانطلاقها في مسيرة جانبية باءت منها بالخذلان؛ إذ اتجه اهتمامه فجأةً لجهاز البث الرئيسي، الذي كان يشارك في الجلسة بالصورة وحدها؛ ليتأمَّل مجموعةً من الشقراوات الفاتنات، يتمايلن في علوقية، معلنات عن أنواع، بالصدفة، من الشيبسي بطعم الخل والكباب والبصل والتفاح، هكذا بصريح العبارة.
هذه اللفتة العَفْوية من عبد المجيد حملت ذات على أن تتوجَّه إلى الدكتور في عصبية: «والحل؟»
صبَّ الدكتور جماع ثقافته وخبرته في عبارة موجزة: «الاعتماد على النفس.»
لم يقصد شعارًا سياسيًّا بعينه، ولا ما توارد إلى ذهنَي عبد المجيد وذات من تقنيات، وإنما كان يشير إلى قلي البطاطس في المنزل، وتناول العصائر فريش، والابتعاد عن المعلَّبات والأغذية المحفوظة، وكل ما تدخل إليه المواد الكيماوية والملوَّنة بالذات؛ مثل أحمر الشفاه ومعجون الأسنان، والآيس كريم، والشربات، والجيلي والشكولاتة، والبونبون، وباختصار كل حلويات الأطفال.
التصرُّف الطبيعي والعَفْوي الثاني الذي بدر عن عبد المجيد في ذلك المساء جرى بعد انصراف الزائرين؛ إذ سارع بتناول قرص من النوفالجين، ساخرًا ممَّا أسماه «مبالغات الدكتور فريش».
لم تستجب ذات للاستفزاز؛ إذ أصبحت خبيرةً بزوجها، وراضت نفسها على الانتظار إلى الصباح، مستحلبةً لذةً شريرة، أقرب إلى الشماتة، وهي تتذكَّر بحلقة عبد المجيد أثناء بث الدكتور، الذي زارها في الليل مرتَين، نصحها في الأول بتقسيم المادة، عند إعادة البث في الأرشيف، إلى حلقات، من أجل الاستحواذ على آذان الماكينات عدة أيام، ولم ينبس بكلمة في الثانية؛ إذ لم تكن ثمة حاجة لذلك.
صحَّت قراءة ذات لردود أفعال زوجها؛ إذ ذكر لها عرضًا في الصباح قبل خروجه إلى عمله، أنه سيُحضر معه عند العودة كميةً من البرتقال؛ كي يتناوله ولي العهد فريش. وفيما بعدُ لم يُبدِ اعتراضًا عندما اختفت الأسماك من قائمة الطعام، وحلَّت محلَّها الخضراوات، يتصدَّرها طبق ضخم من السلاطة. ابتهال وحدها هي التي اعترضت على هذا التحوُّل النباتي، بعد أن اقتنعت أختها الكبرى بفائدته لرشاقتها، وامتنع ولي العهد عن مغريات السوق مقابل الفطائر والعجائن وأطباق الحلوى التي تفنَّنت ذات في إعدادها مستعينةً بأرشيفها.
اللقاء التالي بين الأسرتَين تمَّ في شقة المهندسين. تفقَّد عبد المجيد وذات خلاله مظاهر العز، وتناولا الشكولاتة السويسرية غير الملوَّنة، وشربا البرتقال فريش، ثم استمعا إلى الدكتور: الرعاية الاجتماعية في البلاد الاسكندنافية، نفوذ الشركات الدولية العابرة للقارات والمحيطات، مضار التصوير التليفزيوني للأجنة، الصراع الفرنسي الأمريكي في أفريقيا، الخطر الإسرائيلي، الاكتشافات الحديثة في الهندسة الوراثية، المعلومات الصحيحة عن الإيدز، العقل الجمعي للنمل الأبيض، أخطار المبيدات الكيماوية المستخدمة في مكافحة الآفات الحشرية. وتسبَّبت مذيعة فاتنة على شاشة البث التليفزيوني، أوضحت قوة التدمير الثلاثية لمبيد حشري جديد، في بث مستفيض من الدكتور عن الجريمة الوحشية التي تجري أمام الجميع عيني عينك، وعن الكيفية التي تتخلَّل بها المبيدات أنسجة الخضراوات والفاكهة، وتعسكر في ثناياها؛ لتنتقل بعد ذلك إلى الإنسان عن طريق الفم والمعدة، وتورده موارد التهلكة.
والعمل يا دكتور؟
مقاومة الحشرات والآفات بوسائل أخرى، وحتى يتم ذلك لا بد من الغسيل الجيد للخضراوات والفواكه بالماء والصابون، ثم غليها جيدًا بعد ذلك.
انفجرت ثورة البؤساء الذين حُرموا من أطعمتهم المألوفة والمفضَّلة، عندما فوجئوا بطبق من السلاطة يتألَّف من مواد شبه سائلة تعرَّضت لدرجة الغليان، وبالمصير نفسه يهدِّد الجرجير والموز والأورانج. وتزعَّم الثورة عبد المجيد الذي اعتبر أن ذات قد تجاوزت الخط الأخضر أو الأحمر للمراكز المعنوية في مؤسَّسة تحمل اسمه.
تراجعت ذات في موضوع السلاطة، فوجد عبد المجيد الشجاعة لأن يشكو من عبء توفير الشيبسي الآمنة يوميًّا لولي العهد، والمتمثِّل في رائحة القلية التي تخلَّلت الملابس والملاءات والشعر. وتمكَّنت ذات من قمع هذه الشكوى في المهد بأن طالبت بتركيب جهاز تهوية في المطبخ، وبالمرة إصلاح بابه الذي تشبَّع بالرطوبة الناشئة عن تسرُّب المياه من أرضية الباشمهندس. لكن الهزيمة كانت مآلها في النهاية؛ لأنها عجزت عن مقاومة واحد وعشرين بوصةً من البث الملوَّن، وعشرات البوصات الأخرى من الملبِّسات والمصاصات والممضوغات، في أشكال وألوان مغرية ومتنوِّعة. وككل التجارب الثورية الرائدة، بدأت النهاية بسقوط رموزها، ثم اكتملت على يد جهاز الدولة.
ففي أحد الأيام، عاد عبد المجيد من البنك منتعشًا، وخاطبها في سخرية: «تعرفي دكتور فريش بتاعك بيشتغل إيه الوقت؟»
انقبض صدر ذات كأنما توقَّعت الإجابة، وسألت: «هو ساب الأكاديمية؟»
قال عبد المجيد منتصرًا: «طبعًا. فتح مكتب توكيل لأكبر شركة مبيدات في سويسرا.»
كانت تلك هي اللحظة التي بدأت فيها ذات تشكو من آلام قدمَيها، وتعجز عن تحمُّل الوقوف فوقهما في المطبخ الساعات الطويلة التي يستلزمها برنامج التغذية الآمنة. وشيئًا فشيئًا بدأت عزيمتها تفتر (خاصةً وقد بدأت الماكينات تسخر من حماسها، ثم انتقلت من السخرية إلى المقاطعة)، فطبَّقت سياسة الانفتاح بدرجة محسوبة؛ سمحت بدخول بعض المعلَّبات المستوردة من بلاد محترمة، مبتعدةً عن العلب الورقية وغير الملحومة (نصائح الدكتور فريش)، مدقِّقةً في تاريخ الإنتاج وتاريخ الصلاحية. هكذا وجدت علبة الزيتون اليوناني طريقها إلى مطبخها.
كانت العلبة تحمل ورقةً مطبوعةً بتاريخ الإنتاج ومدة الصلاحية التي تنتهي بعد ثلاث سنوات، انقضت منها سنة واحدة. وعندما غُسلت العلبة بعناية، كدأبها مع كل ما يوضع فوق الرفوف أو في الثلاجة، تحرَّكت الورقة وظهرت تحتها ورقة أخرى تحمل تاريخًا آخر لمدة الصلاحية انقضى من زمن.
نُصح عبد المجيد بإعادة العلبة إلى البقَّال، لكن دعاء طالبت بإبلاغ السلطات. وعندما ردَّ عليها بأن الأمر لا يستحق كل هذا العناء، تشبَّثت دعاء برأيها، مستشهدةً بالحديث الشريف، الذي سمعته أول مرة من عبد المجيد، والذي يدعو المؤمن، في حالة رؤيته لمنكر، أن يُغيِّره بسيفه، وإن لم يستطع فبلسانه، وهو أضعف الإيمان. وهو نفس الرأي الذي سمعته ذات، دون استشهاد، من همت، عندما نقلت القصة كلها إلى الأرشيف.
جاءت همت سعيًا وراء تضامن الماكينات في الشكوى ضد رئيس مجلس الإدارة الذي يخطِّط لإخلاء المبنى الملحق كي يبيعه لشركة استثمارية بمبلغ خيالي (سيحصل لنفسه، بالطبع، على جانب خيالي منه)، ودعمت طلبها بإعلان مبادئ جليل عن مسئوليات المواطن الصالح وواجباته، فضلًا عن حقوقه، ومن هذا المنطلق حفَّزت ذات لأداء واجبها بشأن علبة الزيتون. لم يُكتب لها النجاح في القضية الأولى، وحالفها التوفيق في الثانية.
فقد أبدت الماكينات شكوكهن في جدوى أي تحرُّك ضد رئيس مجلس الإدارة، فضلًا عن عواقبه، وانضمَّت ذات إليهن بالطبع، رغبةً في كسب رضائهن، واتعاظًا بتجرِبتها المرة، ودرءًا للاتهامات والشبهات، لكنها لم تشأ أن تتعرَّض لمقاطعة همت، فاستجابت لندائها، وحملت علبة الزيتون في يمينها، وأخذت طريقها (بمفردها لأن سميحة كانت تعاني متاعب الحمل الأول) إلى مكتب الصحة في حماس المواطن الصالح المقبل على أداء واجبه.
كانت هذه الحالة الشعورية هي التي ملأتها بالازدراء وهي ترقب عُمَّال جمع الزبالة من الصناديق المعدِنية (التي حصل عليها الحي من المعونة الأمريكية، وتولَّى الشنقيطي توزيعها على الشوارع)، وهم يثبتونها إلى جوانب الشاحنة الضخمة ليتم تفريغها آليًّا، فتتناثر محتوياتها في عرض الطريق دون أن يأبهوا للأمر؛ لانشغالهم بفحص حذاء قديم عثروا عليه بين النفايات. وهي نفس الحالة التي دفعتها إلى اللحاق بأحد المارَّة عندما رأته يسقط على الأرض ساجدًا بعد أن ارتطم به لوح خشبي انفلت من عقاله فوق شاحنة صغيرة. ألفت السائق راكعًا إلى جوار المصاب يعرض عليه أن ينقُله إلى المستشفى، لكنه رفض، وعندما حاولت إقناعه بخطورة إصابته أصَرَّ على موقفه قائلًا: «فوضت أمري لله.»
شعرت بالأسى لِمَا اعتبرته، طبقًا لإعلان المبادئ الهمَّاتي، من عوامل التخلُّف، وهو إهمال المواطن لحقوقه فضلًا عن واجباته، فأسرعت خطاها، مشيَّعةً بنظرات التشَفِّي من السائق؛ لتؤدِّي واجبها.
كان الموظَّف الذي استقبلها في مكتب الصحة ملولًا من إقبال الناس على أداء واجباتهم، فلم يُبدِ لها ما توقَّعت من ترحاب، وتطلَّع إليها في ضيق واستهانة قائلًا إنه لا بد من إثبات الحالة، ولمَّا كان زميله المسلَّح بسُلطة الضبط القضائي في إجازة مرضية تعيَّن عليها أن تقوم بذلك في قسم الشرطة.
اتجهت على الفور إلى قسم الشرطة دون أن تفقد حماسها، وتنقَّلت بين عدة جنود وضابط حتى وصلت إلى أمين شرطة يجلس إلى مكتب صغير، منهمكًا في مساعدة ثلاثة رجال على أداء واجبهم.
جلست وعيناها على أمين الشرطة، تنتقل بهما بين لحم عنقه المتين وشعره الأكرت المصفَّف في عناية، وشاربه الكث المحفوف، وأظافر يدَيه القذرة، إلى أن انتهى من تدوين أقوال الرجال الثلاثة والحصول على توقيع الضابط عليها، ثم صحبهم إلى الخارج، وعندما عاد كان يمسك في يده بعلبة سجائر مارلبورو، فأشعل واحدةً في استغراق، وأخيرًا الْتفت إليها: «أي خدمة؟»
شرحت له الأمر، فتنقَّلت نظراته متفحِّصةً بين وجهها وصدرها وساعدَيها، وارتسم تعبير الاستياء والضجر على وجهه: «يا مدام .. عندنا مليون مخالفة اعتداء وسب ونصب، وكل واحدة تحتاج إثبات حالة .. معنديش حد يقوم معاك.»
تساءلت ذات: «يقوم معاي فين؟»
قال: «إلى البقَّال، فلا بد من التحفُّظ على بقية العلب والتأكُّد من أنه هو اللي باعها لك.»
ولمَّا كان لكل عقدة في جهاز الدولة حل، فقد أضاف بعد لحظة: «اسمعي. أعملك محضر إنك حضرت إلى القسم ومعك العلبة وأبلغت الحالة، وهم في الصحة يتولوا الموضوع.»
لم تعترض، فشمَّر عن ساعدَيه، فعلًا، وكتب سطور المحضر بعدة سجائر، ثم انتقل إلى طاولة أخرى، فسجَّل موضوعه في دفتر بخط لا يُقرأ، وأعطاه رقمًا، ثم اقتطع طرفًا من صحيفة قديمة كُتب عليها رقم المحضر وتاريخه، وأعطاها لذات طالبًا منها أن تأتي في الغد وتحصل من الباشكاتب على صورة من المحضر تذهب بها إلى الصحة، وهو ما فعلته مع بعض التعديلات.
فقد أكَّد لها الباشكاتب أن أمين الشرطة هو المسئول عن كتابة صورة المحضر، وأحالها هذا إلى غرفة في بدروم تفوح منه رائحة البول، احتلَّها ثلاثة موظَّفين متجهِّمين، فشرحت مطلبها لأطولهم قامة، لكنه قاطعها قائلًا: «الدفتر عند رمسيس»، مشيرًا إلى الموظَّف الذي يواجهه. لم تدرِ أنها سقطت في فخ الفتنة الطائفية إلا عندما قال رمسيس دون أن ينظر إلى أحد: «الدفتر عند مصطفى.» وفصل الثالث في الأمر بأن أشار عليها أن تعود إلى أمين الشرطة لينجز لها طلبها.
وجدَته يكتب محضرًا لشخص أنيق، يضع على عينَيه نظارةً شمسية، جلس لا أمام مكتبه كما فعلت هي، وإنما إلى جواره مباشرة. وتطلَّع أمين الشرطة إليها في ضيق، ثم طلب منها أن تُحضر طابعَي شرطة من الطابق الأعلى بجنيهَين، ففعلت وقدَّمتهما إليه، فوضعهما أمامه فوق سطح المكتب. وعندما انتهى من زبونه الأنيق أشعل سيجارة مارلبورو، وأخرج ورقةً بيضاء بعناية من ملف به عدة أوراق مجعَّدة، ثم جذب دفترًا رسميًّا منتفخًا، وأخذ يقلِّب بين صفحاته شاردًا حتى عثر على مبتغاه، ثم أمسك القلم وكتب لها، بعد تردُّد، صورة المحضر وختمها، ثم تناول الطابعَين، وبدلًا من أن يلصقهما على الورقة، وضعهما بعناية في جيب سترته العلوي.
أخذت الورقة وأسرعت إلى مكتب الصحة مغامِرةً بسيارة أجرة، فلحقت بالموظَّف وهو على أهبة الانصراف. بدت عليه أمارات الدهشة، واعترف بأنه لم يتوقَّع عودتها، ثم أخرج من دولاب خشبي مائل، مغلق المصراعَين بقفل، دفترًا عريضًا بسَطه فوق سطح المكتب، وشرع في تسجيل تاريخ المحضر وموضوعه، وإذا به يتوقَّف فجأةً صائحًا: «المحضر ده مينفعش. التاريخ غلط.»
انحنت ذات فوق الورقة، فوجدت التاريخ يشير إلى السنة القادمة، فقالت بلهجة رقيقة: «مخدش باله. بسيطة.» وتناولت قلمًا من فوق المكتب وهمَّت بتصحيح التاريخ فانقَضَّ الموظَّف على يدها صائحًا: «إيه ده يا مدام؟»
– «باصلح التاريخ.»
– «يا مدام ده يبقى تزوير في أوراق رسمية.»
– «أمال نعمل إيه؟»
– «لازم محضر تصحيح.»
للحَظِّ دَوْراته؛ فعلى غير ما توقَّعت تمكَّنت من عمل محضر التصحيح على الفور، وبذلك لم يفتها موعد عودة ولي العهد، لكن الحصول على صورةٍ من المحضر كان أمرًا آخر، تطلَّب التردُّد على مركز الشرطة مرتَين، والثالثة قضت على ما تبقَّى لديها من حماس لأداء الواجب. لمست همت بوادر النكسة في الوقت المناسب، فأعادت الشحن، بل وتطوَّعت للمشاركة، واتفقت المرأتان على الذهاب سويًّا، بعد أن تعهَّدت همت أمام إصرار ذات بأن تخفِّف من غلوائها واقتحاميتها وتتجنَّب الاستفزاز، لكنهما لم تتمكَّنا من ذلك إلا بعد عشرة أيام. كان المحضر الجديد قد انتقل خلالها إلى مكان مألوف؛ هو الأرشيف، حيث وقعتا في براثن الصول عبد اللطيف.
كان عجوزًا نحيلًا، متخشِّب الجسم، لا يعرف وجهه الابتسام، يجلس إلى مكتب مرتَّب، صُفَّت فوقه أكوام من الملفَّات في نظام صارم، حافظ على تساوي أطرافها، وقُسِّمت إلى مجموعات، رُبطت كل واحدة منها بدوبارة، وكان ثمة راديو صغير رُبط هو أيضًا بدوبارة، يبث آيات الذكر الحكيم.
حكت همت القصة عندما تلعثمت ذات، فطلب منها أن تسجِّلها على عرضحال تمغة، وأشاح عنها بوجهه إلى النافذة.
غادرتا الغرفة بحثًا عن ورقة وتمغة، فوجدتاها لدى جندي كهل، يقف أمام باب المأمور، تقاضى منهما ثمن التمغة مضاعفًا. كتبت همت الطلب الذي تتعهَّد فيه بدفع الرسوم الضرورية وقدَّمته إلى الصول عبد اللطيف الذي كان مشغولًا بخدمة زبون؛ جندي مجند، بعث به ضابطه على ما يبدو، مدَّ يده إلى الصول بجنيه ونصف، فأخذهما وفتح درج مكتبه، وأخرج منه علبة سجائر وباقي الثمن، أعطاهما للجندي بعد أن أغلق الدرج بإحكام، ثم استدار إلى شريكه في الغرفة وهو صول مثله يقاربه سنًّا وإن فاقه حجمًا، ومدَّ إليه يده في صمت فأعطاه الآخر نظارة قراءة بذراع واحدة وضعها فوق أنفه، وقرأ ما سطَّرته همت بتروٍّ، ثم تناول القلم وكتب في صدر الطلب العبارة التي نستها همت: «بسم الله الرحمن الرحيم»، بعد أن رماها بنظرة صارمة. وأخيرًا خلع النظارة وأعادها إلى زميله، ثم ناولها الورقة قائلًا في اقتضاب: «امضيها من لبيب بيه.»
كان موعد باص ولي العهد قد اقترب، وتعيَّن على ذات أن تنصرف، فتطوَّعت همت لإكمال المسيرة، ومضت إلى غرفة سكرتارية يتقاسمها شابان مستغرقان في قراءة الصحف، طلبا منها أن تنتظر حتى ينتهي البك من اجتماع هام. جلست أمامهما وراقبتهما من طرف عينها وهما يتبادلان التعليق بصوت خافت على إعلانات المساكن، متحسِّرين على أثمانها الخيالية، بينما يختلسان النظر إلى صدرها، إلى أن انفرج باب الغرفة الداخلية، وبرز منه رجل طويل القامة بالغ الأناقة، خطا إلى الطرقة دون أن يعبأ بإلقاء نظرة عليها أو على السكرتيرَين اللذَين قفزا واقفَين، ولم يعودا إلى مقعدَيهما إلا بعد أن تلاشى وقْع أقدامه تمامًا.
استأنف الشابان دراسة إعلانات الصحف، ثم خاطبها أحدهما فجأة: «لبيب بيه خرج.»
قالت همت مصعوقة: «هو اللي خرج الوقت؟!»
أطرق برأسه دون مبالاة، ثم أضاف مترفِّقًا: «جربي محمود بيه.»
عندما عثرت على محمود بيه في الطابق الأعلى كان قد نال ترقية؛ لأن الواقفين أمامه كانوا يخاطبونه بمحمود باشا. انضمَّت إليهم حتى حان دورها، ورفع إليها وجهه المرهق، وقبل أن تنطق دقَّ جرس التليفون، فرفع السماعة وأنصت لحظة، ثم قال: «حاضر يا ستي. أعطيني النمرة والمطلوب.»
دوَّن الباشا شيئًا على ورقة، ثم تحوَّل إليها من جديد، فقدَّمت إليه الورقة وفوجئت به يوقِّعها بسرعة. استعادتها وهُرعت إلى الصول عبد اللطيف فوجدته واقفًا إلى جوار النافذة يتطلَّع إلى الخارج شاردًا. استدار إليها فلوَّحت له بالورقة هاتفة: «مضيتها.»
بوغت العجوز، وتناول منها الورقة فقرأها بعناية، ثم مضى إلى مكتبه وجذب دفترًا، ومضى يقلِّب صفحاته، ويراجع البيانات المسجَّلة فيه بأصبعه حتى توقَّف عند إحدى الفقرات، فترك الدفتر، وتناول مجموعةً من الملفَّات المربوطة بدوبارة فاستخرج أحدها، وتفحَّص محتوياته في أناة قبل أن يهز رأسه قائلًا: «مينفعش.»
صُعقت: «إيه هو ده اللي مينفعش؟»
أعاد الملف إلى مجموعته وانهمك في ربطها بالدوبارة وهو يقول: «مقدرش أديكي صورة منه.»
– «ليه؟»
– «اللي عندي محضر التصحيح بس.»
– «عظيم. هو ده اللي أنا عايزاه.»
– «والمحضر الأصلي؟»
– «عندي صورة منه.»
– «مافهمتيش. مقدرش أعطيك صورة من محضر التصحيح وحده. لازم تاخدي الاتنين مع بعض.»
– «زي بعضه. اديني الاتنين. أهي غرامة وبس.»
– «المحضر الأصلي غير موجود.»
– «راح فين؟»
– «النيابة.»
– «وييجي إمتى؟»
– «علم الله. وحتى لو جه.»
– «قصدك إيه؟»
– «مش قلتلك انك لازم تاخدي الاتنين مع بعض؟ لمَّا ييجي المحضر الأول يكون التصحيح راح النيابة.»
«ولمَّا ييجي التصحيح من النيابة يكون الأصل …»
لانت ملامح وجه الصول عبد اللطيف لأول مرة وقد بدأ يستمتع بالموقف: «راح السجلات ..»
اندمجت همت في اللعبة: «ولمَّا ييجي من السجلات يكون التاني راح الأرشيف.»
ثلاثة أماكن تنقَّلت بينها طوال أسبوع (تجنَّبت خلاله ماكينات الأرشيف) على أمل الإمساك بالمحضرَين في لحظة يلتقيان فيها مصادفة. وتكلَّل مسعاها أخيرًا بالنجاح فعثرت عليهما في السجلات، وأمكنها أن تحصل على الصورة المطلوبة، عن غير الطريق الرسمي، بعد أن دفعت المعلوم، وعندئذٍ مضت إلى الماكينات ظافرة.
حان دور ذات فحملت المحضر إلى موظف الصحة، الذي تلقَّاها غير مصدِّق لعودتها، وأخذ منها التصحيح وراجعه بدقة، ثم قال باختصار: «الديوان العام.»
تساءلت: «يعني إيه؟»
أجاب: «مقدرش أستلمه منك إلا بعد ما يُعتمد من الوزارة.»
تضم ترسانة ذات بعض الأسلحة الماضية، فلم تذهب إلى الوزارة أو غيرها، وإنما إلى الأرشيف في موعدها اليومي، وعندما جاءت همت تستفسر عمَّا فعلت، استقبلتها بابتسامة آسرة، وأصَرَّت أن تسقيها كوبًا من الشاي أعَدته بالطريقة التي تفضِّلها، ثم استغاثت بشهامتها: «كملي جميلك.»
على قدر ما تتميَّز به همت من عدوانية، فإنها تضعف أمام أمثال هذه النداءات التي تخاطب، فضلًا عن قدراتها الخارقة، فضائلها المتصوَّرة. هكذا أخذت المحضر وانطلقت به إلى الوزارة، حيث أعطاها الموظَّف المختص موعدًا بعد أسبوع، تأخذ فيه ورقتها ممضاةً ومختومة. ذهبت في الموعد فوجدته في الغرفة المقابلة لغرفته منحنيًا على زميل له يتفرَّجان على مجموعة من الصور الفوتوغرافية الملوَّنة، بمشاركة زميلة لهما جلست في الوضع المقوَّس التقليدي لموظَّفة المكتب المصرية (الذي يسمح لها بالاستسلام للنعاس متى شاءت).
رفع الشاب بصره ولمحها، فعاد يتطلَّع إلى الصور مشيرًا إلى تفصيلة في إحداها. ظلَّت واقفةً تنتظر، فرمقها بنظرة عدائية. قالت: «أنا كنت عندك من أسبوع وقلت لي النهارده.»
أجابها: «استنيني دقيقة في مكتبي.»
انتظرته في غرفة مزدحمة بالمكاتب المتلاصقة التي تناثرت فوقها الملفَّات، وخلت من موظف واحد، وثبَّتت عينَيها في نقطة على الأرض بين أعقاب السجائر وقصاصات الورق حتى جاء وخاطبها متلطِّفًا: «متقدريش تيجي السبت؟ إنتي عارفة النهارده الخميس، وأنا مسافر الوقت لخطيبتي.»
لاحظت أنه حليق الرأس والذقن، وأن ملابسه المهندمة في ألوان متناسقة من درجات البني، جديدة ونظيفة ومكوية، لكنها قالت في حزم: «إنت قلت النهارده، ثم أنا ساكنة في آخر الدنيا، وسايبة شغلي. حرام. والموضوع مش حياخد منك حاجة. دي ورقة بسيطة.»
أبدى حركةً توحي بالحنق، وجلس إلى مكتبه، وبدأ يفتِّش في ملفَّاته، ثم قال فجأةً كأنما اكتشف شيئًا: «ثم إن المراجع اللي لازم يوقع ع الصورة غير موجود.»
التجربة دفعتها إلى المقامرة: «أبدًا. أنا شفته الوقت على مكتبه.»
فتح الملف وأخرج محضر التصحيح وعرضحال التمغة الذي طلبت فيه اعتماده، فقرأهما في عناية، ثم أخذ يبحث في الأدراج والمكاتب الأخرى حتى عثر على ورقة بيضاء مزَّقها إلى نصفَين. ولمح زميلًا له في الطرقة فصاح به أن يقرضه قلمًا. ولج الآخر الغرفة، وقدَّم إليه قلمه فتأمَّله قائلًا: «مش هو ده قلمي اللي أنا أعطيته لك أول امبارح؟»
هزَّ الآخر رأسه: «أبدًا. مش هو.»
قال الأول: «لا هو، والأمارة مكتوب عليه إكسترا فاين.»
أكَّد الآخر: «قلمك أنا رجعته لك. القلم ده أنا أخدته من مراتي ولازم أرجعه لها.»
قال الأول: «قابلني لو خدته مني تاني.»
قال الآخر: «حاخده الوقت.» ومدَّ يده ليأخذ القلم، فحاوره الأول ضاحكًا: «نخسر بعض بسبب قلم؟»
قال الآخر: «نخسر بعض ونص.» وأمسكه من ذراعه محاولًا ليَّه.
صاح الأول: «حاسب! حتبوظ هدومي. أنا رايح النهارده لخطيبتي. كان زماني الوقت في السكة لولا المدام. اطمن. حارجعلك القلم.»
– «كلام رجالة؟»
– «طبعًا.»
انصرف صاحب القلم بعد أن اطمأن، وشرع الآخر في الكتابة، لكنه تذكَّر شيئًا فغادر مقعده وهو يرميها بنظرة سخط. بحث في درج أحد المكاتب حتى استخرج ورقة كربون مجعَّدة. عاد إلى مقعده ووضع الورقة أمامه على سطح المكتب ثم بسطها بكفِّه وهو حريص ألَّا يلوِّث كم قميصه وسترته، ثم دسها بين نصفَي الورقة البيضاء، وقلَّب كفَّيه وتأمُّلهما بدقة ليتأكَّد من عدم تلوُّثهما، وبحث عن مشبك ثبَّت به الأوراق الثلاث وشرع يكتب في أناة. وفجأةً رفع رأسه إليها قائلًا: «إنتي اللي ما حبتيش تستني ليوم السبت.»
هبط قلبها بين قدمَيها؛ إذ حارت في تفسير عبارته: هل يهدِّدها، أم يبرِّر التأخير، أم يدبِّر لها شيئًا؟ انتظرت في توجُّس وهي تتأمَّل جبهته السمراء المنحنية على القلم، ورفعها فجأةً مبتسمًا عندما ولج زميل له الحجرة، متسائلًا: «رأيك إيه؟»
صنع الآخر دائرةً بإبهام وسبابة يده اليمنى قائلًا: «إيه وان.»
اطمأن الشاب على صور خطيبته أو حسن هندامه، واستأنف الكتابة راضيًا، وعندما انتهى قام واقفًا، وأزال المشبك، وألقى بالكربون جانبًا، ثم حمل الورقتَين والملف وأزاح المقعد قائلًا: «استنيني هنا لمَّا آخد توقيع المراجع.»
غاب طويلًا حتى أيقنت أنه لن يعود، لكنه لم يلبث أن ظهر وخاطبها في لهجة الظافر: «المراجع مش موجود.» وقبل أن تعلِّق أضاف: «حاسيب الملف والورقة مع زميلي الأستاذ محمود عشان يمضيها من المراجع أول ما ييجي.»
انتقل إلى الغرفة الأخرى وهي خلفه، وأعطى الملف لزميله الذي كان شابًّا في قميص متسخ وملابس متواضعة وذقن نابتة لم تعرف الموسى منذ عدة أيام، ظلَّ يقلِّب صفحات مجلة مصوَّرة دون أن يعبأ بها، إلى أن طلبت منه أن يدلها على مكتب المراجع، الأستاذ عبد العليم؛ لتخطره بمجرَّد حضوره، فصحبها إلى قاعة في نهاية الطرقة وأشار إلى المكتب الذي يستخدمه المراجع، ثم وصفه لها: نحيل يرتدي بليزر أحمر ونظارةً سميكة. وأضاف على سبيل الاحتياط: «إن مجاش هنا تلاقيه في غرفة المراجعين الناحية التانية.»
لم تشأ أن تجلس ساكنة، فمضت إلى غرفة المراجعين، ووجدت بها موظَّفًا واحدًا، ضخم الجثة، بنظارة سوداء، قال لها إن الأستاذ عبد العليم ذهب يتناول إفطاره وسيعود حالًا. سألته في رقة: «إحنا بقينا الظهر. هو راجع حقيقي؟» أجابها: «لازم يرجع. اتفضلي استنيه.»
جلست على مقعد في مدخل الغرفة تتابع المارِّين في الطرقة؛ رجلًا قصير القامة متعجِّل الخطى، ألقى عليها نظرةً عصبية، امرأةً طويلةً في جيبة وبلوزة سوداوَين تحمل ملفًّا في يدها وتجرجر قدمَين في صندل مفتوح أقرب إلى الشبشب، لحقت بها زميلة غرفة الأستاذ محمود هاتفة: «أنيسة، يعني لازم أدور عليكي. ما تسأليش عني من نفسك؟» وقبَّلتها أنيسة على خدِّها قائلة: «سألت عليكي والنبي يا منيرة.» ثم شبَّكت ساعدها في ساعد زميلتها وواصلتا السير والبث.
شعرت بصاحب النظارة السوداء يختلس النظر إلى ساقَيها، وابتسمت لنفسها عندما تصوَّرت شعوره إذا ما استدارت ناحيته فاتحةً فخذَيها. ملَّت الجلوس بعد لحظات فنهضت واقفةً وقامت بجولة تأكَّدت فيها من أن الأستاذ عبد العليم ليس في القاعة الأخرى، وأنه لا بد وأن يمر من أمام غرفة المراجعين عند عودته من الخارج. عادت إلى الغرفة فلم تجد صاحب النظارة السوداء. استعادت مقعدها وثبَّتت عينَيها على الطرقة، وأذنَيها على وقع الأقدام، ثم تنهَّدت عندما تردَّد أذان الظهر من مكان قريب في نفس الطابق، وتوافد الموظَّفون أمامها في طريقهم إلى الصلاة؛ إذ كان المعنى واضحًا؛ سيعود الأستاذ عبد العليم من تناول الإفطار ليلحق بالصلاة. حاولت أن تتخيَّل ما يفعله في هذه اللحظة؛ في دكَّان ما يشتري شيئًا؟ في شركة إيديال يبلِّغ عن تلف ثلاجة؟ في زيارة لصديق بإحدى المؤسَّسات القريبة؟ في لقاء مع خطيبته بجروبي، يقومان بعده بجولة للفرجة على أثاث المستقبل؟ مرَّ أمامها رجل تنطبق عليه أوصاف الأستاذ عبد العليم، فضلًا عن أنه كان يحمل لفافةً لا يصعب تبيُّن محتواها من السندوتشات. نادت عليه فتطلَّع إليها في ضيق وواصل السير. تبعته إلى القاعة واطمأنت على جلوسه إلى مكتبه، ثم هُرعت لإبلاغ الأستاذ محمود. كانت الطرقة المؤدِّية إلى مكتبه مسدودةً بشاب وفتاة محجَّبة ينقِّبان في الملفَّات المكوَّمة على الجانبَين. أفسحا لها فولجت الغرفة ووجدت منيرة بمفردها تتصفَّح إحدى المجلَّات المصوَّرة. سألتها عن الأستاذ محمود، فأجابت دون أن ترفع رأسها: «مجاش النهارده.»
ردَّت همت بانفعال: «أنا كنت معاه هنا من ربع ساعة.» رفعت منيرة إليها عينَين ضيقتَين وسط بشرة ضامرة مليئة ببثور جافة لم يفلح المكياج في إخفائها: «طب دوَّري عليه.» زفرت همت في قوة وغادرت الغرفة. مرَّت على الغرف الأخرى فوجدتها خالية، وفجأةً لمحته قادمًا من الناحية الأخرى وملفها في يده. أسرعت نحوه فوجم لرؤيتها وسألها: «جه؟» أطرقت برأسها فتقدَّمها إلى القاعة.
كان الأستاذ عبد العليم قد انتقل إلى مكتب زميل له، حاملًا لفافته، وانضمَّت إليهما واحدة بعلبة مخللات في يمينها، أغرته بأن يمد أصبعه داخلها بحثًا عن قرنٍ من الفلفل فيما يبدو، بينما تقدَّم منه الأستاذ محمود باسطًا الملف قائلًا: «معادها النهارده، ومستنية من الصبح. كل حاجة تمام مش ناقص إلا إمضتك.» انتزع الأستاذ عبد العليم أصبعه من علبة المخللات ودعكه في طرف ورقة السندوتشات، ثم تناول الملف بأصبعه الأخرى غير الملوَّثة، وقرأ محتوياته قبل أن يطلب قلمًا من زميله، ويضع توقيعه في عناية.
تنهَّدت همت في ارتياح، وتناول محمود الملف وهو يستدير قائلًا: «هانت لم يبقَ إلا توقيع المراقب العام.» مضى أمامها إلى غرفة مغلقة بقفل، فتوقَّف قائلًا: «مش موجود.» تطلَّعت إليه في انزعاج فقال: «حنشوف. يمكن بيصلي.» سمعه فرَّاش مارٌّ فقال: «لا. خرج.» لم يعبأ به محمود واتجه إلى زنقة الستات، وهي في أعقابه حتى بلغا غرفةً فُرشت بالحصير واحتشد بها الموظفون راكعين في وضع الصلاة. تأمَّلهم محمود لحظة، ثم قال: «مش هنا. لازم خرج فعلًا.» ورقَّ قلبه لها فأضاف: «تعالي نروح للمدير العام.»
وجدا المدير العام يتحدَّث في التليفون وقد وقفت أنيسة أمامه تحمل الملف إياه. كان كهلًا يقترب من الستين، قبيح الوجه، متواضع الملابس. أنهى مكالمته، وقال شيئًا لأنيسة فانصرفت على الفور. قدَّم محمود الملف إليه في أدبٍ قائلًا: «كل حاجة كاملة. مش ناقص إلا توقيع المراقب العام لكنه خرج.» قال المدير: «لا. موجود. تلاقيه بيصلي.» قال محمود: «سعادتك فتشنا عليه في المصلى. أكيد نزل.» قال المدير: «لازم يمضي الأول. دوَّر عليه. أنا شفته من دقيقة.» قال محمود: «سعادتك كلهم شافوه وهو خارج، وأودته مقفولة بالقفل.» فكَّر المدير برهة، ثم بسط الملف، وتطلَّع إلى صف التوقيعات المطلوبة؛ المراجع، المراقب العام، المدير العام، وإلى همت، ثم قال في لهجة حاسمة: «مدام فايزة تمضي بداله.»
انتقلا إلى الغرفة المجاورة مباشرةً حيث قدَّم محمود الملف إلى سيدة ممتلئة، بنظارة، وشعر قصير، ألاجرسون، كشف عن بقعة جرداء وسط رأسها، صاحت على الفور: «أنا لا .. الأستاذ صالح هو اللي يمضي.» قال محمود: «وهو فين؟» قالت مدام فايزة: «بيصلي. زمانه جاي.» قالت همت محتجة: «دول بيصلوا من نص ساعة. دي لو كانت صلاة التراويح كان زمانها خلصت.» قال محمود في استياء: «معلهش .. كلها دقايق.» وأضاف عندما خرجا إلى الطرقة: «تفضلي حضرتك استني شوية في مكتبي.» قالت: «لا .. حاستنى هنا.» قال: «لا هنا ولا هناك. الأستاذ صالح وصل.»
أشار إلى كهلٍ مجعَّد شعر الرأس، يرتدي سويتر من الصوف فوق قميص ملوَّن وشبشب، أي والله شبشب، قادمًا نحوهم. وفجأةً دار إلى اليمين واختفى في طرقة جانبية، فلحقا به. وجداه يتجه إلى باب قذرٍ فوق بركة من المياه. خاطبه محمود: «أستاذ صالح.» لوَّح بيده قائلًا: «دقيقة.» صاحت همت: «أنا لي ساعتين مستنية.» قال محتجًّا: «يعني ما أدخلش دورة الميه؟!» انفجرت فيه صائحة: «دورة الميه وبعدين صلاة نص ساعة وبعدين دورة الميه تاني .. أمال امتى حتشتغل؟» بُهت الجميع وخشيت همت من رد الفعل، فغيَّرت تكتيكها وقالت في لهجة أقرب إلى الاستعطاف: «إعمل معروف يا أستاذ صالح دي إمضا بس.» شرح له محمود الحكاية، فقال وهو يستدير ليدخل المرحاض: «مش شغلي، دا شغل المراقب العام.» أمسكت همت بذراعه وهو يستعد للقفز فوق بركة المياه: «المراقب العام مش موجود والمدير العام طلب إمضتك.» قال: «مش ممكن.» توسَّلت إليه أن يصحبهما، فرضخ لها أخيرًا.
وقف الثلاثة أمام المدير العام، وتولَّت همت شرح الموضوع من جديد، فتناول الملف وتأمَّل محتوياته، ثم ألقى نظرةً على المكان المخصَّص للتوقيعات الثلاثة وقال لمحمود: «شوفوا المراقب العام فين. أنا متأكد إنه هنا.» وضع محمود يده على قلبه قائلًا: «والله العظيم خرج.» قال: «وفايزة؟» قال محمود: «رفضت تمضي.» أمسك المدير العام بالقلم واقترب به من المكان الذي يتطلَّب توقيعه، ووقعت عينه على المكان المخصَّص لتوقيع المراقب العام، فتراجع بالقلم وعاد يتصفَّح الملف، وعندئذٍ اكتشفت همت اختفاء الأستاذ صالح.
دخل أحد الموظفين ومال على المدير العام يحدِّثه في صوت خافت، فاستمع إليه في اهتمام، ثم بادله الحديث، وقد نسي أمرهم تمامًا. وعندما انصرف الموظف وقعت عيناه على مكان توقيعه، فاقترب منه بالقلم، وفي اللحظة الأخيرة تراجع. وتعلَّقت عينا كلٍّ من همت ومحمود بالقلم في إقدامه وإحجامه. عبث المدير العام بالقلم بين أصبعَين برهة، ثم حزم أمره أخيرًا ووقَّع على الورقة في عجلة، كأنما يخشى أن يغيِّر القلم رأيه.
تنفَّست همت في ارتياح، ومدَّت يدها لتأخذ الملف، فسبقها محمود قائلًا: «فاضل الختم.» تبعته إلى غرفة مدام فايزة وإلى مكتب في طرفها. توقَّعت ألَّا يكون الجالس إلى المكتب هو حامل الختم، أو أن يكون الختم في درج مغلق والمفتاح لم يأتِ اليوم، أو يكون استخدامه ممنوعًا في أيام الخميس، أو فرغ حبره، أو يحتاج إلى تجديد، أو يكون هناك خطأ في الأوراق لم يتبيَّنه أحد حتى الآن، أو … أو … ولدهشتها أخرج الموظف الختم وضغطه في الختامة، وبسط ورقة الملف، ثم رفع الختم في الهواء وهبط به فوق الورقة، وقبل أن يلمسها توقَّف فجأةً ووضعه جانبًا.
قال وهو يشير إلى مكان توقيع المراقب العام الفارغ: «فين إمضت محيي بيه؟» شرح له محمود الأمر، فهزَّ رأسه في أناة وحكمة: «مش ممكن نختم ورقة بالشكل ده؛ فمعنى كده إنه مكنش موجود، وانتو مترضوش إن زميل لنا ينضر. نستنى لمَّا يرجع.» صاحت همَّت في هستيرية والدموع تندفع إلى عينَيها: «خرج ومش راجع.» تأمَّلها الرجل برهة، ثم ابتسم وقال: «مفيش قدامنا غير حل واحد.»
فتح درج مكتبه وأخرج زجاجةً صغيرةً من البلاستيك، فنزع سدَّادتها التي احتوت على ريشة رفيعة ملوَّثة بمِداد أبيض. مرَّ بالريشة فوق كلمة المراقب العام عدة مرات حتى اختفت تمامًا أسفل طبقة من الطلاء الأبيض، ورفع الورقة إلى فمه، ونفخ فيها حتى جفَّ الطلاء، ثم وضعها جانبًا وأعاد السدَّادة بريشتها إلى العلبة وأغلقها ووضعها في الدرج، وتناول الورقة فتأمَّلها في ضوء النافذة حتى تأكَّد من جفافها، ثم تناول الختم وضغطه في الختامة، ثم رفعه في الهواء وهبط به فوق المكان الذي طلاه باللون الأبيض، وضغط بقوة، ثم قدَّم الورقة والملف إلى همت قائلًا في ابتسامة عريضة: «كل حاجة الوقت سليمة مية المية.» وهو نفس التعليق الذي سمعته ذات من مراقب الصحة عندما ذهبت إليه بمحضر التصحيح.
١٦
بسم الله الرحمن الرحيم
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
صدق الله العظيم
للاستثمار وتوظيف الأموال.
أحل الله البيع وحرم الربا.
تحت حساب الأرباح السنوية.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
صدق الله العظيم
مجموعة شركات «الهدى مصر» تتقدَّم بالشكر لفضيلة الشيخ
على تكرُّمه بافتتاح المرحلة الأولى من المبنى الإداري للشركة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
صدق الله العظيم
جناح نوم بالحمام + غرفتَي نوم يتوسَّطهما حمام ثانٍ + معيشة وصالون وطعام ومطبخ وحمام ثالث وشرفة تُطِل على الأهرامات في مدينة السعد السكنية. لا تفكِّر كثيرًا فالفرصة أمامك. وها هي نظرية السعد للاستثمار في أبسط صورها؛ إذا كنت تساهم في إحدى شركاتنا بمبلغ ٦٠٠٠٠ جنيه مثلًا، فادفع فقط ٦٥٠٠ جنيه مقدَّم واستلم فورًا شقةً فاخرةً قيمتها ٦٠٠٠٠ جنيه، وأرباحك المتوقَّعة بإذن الله سوف تُسدِّد الأقساط، وفي خلال فترة لا تتجاوز ٤٠ شهرًا سيكون رصيدك كما هو ٦٠٠٠٠ جنيه + الشقة ملكًا لك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
للمعاملات المالية في خدمة المستثمر العربي
إنجاز صناعي واقتصادي بكل المقاييس لرفع شعار صُنع في مصر.
الريان للمعاملات المالية، والريان للاستثمارات العقارية، والريان لمواد البناء، تقدِّم:
شركة الريان للملابس الجاهزة تنتج عشرات الملايين من أجود أنواع الملابس في مصر. شركة الريان للمنظِّفات الصناعية تقدِّم: سكاي، كتشن إيد، سويفت، بيو باكت.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
صدق الله العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أموالكم تستثمر لكم.
تقدِّم مشروعًا جديدًا كل أسبوع ولمدة ٣ شهور. أكبر مخزون في مصر من سيارات شركة النصر ١٢٨. أكبر مخزون لقطع غيار سيارات البيجو الأصلية. مصنع ثلاجات زانوسي ١٢ قدمًا. سلسلة مطاعم علاء الدين. ومفاجأة العام؛ بوتاجاز الفرن الجديد؛ شواية كباب، باب من الزجاج المقاوِم للحرارة، شواية دجاج + فرن كبير يتسع لخروف.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلًا بكم ومرحبًا في دار «الريان» لرعاية الطفل،
مشرفات ومدرِّسات أجنبيات، حمامات سباحة، كمبيوتر،
فيديو، معمل لغات.
-
إننا نركِّز الآن على تجارة سيارات النقل والركوب. وتجارة السيارات يمكن أن تكسب ٦٠ بالمائة؛ مثلًا سيارة الركوب ١٢٨، أنا أشتريها من شركة النصر بثمانية آلاف جنيه، وأبيعها بالتقسيط على ثلاث سنوات ﺑ ١٥ ألفًا. يبقى كتير؟ أنا أشتري مثلًا ١٢٠ سيارة، ومن يشتري مني يدفع ٤٥٠٠ جنيه، فأحصل على ٤٥٠ ألف جنيه مقدَّم أقساط، وبهذا المبلغ أشتري ٥٠ سيارةً أخرى زيادة، فأكون بذلك اشتريت ١٧٠ سيارةً بثمن ١٢٠ سيارة.
-
لكن هذا يرفع سعر السيارة بعد دفع أقساطها إلى ١٢٫٥ ألف جنيه، فهل هذه الزيادة مع التقسيط حلال شرعًا؟
-
حلال؛ لأن الأصل في الأشياء الحلال، و«أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ»، والحرام هو الربا أو الاحتكار.
الصحف الحكومية: السيارة «نصر ١٢٨» ارتفع سعرها من ٦ آلاف جنيه إلى ١٧ ألف جنيه.
نجم سينمائي يتوب عن الفن ويتولَّى إدارة مشروع «الريان لنشر التراث».
٦٠ بالمائة من مزارع الدواجن وصغارها بوجه خاص أغلقت أبوابها.
مليار ونصف مليار جنيه خسائر صناعة الدواجن.
إعدام ٢٠ مليون كتكوت في مطار القاهرة لامتناع أصحابها عن استلامها بسبب قلة الأعلاف وارتفاع أسعارها.
لسان مدخن، كبد مدخن، اللحم الحلال ﺑ ١٤ جنيهًا للكيلو.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أموالكم تُستثمر لكم.
البركة وراء النجاح.
نداء إلى السيد رئيس الجمهورية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ.
صدق الله العظيم
٧٠ مليون جنيه قيمة مصانعنا، و٤٨ مليون جنيه قيمة الإنتاج المحلي فقط، ونصدِّر ﺑ ٦ ملايين دولار سنويًّا. هذه هي الحقيقة كاملةً يا سيادة الرئيس، لنُفاجأ بعدها بحملة غريبة ومغرضة تتهمنا زورًا وبهتانًا بوجود مشاكل بيننا وبين البنوك، وأننا حصلنا على تسهيلات منها.»
بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
من أجلكم أصبحنا قلبًا واحدًا.
تقدِّم لكم بمناسبة شهر رمضان المبارك:
ذبائح ضأن مجهَّزة بالقطع حسب الكتالوج.
آلاف المودعين يفترشون شارع الهرم صارخين: «عايزين فلوسنا.»
«في هذه الظروف العصيبة التي نشأت نتيجة إطلاق إشاعات وتضخيم أمور إلى أحجام كاذبة، مع عدم فهم كامل لمبدأ المشاركة في المعاملات التجارية والإسلامية. أوَدُّ أن أؤكِّد لكم أن مجموعةً كبيرةً وأنا منهم، لن نقوم بسحب دولار واحد ممَّا هو مودع لديكم لاستثماره. وأدعو لكم بالتوفيق، والله كفيل بالحاقدين.»
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
«أنتهز فرصة حلول الثلث الأخير من رمضان لأطمئنكم جميعًا، ولأعلن لكم أن مجلس إدارة الريان كان ولا يزال وسيظل قلبًا واحدًا ينبض بالحيوية والنشاط لصالح مصرنا العزيزة، إلى أن يشاء مَن بين أصابعه قلوب العباد. وإني لأرجو كل التوفيق لشقيقي الأصغر أحمد توفيق عبد الفتاح في استكمال مسيرة البذل والعطاء لصالح البلاد والعباد، رئيسًا لمجلس إدارة الريان.»
مصادر حكومية: إيداعات المواطنين لدى الريان بلغت «ثمانية مليارات جنيه» ولدى السعد ٣٫٧ مليارات من الجنيهات.
مجلة البنوك الإسلامية: خسائر مضاربات شركات توظيف الأموال في الذهب والفضة بلغت ١٥٠٠ مليون دولار.
زوجة فتحي عبد الفتاح تزوره في مستشفى بهمان وتحقنه بالمواد المخدرة التي مُنع منها، وتقنعه بأن يطلِّقها طلاقًا صوريًّا بعد أن كتب لها جزءًا من ثروته.
إصابته بغيبوبة ونقله إلى مستشفى المعادي.
«بعد التحية أحيطكم علمًا بأنني لظروفِ زواج ابنتي في أشد الحاجة إلى صرف آخر مبلغ بشركتكم، وهو ما تبقَّى لي من تحويشة العمر، حيث فوجئت بعد إيداعه مباشرةً بوقف صرف المنحة الشهرية وقيام الأزمة الأخيرة. وهذا المبلغ لا يزيد عن سبعة آلاف جنيه فقط، ولا يمثِّل إلا نسبةً ضئيلةً من المدخَّرات لديكم، وآمل أن تدفعكم إنسانيتكم ودينكم إلى سرعة موافاتي به لإتمام نفقات زواج ابنتي. أخوكم المودع بالمعاش، حساب رقم ٥٣٨٥٢.»
شركة الريان تتهم محاميها السابق «فريد الديب»، وهو في نفس الوقت محامي مؤسَّسة أخبار اليوم ورئيسها موسى صبري، بالتهرُّب من ضرائب عن ثلاثة ملايين جنيه تقاضاها منها بصفة عمولة تشمل ٩٠٠ ألف جنيه عن عقد مطابع أخبار اليوم.
مشروع جديد للسعد:
مواطن أودع لدى الريان ٧٥ ألف دولار حصيلة عمله بالخارج لمدة ١٨ سنة يصاب بشلل نصفي عند سماعه النبأ.
الحكومة: «شركات توظيف الأموال خطَّطت لنفسها جيدًا بحيث تعطي فائدةً تصل إلى ٣٠ بالمائة سنويًّا في بداية تعاملها مع المودعين، وتثبِّت هذه الفائدة لمدة ثلاث سنوات حتى يحصل المودع على قيمة ما أودعه بطمأنينة، ويتم استدراج أعداد هائلة أخرى تعطي الشركات من ودائعهم الأرباح الواجبة الدفع للقدامى.»
«أودعت لدى الريان ٤٥٠٠ جنيه هي كل ما أملكه من الدنيا بعد خروجي من الخدمة، ولم أصرف غير عشرة جنيهات فقط.» محروسة سيد عبد الواحد، من أصحاب المعاشات.
اكتشاف شركة لتوظيف الأموال يرأسها ثلاثة من الملتحين تبيَّن أنهم مسيحيون.
مباحث الأموال العامة: «خمسون شخصيةً هامةً من الوزراء وأبنائهم وكِبار الصحفيين وعدد من كبار ضباط الجيش والشرطة والقضاء كانوا يتقاضَون من الريان أرباحًا مائةً في المائة على إيداعاتهم في كشوف البركة.»
التحقيق يكشف: … وزير داخلية السادات، حصل على ثلاثة ملايين من الجنيهات في عام واحد.
«مشكلتي كما هي مشكلة الملايين، وهي أموال وتحويشة عمري في شركة توظيف أموال، ولكني أحسب أن لديَّ مشكلةً أخرى ألَا وهي عادتي في إخراج زكاة المال كل عام. وهذا العام ليس في الإمكان الحصول على رأس المال ولا حتى على قيمة الزكاة لتوزيعها كما هي عادتي كل عام؛ فالأموال لديهم والعائد المصروف لا يكفي مصاريف الحياة لأسرة من خمسة أفراد، ويعلم الله كيف يتم تدبير المال. والمبلغ لديهم ليس صغيرًا فهو يتجاوز المائة والعشرين ألفًا، يعني زكاته تقرب من ثلاثة آلاف جنيه. فهل أنا مطالب بدفع الزكاة عن هذا المبلغ، أم تسقط عني لحين البت في الأمر؟ أفيدوني وأريحوا ضميري. محمود كمال جاد، المنزلة دقهلية.»
١٧
تمخَّض نجاح همت فيما عجزت عن إنجازه ذات، عن ارتفاع أسهم الأولى لدى الماكينات، كما تمخَّض عن نتيجة أخرى، متوقَّعة في كافة الأحوال؛ هي مقاطعة الماكينات لذات، التي ردَّت من جانبها بمقاطعة كل من همت ودعاء، ابنتها، باعتبارهما مسئولتَين عن القضية برمتها. وتداعت بقية السلسلة؛ قاطعت دعاء أختها الصغرى لأنها نبَّهت أمها إلى توافق ظهورها في البلكونة مع ظهور ابن الجيران في البلكونة المقابلة، وقاطعت ابتهالُ عبدَ المجيد بسبب انحيازه الدائم إمَّا إلى دعاء أو إلى ولي العهد، وعبدُ المجيد ذاتَ؛ لأنها دأبت على نسيان الليمون عند إعداد القلقاس أو البامية، وذاتُ سميحةَ؛ لأنها اقترضت منها مقلاةً معدِنيةً من الصلب الذي يصدأ وأعادت بدلًا منها مقلاتها الخاصة الأقل جودة، وسميحةُ ولي العهد عندما اكتشفت أنه يستولي على ألعاب ولية عهدها، فيضع في جيبه ما خفَّ حمله، أو يخفيه في أماكن سرية، ينقُله منها عندما تسنح الفرصة. وكان ولي العهد نفسه هو الذي أزال حواجز المقاطعة بين الجارتَين، حينما ارتفعت درجة حرارته فجأة، والتقت أيديهما بالضمادات المثلَّجة فوق جبهته.
كان لقاء الأيدي فاتحةً لالتقاء الشفاه؛ ونقصد بذلك إعادة تشغيل قناتَي البث، وبأقصى قوة؛ من أجل تغطية الفجوة المعلوماتية التي أحدثتها المقاطعة. هكذا علمت ذات بالتطوُّرات الأخيرة في حياة جارتها، بدءًا من إحالة رئيس مجلس حي مصر الجديدة إلى التحقيق بتهمة تلقي الرشوة، وانتهاءً بنوبات القيء المتكرِّرة التي تصيبها.
والحاصل أن رئيس مجلس حي مصر الجديدة لم ينتبه إلى ما تتميَّز به عن غيرها من أحياء القاهرة الكبرى؛ فهي ليست فقط أول ما يقابل السائح، وإنما أيضًا المكان الذي يسكن به ويعمل رئيس الجمهورية؛ ولهذا كان لا بد وأن يلحظ المسئولون التغيُّر الذي طرأ على تضاريس الحي، والارتفاع المفاجئ في منسوب بعض شوارعه، وفي بعض أجزاء الشارع الواحد، وأن يدركوا السر بحكم خبرتهم العريضة في رصف وتعبيد مختلِف أنواع المسالك.
هكذا تحرَّكت آلة العدالة اليقظة في وقت غير مناسب على الإطلاق، بالنسبة للشنقيطي؛ إذ كان بسبيله لشراء شقة واسعة من أربع غرف بمدينة نصر، على أثر الانتهاء من تركيب ساعات ضخمة في ميادين مصر الجديدة فوق خوازيق من البلاستيك؛ توطئةً لإزالتها (الساعات والخوازيق) واستبدالها بساعات مجسَّمة من الزهور. وفي اليوم الذي انتهى فيه تركيب الساعات، وقبل أن يتم تشغيلها، استُدعي رئيس مجلس الحي للتحقيق في مبنى المحكمة المقابل لمكتبه، وذهب الشنقيطي معه، لا من قبيل التضامن؛ وإنما لأنه كان مطلوبًا هو الآخر.
ترتَّب على هذا الاستدعاء عدد من النتائج الفورية واللاحقة؛ نقل رئيس مجلس الحي إلى حي آخر لا توجد به شوارع، والشنقيطي إلى مكتب آخر لا صلة له بالجمهور (المقاولون، وطلَّاب التراخيص ومُلَّاك الأراضي والعمارات، والباعة الجائلون، والسكَّان، ومستأجرو الأكشاك، ومستوردو الأدوات الصحية وقطع غيار السيارات، وأصحاب المكاتب الاستشارية وشركات الإعلان والبساتين، ومهندسو الديكور)؛ عدم تشغيل الساعات؛ إذ نسي الجميع أمرها في زحمة هذه التطوُّرات، خاصةً وأن أحدًا لم يكن بحاجة إليها (لأن الجميع يحملون ساعات دقيقةً تمكِّنهم من عدم المحافظة على الوقت)؛ طيران شقة مدينة نصر، بالطبع، وأخيرًا وقوع الشنقيطي في براثن الشيخ سلامة.
يعمل سلامة عبد الغفار في قسم العوائد بمجلس حي مصر الجديدة. ومنذ بضعة شهور أصيبت ابنته الصغيرة التي لم تتجاوز عامًا ونصف عام بنزلة معوية، وأعطاها الطبيب محلول الجفاف ومخفِّضات الحرارة، وفي اليوم التالي تحسَّنت صحتها وجرت ولعبت، إلا أن أباها لاحظ انتفاخًا طفيفًا في جسمها فطلب منها أن تستريح، فاستراحت إلى الأبد، ودُفنت في نفس اليوم. وقضى سلامة الليل جالسًا يحدِّق في الصندل الذي كانت تلبسه وهي تلعب، والذي انثنت حافته بسبب عادتها في عدم فك رباطه عند خلعه أو لبسه. وعندما بزغ الفجر، سمع صوتًا خافتًا طفوليًّا يناديه باسمه مجرَّدًا: «سلامة، قوم صلي.» بُهت وتلفَّت حوله وفتَّش الغرفة دون أن يعثر على مصدر الصوت، فقام من فوره وتوضَّأ وصلَّى، وكانت هذه هي البداية.
فبفضل صندل الطفلة الملوَّن أصبح يدعى بالشيخ سلامة؛ من فرط ما أبداه من تقوى وورع تجلَّيا بوضوح في لحيته، ومتابعته للفروض بل وزيادة، وفي قيامه بمهام الدعوة؛ إذ أخذ على عاتقه أن يكسب إلى عالم الحق الذي تراءى له من يستطيع من ضالين تائهين. هكذا التقطت عيناه الحادتان الشنقيطي في اللحظة التي انتقل فيها إلى الغرفة المجاورة، مسبوقًا بالفضيحة. وبدأ ينصب شباكه من حوله؛ يُقرئه السلام كلما مرَّ من أمام غرفته، ويدعوه إلى مشاركته شراب الحلبة أو القرفة، ثم الصلاة في المصلَّى الذي أُفردت له غرفة مناسبة في موقع استراتيجي إلى جوار دورة المياه.
لم يجد الشنقيطي غضاضةً في العلاقة المفروضة عليه، بل رأى فيها فرصةً للتنظيف الداخلي والخارجي، لكن الشيخ سلامة لم يكن داعيةً هيِّنا؛ إذ لاحق الشنقيطي بمهام وتبعات متزايدة؛ صلوات إضافية، وقراءات متعمِّقة، ولقاءات ليلية، وواجبات منزلية، ممَّا أدَّى إلى تمرُّده؛ لأنه كان ملاحَقًا بمهام أخرى، تتعلَّق بكسر طوق العزلة عن الجماهير، صاحبة الفضل الأول (كما قال عبد الناصر، عندما كان الشنقيطي في الثانوية). ووقف الشيخ بالمرصاد لمحاولات التهرُّب من الفرائض المشتركة، وعندما دأب الشنقيطي على الانزواء في أحد المكاتب النائية قبل موعد الآذان بقليل، أخذ يلازمه كظِله قبل الموعد بوقت كافٍ. وبالنتيجة انتقل اهتمام الشنقيطي من التركيز على إيجاد طريقة للتقرُّب من الجمهور إلى طريقة للإفلات من ملاحقة الشيخ سلامة، وأصبح من المناظر المألوفة في أروقة مبنى مجلس حي مصر الجديدة (الذي زوَّده رئيسه الجديد بمدخل فخم من الرخام) منظر الشنقيطي وهو يُهرول متلفِّتًا خلفه، والشيخ سلامة وهو يمر على الغرف ويتطلَّع داخلها باحثًا عنه.
تركت هذه التطوُّرات آثارها على الحياة الخاصة للشنقيطي؛ اختفت علب الكنتاكي فراي تشيكن، بيتزا هات، بريوش، لابالما، لورد، الإمبراطور، الفارغة من أمام باب الشقة، وبدا الإرهاق على سميحة نتيجة تفاقم واجباتها الزوجية، من الطهي إلى الموضوع إياه؛ فمن الطبيعي أن يلتمس الشنقيطي، إثر مطاردات النهار، شيئًا من الطمأنينة والسلوى بين الأحضان الشرعية، ومن الطبيعي أيضًا أن يكون، من غير علب الكنتاكي فراي تشيكين والجاتوه، أقل جاذبيةً من عبد الحليم حافظ وحسين فهمي.
حال شهر رمضان دون استفحال الوضع؛ فإيقاعه التقليدي، بما في ذلك برامج البث الملوَّن الممتدَّة حتى الفجر، لم يكن يترك للشنقيطي مجالًا لالتماس الطمأنينة والسلوى، فضلًا عن أنه حلَّ مشكلة التهرُّب من مطاردة الشيخ سلامة، بالاستسلام له، إكرامًا للشهر الكريم. أمَّا سميحة فقد وجدت سلواها (هي وذات) في برامج الفوازير التي صُمِّمت بطريقة ديمقراطية، تسمح لكل مواطن، مهما بلغ به الجهل والغباء، أن يؤكِّد لنفسه، ولمن حوله، ما يتمتَّع به من ثقافة وذكاء. وكان لها، إلى جانب ذلك، سحر خاص في هذا العام تمثَّل في دعمٍ مالي مقداره ألف وخمسمائة جنيه يوميًّا لمن يفوز بالحل، مقدَّمة من شركات توظيف الأموال «البركة وراء النجاح».
انتهى الشهر الكريم بفوازيره ومعاركه، وهزائمه وانتصاراته، فاستأنف الشنقيطي سيرته في الزوَغان من الشيخ سلامة، وبالتالي واجهت سميحة إقبالًا مضاعفًا منه (بعد صيام الشهر)، كما واجهت ذات (إثر فشل وليمتَين عجز عبد المجيد عن توفير اللوز والجوز لهما بسبب الارتفاع الصاروخي في أسعار الياميش) إعراضًا واضحًا من سَدَنة الأرشيف.
وبينما ذات تبحث عن سبيل لمواجهة الماكينات، قدَّمت لها سميحة الحل، بشكل عرضي، ذكَّرها بإطلالتها الأولى على الفخذَين المبهرَين، مع فارق واحد أو اثنَين؛ فالذي طرق بابها مستنجدًا لم يكن الشنقيطي، وإنما ولية عهده الصغيرة، المتعثِّرة في النطق، وما وجدته يسيل من سميحة لم يكن دماءً من بين فخذَيها، وإنما قيء من بين شفتَيها.
حملت ذات القصة إلى ماكينات الأرشيف، فأحدثت الأثر المطلوب على الفور؛ فرغم وفرة معلومات الماكينات، وتجارِبها الواسعة في ميدان التخلُّص من السائل إياه، كانت أول مرة يسمعن فيها عن هذه الطريقة المبتكرة؛ التخلُّص منه مباشرةً عن طرق الفم. وتحوَّلت ماكينات البث إلى ماكينات تلقٍّ، تتابع أنباء الطريقة الجديدة، صباح كل سبت، فضلًا عن مرة أخرى وسط الأسبوع؛ ذلك أن ولية العهد كانت تدعو ذات، بخبطات واهنة على باب الشقة من يدَيها الدقيقتَين؛ للإشراف على تقيُّؤ أمها مرتَين تقريبًا كل أسبوع؛ إحداهما في صباح الجمعة التقليدي بعد أن يخرج الشنقيطي للقاء الشيخ سلامة، المنتظر على باب العمارة؛ كي يخلِّصه من أحدث ذنوبه، وتسنح الفرصة لزوجته كي تتخلَّص هي الأخرى من ذنوبها بمعاونة جارتها.
ما جرت الإشارة إليه من قبلُ بالتلميحات والإشارات، وقلب الشفاه المصبوغة في ازدراءٍ عندما يَرِد ذكر العملية إياها، صاغته سميحة الآن، من شفاه بيضاء، في كلمات مباشرة: «لا أطيق لمسته.»
في تفسير هذا الموقف لم تجد سميحة، البسيطة، غير التعليل التالي: «قلت له أنا مش شهوانية زيه.» وفي مجال التعليق لم تجد ذات، المجرِّبة، غير العبارات المألوفة في مثل هذا الموقف، وبالتالي فهي لا تقدِّم ولا تؤخِّر: «ربنا يهدي» (والمقصود إمَّا أن يهديها لتحمُّل لمساته، أو يهديه للكف عنها والاعتماد على النفس)، و«إنت محتاجة شوية تغيير» (والمقصود ليس رجلًا آخر، وإنما الفسحة وبعض المشتريات، وفي أسوأ الاحتمالات طفل جديد). هذا فيما يتعلَّق بالاستراتيجية، أمَّا فيما يتعلَّق بالتكتيك، فليس هناك غير التظاهر بالنوم، وادعاء الصداع والآلام إياها، (التي تأتي للأسف مرةً واحدةً في الشهر).
تساءلت سميحة وهي تُزيح قميص النوم، كاشفةً عن معلومة أخرى، فضلًا عن الفخذَين المبهرَين: «ولمَّا ياخدني بالغصب؟»
كانت الكدمات الزرقاء تغطِّيهما، فلم يُتَح لذات أن تتملَّى منهما، ولم تتكرَّر هذه الفرصة بعد ذلك أبدًا، رغم أن التطوُّرات اللاحقة كانت حبلى بالإمكانية.
بعد يومَين، بينما كان عبد المجيد يهم بارتقاء الفراش، عقب انتهاء البث الحكومي، دوَّت صرخة مدوية في سكون الليل، جمَّدته في مكانه، وأيقظت ذات من النوم لتراه في هذا الوضع؛ ساق مثنية فوق الفراش أسفل قدمَيها، وأخرى على الأرض. ظنَّته مقبلًا على ما يمكن الآن اعتباره من نزوات الشباب، لولا أن الصرخة تكرَّرت، فانضمَّت ساقه الأولى إلى زميلتها فوق الأرض، معيدةً إليه وقاره، وحملته الاثنتان إلى باب الشقة وزوجته من خلفه. أضاء نور السلَّم وفتح الباب وأطلَّ برأسه في حذر، لكن العمارة كانت هادئة. وعندما تردَّدت الصرخة مرةً أخرى خرج إلى الطرقة ووضع أصبعه على جرس جاره، ولم يرفعه إلا عندما سمع دورة المفتاح في قفل الباب.
الذي ظهر أمامهما كان شنقيطيًّا متمالك النفس، غير الآخر الهائج الذي فقد أعصابه منذ قليل وانهال على سميحة بعصًا ظهرت فجأةً من حيث لا تدري، ممَّا يدل على أن الفكرة لم تكن وليدة اللحظة، وإنما اختمرت منذ بعض الوقت، وربما منذ اللحظة التي عجز فيها عن قراءة الكتاب إياه، ذي الرسوم الفاضحة، الذي ما زال مدسوسًا بين أوراقه الخاصة في الرف العلوي من دولاب الملابس. سمح لهما بالدخول وإن رفض الإجابة على أسئلتهما. سميحة هي التي تكلَّمت مع ذات على انفراد في غرفة النوم، وتوصَّلتا معًا إلى قرار نفَّذته سميحة بمجرَّد شروق الشمس؛ إذ غادرت المنزل إلى أبوَيها في زفتى، اللذَين أعاداها، مساء نفس اليوم، صاغرة.
لم تستطع ذات أن تفهم أبوَي سميحة، وأمها بالتحديد؛ فالأب الذي يكبر زوجته بعشرين عامًا، لم يكن سوى صوت سيدته، التي تكبر ذات بعامَين أو ثلاثة، ونشطت مفرختها في سن مبكِّرة، فأصبح لديها الآن إلى جوار سميحة ولدان، أحدهما تخرَّج من الجامعة وتزوَّج، وفتاة تزوَّجت بعد أن حصلت على شهادة الثانوية.
بإشارات باترة من أصبع لوَّثها النيكوتين، حدَّد الأب موقف الأم، في اللَّيسات الأربع؛ ليس في العائلة امرأة تغضب من زوجها، وليس في العائلة امرأة تترك منزل الزوجية، وليس في العائلة امرأة لا تلبِّي الطلبات إياها، وليس في العائلة امرأة لا تتشرَّف بأن يضربها زوجها.
فيما بعد، ألقت سميحة الضوء على قِيَم العائلة؛ فأطفال الابن الأكبر والبنت الأخرى، يقيمون بصفة مستمرة مع الجدَّين في شقتهما المحدودة المساحة والإمكانيات، وبذلك «ليس» هناك متسع لمزيد.
عادت الأمور إلى سيرتها الأولى؛ أي إلى مرَّتَي قيء تقريبًا في الأسبوع، وتدهورت صحة سميحة، وساورتها فكرة الانتحار؛ ممَّا دفع ذات إلى التماس العون الخارجي. ولأنها لم تكن تعرف الشيخ سلامة، وتنفر من الدكتور فتحي، فلم يعد أمامها إلا الحاج عبد السلام.
برز الحاج عبد السلام فجأةً في الحي إثر عودته من السعودية بسبب هيئته المميزة؛ لحية طويلة يتخلَّلها البياض، ملابس حريرية على الطراز الباكستاني (قميص حتى الركبة وسروال)، في أطقم من ألوان عدة (الأبيض والرمادي والبني والسماوي والكحلي)، نظارة مُذهَّبة الإطار، صندل جلدي فاخر من طراز صنادل صدر الإسلام، ومصحف في غلاف مخملي مضموم إلى الصدر فوق منطقة القلب مباشرة، ومشية مهرولة إلى المسجد الذي أقامه صاحب عمارة جديدة في طابقها الأرضي ليتخفَّف من عبئَين في وقت واحد؛ الذنوب والضرائب. وتبرَّع له الحاج عبد السلام بعدة مراوح كهربائية، وبفرش من الموكيت، وحصائر متينة ملوَّنة تُبسط فوق أرض الشارع عند اللزوم؛ فحُقَّ له أن يؤذِّن للصلاة ويؤم الناس ويخطب الجمعة ويُفتي في شئون العباد.
فكَّرَت فيه لأول مرة عندما ظهرت على دعاء أعراض عدم التركيز من جرَّاء عدم إجراء العملية التقاليدية، وأصبحت تقضي وقتًا طويلًا منحنيةً على مكتبها متظاهرةً بالقراءة والدرس، وهي تضم فخذَيها بقوة، لكنها لم تجد الجرأة على الذهاب إليه إلا عندما أوشكت سميحة على التلف.
استقبلهما الشيخ بعد صلاة المغرب دون أن تبدو عليه علامات الدهشة، كأنما كان في انتظارهما، وبسط لهما جناحَي عباءته السعودية المهيبة مُرحِّبًا، وقادهما إلى صالون صغير تغطَّت مقاعده بقماش الكريتون المشجَّر، وجدرانه بالآيات القرآنية وألفاظ الجلالة فوق قِطَع من الجوبلان والمخمل والخشب والنحاس والفضة، وموائده الصغيرة بالمباخر السعودية الصغيرة المصنوعة في تايوان، ثم سلَّط عليهما عينَين صقراوَين أجبرتهما على خفض العيون في حياء، فأصبحتا في وضع استعداد لتلقي البث المتمثِّل في آياتٍ من سورة النساء، ألقاها في فصاحة تامة واستمتاع أتمَّ بمواضع مُعيَّنة أجبرتهما على المزيد من خفض العيون، بل ودفعت بشيء من الحُمرة إلى وجه سميحة الشاحب. الرسالة: طاعة الزوج واجبة في كافة الأوضاع؛ جالسة، واقفة، على ظهرها، أو على بطنها. لكن سميحة ركبت رأسها.
ففي ساعة متأخِّرة من نفس الليلة كان عبد المجيد يهم بالصعود إلى فراشه عندما جمَّدته صرخة مدوية في مكانه المعهود عند قدمَي ذات؛ ساق مثنية أسفل قدمَيها، وأخرى على الأرض. تردَّدت الصرخة بنفس القوة فلم يجد بُدًّا من ضم الساقَين فوق الأرض، والإسراع إلى باب الشقة وذات في أعقابه.
لم يستجِب الشنقيطي لدقَّات الجرس على الفور كما فعل في المرة السابقة، وتواصلت صرخات سميحة، فتخلَّى عبد المجيد عن دقِّ الجرس، وأخذ يدق الباب بقبضتيه حتى انفرج أخيرًا عن شنقيطي غاضب خاطبه في وقاحة: «عايز إيه؟»
رفض الشنقيطي السماح لذات وعبد المجيد بدخول شقته، لكنه تراجع عندما أمسكت سميحة بسكين المطبخ وهدَّدت بذبح نفسها، عندئذٍ دارت مفاوضات مضنية تبيَّن خلالها أنه تلقَّى من الشيخ سلامة نفس الآيات والرسالة التي تلقَّتها ذات وسميحة من الحاج عبد السلام، وانتهت بالاتفاق على خروج سميحة مرةً أخرى.
صمدت سميحة في زفتى يومَين، ثم تلفنت لذات في الأرشيف، وتواعدت معها على اللقاء في الهيلتون، أين غيره؟
ارتدت ذات لهذا اللقاء أثمن عمامة من عماماتها، وأحدث تايير لديها، ووضعت قليلًا من الروج فوق شفتَيها، في محاولة لإخفاء أثر ندبة الشفة العليا، ثم انطلقت خفيفةً متوهِّجةً ومضطربةً إلى الفندق. انفرجت أبواب الزجاج الفيميه أوتوماتيكيًّا بمجرَّد اقترابها، واحتوتها رطوبة التكييف الناعمة. شقَّت طريقها وسط مجموعة من السياح الأجانب، وتلافت الاصطدام بأحد موظَّفي الفندق الذي كان يمضي مسرعًا، ممتلئًا بأهميته، معلنًا بحركة جسده وشاربه الكث وبياض بشرته وعينَيه الزرقاوَين ورأسه الحليق، عن تميُّزه الاجتماعي الذي انعكس في اعتذار مهذَّب للغاية: «إكسيوز مي يا أفندم»، ردَّت عليه في ارتباك: «سوري»، رغم أن داليدا نفسها كانت تلعلع في هذه اللحظة من كل ركن باللغة العربية: «أدينا بندردش .. ورانا إيه.»
اتجهت إلى المشرب، ووقفت حائرةً تُجيل البصر بين الموائد، ثم جلست بالقرب من سيدتَين بدينتَين محجَّبتَين كأنما تحتمي بهما، وراقبتهما تحتسيان مشروبًا من كأسَين كبيرتَين امتلأتا بقطع الفواكه، إلى أن جاءها النادل وانحنى أمامها في أدب مترفِّع، فطلبت كوبًا من الشاي، وعندما أجابها في برود: «الشاي والقهوة في الكوفي شوب. هنا لا نقدِّم سوى سوفت درينك»؛ ارتبكت، وخجلت أن تشير إلى شراب الفواكه في يد جارتَيها وتقول: «عايزة من ده»، فطلبت عصير برتقال فريش.
تسارعت دقَّات قلبها عندما ظهرت سميحة، وأوشكت أن تحتضنها، لكنها اكتفت بقبلات الوجنات، وبالإعراب عن مشاعر الوحشة، قبل أن يبدأ البث، الذي تخلَّلته علبة سجائر أبرزتها سميحة، وقدَّمت منها واحدةً لذات أخذتها في ترحاب. لمَ لا وقد بدأ التمرُّد؟
لكن ذات اتخذت موقفًا محافظًا للغاية عندما أعلنت صديقتها عزمها على طلب الطلاق؛ فهدم الأسر خطيئة لا تُغتفر، ثم إن هناك اعتبارات عمليةً كثيرة، لم تغب عن فطنة سميحة التي ذكرت وهي ترمق إحدى المضيفات بحسرة واضحة، أنها تنوي استئناف الدراسة والبحث عن عمل، ثم أشاحت بيدها في استهانةٍ عندما ذكَّرتها ذات بولية عهدها، قائلة: «يتكفل بيها.»
أيَّدت التطوُّرات ما توقَّعته ذات؛ فصوت سيدته أضاف بندًا جديدًا إلى بنوده الأربعة: «ليس في عائلتنا شيء اسمه الطلاق»، (وهو نفس ما اكتشفه الشنقيطي بالنسبة لعائلته هو)، والأم هدَّدت بأن تشهد ضد ابنتها أمام المحكمة، وطالبتها بمغادرة المنزل لتُجبرها على العودة إلى زوجها، لكن سميحة صمدت للضغوط، وانتقلت إلى منزل عمة لها بالقاهرة، في إحدى حواري شبرا، أدارت منه عدة جولات من المفاوضات الشاقَّة انتهت باندحارها؛ فقد أقنعها أبواها بتوقيع تنازل عن الشقة ومحتوياتها مقابل الطلاق، وعندما فعلت تنصَّلا من الالتزام.
شيء لا يُصدَّق من جانب أبوَين؟ ليس بالقطع. إذا نحَّينا صوت سيدته جانبًا، والقيم التي يمثِّلها (الظاهر منها والباطن)، فإن ما يتبادر إلى الذهن، تفسيرًا لموقف الأم، هو أنها صاحبة رؤية استراتيجية تتمثَّل في حماية بيت ابنتها من الانهيار. فإذا ما تخابثنا، ألفينا أنفسنا أمام أحد تعليلَين أو كلَيهما معًا؛ أنها لا تريد لابنتها أن تنجح في تحقيق ما عجزت هي عن تحقيقه، و(أو) أنها تحمل عاطفةً خاصةً للشنقيطي الذي لا يصغرها إلا بسنوات قليلة. التعليلان نفسهما يصلحان لتفسير موقف ذات قبل خدعة التنازل عن الشقة؛ فقد انتقلت بعدها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، معلنةً مساندتها لمطلب الطلاق، ممَّا جلب لها اتهامًا بالتحريض، وبأنها أساس البلاء والفساد، لكنها لم تعبأ بالاتهامات؛ إذ شعرت من رد الفعل في الأرشيف أنها تبنَّت قضيةً عادلة.
بوسعنا أن نتخابث هنا أيضًا، كما فعلنا في حالة الأم، ونبحث عن تعليلات لموقف ذات من قبيل أملها في أن تحقِّق سميحة ما عجزت هي عنه، أو رغبتها في استخلاص الفخذَين المبهرَين من براثن الوحش، أو العكس؛ تحطيمها بهدم السقف فوقها، أو وجود عاطفة خاصة نحو الشنقيطي (الذي يماثلها سنًّا تقريبًا)، أو ضده؛ رغبةً في ردعه (للحيلولة دون انتشار عدوى طريقته في انتزاع حقوقه الزوجية)، أو الانتقام منه (لأنه أقنعها بأن تعطيه مدَّخراتها التي لم تتجاوز الألف جنيه ليضعها تحت تصرُّف الحاج قرشي مقابل ربح سنوي يصل إلى ثلاثين بالمائة، ففعلت من وراء ظهر عبد المجيد، ودون أن تأخذ أي إيصال بالمبلغ، لا من الشنقيطي ولا من الحاج؛ لأن الاثنَين يعرفان ربهما، ولم تحُل هذه المعرفة دون الحاج والتنصُّل من دفع الربح المأمول، أو إعادة المبلغ الأصلي عندما طالبت به).
بنفس الطريقة يمكن تقَصِّي البواعث التي أدَّت إلى تورُّط عبد المجيد، الذي حرص طول عمره أن يظل بمنأًى عن المعارك والحروب؛ غيرة من الشنقيطي لنجاحه في علاقاته بالجمهور، أو لاستحواذه على الفخذَين المبهرَين، أو رغبة خفية في التقرُّب منهما (الفخذَين)، أو محاولة لاستعادة حجمه الطبيعي، بعد الانكماش الذي أصيب به.
فعندما احتاجت سميحة إلى من يساند دعواها أمام القضاء، بأن يشهد على سوء معاملة الشنقيطي لها، رشَّحت ذات زوجها الذي لم يقبل إلا بعد أن استعطفته سميحة بنفسها، وانضمَّت إليها دعاء، ففاز من الاثنتَين بنظرة إعجاب أدفأت جوانحه المقرورة.
تواجه الخصوم في قاعة المحكمة المواجِهة لمجلس الحي، وجلسوا طبقًا لمواقعهم الأيديولوجية؛ سميحة ومحاميها، وذات وعبد المجيد إلى اليسار، والشنقيطي ومحاميه ووالدَي سميحة إلى اليمين. وبعد طول انتظار تأجَّلت الجلسة إلى موعد آخر بعد شهرَين دون أن يؤدِّي عبد المجيد واجبه.
لم يُقدَّر لعبد المجيد أن يؤدِّي هذا الواجب على الإطلاق؛ فعندما حان موعد الجلسة الثانية، لم يكن عاجزًا وحسب عن الذهاب، وإنما كان الموقف برمته قد تغيَّر. ولم يقع التغيُّر مرةً واحدة، وإنما تمَّ بصورة تدريجية بدأت بالحذاء.
ففي اليوم التالي لجلسة المحكمة الأولى، وعند عودته من السوق في المساء مُحمَّلًا باحتياجات العشاء، وسندوتشات الصباح، من جبن وزيتون وفول مدمس وأرغفة خبز أفرنجي (انتظر نصف ساعة ليفوز بثلاثة منها)، رأى حذاءً نسائيًّا، خاليًا بالطبع، ملقًى أمام باب جاره. ورغم انهماكه في حساب ما أنفقه وما سينفقه في المستقبل، فإنه استطاع، في الفترة التي استغرقتها ذات لتحرِّك مؤخِّرتها وتفتح له الباب، أن يلقي نظرةً متأنيةً على الحذاء أمدَّه باكتشافَين؛ الأول: أن الحذاء موضوع بعناية فوق فرشة من المطاط ثبَّتتها سميحة أمام عتبة بابها لاحتجاز ما يعلق بالأحذية من تراب ووسخ (ودخلت من ساعتها قائمة الطلبات المؤجَّلة التي تذكِّره بها ذات كل حين)، والثاني: أنه موضوع بتشكيل غير مألوف يبدو متعمَّدًا؛ فالفردان مقلوبان ومتعامدان على هيئة الصليب.
أدركت ذات، بغريزتها الأنثوية، السر من نظرة واحدة، فقالت بعد أن أصبح عبد المجيد داخل الشقة وأغلقت الباب: «عمايل الأم.»
استفسر عبد المجيد في براءة: «عمايل إيه؟»
زادت في الإيضاح: «شبشبة»؛ فنعل الحذاء في وضع الصليب كفيل بإحباط المكائد ورد الكيد إلى صاحبه.
وبعد أسبوع فتح عبد المجيد باب شقته في الصباح ليخرج إلى عمله ففوجئ بحبل السلة التي تتركها ذات مدلَّاةً في بئر السلم لتقوم بدور مصعد المهمَّات، ممزَّقًا إلى قِطع متساوية لا يتجاوز طول الواحد منها مسطرة الحساب، ومصفوفةً بنظام دقيق، لا أمام باب الشنقيطي، وإنما على عتبة بابه هو.
استدار عبد المجيد وأومأ إلى ذات بالاقتراب، وعندما أشبعت عينَيها من المشهد أغلق الباب وقال لها في صوت (اكتشف فيما بعدُ أنه كان هامسًا): «دي كمان عمايل الأم؟»
قالت ذات المجرِّبة: «لا. ده الشنقيطي نفسه.»
صدق حدس ذات؛ فالرسالة التي أريد للحبل أن ينقلها، اجتهد الشنقيطي في توصيلها بنفسه في الأيام التالية؛ عندما أدارت دعاء الترانزستور بموسيقى هشك بشك عالية الصوت، ونظَّم ولي العهد مباراةً في الكرة متخذًا من الحائط الفاصل بين الشقتَين هدفًا، وقامت أم وحيد، في موعدها الأسبوعي، بنفض السجاجيد على السلم. فقد أتاحت هذه المناسبات للشنقيطي الفرصة لأن يهاجم، بأعلى صوت، من لا يكتفون بالتدخُّل في شئون جيرانهم فيلوِّثون البيئة بالضوضاء والغبار.
لم تكن ذات ممن يفرشون الملاءات على السلالم؛ لهذا وقع عبء مواجهة الاستفزاز على عبد المجيد، الذي أبدى حنكةً ودهاءً بالِغَين؛ إذ حرص على تجنُّب كل ما من شأنه إثارة جاره، وتحاشى حتى أن يستخدم سلم العمارة في المواعيد التي يستخدمه فيها الآخر، مفوِّتًا بذلك كل الفرص عليه، ومجبرًا إياه في النهاية على الالتجاء إلى تكتيكات أكثر مباشرة.
ففي إحدى الأمسيات غادر عبد المجيد شقته في رحلة السوق المعهودة (التي يعود منها أحيانًا خاوي الوفاض، من المشتريات والنقود على السواء)، وما إن أغلق الباب خلفه وخطا في اتجاه السلم حتى فوجئ بباب الشنقيطي يُفتح في حركة سريعة، وبالشنقيطي نفسه أمامه وجهًا لوجه.
لم تُتح له الفرصة كي يقرئ جاره السلا؛ إذ استقرَّت قبضة الشنقيطي القوية على صدر قميص عبد المجيد، وسحبته بصاحبه إلى داخل الشقة، بينما تولَّى كعب قدمه إغلاق بابها.
وأسفل ثريا الصالة المكوَّنة من عدة طبقات (والتي اشترتها سميحة من «عمر أفندي» بتوجيه من ذات) تواجه الخصمان؛ الشنقيطي هائجًا كالثور، ثائرًا على ملوِّثي البيئة، مقسمًا بكسر ساقَي عبد المجيد إذا ذهب مرةً ثانيةً إلى المحكمة. وعبد المجيد، الذي ما زال صدر قميصه في يد غريمه، منكمشًا من الرعب الذي ألجم لسانه.
فرغ قاموس الشنقيطي فانتظر أن يسمع من غريمه تعليقًا يُتيح له إعادة الشحن، لكن هذا لم ينبس ببنت شفة، ممَّا أتاح للشنقيطي أن يسمع الطرقات التي انهالت على باب الشقة من دعاء وولي العهد، ونداءاتهما الباكية لأبيهما، فلم يجد مفرًّا من إطلاق سراحه، لكنه قبل أن يفعل استسلم لإغراء الرقبة الدانية، وصفع صاحبها بيد أحسنَ جمهورُ مصر الجديدة تسمينها.
عاد عبد المجيد إلى شقته بين منقذيه (دعاء وأمجد)، بينما انطلق الشنقيطي من فوره إلى قسم الشرطة. وأعلن عبد المجيد بمجرَّد أن أغلقت ذات باب الشقة أنه وجَّه إلى غريمة صفعةً ألصقته بالحائط وشجَّت رأسه حتى انبثقت منها الدماء، وهو إعلان استقبلته ذات في ريبة، لم تفلح التطوُّرات التالية في التخفيف منها.
فبعد ساعة بالضبط، استُدْعِي عبد المجيد إلى قسم الشرطة ليدلي بأقواله في واقعة اعتدائه على الشنقيطي، المثبتة بتقرير طبي عن إصابات مختلفة في رأسه وعنقه ويدَيه، فأقرَّ عبد المجيد، في اعتداد، بصحتها. وبعد أسبوع أحضر إليه أحد المُحْضَرين الورقة التالية:
تغاضى عبد المجيد عن الإهمال الذي تجلَّى في صياغة الإعلان (إغفال عنوانه بالتفصيل، وعدم تحديد طبيعة الجلسة، أو رقم المادة القانونية المعنية، وعدم وضوح التوقيع)، ولزم الفراش على الفور. وفي المساء اكتشفت ذات أن المساحة التي يشغلها من الفراش قد تضاءلت، فأرجعت ذلك إلى أكلة الرنجة التي افترستها هي في الظهر، وأجبرته في اليوم التالي على مغادرة الفراش والالتجاء إلى أحد المحامين الذي هوَّن عليه الأمر، مؤكِّدًا أن أمثال هذه المحاكمات تحدث كل يوم ولا تتمخَّض عن شيء، ولم يمنعه هذا من المطالبة بمائة جنيه كمصاريف أولية على أن يتم التحدُّث في الأتعاب فيما بعد، وبهذا برهن على بعد نظره؛ فلأنه نصح عبد المجيد بعدم الحضور في الجلسة المذكورة، ولم يكلِّف نفسه هو أيضًا عناء الحضور، أصدر القاضي حكمًا بحبس عبد المجيد ثلاثة شهور، وهو الحكم الذي سارع المحامي باستئنافه مقابل مائتَي جنيه — مصاريف أولية أيضا — ناصحًا عبد المجيد بعدم الحضور مرةً أخرى، مؤكِّدًا ثقته في النتيجة، واعدًا بإبلاغه إياها في اليوم التالي؛ لأن الأحكام تعلن عادةً في نهاية النهار.
وبفضل علاقات الشنقيطي الوثيقة بالأجهزة المحلية، تمَّ إبلاغ عبد المجيد بالحكم في نفس اليوم على يد شرطي طالبه بتسليم نفسه فورًا إلى مركز الشرطة لتنفيذ العقوبة التي صادقت عليها محكمة الاستئناف.
١٨
الرئيس مبارك يحدِّد معالم مرحلة جديدة تواجه التحديات بالعمل والأمل ويقول:
إحصاء رسمي: «٥٠ ألف «مدمن» مخدِّرات في القاهرة وحدها.»
«مجلس الشعب عقل للتشريع لا يميل مع الهوى والنزوات، لكنه يلتزم بمصالح المجتمع.»
مصر هي مصر
عظيمة برجالها شامخة بقضائها.
وأسرته يسجدون لله سبحانه وتعالى شاكرين فضله ونعمته وينحنون بالتقدير لقضاء مصر العظيم على الحكم الصادر من محكمة الاستئناف ببراءته من التهمة المنسوبة إليه.
للرجال إلى
المملكة العربية السعودية
إسرائيل تحفر آبارًا عميقةً في منطقة النقب لسحب المياه السطحية والجوفية من تحت الأرض المصرية في سيناء.
اشتكى المريض من ألم في عينه اليمنى فأجرى له الطبيب الجراحة في العين اليسرى.
١٧٨٨٨ قتيلًا و٩٠١٥٨ جريحًا في حوادث «الطرق» بمصر خلال ثلاث سنوات.
اتهام المدَّعي العام الاشتراكي السابق … بتكوين ثروة طائلة من استغلال المنصب الذي شغله ثماني سنوات متصلة بنى خلالها مزرعة دواجن على مساحة ١٢ فدانًا بأبو كبير، شرقية، وقيلا فاخرة.
المدَّعي الاشتراكي السابق …، يتهم ٢٥ شخصيةً سياسيةً بينهم ٧ رؤساء وزراء ووزراء حاليون وسابقون و١٢ عضوًا في مجلس الشعب وعدد من المحافظين الحاليين والسابقين بأنهم استغلوا نفوذهم لإثنائه عن التحقيق في انحرافات شركات توظيف الأموال.
الصحف الحكومية: «الشهود تعرَّفوا على المتهمين، وبصماتهم مطابقة للبصمات التي وُجدت في الحادث.»
النائب مختار نوح في مجلس الشعب: «١٠٠٠ تقرير طبي خلال عام واحد يثبت وقائع التعذيب.»
يؤمن بقضاء الله وينعى إلى الأمة الإسلامية
قائدًا من أعظم قادتها المعاصرين:
أخلص لأمته وصدق في جهاده واعتزَّ بدينه وآثر الحق وعمل بشرع الله.
يذكرون للرئيس الباكستاني الراحل عاطفته الإسلامية المتأجِّجة، وتمسُّكه بآداب الإسلام وأخلاقه وشعائره، ومساندته العظيمة لمجاهدي أفغانستان.
أب يشعل النار في زوجته وأطفاله لعجزه عن تدبير المصروفات المدرسية.
يقتل طفلَيه ويشوِّه جثَّتَيهما انتقامًا من مطلقته.
التعاون الاقتصادي المصري الأمريكي يؤتي ثماره.
الإنتاج المصري الأمريكي الجديد من الشركة العالمية للبان والحلويات.
شكر وعهد
اتهام زوجة أحد المحافظين بتقاضي أربعة ملايين جنيه إتاوة من أولياء أمور التلاميذ بمدرسة لغات بالقاهرة أثناء توَلِّيها نظارتها.
نيويورك تايمز: «الصادرات الأمريكية لمصر بلغت ٢٫٦ مليارات دولار مقابل ٣٩٦ مليون دولار حجم الصادرات المصرية عام ١٩٩٠.»
قوات الأمن المركزي تقتحم زنازين خمسين متهمًا في قضية شيوعية، وتعتدي عليهم بالضرب بالعصي الكهربائية.
«بإنتاج حقيقي سوف تعلو مكانة مصر»، «مصطفى البليدي» (أحد أبناء مصر).
لانكوم، كارشيال، جوفال، رانجلر، جي لا روش، ستيفانل، فان هاوزن .. كل هذا صُنع في مصر على يد مجموعة شركات البليدي.
إحدى شركات المجموعة الدولية للاستثمارات (محمد حسن شتا) تتقدَّم للسيد الرئيس محمد حسني مبارك
بوافر الشكر على تشجيعه الكبير والمستمر للصناعة المصرية؛ صابون الغسالات سماش، أومو، قاتل الحشرات بيف باف، صابون واليت ميست، معجون أسنان سيجنال وكلوز أب، عطور بويزون وكاريرا ومكسيم، جلوسي للشعر، ريكسونا للعرق … كل هذا صُنع في مصر.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي.
صدق الله العظيم
بكل الحزن والألم ينعي الزميل والصديق والأخ وأحد معالم الصناعة المصرية المغفور له المهندس يحيى أحمد الشرقاوي
رئيس مجلس إدارة الشركة الشرقية للدخان (ق.ع).
مصطفى البليدي، مجموعة شركات البليدي، بارفيكو (محمد عبد المحسن شتا)، المجموعة الدولية للاستثمارات آي. ج. آي (محمد عبد المحسن شتا) بنك القاهرة، شركة النساجون الشرقيون، نورا تريدنج، ميدي تريدنج ينعون
والد الأستاذ مدحت التونسي رئيس إدارة شركة ياسمينا
لمستحضرات التجميل والعطور وشركة ياسمينا للتسويق.
الخبراء: «شبكة أنابيب الغاز الطبيعي عالي الضغط في مدينة القاهرة مُهدَّدة بالانفجار؛ لأن توزيع الكربون في خام البولي إثيلين المستورد من شركة أمريكية غير متجانس؛ ممَّا يجعل الخام معرَّضًا للتحلُّل بالأشعة فوق البنفسجية وللتشقُّق.»
إدارة المرور: «٦٠ ألف سيارة مرسيدس من أحدث طراز تجري في الجمهورية بالإضافة إلى ٢٠ ألف واحدة من الطراز المعروف بالزلموكة، ويتراوح سعر الواحدة منها بين مائة ألف ومائة وثمانين ألفًا من الجنيهات.»
١٩
أَلِف المصريون المُحدَثون تأريخ أيامهم بالتقويم الثوري (قبل ١٩٥٢ وبعدها)، قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الرئاسي للثالوث الذي تعاقب على الحكم بعد الثورة (عبد الناصر، السادات، مبارك)، أمَّا ذات فكان لها تقويم خاص يعتمد الثالوث الأموي الذي تعاقب أفراده على خدمتها؛ أم أفكار، أم عاطف، أم وحيد.
وليس معنى هذا أنها لم تتلقَّ معونةً في أعمال المنزل من غيرهن؛ فعلى خلاف الوضع بالنسبة لمن خدموا الشعب في مجموعه، فأخلصوا له الولاء، ولم يتغيَّبوا يومًا واحدًا عن موقع عملهم، وبالتالي لم يقدِّموا أي مبرِّر لأحد غيرهم كي يزاحمهم في خدمة الشعب؛ فإن الثالوث الأموي الذي يمتَد نشاطه على مدى عقدَين من حياة ذات، كان موزَّع الولاء، يخدم لصالح جهات متعدِّدة، وهي حقيقة وُضعت في الاعتبار منذ البداية؛ إذ حصلت كل جهة على يوم معلوم. لكن الأمور لم تسِر على هذا المنوال بالضبط؛ فأحيانًا ما كانت بعض الجهات تجور على الأيام المخصَّصة لجهات غيرها، وأحيانًا كانت أمور أخرى — شخصية تمامًا — تتسبَّب في انقطاع الانتظام في الخدمة. وهنا وجه الاختلاف الرئيسي بين خدمة الشعب في مجموعه، وخدمة أحد أفراده على حدة؛ فالتعاقد في الحالة الأولى أبدي، لا ينتهي إلا بانتقال الخادم نفسه إلى الأمجاد السماوية، أمَّا في الحالة الثانية فيكفي قليل من الملل، ذلك القرين السيئ للحياة الحديثة؛ كي تختفي أم أفكار دون إنذار عدة شهور، أو خلاف بسيط حول أسبقية المطبخ على الحمَّام عند التنظيف، لتغضب أم عاطف وتتغيَّب إلى الأبد، أو سهرة بث شائقة تستيقظ أم وحيد بعدها متأخِّرةً لتجد نفسها وسط فيلم من أفلامها، فتتخلَّف عن موعدها أسبوعًا أو أسبوعَين.
وفي هذه الحالات تتعاون ماكينات البث، في العمارة والأرشيف، على ملء المكان الشاغر، ولو لمرة واحدة، فتظهر سناء، التلميذة الخجولة النظيفة التي تعمل في هدوء وكفاءة، ولا تتورَّع عن مد يدها في جيب بنطلون عبد المجيد وتجريده ممَّا به من فكة، وشريفة القصيرة البطيئة الحركة المغرمة بالملاعق والشوك، وسيدة القوية العفية، برائحتها المنفِّرة، والبراغيث التي تتركها وراءها وتتواصل مكافحتها حتى موعدها التالي، وهناء المغرمة بالأدوية، وعطيات الشغوفة بالطعام، وصباح المتعلِّقة بالبث والغناء، وأم نظارة التي تحمل مفهومًا عصريًّا للنظافة يعتمد، كما في الأدب الحديث، على الاقتصاد والاقتصار.
هذه النماذج العابرة كانت تنجح في شيء واحد، هو تأكيد الفضائل المثلى للثالوث الرئيسي (وهي ميزة لم يحظَ بها الثالوث الرئاسي)، وبخاصة أم أفكار، التي تعتبر الرائدة في هذا المجال، والتي ارتبط اسمها بخروج ذات إلى العمل، وتدحرجها إلى الأرشيف، وبالدعاء والابتهال، ومقشة الأرز والخيشة، والزعافة المكوَّنة من شرائط الملابس القديمة، وبمؤخِّرة عبد المجيد في قمة ازدهارها. أم أفكار؛ أولى الأمهات، صاحبة العجيزة الضخمة، والرأس المصبوغة بالحناء، والعيون الكليلة المكحولة بكثافة، والملابس النظيفة يتوِّجها الملس الأسود الناعم، والخطوات البطيئة بقدمَين مدهونتَين بالحناء يصلصل فيهما خلخال فضي، المتعفِّفة عن مد اليد إلى الأدراج المفتوحة، والتي تعيد على الفور كل ما تعثَّر عليه من حلقان ذهبية أو نقود فضية أو ورقية، والتي تتمتَّع بجلال فريد يجبر الجميع على احترامها، ويعطيها الحق في بعض التجاوزات، عندما تتحدَّث عن أقران ذات (أو ذات نفسها من وراء ظهرها) بالاسم مجرَّدًا دون «ست» (لم تتقبَّل أبدًا لقب المدام ولم تلحق بلقب الحاجة)، وعندما تتهاوى جالسةً في حضرة ذات أو عبد المجيد فوق مقاعد الأنتريه متذرِّعةً بالتعب والروماتيزم، مثيرةً موجاتٍ من القلق في صدرَي السيدة والسيد، سبق أن أثارهما رائد الثالوث الرئاسي، بشأن الخريطة الاجتماعية التي تعرَّضت على يدَيه لهجوم شرس أوقع الخلط والارتباك بين مكوِّناتها، ثم تزيله عندما يحين موعد طعام الغذاء؛ إذ تقتعد الأرض وتضعه أمامها على البلاط، ثم تُقبل عليه في رضًا وقناعة، الأمر الذي ضاعف شعبيتها في العمارة والعمارات المجاورة، وعمارات أخرى متناثرة في أحياء الزيتون والقبة ومصر الجديدة ومنشية البكري، حيث يتوزَّع أقارب ومعارف سُكَّان العمارات المذكورة آنفًا. فالعبارة المألوفة التي كانت تُصادفها أثناء صعودها وهبوطها سلالم هذه العمارات هي: «يا ترى يا أم أفكار معندكيش يوم فاضي؟» فتستجيب على الفور بدافعَين؛ قوة حس التضامن الاجتماعي لديها، وإيمانها بأهمية الدور الذي تلعبه في حياة هؤلاء الأفندية والأفنديات — زوجاتهم — الذين يملئون الدنيا ضجيجًا بسياراتهم وأجهزتهم وولائمهم ومدارس أولادهم، روحاتهم وغدواتهم، ثم يعجزون عن أهم وأبسط شيء وهو تنظيف منازلهم، فيكادون يركعون أمامها متوسِّلين لكي تهبهم ممَّا أعطاها الله: يوم واحد بس يا أم أفكار. أمَّا الدافع الثاني فهو الملل.
فعلى عكس ما هو شائع عن هذا الشعور، وعن ارتباطه بالثراء والثقافة، كانت أم أفكار تتعرَّض لنوبات دورية منه؛ فبعد عدة أسابيع من التردُّد على ذات يكون البث المتبادل قد وصل إلى طريق مسدود. ماذا يتبقَّى إذن؟ نقل كراسي القش من البلكونة إلى الصالة بعد تنفيضها، وكنس الأتربة بمقشة الأرز، ثم جمعها في جاروف حديدي متآكل، لتُفرَّغ في صفيحة الجبن القديمة المستخدمة للقُمامة، بعد أن يكون الهواء قد أطار معظمها ووزَّعه في جميع الأنحاء. ملء جردل المسح بالمياه وإضافة الجاز أو الفنيك إليه، والعودة إلى البلكونة لمسح أرضها وتركها تجف بمساعدة الشمس، فالانتقال إلى غرفة النوم وطي سجادتها وحملها بصعوبة عبر باب الغرفة والطرقة حتى باب الشقة، في ظل النداءات الملهوفة المتكرِّرة من ذات: «حاسبي يا أم أفكار، خلي بالك، على مهلك»، ثم إخراجها من الشقة ووضعها على سياج السلم، وتنفيضها بمعاونة ذات، ثم العودة إلى غرفة النوم لنزع ملاءة السرير في عناية (تسمح بتبيُّن ما قد يكون بها، أو لا يكون، من آثارٍ تُلقِي ضوءًا على الحياة السرية لذات)، وإلقائها في السلة المخصَّصة للغسيل، وخبط المرتبة بالمنفضة البوص، ثم طيِّها وخبطها مرةً أخرى، ثم إزالة العوارض الخشبية، وإخراج الحقائب والصناديق المدسوسة أسفل السرير وتنفيضها، ثم تنفيض النافذة وسطح الدولاب (حيث توجد مروحة كهربائية وحقيبة سفر وحذاء عبد المجيد الخاص بالمناسبات، وكيس ألعاب قديمة لدعاء وسمكة قرش محنطة) وتحته، وفوق الشوفنيرة وتحتها (حيث أحذية ذات)، والكومودينو وتحته، ثم المرور بزعافة القماش على الأركان والسقف، وكنس الأرض، وإزالة آثار أكواب الشاي من فوق زجاج الشوفنيرة بخرقة مبلَّلة، ومسح قوائم السرير وواجهة الدولاب بخرقة جافة، ودعك زجاج النافذة بأوراق الصحف، وأخيرًا تغيير مياه جردل المسح وملؤه من الحمام مع الشكوى من قلة المياه، وإضافة الجاز أو الفنيك إليه، وحمله إلى الغرفة ووضع الخيشة به ومسح الغرفة بانحناءة من النصف الأعلى ترفع النصف الأسفل، الضخم، في الهواء.
ويتكرَّر المنوال في الغرفة الأخرى المخصَّصة للبنتَين، ثم الصالة، وبعد استراحة قصيرة يتخلَّلها كوب شاي ومزيد من البث، يأتي دور المطبخ؛ الأواني المكوَّمة في حوض الغسيل، والتي يحتاج بعضها للدعك بالسلك والفيم، ودعك الحوض نفسه بالفيم، هو والحنفية ثم البوتاجاز؛ الصاج الخارجي والشبكات الحديدية التي يتم غليها مع الشعلات بعد إضافة قليل من الخل، وهنا يكون التعب قد استولى على أم أفكار، فتترك الأرفف والأركان لذات، وتنتقل إلى الحمام.
دائمًا نفس النظام، وبعد عدة مرات نفس الكلام، وعندئذٍ تبدأ أم أفكار في الإنصات إلى نداءات السلم: «معندكيش يوم زيادة يا أم أفكار؟» «عندي»؛ فهي تملك من الأيام ما يكفي الجميع؛ إذ تعطي يوم ذات لعيشة، ويوم عيشة لفتحية، ويوم فتحية لوداد، ووداد لمهجة، هكذا حتى تدور الدائرة بعد شهر أو شهرَين عندما تلتقي بذات صدفةً على السلم: «إزيك يا أم أفكار .. كده متسأليش عليَّا؟» ثم: «يا ترى عندك يوم فاضي؟» وبالأريحية التي تتميَّز بها الأم العتيدة: «يا سلام يا ست ذات .. عندي ..» فتعطي يوم مهجة لوداد، ويوم وداد لفتحية، وفتحية لعيشة، وعيشة لذات، وتعود أم أفكار كي تملأ الفجوة المعلوماتية التي أحدثها الانقطاع، ويتكرَّر المنوال إلى أن ملَّته، فانقطعت نهائيًّا عن العمل.
هكذا أُفسح الطريق لأم عاطف، القصيرة الضامرة المتربة، بقدمَين مليئتَين بالشقوق والجروف، داخل فردتَي شبشب غير متجانستَين؛ لأنهما مشحوذتان من مكانَين مختلفَين، وعيون شبه مغمضة بهدف تحسين الرؤية، وبشرة سمراء/صفراء ذابلة، مليئة بالتجاعيد، وعمر بين الأربعين والسبعين، ومشية مسرعة مائلة — حسب مصلحتها — ناحية اليمين، وملابس وسخة مشحونة بالبراغيث، وصليب موشوم بالأخضر فوق باطن رسغها، وكيس أدوية ملازم يضم الإنتوسيد للدوسنتاريا، والفلاجيل لبكتيريا المعدة والجهاز البولي لا التناسلي، والأندروميد للضغط، والأسبرين للصداع وبقية العلل.
بعد تنظيفها، بتمكينها من أخذ حمام كامل، وإجبارها على كشط قدمَيها، ونقع ملابسها في المياه، تجلَّت فضائلها؛ طهارة يد حقيقية، وحس اجتماعي مرهف، بمكانها الطبيعي فوق البلاط، وسماحة نفس لا تتعفَّف عن فُتات الخبز وبقايا الطبيخ، أو حبة بطاطس وبرتقالة، وكل ما يمكن أن تقدِّمه إلى عاطف، حبة عينها المصاب بالصرَع. عاطفتان أخريان في حياتها؛ البيت الذي تبنيه طوبةً طوبةً في قريتها بملوي، وتجمع مستلزماته من المنازل التي تتردَّد عليها في القاهرة، وأمها. ومن أجل الاثنتَين كانت تقضي في القرية أسبوعًا من كل شهر، وهو ترتيب ملائم أتاح لذات أن تستعين بها مرتَين في الشهر بدلًا من أربع، وبذلك توفِّر لصالح مشروعات الهدم والبناء والحاج قرشي ١٢ جنيهًا، ثم ١٦، ثم ٢٠ وفقًا للارتفاع المتلاحق في أسعار الأمهات. ولسوء الحظ فإن هذا الترتيب لم يعمَّر طويلًا؛ إذ تحطَّم فوق صخرتَين؛ الأدوية والشريط.
كانت أهم قطعة في ديكور الصالة، بالإضافة إلى مائدة السفرة، بوفيه خُطِّط له أن يقوم بالدور الذي تلعبه واجهات العرض في البوتيكات؛ إذ أُودعت خلف واجهته الزجاجية الفضيات التي انضمَّ إليها طاقم البايركس، ووُضعت فوق اللوح الزجاجي السميك الذي تغطِّي سطحه فازة ثمينة من الخزف استقرَّت بها وردتان من البلاستيك. جرى هذا التخطيط قبل الليلة الباكية، ولم تلبث الأحداث والتقلُّبات، التي عكَّرت لون الورد ولوَّثت أوراقه، أن فرضت استخدامات أكثر عملية لسطح البوفيه، فتسلَّلت إليه الأدوية التكتيكية (المرتبطة بفترات علاج محدَّدة)، ولحقت بها الأدوية الاستراتيجية؛ للسعال والصداع والزكام والإنفلونزا والإسهال والإمساك والقيء والنزيف والدوخة والهضم والمغص والضغط المرتفع والضغط المنخفض والالتهابات الجلدية، والكسور والجروح والحروق، بالإضافة إلى المسكِّنات والمهدِّئات والمنوِّمات والمقوِّيات والمطهرات. وبدت الفازة قادرةً على أن تأوي في ظل الورود المشرئبة من عنقها مواد استراتيجيةً أخرى؛ زجاجة كولونيا، بنسًا للشعر، قلادات دعاء، زجاجة بارفان أجنبية، ساعة منبِّه يابانية، فرشاةً للملابس، وأُخريَين للشعر، شراب كولون قديمًا، جزءًا من حزام بالٍ من جلد الثعبان، مشطًا، توكةً للشعر، صَدَفةً بحرية، أجندةً فاخرةً مغلَّفةً بالجلد من مطبوعات البنك الدعائية، مشمَّعًا طبيًّا، سلسلة مفاتيح خشبية، سلسلةً أخرى معدِنية، فيلتر معدِنيًّا للحنفية لم يتم بعدُ تركيبه، بكرًا للف الشعر، محقنةً بلاستيكية، تمثالًا خشبيًّا صغيرًا لنمر، ملعقةً خشبيةً ملوَّنة، ترمومترًا طبيًّا، نصف مسطرة حساب بلاستيكية، نصف شريط قديمًا من حبوب منع الحمل، بكرة خيط، مجموعةً من إبر الخياطة في أحجام مختلفة، مقياسًا متريًّا من المشمَّع، مبسمًا للسجائر (من مخلَّفات محاولة عبد المجيد للإقلاع عن التدخين)، مطفأةً للسجاير، قلم رصاص، قفلًا حديديًّا صغيرًا، علبة فازلين، مقصًّا، علبة شامبو للشعر، جزءًا من تمثال مكسور من الجص لإله الشعر أبولو، طبقًا خشبيًّا صغيرًا يحتوي على موسى وسلسلة معدِنية ومجموعة مفاتيح، علبة مبيد رشاش للذباب والناموس، وأخرى للصراصير، حجارة بطارية، فرد جورب، بضع شرائط موسيقية، فاتحة الكتاب الكريم محفورةً على لوحة نحاسية، مشعلًا كهربائيًّا تنقصه البطارية، وأشياء أخرى.
كان من الطبيعي أن يصبح تنفيض محتويات سطح البوفيه من الأتربة وإعادة تنظيمها على أساس تصنيف ما من الواجبات الرئيسية للأمهات. ولم يأخذ هذا الترتيب في اعتباره ارتفاع ضغط الدم لدى أم عاطف، وما يتبع ذلك من ضيق صدر ونفاد صبر وحماقة.
والحاصل أن أم عاطف لاحظت قلة محتويات كثير من علب الأدوية المستعملة وزجاجاتها، فقرَّرت تسهيل مهِمَّة تنفيضها وإعادة تنظيمها بعملية تجميع مبتكرة على أساس التصنيف العلمي لطبيعة المادة؛ أفرغت علب الفيتامينات والمسكِّنات والمنوِّمات والمسهِّلات وكل أنواع الحبوب والكبسولات في علبتَين، وحالفها الحظ بالعثور على زجاجة كبيرة اتسعت لأدوية السعال وفاتحات الشهية والمطهِّرات وغيرها من السوائل، لكنها وقفت عاجزةً أمام أنابيب المراهم والدهانات. وقبل أن تتوصَّل لحل، اكتشفت ذات ما حدث.
بذلت ذات مجهودًا خارقًا في السيطرة على انفعالاتها كي لا تفقد أم عاطف، ومع ذلك كان رد فعلها كافيًا لإثارة حنق الأم المخلصة، التي وإن قبلت مكرهةً وِجهة نظر ذات بشأن خلط السوائل، لم تتمكَّن من استيعابها فيما يتعلَّق بالحبوب (التي ما زال من الممكن، في رأيها، التمييز بينها على أساس ألوانها وأحجامها)، فانتابتها الرِّيَب والظنون، وتصوَّرت أن وراء الأكمة ما وراءها، وهو تصوُّر تكفَّلت الأحداث اللاحقة بتأكيده.
ففي أحد الأيام أحضرت أم عاطف معها شريطًا من التراتيل الدينية، التمست تشغيله في مسجِّلة دعاء. لم تجد ذات في الأمر ما يضير؛ فهي رغم تحجُّبها لم تكن من المتعصِّبين الذين يُحرمون التعامل مع العدو التاريخي، كما كانت هناك حاجة لكسب ود الأم المؤمنة؛ لأن سوق الأمهات المحلي كان يشكو الندرة في أعقاب ازدهار سوقهن العربي. لكن أم عاطف كانت تشكو، كأغلب المصريين، من ضعف السمع، ولهذا علَّت صوت المسجِّلة، وزادتها علوًّا عندما انتقلت إلى الحمَّام، وبذلك لم يعد هناك مفر من الصدام.
فذات لم تكن تتحمَّل الأصوات المرتفعة (إمَّا لأنها تذكِّرها بالزحف الظافر لماكينات الأرشيف، أو بعبد المجيد الذي ازداد سمعه وهنًا في السنوات الأخيرة، فدأب على تعلية البث، ممَّا يدفعها للقيام بمناورات معقَّدة من أجل خفضه أو إغلاق الجهاز الذي ناضلت من أجل الحصول عليه وزيادة عدد بوصاته)؛ ولهذا طلبت من أم عاطف خفض صوت المسجِّلة، وعندما تظاهرت الأم بأنها لم تسمع، قامت هي نفسها بخفضه، وصحَّحت الأم الوضع خفية، بل زادته، فاضطُرت ذات إلى الإعراب عن رغبتها مرةً أخرى، بالقول ثم بالفعل، وهنا انتابت الشكوك أم عاطف في أن الأمر لا يتعلَّق بالأذن وإنما بالفتنة، الطائفية بالطبع.
هل كانت ذات بريئةً تمامًا؟ من يعلم؟ فيجب ألَّا ننسى أنها، رغم سلامة طويتها وترفُّعها عن صغائر التعصُّب، سبق أن قدَّمت القربان المسيحي على مذبح الماكينات. صحيح أنها اكتشفت بعد ذلك أن خطيئتها ترتبط بقضايا أكثر تعقيدًا مثل انقسام العالم إلى معسكرَين، والمجتمع إلى طبقات، والاتجاهات إلى يمين ويسار، والمذاهب إلى سنة وشيعة، إلا أننا لا نستبعد أن تكون قد خشيت من وصول صوت التراتيل الكنَسية إلى سُكَّان العمارة، أو على الأقل ارتابت في أهداف أم عاطف ودوافعها؛ محاولة اكتساب ثواب ما على حسابها، أو هدايتها إلى الدين (القويم). في كافة الأحوال كان الموقف محمَّلًا بعناصر الانفجار، ولم يكن يتطلَّب غير الشعلة الملائمة، التي تكفَّلت بها بعد حين موعظة الشيخ كشك.
فقد اختارت أم عاطف أن تأتي لذات يوم الأحد بدلًا من يوم الجمعة، بعد أن تمر على الكنيسة في الصباح الباكر لتنظِّفها وتأخذ نصيبها من الزكاة، ورحَّبت ذات بذلك الترتيب لأنه يتيح لها مبرِّرًا للتهرُّب من رؤية الماكينات (بالاعتذار عن الذهاب مرة، والانصراف مبكِّرًا مرةً أخرى). وفي أول مرة أحضرت الأم معها شريطًا جديدًا، وبحثت عن المسجِّلة فلم تجده؛ لأن ذات أخفته عن عمد. واضطُرَّت أم عاطف أن تطرق الموضوع مباشرة: «والمجيد يا ست شارية الكاسيت ده من حر مالي .. دفعت فيه تلاتة جنيه للقسيس.»
رقَّ قلب ذات للأم التي تضحِّي بثلث أجرها اليومي من أجل غذاء الروح، فأخرجت لها الجهاز، وجلست الأم إلى جواره على الأرض وأنصتت في اهتمام للموعظة التي ألقاها صوت رخيم.
لكنها لم تنصت طويلًا؛ فموعظة الجنيهات الثلاثة كانت تشغل نصف أحد وجهَي الشريط، أمَّا النصف الآخر، والوجه الثاني، فكانا خاليَين من أي صوت.
رغم بعض الشكوك، قدَّرت الأم أن الموعظة، التي لم تفهم كلمةً واحدةً منها في واقع الأمر، ذات أهمية خاصة تستوجب حجمها وثمنها. لكن ذات لم تترك الأمر يمر بلا تعليق؛ فقد وجدت فيه فرصةً للشماتة: «أبونا ضحك عليكي .. وانت اتجننتي .. حد يدفع تلاتة جنيه في الشيخ كشك.» فلأنها لم تكن تعرف اسم القس الذي لم تكن الأم أيضًا تعرفه؛ فقد أطلقت عليه اسم صاحب الشريط الذي كان يلعلع في نفس اللحظة من ميكروفون حانوت الدكتور فتحي.
لم تستجب أم عاطف للاستفزاز، وواصلت العمل في صمت وهي تتدبَّر الأمر، ولم يلبث الشك أن ساورها في أنها ضحية احتيال ما. ولأن إيمانها كان راسخًا لا تزعزعه الأحداث، اتجه غضبها، كما يحدث عادةً في هذه الأمور، إلى ذات، واعتبرت ما حدث جزءًا من تلك الحرب الأبدية المستعرة بين أبناء الطائفتَين؛ وبذلك تهيَّأت المرأتان للنهاية المحتومة التي جاءت في نفس اليوم؛ فبدلًا من أن تختم عملها بالحمام كعادتها، شاءت أن تنتهي بالمطبخ، ولم تحتمل اعتراض ذات فجذبت كيس أدويتها، وغادرت الشقة من غير كلمة، وإلى غير رجعة. وأصبح المسرح جاهزًا لاستقبال أم وحيد وأفلامها.
جاءت أم وحيد في لحظة استنفدت فيها المسَّاحة الكاوتشوك أغراضها، وحلَّت محلَّها الخيوط القطنية المجدولة على هيئة فرشاة تُغمس في جردل مخصوص مزوَّد بعُصارة جانبية، وهو ابتكار بدا مألوفًا لديها؛ ولهذا لم تترك شكًّا منذ البداية في موقعها من الخارطة الاجتماعية؛ فقد جلست على الفور في المقعد المواجه لذات دون أن يدعوها أحد، وأخرجت علبة سجائر كليوباترا، فأشعلت منها واحدة، وقبل أن تنهيها أشعلت واحدةً ثانيةً من طرف الأولى. كانت امرأةً أربعينيةً ممتلئة، مليحة الوجه، حادة الذكاء، مقبلةً على العمل، واسعة الثقافة بالرغم من أميتها (بفضل القنوات المتعدِّدة للبث). لم يكن لها شأنٌ بالمتغيِّرات الدولية، ولا بالنظام العالمي قديمه وجديده، ولا بصراع الصقور والحمائم في إسرائيل، أو بمن يحوز أكبر عددٍ من أوراق الكوتشينة، لكنها كانت تعرف مضار الإكثار من استخدام المضادات الحيوية، وطريقة انتقال عدوى مرض الإيدز، وما يُحدثه مرض الاكتئاب في الإنسان، وفوائد الجرجير والخس، وأسعار الدولار والإسترليني في الأسواق المصرفية، وأهمية سلخ الدجاج لتقليل نسبة التأثُّر بالهرمونات المضافة إلى غذائه، وفخ شركات توظيف الأموال، وسر الأعمال الإنشائية المستمرَّة دون توقُّف في مطار القاهرة منذ إنشائه، وأسباب طلاق حسين فهمي من ميرفت أمين، وما حدث بالضبط لعدوية على يد الأمير الكويتي، ومصدر الأموال التي ينفق منها الشيخ الشعراوي عن سعة.
هُيِّئ لذات أنها عثرت أخيرًا على الشغَّالة المثالية، إلى أن بدأت الأفلام. تغيَّبت أم وحيد عن موعدها الأسبوعي، وعندما جاءت في الأسبوع التالي اعتذرت بأن أمين، أصغر أبنائها، الذي يكبر أمجد بسنتَين أو ثلاث، تعرَّض لأزمة صحية حادة، وازرقَّ لونه، فأخذته إلى المستشفى الذي يتبعه الأب بحكم عمله في مباحث السكة الحديد، حيث قضَوا ببقائه لملاحظة صمامات القلب.
في المرة الثانية كان السبب ابن الجارة، الطالب في معهد مهني؛ فقد أصيب بضربة شمس، وأعطاه المستشفى الحكومي حقنة نوفالجين؛ فتورَّمت ساقه، وعند الفجر بدأ يُحتضر، ومات بعد ساعتَين.
تعرَّفت ذات على أفراد أسرة أم وحيد من خلال الأفلام: «كده يا أم وحيد متجيش .. أخدتلك إجازة مخصوص واستنيتك.» «معلهش يا حاجة. قسمة ونصيب.» «إيه اللي حصل؟» «وحيد.» «ما له؟» «اتحجز في القسم يومين.» «عمل إيه؟» «ولا حاجة.»
فعلًا؛ فهو سائق ترام، وبسبب تحايل المقاولين على سُمك الدكة الخرسانية للقضبان، تنكسر وينقلب الترام، ويُحتجز السائق في مركز الشرطة إلى أن ترسل المؤسِّسة، على مهلها، من يسدِّد العقوبة المالية المقرَّرة، والتي تُخصم بعد ذلك من راتبه.
المرة التالية: «أسامة يا حاجة.» «أسامة مين؟» «ابني. أخو وحيد.» «ما له؟» «صحيت الصبح لقيته أخد الحلل كلها وباعها.» «ليه؟» «عايز فلوس.» «هو ما بيشتغلش؟» «لا. قاعد من الشغل.» «يقوم يعمل كده؟» «أصله مدمن يا حاجة.» «مدمن إيه؟ خمرة؟» «لا. بعيد عنك برشام.»
– «وحيد يا حاجة.»
– «ما له؟»
– «كنت بازوره في السجن.»
–«يا خبر. إيه اللي حصل؟»
– «حادثة. عيل جه ينط في التروماي وهو ماشي قام وقع تحت العجل.»
– «طب وابنك ما له؟»
– «ما هو السواق يبقى المسئول.»
– «يا حرام.»
– «عملتله أكل وخدت صباح ورحنا له.»
– «صباح مين؟»
– «حبيبته.»
– «الله! هو مش متجوز؟»
– «أيوه. بس بيحب دي.»
تضرب ذات كفًّا بكف؛ فمن سمع عن سائق ترام يحب؟
– «وبتعمل إيه ست صباح دي؟»
– «بتشتغل زَيِّ في البيوت، مالهاش حد وعشان كده قاعدة معانا.»
– «ومراته؟»
– «عند أهلها.»
أمضى وحيد ستة شهور في السجن، وكان خروجه إيذانًا بفيلم جديد:
– «الواد قام على أخوه بالسكينة.»
– «مين؟ .. آني واحد؟»
– «أسامة.»
– «قام على مين؟»
– «على وحيد.»
– «ليه؟»
– «عشان صباح.»
– «ما لها؟»
– «أصل لمَّا وحيد دخل السجن، أسامة حبها.»
– «وده وقته. مش يشوف شغل الأول.»
– «القصد. والمضروبة كمان حبته.»
– «طيب ذنبه إيه بقى وحيد عشان يتهجم عليه؟»
– «أصلها كانت لا مؤاخذة نايمة معاه.»
– «مع مين؟ أسامة؟»
– «لا. وحيد.»
في الإجابة عن تساؤل ذات المنطقي عمَّا يحول دون الفصل بين الأطراف المتجامعة، قدَّمت أم وحيد سببًا يتعلَّق بالجغرافيا؛ فالقبيلة كلها تعيش في غرفة واحدة تضم بالإضافة إلى أماكن النوم، ركنًا للبث، وآخر للطهي، وثالثًا لتناول الطعام.
لم يكن للأب بطبيعة الحال دور في هذه الأفلام؛ لأنه يعمل طوال النهار ولا يعود إلى الاستوديو إلا في الليل؛ لهذا كان ظهوره المفاجئ في دور رئيسي حدثًا مثيرًا.
«والمصحف كنت جايالك. وأنا في السكة شيء إلهي خلاني أرجع البيت. لقيت الراجل رجع من الشغل واحنا لسه قبل الضهر.»
– «كان تعبان ولا حاجة؟»
– «أبدًا. جاي عشان صباح.»
– «صباح؟»
– «أيوه. كانت لوحدها.»
– «هو حبها؟»
– «حبه حنش.»
– «يا شيخه! تلاقيكي ظالماه.»
– «أبدًا. البنت نفسها قالتلي من أسبوعين إنه حاطط عينه عليها.»
– «مش يمكن تكون بتضحك عليكي؟»
– «لا مش ممكن. أنا اللي مربياها.»
بعد ساعتَين، عندما انتهت من الغرفتَين، وجلست تستريح مع الشاي والسيجارة، قبل أن تنتقل إلى المطبخ والحمام، بدأت تنظر إلى سلوك زوجها نظرةً موضوعية: «العملية هي السبب. من ساعة ما شلت الرحم، وأنا مبطيقش ريحته ولا أطيقه يلمسني.»
موضوع مثير للبث، ليس فقط لأن ذات جرَّبت هذه المشاعر دون جراحة، وإنما أيضًا لأن الجراحة نفسها أصبحت محتملة؛ فبعد نوبات من النزيف والألم صاحب الدورة إياها، أسلمت نفسها لجولة تفعيص جديدة لتعلم أن في أحشائها ليمونةً لم تلبث أن صارت برتقالة، وأن الحيلولة بينها وبين أن تصبح بطيخةً يتطلَّب جراحةً قد تطيح بالجهاز الداخلي كله.
بعد أسبوعَين أحضرت أم وحيد معها غادة الكاميليا لمعاونتها على الانتهاء بسرعة من أجل اللحاق بأحد أفلامها، كما قالت، ولإبعادها عن خطر مجزرة محتملة، كما أضافت بعد قليل، فأتاحت لذات أن تُشبع فضولها وترى بعينها النجمة الأولى في أفلام أم وحيد.
ألفَت نفسها أمام عمود طويل من العظام، يعلوه وجه جامد النظرات، بالغ الشحوب، لكن صباح تكشَّفت عن شغَّالة ماهرة، تعمل بطريقة منظَّمة، وبدرجة عالية من الكفاءة، لدرجة أنها أقدمت من تلقاء نفسها، ودون أن يُطلب ذلك منها، على تنظيف المصابيح الكهربائية؛ ممَّا أوحى لذات بتاريخ في الخدمة القائمة على أُسس علمية، وأفسح لها مكانًا في عواطفها الطيبة، فبدأت تتصوَّرها ضحيةً للذئاب، بعد أن تصوَّرتها على هيئة الذئبة نفسها، وبذلك بدأت انزلاقها، دون وعي، إلى أحد أفلام أم وحيد.
على أن الظروف كلها كانت مهيَّأةً لهذه النهاية؛ فقد أحدث غياب عبد المجيد لتأدية واجبه فراغًا عزفت سميحة عن ملئه؛ ذلك أنه تزامن مع تطوُّر دراماتيكي في حياة الشنقيطي الذي وجد ملاذًا من الشيخ سلامة في غرفة الرئيس الجديد لمجلس الحي، وهي غرفة واسعة تغص بأصحاب النفوذ وطالبي الخدمات، فتمكَّن من استعادة صِلاته الجماهيرية والحصول، في خبطة واحدة، على شقة مدينة نصر الموعودة، وتمكَّنت سميحة من إزالة الغشاوة عن عينَيها، فتراجعت عن طلب الطلاق، وعادت إلى بيتها وزوجها، بل وتبيَّنت الصديق من العدو، فعندما الْتقت بذات على السلم، وأقبلت عليها الأخيرة تبارك لها عودتها إلى الوعي، أشاحت سميحة بوجهها وواصلت الصعود في تجهُّم، معلنةً عن تطوُّر دراماتيكي آخر، في حياة ذات هذه المرة، هو اقتراب المقاطعة من باب شقتها.
ولأن ذات أخفت كل هذه التطوُّرات عن ماكينات الأرشيف، أصبحت أم وحيد الإنسان الوحيد، فعلًا، الذي تستطيع مبادلته البث في الموضوعَين الأساسيَّين اللذَين يشغلان فكرها طول الوقت (بالإضافة إلى تطوُّرات البرتقالة)؛ سر تصرُّف سميحة ومصير عبد المجيد. وكانت أم وحيد قد التقطت القصة من على سلم العمارة، أثناء التوسُّلات المعهودة، التي استجابت لها، هي وصباح، بأريحية، ثم فاتحت ذات، مهوِّنةً عليها الأمر، مؤكِّدةً أن السجن ما زال للجدعان، فسألتها ذات: «إنت دخلتيه يا أم وحيد؟» وأجابت المرأة بابتسامة رثاء — لذات بالطبع: «يوه .. ياما.»
بالمقابل أتاحت لها أم وحيد فرصة الإطلال على عالمَين؛ عالم غريب يتمتَّع بحرية ممارسة الحب وارتكاب الجرائم، لا يعرف الخوف أو الجبن، ولا المقاطعة، وعالم العمارة نفسها.
فعن طريق أم وحيد علمت ذات أن موظَّف الزراعة الذي أصبح يركب المرسيدس، أصيب بنوبة قلبية بعد ضياع مُدَّخراته في الريان، وأن زوجته تحجَّبت بعد ذلك مباشرة (إمَّا من أجل شفاء زوجها، أو التماسًا لعودة أمواله، أو لحماية نفسها من الفتنة في الظروف الجديدة). وأن زوجة ضابط الشرطة التي اشتُهرت بمشيتها العسكرية، انتقلت إليها العدوى كاملةً فصارت تضرب خادمتها بكعب البندقية، وتكوي جسمها بالنار. وأن ضابط شرطة شاب في العمارة المواجهة طلب يد ابنة ضابط الجيش، فكان الرد أنها تستحق أميرًا، فقرَّر أن يصبح أميرًا لإحدى الجماعات الإسلامية وقتل زميلًا له ودخل السجن. وأن مهندس الديكور يرتدي باروكة، وشقته مكدَّسة بالديكورات، وزوجته لا تستحم إلا في الأعياد، وابنهما استقرَّ في الثانوية لا يُريد مفارقتها ويهوى تخريم عجلات سيارتهما. وأن مدرِّس الكويت تزوَّج فتاةً صغيرةً من أقارب زوجته عايدة، وأن الست فادية تتجنَّب استخدام المدفأة الكهربائية على سبيل الاقتصاد، وتستعين بدلًا منها بموقد الكيروسين القديم، ومع ذلك اشترت لابنها آلة أورج بألف جنيه عندما نجح في الثانوية. وأن الحاج فهمي يدلِّل زوجته الثانية الشمطاء بدرية بصيغة المذكَّر واصفًا إياها بالعلوقية، وأن زوجة عم محروس المشلولة أصبحت حبيسة غرفة نومها بسبب اضطهاد زوجة ابنها لها، حتى إنها نقلت أدوات المطبخ إليها. وأن موظَّف المجمَّعات الاستهلاكية نُقل إلى وظيفة أخرى فلم يعد قادرًا على إصلاح سيارته المركونة أمام العمارة، وأن أولاده ضجوا من أكل الفول والبصارة، وأن أمهم تفرض عليهم، عند الأكل، أن يتجنَّبوا حمل الطعام على جناحَي اللقمة ويقتصروا على لمسه بها. وأن الشبح الأسود الذي احتلَّ الشقة المفروشة مكان مدام سهير من الإنس وليس من الجان.
والذي أثار اللبس بين الصنفَين هو ولي العهد عندما عاد مرةً مفزوعًا من الخارج وقد أنطقته الصدمة باللغة العربية فصاح: «ماما .. عفريت.» استعانت ذات بالبسملة والتعويذة حتى جاءت أم وحيد بالخبر اليقين؛ الشقة المفروشة أُجرت لمنقبِّين، أو على الأصح لملتحٍ ومنقَّبة. أمَّا العفاريت الحقيقية فقد ظهرت، فعلًا، بعد قليل.
فقد دفع صاحب العمارة للشنقيطي عشرة آلاف من الجنيهات مقابل الشقة عندما انتقل إلى مدينة نصر، وحوَّلها إلى مفروشة على الفور، فحصل بذلك على إيجار شهري يزيد خمسين ضعفًا على الجنيهات الثمانية التي كان يأخذها من الشنقيطي. وفتح هذا التطوُّر شهيته، فأبلغ السكَّان على لسان عم صادق استعداده لأن يدفع نفس المبلغ لكل من يفكِّر في ترك شقته، لكن السكَّان أعلنوا لعم صادق تمسُّكهم بشققهم حتى الموت. ولم يمضِ أسبوع حتى اندلعت النيران أمام أبواب الشقق وعلى السلم، ثم انطفأت على الفور من تلقاء نفسها. وبعد يومَين استيقظ السكَّان في الفجر على أصوات عويل صادرة من المناور وبئر السلم، وشكا قاطنو الطابق الأخير من دبدبة أقدام غامضة فوق رءوسهم في نفس الموعد. وتلاحقت الظواهر؛ تعرُّض التيار الكهربائي لانقطاعات مفاجئة في أوقات الذروة (السابعة صباحًا والثالثة بعد الظهر والعاشرة ليلًا)، وطارت الملابس المغسولة من فوق حبال البلكونات. أرجع الجميع كل هذا إلى تدبير العفاريت، ووجَّه الحاج عبد السلام نداءً إلى السكَّان عن طريق عم صادق يدعوهم فيه إلى التكفير عن ذنوبهم وإقامة صلاة الجماعة في المسجد. أم وحيد وحدها هي التي هزَّت رأسها هزة العارف الخبير وقالت لذات: «العفاريت متعملش كده.»
انبرت العفاريت على الفور لتأكيد وجودها؛ فبينما كانت صباح تقوم بتنفيض سجاد مدرِّس الكويت في بلكونة شقته، سمعت دبدبةً غريبةً خلفها، وعندما التفتت خلفها رأت زوجة المدرِّس في مدخل الحجرة تحدِّق في ذهول إلى ثلاث قطع لامعة من البونبون استقرَّت على الأرض في منتصف المسافة بين المرأتَين، لم تلبث أن تلاشت مرةً واحدة.
قالت صباح لذات: «رجعت البلكونة عشان أكمل تنفيض. السجادة كانت مركونة على السور، نص جوه والنص التاني بره. بصيت لقيتها بتتحرَّك لوحدها زي ميكون حد بيشدها من بره. جرينا أنا والست عايدة نمسك فيها، لكن اللي بيشد كان أجمد منا فوقعت في الشارع.»
تذكَّرت الست عايدة ظواهر مماثلةً وهي تروي ما حدث للحاج عبد السلام طالبةً منه النصح والعون؛ اختفاء الفواكه الغالية الثمن (مثل التفاح) من الثلاجة، اختفاء الأطفال من أمامها وظهورهم في غرفة أخرى، تحرُّك لعبهم (وهي لُعَب غالية تعمل بالريموت كنترول) من تلقاء نفسها في اتجاه الشقة. وهدَّأ الحاجُّ من رَوعها، ثم أمرها بأن توقد ثلاث شمعات وتحرق البخور، وتضع طبقًا من الحلوى للعفاريت.
صدعت الست عايدة بأوامر الحاج، فأحرقت البخور، وأوقدت الشموع، وجلست أمام طبق الحلوى، لتفاجأ بعد قليل بثلاث قطع من البونبون مكان الطبق الذي اختفى. وتكرَّر الأمر إلى أن جاءت النهاية من جهة أخرى؛ فقد انفصل زوجها عن زوجته الصغيرة وعاد إليها، وهنا انقطع ظهور العفاريت عندها، وانتقلت إلى موظَّف الزراعة البسيط فاستولت على ذهب زوجته، ثم تحوَّلت إلى ذات.
فأثناء بحثها عن لعبة تُلهي بها ولي العهد، اكتشفت اختفاء محتويات صندوق الكرتون الذي يضم كل لعبه، والذي وُضع فوق الدولاب بعيدًا عن متناول يده. ولعب الفأر في عِبها ففتَّشت أحد أدراج الشفنيرة، حيث تحتفظ ببعض الخواتم والأسورة الذهبية، ووجدتها قد اختفت هي الأخرى. وما إن أفضت باكتشافها إلى أم وحيد (التي ظهرت في موعدها بملابس جديدة وأعلنت في زهوٍ أنها اشترت أحدث جهاز للبث، وأكثره عددًا في البوصات، بألفَين من الجنيهات) حتى خبطت على صدرها وهتفت: «العفاريت!»
رافقت أم وحيد ذات في زيارة عاجلة للحاج عبد السلام الذي أطرق برأسه طويلًا، ثم قال: «لا بد أن نعقد لهم جلسةً لنعرف من هم وماذا يريدون.»
عقدت الجلسة في شقة ذات، وتحت مظلة الشرطة ممثَّلةً في زوجة الضابط التي جاءت في صحبة الست عايدة، وفي حضور أم وحيد وصباح. تحلَّق الجميع حول الحاج الذي أحرق البخور وملأ عدة أوراق بالدوائر والمثلثات وهو يتمتم بعبارات غامضة، ثم أعلن: «إنهم أطفال من الجن لا يريدون أكثر من اللعب مع أمجد. حطي لهم بخور وشمع وحلويات.»
استفسرت ذات: «حلويات من أي نوع؟ شامية أم مغربية؟»
أجاب الحاج بما اشتُهر عنه من اقتضاب: «لا شرقية ولا غربية.»
وعلى باب الشقة التفت إليها قائلًا: «ولا تنسَي الأرز باللبن. الجن يحبه.»
لم تقرب العفاريت شيئًا ممَّا بُسط لهم، واستمرَّت ظواهر الاختفاء؛ الملاعق، محتويات حصالة النقود الخاصة بولي العهد، ملابس دعاء وابتهال الداخلية، وأخيرًا مفرش البوفيه الذي عاد بعد اختفائه بلحظات.
فقد أزاحته مرةً جانبًا لتزيل الأتربة من فوق سطح البوفيه، ثم أعادته مكانه، في الوسط تمامًا، وانحنت لتأتي بالفازة التي توضع فوقه، وعندما اعتدلت وهي تتنهَّد فوجئت باختفائه وظهوره عند الحافة البعيدة لسطح البوفيه.
استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وجذبت المفرش إلى مكانه الأصلي، وهمَّت بوضع الفازة فوقه، وإذا به يختفي ويعود إلى حافة البوفيه. هنا لم تجد مفرًّا من الالتجاء مرةً أخرى للحاج عبد السلام.
التي ذهبت تبحث عن طريقة للتخلُّص من العفاريت عادت بوصفة لإحضار المزيد منهم؛ فقد أعطاها الحاج حجابًا وعزيمةً تُقرأ عددًا معيَّنًا من المرات؛ ليحضر خدمها، وتطلب منهم الحيلولة دون تعرُّض العفاريت لها.
سألته: «هل يمكن أن أطلب منهم شيئًا آخر؟»
فهم الحاج عبد السلام ما تعنيه على الفور، أو ظن أنه فهم: «طبعًا. يمكنك أن تطلبي منهم تخليص الأستاذ عبد المجيد من السجن، لكن هذا يحتاج إلى مزيد من التحضير وإثبات النية الحسنة، ولن تكفي الشموع والبخور لذلك.»
لم يكن تخليص عبد المجيد هو ما عنته ذات في مبدأ الأمر؛ إذ كانت ما تزال تفكِّر في اللحاق بمسيرة الهدم والبناء، لكنها لم تجد بأسًا من مجاراة الحاج الطيب. ماذا يقترح؟ أجاب بعد إطراقة طويلة: «هدية جليلة. مبرِّد مياه كهربائي للمسجد، أو جزء من ثمنه.»
تخلَّت ذات عن فكرة تخليص عبد المجيد من سجنه، وقرَّرت التركيز على التخلُّص من العفاريت، فصامت أربعة أيام قرأت خلالها سورة الإخلاص ألف مرة في اليوم، وسورة يس مرةً واحدة هي وسورة الدخان. وفي مساء اليوم الرابع اغتسلت وارتدت ثيابًا نظيفة، وأغلقت باب الشقة جيدًا، ثم طلبت من دعاء وابتهال أن يشاركاها الفراش، واحتوت وليَّ العهد بين أحضانها، وتناولت المصحف فقرأت منه الآيات التي عيَّنها الحاج وهي ترتجف من الخوف، ثم أخذت تردِّد: «أجب يا شراهيل، بارك الله فيك وعليك، أجب بحق الله العظيم، الوحا الوحا، العجل العجل، الساعة الساعة»، حتى غلبها النعاس.
لم يحضر شراهيل أو غيره. عبد المجيد هو الذي جاء بعد أن قضى مدته، وبعد أن تخلَّصت ذات من العفاريت بطريقتها الخاصة.
فهي ليست ساذجةً كما قد يتبادر إلى الذهن؛ أن يتحرَّك المفرش ويختفي، أو تدب الحياة في لعب الأطفال من تلقاء نفسها، وتقع السجادة من فوق السور، كلها أمور يمكن استيعابها لأنها توحي بكائنات ساذجة لا ترمي إلا إلى قليل من المزاح والتسلية (فلا بد أن الحياة في مملكة الجان مملة للغاية)، أمَّا اختفاء النقود والملابس الداخلية والمشغولات الذهبية فشيء آخر؛ فما حاجة العفاريت إلى هذه الأشياء الدنيوية؟
كانت المواجهة التي جرت بين ذات وأم وحيد هادئةً وعقلانيةً بصورة لم تتوقَّعها؛ فقد بسطت أم وحيد وجهة نظرها وهي تُشعل السيجارة من السيجارة: لماذا لا يحق لها أن تستمتع بالحياة مثل الآخرين؟ ولماذا لا يكون لديها أجهزة كالتي لدى موظَّف الزراعة البسيط؟ أرادت ذات أن تعلِّق فأوقفتها الأم بمنتهى الهدوء: «متقوليش إنها من عرق جبينه .. مفيش حاجة بتستخبى.» حجة أخرى مقنعة في جعبة الأم: لو كانت دخلت المدرسة وتعلَّمت لكانت الآن دكتورةً مثل الأخريات اللاتي لا يفضلنها في شيء سوى أن الفرصة أتيحت لهن بالصدفة.
منطق أفحم ذات الطيبة فلم تملك سوى معاتبة الأم على أن ثورتها التصحيحية جرفت في طريقها الكيلوتات والحصَّالة والذهب. هنا اعترفت الأم بوقوع أخطاء في الحساب والتقدير، ووعدت بمزيد من التصحيح.
توقَّفت العفاريت عن زيارة ذات في وقت مناسب أتاح لها أن تستعد لاستقبال عبد المجيد، الذي حان موعد خروجه، وهو ما فعلته بمشاعر ملتبسة؛ فمن ناحيةٍ تكفَّل غيابه بإراحتها من عدة أشياء؛ وجهه الغاضب المستعد دائمًا للانفجار، دخان سيجارة قبل النوم، والدخان الآخر الذي ينطلق من مؤخِّرته أثناءه، والعملية إياها. ومن ناحية أخرى، افتقدت وجوده من أجل السيطرة على دعاء التي أصبحت ترد بوقاحة على كل كلمة توجَّه إليها (رغم أنها تحجَّبت بعد أن فشلت في تحسين صورتها بتسريحة شعر مناسبة)، وعلى ابتهال التي بدأت تعاني من ركوب الكلمات فوق بعضها البعض، وعلى ولي العهد الذي تجاوز المدى في استكشاف السبل المؤدية إلى المجد، وعلى النتوء إياه الذي كاد يوردها موارد التهلكة.
فأثناء زيارة عابرة من منير زاهر للأرشيف، سألته وهي تتأمَّل الخيوط البيضاء التي تسلَّلت إلى ما تبقَّى من شعر فوق رأسه، عن السبب الحقيقي وراء عزوفه عن الزواج، فنظر إليها طويلًا، ثم قال: «صحيح ما تعرفيش؟»
زلزلت نظرته كِيانها، وأجرت الدماء وغيرها في عروقها، ودفعتها إلى استقباله بالليل عدة مرات، وانتظار مروره بالنهار كل لحظة، وإلى الصراخ في البنتَين إذا ما قطعتا البث أثناء غناء عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وإلى تحمُّل عناء دهان الشعر بالعفص لإزالة ما تخلَّله من بياض، والذهاب إلى الكوافير، والبحث عن غطاء مناسب للرأس، لا يكشف ما يتعيَّن ستره، ولا يُخفي ما يحسن كشفه، ثم الاعتزال بالحمام مدةً كافيةً لإزالة الشعر من الأماكن إياها، طبقًا للتقليد القومي الخاص بطقوس استقبال العائدين والغرباء على السواء.
هذه العزلة نفسها كانت تنويريةً وبالتالي محبطة؛ فقد أتاحت لها أن تدرس بدقة ما طرأ على جسدها من تغيُّرات، وتجلَّت النتيجة في اليوم التالي؛ إذ تغيَّر مسلك الماكينات إزاءها، معلنًا عن موجة جديدة من المقاطعة، شارك فيها حتى منير زاهر، ودفعتها إلى مراجعة النفس، وتبَنِّي الحل النهائي الذي سيُطهِّرها من ذنبها، كما يقدِّم للماكينات الدليل القاطع الماحق على صدق إيمانها وبعدها عن زمرة البلاشفة؛ الحج إلى بيت الله.
هكذا كانت قادرةً على استقبال عبد المجيد بخطط محدِّدة للمستقبل ومشاعر غير مجزَّأة ولا موزَّعة، على عكسه تمامًا؛ إذ بدا منطويًا على قدر كبير من المشاعر الملتبسة، فضلًا عمَّا أصاب حجمه من تضاؤل تجلَّى عندما ركع يصلي، وعندما أويا إلى الفراش وانزوى بجوار الحائط، وتفاقم عندما استعدَّت لأداء واجبها، فالتبست مشاعرها هي الأخرى؛ إذ شعرت في البداية بشيء من الارتياح، انقلب إلى إحباط عندما استدار وأعطاها ظهره.
إلى جانب الخطط الاستراتيجية في جعبة ذات، كانت هناك خطط قصيرة المدى، منها احتفال مؤجَّل بعيد ميلاد ولي العهد، يتضمَّن احتفاءً مضمرًا بعودة أبيه، أقبلت على إعداده في حماس تُعوِّض به ما شعرت به من إحباط. وجَّهت الدعوات، واستشارت الماكينات في أنسب الطورطات، حتى وقع اختيارها على طورطة الشكولاتة المثلَّجة أو الشكولا آيس كما صحَّح لها عبد المجيد. وفي اليوم المحدَّد أعدَّت السندوتشات والفطائر المحشوَّة والدجاج المشوي، ثم وضعت أمامها الوصفة الكاملة للطورطة (التي حصلت عليها من أرشيف مجلة «حواء») وبدأت العمل.
سواء كانت العفاريت بما جُبلت عليه من شغف بالدعابات السمجة هي المسئولة عمَّا بدر من ذات من خلط في المقادير والأوقات، أو كان الأمر راجعًا إلى ما ينتابها أحيانًا من تردُّدٍ ونسيان؛ فإن العجينة البنية اللون التي أُودعت الفريزر لم تكتسب الشكل والطعم المستهدفَين. وأوشكت الصانعة أن تنفجر باكية، لولا أن النجدة جاءت على يد الدكتور فريش في صورة طورطة ضخمة، أُخْليت لها مائدة المطبخ؛ لأن طولها لم يكن يقل عن ربع متر، وبالمثل عرضها، كما كان ارتفاعها يتجاوز العشرة سنتيمترات، تُتوِّجها طبقة من الشكولاتة البيضاء أثارت امتعاض ذات لأنها تبدو كالكريمة بينما الأكثر قيمة، على حد قول عبد المجيد، أن يكون الدريسنج «شكولا» حقيقية، بنية اللون.
توافد المدعوون، وتجمَّع الأولاد والبنات في غرفة البنتَين، وسرعان ما تصاعدت منها موسيقى الهشك بشك، وشرائط التاكسي (الأساتوك والمنجة)، بينما استقرَّ الكبار في الصالة واشتبكوا في بث حاول الدكتور فريش السيطرة عليه مسلَّحًا بمعلوماته وطورطته: الجراح الشهير الذي تقاضى ألفَي جنيه لاستئصال حمل خارج الرحم من سيدة عقيمة، والكيميائي المعروف الذي شاهد عاملًا بسيطًا يتحدَّث، أثناء غيبوبة روحية، بلغة إنجليزية راقية عن أمور علمية معقَّدة بعد أن تلبَّسته روح أستاذ جامعي من أكسفورد، والشريط المتداول سرًّا في الكويت ويتحدَّث فيه شبان يرتدون ملابس النساء ويضعون المساحيق على وجوههم وشفاههم ويصبغون أظافرهم ويكحِّلون عيونهم، والمصري الذي أُجبر على التطوُّع في الجيش العراقي فأسره الإيرانيون وربطوه من يدَيه إلى سيارة متحرِّكة حتى انفصل ذراعاه عن جسده، والعراقي الذي ساعدته المخابرات البعثية على الانتحار بعد أن شهد اغتصاب زوجته وأخته وأمه على أيدي أفرادها، والفلسطينيون الذين يعانون الأمرَّين على يد مغتصبي أراضيهم الإسرائيليين وأبناء جلدتهم العرب، ثم الموضوعات التقليدية؛ فضائح الحكام، وشروط البنك الدولي، وارتفاع الأسعار، وتوظيف الأموال (الذي كان الدكتور فريش نفسه من ضحاياه)، وضعف الإنتاج، وتردِّي التعليم، وهجرة الفلاحين، وفوضى المرور، والمخدرات … إلخ.
تابعت ذات البث بذهن مشتَّت، استعاد قوة تركيزه عندما روت منال نبأ الحذاء الذي اشتراه لها الدكتور فريش في علبة أنيقة من الشامواه بأربعمائة جنيه. لم تكن هذه سوى بداية، تلتها الست عايدة بولاعة من الذهب الخالص (ماركة ديبون ومزوَّدة برقم الشاسيه) أهدتها لزوجها في عيد ميلاده (بعد خلاصه من الفتاة الصغيرة بالطبع)، ثم هناء بسيارة مازدا كافأت بها ولي عهدها عندما نجح في الثانوية (اشتراها زوجها بثمن بخس من السفارة الأمريكية التي يعمل في حراستها منذ خرج من الجيش إثر فشل علاجه من شظية أصيب بها من صاروخ أمريكي في حرب أكتوبر)، ولم تتخلَّف مظلة الشرطة عن الركب بمرتبة مياه لا يقل ثمنها عن سبعة آلاف جنيه. عند هذا الحد لم تتحمَّل ذات مزيدًا من الإصغاء، وقامت قبل أن تدلي ابنة خالتها عفاف بدلوها، ومضت إلى المطبخ لتبسط المائدة، وتُعِد المسرح للعفاريت في الوقت نفسه.
أحضر الدكتور فريش معه، إلى جانب الطورطة، كلبةً صغيرةً بيضاء اللون وخجولةً من نوع الجريفون، انزوت أسفل مقعد صاحبها تتأمَّل الجالسين وأفواههم المتحرِّكة من عينَيها الذكيتَين اللتَين اختفيتا أسفل خصلات شعرها الكثيف، إلى أن اضطُرَّت إلى مغادرة مكانها مدفوعةً بحاجة لا تقاوم، فتشمَّمت أحذية الجالسين وأرجل مقاعد السفرة وعتبة باب الشقة، ثم اتجهت إلى المطبخ في اللحظة التي عادت فيها ذات منه تحمل طبقًا كبيرًا مليئًا بالفطائر المحشوَّة.
وضعت ذات طبق الفطائر على السفرة وكرَّت إلى المطبخ لإحضار المزيد من الأطباق، وإذا بها تجد بوسي قد فعلتها بسخاء شديد أسفل المائدة التي تحمل طورطة الدكتور. واختارت العفاريت هذه اللحظة نفسها لتفعلها هي أيضًا.
فبينما ذات تتأمَّل في اشمئزاز فعلة بوسي التي اتخذت شكل ثعبان صغير ملتفٍّ على نفسه، أو كتلة من الكريمة مضغوطة من منفاخ الحلوى، إذا بها تختفي في غمضة عين، لتظهر فوق سطح الطورطة الفخيمة، تبسطها أيدٍ خفية حتى تغطيه تمامًا، وتكسو لونه الفاتح بلونها البني، لون «الدريسنج» الذي تفضِّله ذات.
ترنَّحت ذات فاستندت إلى الحائط وأغمضت عينَيها، ثم فتحتهما في حذر. ويبدو أن خطر الإغماء التي تعرَّضت له قد ألان قلوب العفاريت؛ لأنهم أعادوا كل شيء إلى حاله؛ الطورطة إلى لونها الأصلي، و«الدريسنج» إلى أرضية المطبخ.
لكن ذات لم تعد إلى ما كانت عليه؛ فعندما أطفئوا النور وأشعلوا شمع الطورطة توقَّعت أن تراها في كسائها الداكن، وطلَّت تحدِّق فيها متحفِّزةً وهي تردِّد مع الآخرين: «هابي بيرثداي تو يو. هابي بيرثداي تو أمجد.» وبعد ذلك لم تتمكَّن من تذوُّق الطورطة. وعندما رأتهم يلتهمون أنصبتهم في شراهة أسرعت إلى المرحاض لتتقيَّأ، وعفَّت نفسها عن بقية الطعام الذي خطَّطت له أن يفي باحتياجات يومَين على الأقل، فعرجت عند عودتها من الأرشيف في اليوم التالي على كشك الأسماك الذي أقامته إحدى شركات القطاع العام على ناصية الشارع.
استقبلتها فتاة منهمكة في غسل الأرض بخرطوم ماء، ويبدو أنها كانت تحمل مفهومًا أرضيًّا وحسب عن النظافة؛ لأنها باشرت إعداد السمك دون أن تغسل يدَيها. أرادت ذات أن تستوقفها لكنها لم تجد القوة على الكلام، فتابعتها في استسلام وهي تقلِّب السمك في الدقيق، ثم تلقي به في زيت القلية. وخلال ذلك اجتذبتها رنجة مُعدَّة في أكياس محكمة من البلاستيك، تحمل تاريخ الإنتاج والصلاحية، ويقل ثمنها عن السوق بفارق كبير؛ عن المجمَّع الاستهلاكي بجنيه، وعن البقَّال بثلاثة، والسوبر ماركت بخمسة وسبعة. اشترت نصف كيلو، وأكملت الوليمة ببصل أخضر وليمون من بائعة تحمل على صدرها رضيعًا تعلَّقت يداه القذرتان بثديها الضامر، وتتلفَّت حولها خوفًا من ملاحقة مندوبي الشنقيطي لحمولتها أو نقودها.
مضت بزادها تحت الشمس الحارقة، إلى أن بلغت البائع الصعيدي الذي كان ينادي على بضاعة من العنب في سبتَين من الخوص فوق ظهر حمار. تمهَّلت أمامه فخاطبها في إغراء: «اتنين كيلو؟» وأجابته في حزم: «لا. كيلو واحد.»
ابتعدت عنه خطوات لتحتمي بالظل، وراقبته وهو يصنع قرطاسًا من ورق الصحف ويتناول عنقودًا من العنب في رفق وحدب، فيودعه القرطاس وهو يردِّد اسم الله. تحرَّك الحمار قليلًا إلى الأمام، فتبعه صاحبه وهو يهشه ليلزم مكانه، ورفعت ذات عينَيها إلى النوافذ المغلقة أو المواربة، والملابس المنشورة فوق الحبال، وقد وُضعت كل قطعة في عناية إلى جوار الأخرى وثُبِّتت بمشبكَين خاصَّين، وأكوام الأثاث البالي في أركان الشرفات، وستائر القماش خلف القضبان الحديدية لأسوارها، أو واجهات الألوميتال والفيميه فوقها. هكذا أُتيحت لها الفرصة كي تُطِل على صباها.
ففي إحدى الشرفات المدهونة حديثًا، خرجت امرأة شابة في رداءٍ بيتي من قماش مُشجَّر بلا أكمام، غطَّت رأسها بمنديل أوحى انبعاجه بما يُخفي من شعر ملفوف حول البكر.
تطلَّعت المرأة إلى بداية الشارع، ثم أسندت مرفقَيها إلى السور، وتأمَّلت السيارات المركونة بجوار الرصيف بنظرات شاردة، وهي تدعك شفتَيها الواحدة بالأخرى لتوزِّع الروج فوقهما توزيعًا متكافئًا، فرأت ذات نفسها منذ عشرين عامًا؛ الكنس والمسح وتعريض الفرش للشمس، فإظلام الغرف ورشها بالمبيدات، ثم حمام كامل على رواق، يعقبه تجفيف الشعر ولفه بالبكر وتغطيته بالمنديل، فتواليت بسيط؛ الكحل والماسكرا، وقليل من الأحمر للخدَّين، وروج ثقيل فوق الشفتَين، نصائح مجلة «حواء» بالكامل، وأخيرًا الانتظار الممل حتى يعود بطل العروبة من كفاحه.
وضع البائع قرطاس العنب فوق كفة الميزان اليدوي، ورفعه في الهواء وهو يضغط بجانب كفه خفيةً على الناحية التي تتدلَّى منها كفة القرطاس، لتكشف عن زيادة في الوزن. ثم أطبق أجزاء الميزان في صلصلة معلنًا اختتام الصفقة، وناولها القرطاس فأعطته الثمن، واستأنفت السير حتى عمارتها.
احتوتها ظلمة ملطِّفة احتمى بها خمسة جنود في عنفوان الشباب، استندوا إلى الجدران في اكتئاب ينتظرون أوامر زوجات سادتهم الضباط ليُحضروا من السوق القريب قليلًا من الملح، أو حزمةً من البصل الأخضر، أو علبةً من الصلصة. ارتقت السلم على مهل، مارَّةً بآثار مسيرة الهدم والبناء أمام شقة مهندس الديكور، وبالعمل الحقيقي في شقة ضابط الجيش، تقوم به مجموعة من الجنود تحت إشراف ابنته الصغيرة التي ارتدت ملابس الحجاب رغم أنها لم تتجاوز التاسعة من عمرها بعد.
بلغت باب شقتها وهي تلهث، ففتحته ودخلت، وأغلقته خلفها. وضعت حملها فوق الثلاجة وارتمت على أقرب مقعد وهي تتخلَّص من حذائها وتبسط قدمَيها أمامها متنهِّدةً في ارتياح، مستمتعةً بالسكون الذي لن يلبث أن يتلاشى عندما يتوافد باقي أفراد الأسرة، واحدًا بعد الآخر. ولم يدم شعورها بالارتياح طويلًا؛ إذ تذكَّرت حوض المطبخ.
كان مُكدَّسًا بمخلَّفات الإفطار فضلًا عن عشاء الأمس. فكَّرت أن تتركه لابنتَيها، ثم رقَّ قلبها عندما تصوَّرتهما عند عودتهما، شاحبتَين من الإرهاق، فملأت حلةً إلى منتصفها بالمياه ووضعتها على النار (لأنها ما زالت محرومةً من سخان للمياه فوق حنفية الحوض)، وأضافت إليها مسحوق الصابون، وعندئذٍ شعرت باضطراب مألوف في أحشائها فهُرعت إلى الحمام، لكن نقطة الدماء التي طالعتها في قعر الكيلوت لم تكن كافيةً لتأكيد أو نفي ما ذكره طبيب مجلة «حواء» حول أعراض نهاية الموضوع إياه (وهي نهاية تبعث على الترحيب والذعر في آنٍ واحد).
عادت إلى المطبخ فوضعت الأكواب الزجاجية في المياه الساخنة، ودعكتها بليفة من البلاستيك ثم أخرجتها، وصفَّتها على رخامة الحوض وانتقلت إلى الأطباق والحلل. وعاودها شعور الارتياح، رغم الألم الذي انتشر أسفل ظهرها عندما ظهر أمامها قاع الحوض أخيرًا، فجمعت النفايات المترسِّبة فيه وألقتها في صندوق القُمامة، ثم نظَّفته جيدًا، واستمتعت لحظةً ببياضه الناصع قبل أن تنقُل إليه الأكواب والحلل المغطاة بالصابون، ثم أسالت المياه وبدأت الشطف (وهي عملية كان من الممكن اختصارها لو كان لديها حوض الصلب الذي يصدأ).
كافأت نفسها عندما انتهت بكوب من الشاي احتسته في الصالة، ثم عادت إلى المطبخ وفكَّت لفافة السمك، فألفتها تحتوي على قطعتَين كبيرتَين؛ إحداهما رأس بارز العظام، والثانية طرف عظمَي من الذيل. تلمَّست فيهما جوانب تؤكل فلم تجد، فوضعتهما جانبًا (وهي تتدبَّر أمر تقديمهما لقطط السلم) بعد أن لامت نفسها على أنها لم تفحص محتويات اللفافة قبل أن تغادر الكشك، وتحوَّلت إلى الرنجة.
شقَّت إحدى العبوات البلاستيكية بالسكين، وانتزعت السمكة المجفَّفة، ففوجئت بها تتفتَّت في يدها. جرَّدتها من قشرتها في عناية، واستخرجت شوكتها الداخلية، فبانت أحشاؤها المهترئة. التقطت جزءًا منها بفمها ومضغته فوجدته لاذعًا. انتزعت سمكةً أخرى من غلافها وشقَّت بطنها فألفتها بنفس التهرُّؤ والمذاق الذي يشبه مذاق الخل. وهي نفس النتيجة التي حصلت عليها من السمكتَين الباقيتَين.
التقطت الأغلفة البلاستيكية وتأمَّلت البطاقات الصغيرة التي تحمل تاريخ الإنتاج والصلاحية. كان الأول يشير إلى نفس الشهر، والثاني للعام كله. لم يكن من العسير تخيُّل ما حدث؛ فسدت الرنجة فنقعوها في الخل لإخفاء التغير في طعمها ووضعوها في عبوات جديدة؛ ولهذا السبب عُرضت للبيع بسعر مخفَّض.
انحنت على الحوض وهي تتنهَّد في يأس. ماذا تفعل الآن؟ تذهب إلى الكشك تحت الشمس اللاسعة وتحاول استرجاع نقودها؟ وإذا رفضوا تذهب إلى المكتب إياه لأداء واجبها ومنه إلى مركز الشرطة، فالتصحيح وهمت والماكينات التي ستسخر منها ثم تقاطعها. تصوَّرت تعليق أمين الشرطة: «سمكة فاسدة؟ يبقى متكليهاش.» معه حق؛ فالموضوع تافه، شديد التفاهة. شعرت بالدموع تتجمَّع في عينَيها، فألقت بالسمك والرنجة في صفيحة القُمامة، وتحاملت على نفسها، فغادرت المطبخ واتجهت بخطوات متثاقلة إلى المبكى؛ المرحاض.