هواجس الشك ويقين الإيمان
ماتت ستي الحاجة في دارها في قريتها كفر طحلة، ظلَّ أهل الكَفر يتحدثون عن موتها كما تحدثوا عن موت أمها.
لم أشهد موتها، لكنني زرتُ القرية بعد عامين، كانت عمتي فاطمة لا تَزال تحكي الحكاية، ما إن جلست إلى جوارها حتى قربت فمها من أذني وراحت تُعيد القصة من أولها لآخرها، تُردِّدها كل يوم بلا كلل أو ملل حتى ماتت هي الأخرى، صوتها يسري في الليل كأنما سمعتها بالأمس وليس منذ أربعين عامًا تقريبًا.
«ستك الحاجة ماتت موتة الكل يتمناها، صحيت الفجر زي عادتها، اتوضت وصلت ونادت عليَّ، صحيت على صوتها يقول: يا فطنة، قلت عاوزة إيه يا أمه، قالت باين يا بنتي العمر خلاص، نادي على اخواتك كلهم، وابعتي حد يسافر مصر يقول لاخوكي السيد تعالى حالًا، أمك عاوزة تشوفك قبل ما تموت. قلت: يا امه الشر برة وبعيد، وانتي كويسة خالص.
كانت ما شاء الله زي عادتها، قامت كنست الدار ورشت القاعة بمية الزير، ولبست الجلابية السودا، وبخرت القلَّة، وحطت فيها مية الزهر. وقالت: لأجل أخوكي السيد يشرب منها، أصله يا ضنايا ماكانش يشرب الميه إلا وعليها الزهر. ورقدت على الحصيرة وراسها ناحية القبلة، وقالت: عشان اموت وراسي ناحية مكة المكرمة وقبر الرسول صلاة النبي عليه ألف صلاة. يا ضنايا يا ابني لما تيجي وتشوف امك وهي بتموت، دا انت يا ابني طول عمرك قلبك حنين، لكن خلي قلبك شديد يا عين امك، ده انا رايحة الجنة حدف؛ لأجل زرت قبر النبي، وعملت الخير، وربيت خمس بنات يتامى، وأخوهم الشقيق وأخوه الشيخ محمد من الأب. قومي يا فطنة ادبحي فرخة واعملي شوية ملوخية لاخوكي السيد، ونادي على نفيسة تحمي الفرن وتعمل فطيرتين، وخلي زينب بنت بهية تروح الغيط تجيب شوية تين.
وفضلت ستك الحاجة على كدة من الصبح لغاية المغرب، وكانت تسكُت شوية ونقول خلاص ماتت، وبعد شوية تصحى وتقرأ سورة يس وتكلم عزرائيل كأنه واقف قصادها، تقوله: ابعد عني يا عزرائيل لغاية ابني ما ييجي، نفسي أشوفه قبل ما اموت، لا يمكن تاخدني يا عزرائيل قبل ما اشوف ابني السيد. قومي يا فطنة شوفي اخوكي اتأخر ليه، وانت يا واد يا حسني خد البريزة دي هات باكو شاي وسكر من دكانة عمك الحاج عفيفي علشان خالك السيد بيه لما ييجي والرجالة تملا الدار. وانتي يا بت يا نعيمة هشِّي الدبان من على وشك عشان خالك البيه يقول عليكي نضيفة وحلوة، وانتي يا نجية خدي الزلعة امليها من البحر عشان مية الزير قربت تخلص.
وفضلت ستك الحاجة على كدة طول النهار، تموت ونتشاهد عليها وبعدين تصحى وتقول: ابعد عني يا عزرائين ربنا يخدك، هو السيد ابني لسه ماجاش؟ أنا شيفاه أهه جاي على المزلقان! قومي يا بت يا فطنة قابلي اخوكي على المزلقان! وقمت زي ما ستك الحاجة قالت لي، ولقيت ابوكي جاي ع المزلقان، كان يا عين امه وشه اصفر زي اللمونة. ركب أول قطر لغاية بنها، وبعدين ركب التاكسي وقف بيه في السكة فوق الجسر بعد طحلة بشوية، وجه ماشي لغاية المزلقان. وستك الحاجة راسها وألف سيف لا يمكن تموت ولا تخلي عزرائيل يقرب لها إلا بعد ما تشوفه. وأخذْتُه بالحضن ع المزلقان، وقلت له امك مستنياك يا اخويا. وكانت ستك الحاجة خلاص اتشاهدوا عليها وغطوها، لكن أول لما سمعت صوت ابوكي شالت الغطا، فتحت عينيها وأخذته في حضنها زي عوايدها، وهي تقول له: اتأخرت كدة ليه يا ابني؟ قال لها التاكسي وقف في السكة يا امه، قالت له بركة اللي جيت يا ابني، وكانت دي آخر كلمة قالتها ستك الحاجة، وماتت ورأسها ناحية القبلة، ونور النبي من حواليها صلاة النبي أحسن.»
كنت أسمع إلى صوت عمتي فاطمة وأتلفَّت حولي في بيت ستي الحاجة، كأنما رُوحها لا تزال تعيش، أراها واقفةً عند الباب تحوم حول الفرن، أو جالسة مُنتصبةً فوق عتبة الباب، أو فوق الحصيرة في الليل تطرد بذراعيها عزرائيل ثُمَّ تخفي فمها بطرف الطرحة السوداء، وتضحك حتى تدمع عيناها بالضحك وتهمس: «اللهم اجعله خير يا رب.»
لم تختفِ روح ستي الحاجة إلا بعد أن مات أبي، ربما كانت تَنتظره حيث يلحق بها في العالم الآخر، أو ربما لأني كبرت أكثر وعرفت أن الروح لا تنفصل عن الجسم ولا تعود بعد الموت. كنت قد درست الطب وقرأت الكثير خارج الطب، وتخلَّص عقلي من الخرافات، إلا أنَّ روح ستي الحاجة كانت تبدو لي كأنما هي مصنوعة من مادة روحية أو ربما هي أمها أو جدَّتها الغزاوية وأورثتها هذه الروح عن «عشتار» أم الطبيعة والخصوبة، أو «نون» إلهة تكون الأنثى قبل ظهور الإله الذكر.
عام ١٩٤٧م حصلت على شهادة «الثقافة»، ثُمَّ انتقلت إلى السنة النهائية في المرحلة الثانوية، كانوا يُسمُّونها «التوجيهية». دخلت القسم العلمي وليس القسم الأدبي أو قسم الرياضيات، كنتُ أفضِّل دراسة الكيمياء والطبيعة والأحياء أكثر من التاريخ والجغرافيا وغيرهما من علوم الرياضة.
كانت مرحلة الثانوية في مدرسة البنين خمس سنوات وليست ستَّ سنوات كما في مدارس البنات، سألتُ أبي عن سبب هذه التَّفرِقة، قال: إنَّ وزارة المقارف «المعارف» تتصوَّر أن البنات ناقصات عقل ودين، يُحصِّلن في ست سنوات ما يُحصِّله البنون في خمس سنوات. وكانت هناك موادة إضافية تُدرَّس للبنات فقط؛ مثل مادة رعاية الطفل، والخياطة، والتطريز، والطهي، وعمل الكحك، ودعك الزجاج والبلاط والمراحيض.
كنت أَهرب من هذه الحصص بادِّعاء المرض، أربط رأسي بمنديل أسود مثل النساء الثَّكالى وألزم السرير في العنبر حتى تأتي إليَّ الحكيمة، كانت امرأةً سمينة قصيرة تتهادى فوق الأرض بخطوة بطيئة مثل البطة، تجلس على طرف سريري، وتضع يدها البضة فوق جبهتي، أُغمض عيني حتى لا ترى «النني» الأسود القابع تحت جفوني، المُتأرجِح بالحياة والصحة، والمُشتعِل بالرغبة في مواصلة الرِّواية التي أخفيها تحت الوسادة: «انتي سخنة شوية يا بنتي، ويلزمك راحة وإسبرين، وبكرة تبقي كويسة إن شاء الله.» تضع في كفي ثلاث حبوب بيضاء صغيرة، أُلقيها في المرحاض في دورة المياه، وأعود إلى الفراش، وأواصل قراءة الرواية.
إنَّها رواية «جين إير» باللغة الإنجليزية، تُدرِّسها لنا «مس سنية»، الوحيدة بين المدرِّسات التي تَبتسم حين نلتقي، الوحيدة التي سمعتها تقول: نوال موهوبة، الوحيدة التي تُشرق الشمس بظهورها وتختفي بغيابها.
بدأت الضربات تتصاعَد تحت ضلوعي في حصة الأدب الإنجليزي، لم أعرف، أهو حبي للأدب أم هو مس سنية؟ كانت تُشبه مس إيفون في مدرسة منوف، الخطوة الرشيقة الممشوقة ذاتها، إلا أن قامتها أطول من مس إيفون وبشرتها أقل سمرة، والخفقات تحت ضلوعي أشد قوة، تُذكِّرني بالحب الأول وحرف «الفاء»، الروح المحلِّقة في السماء بلا جسم، عيناي في الحب لا يريان من الجسم إلا العينين، ولا يَريان من العينين إلا البريق الخاطف بلون العسل النقيِّ الصافي كعيني أمي. كانت تتمشى في الفصل وهي تقرأ لنا من رواية شارلوت برونتي، أو جين أوستن زو إميلي برونتي، ثلاث نساء روائيات نَدرسهم في حصة الأدب الإنجليزي، لم ندرس روائية واحدة في الأدب العربي، ألم تكن هناك أديبات يكتبن باللغة العربية؟! في مكتبة المدرسة لم أعثر على امرأة أحلامي دون جدوى، لم يكن أمامي إلا طه حسين.
بدأت مس سنية تلوح في خيالي، قلبي يَخفق لمرآها، عيناها العسليتان تُذكِّرني بأمي، هل كنتُ أبحث عن الأم الغائبة في منوف أم الحب الأول المكبوت؟ لم أتصوَّر أن لها جسد امرأة أو رجل، لم يكن الحب يرتبط بنوع الجنس، كان نوعًا آخر من الاحتياج يرتبط بنوع الإنسان، أو الإله، الذي كنت أبحث عنه في طفولتي دون جدوى.
كانت تنطق اللغة الإنجليزية بلهجة أخرى غير الإنجليزي، كأنما هي تصنَع لغتها الخاصة، وصوتها الخاص، ومشيتها الخاصة، والبريق في عينَيها حين تراني يَنتشلني من غربتي في الدنيا، تتبدَّد الوحشة ويَنقشِع الحزن المجهول الدفين في أعماقي، أتحوَّل فجأة إلى إنسانة مَرِحة، أضحك وأرقص وأغني، يُجلجل صوتي في الكون، أكاد أعانق الشمس بذراعي وأنا أجري وأجري في الفناء الواسع، لا شيء يوقفني إلا السور الحجري العالي.
ولأنني لا أعرف التخفِّي أو السرية فقد عرفت المدرسة كلها قصة الحب، ما إن تفتح «مس سنية» باب غرفتها في قسم المدرسة الداخلي حتى تتبارى البنات في البحث عني لأَترُك كل شيء وأجري أطلُّ عليها وهي تمشي في الممر لتدخل دورة المياه الخاصة بالمدرِّسات، أو تهبط السلم لتذهب إلى أحد الفصول أو لتذهب إلى الفناء أو أي مكان آخر في الكون.
كانت قصص الحب بين التلميذات والمدرِّسات أمرًا عاديًّا أحيانًا، نشترك ثلاث أو أربع بنات في حب مدرسة واحدة، تشتعل القلوب بالغيرة والتنافُس، وتزداد المدرِّسة زهوًا وفخرًا بازدياد عدد الواقعات في حبها.
أكثر البنات وقعْنَ في حب أبلة نفيسة مدرِّسة الرسم، لا أعرف لماذا، كانت في نظرهنَّ أكمل المدرسات وأرشقهنَّ وأكثرهنَّ رونقًا، إلا أنني لم أكن أنجذب إليها، كانت أشبه بالدمية أو اللوحة المرسومة بإتقان، ملامحها شديدة التناسق إلى حدِّ فقدان الشيء المميِّز للجاذبية، شخصيتها أيضًا كملامحها تَفتقد الشيء غير العادي أو غير المألوف.
أبلة نفيسة كانت أليفةً مألوفة، لا يمكن لها أن تحرِّك خيالي، إنها تشبه الأميرات أو زوجات الملوك والرؤساء، هذا النوع من النساء لا يظهرْنَ إلا في كامل الزينة وفي ظلِّ الرجل، ثُمَّ يختفين فجأة باختفائه، يُطلَق عليهن «حرم صاحب الجلالة أو صاحب المعالي أو السيادة»، لكن مس سنية كانت مُختلفة، لا أعرف كيف؛ فهي لا تُشبه واحدةً من النساء، خاصة هؤلاء اللائي يُمكن أن نسميهنَّ «نساء الظل»، وهي تظهر بلا زينة ولا مكياچ، وليست جزءًا من موكب الناظرة أو الوزير حين يَزور المدرسة.
أحببتُ الأدب الإنجليزي لأنها هي التي كانت تدرِّسه لنا، كنت أَنتظر حصتها كمن ينتظر قطرة غيث في صحراء، ألتقط كل كلمة تخرج من بين شفتيها كأنَّما هي درة، يستقرُّ درسها في ذاكرتي دون مذاكرة، أحفظه عن ظهر قلب دون قراءة، مجرد السماع فحسْب وأنا جالسة في حصتها عيناي شاخصتان إليها كالمغناطيس، وأذناي مفتوحتان، لا يفوتني حرف واحد، تَلكزني صفية الجالسة إلى جواري فلا أحس، يَشتعل حريقٌ في الفصل فلا أنتبه إليه؛ إن حواسِّي كلَّها مع عقلي وخيالي قد تجمَّعت وتركَّزت في هذه النُّقطة المَحدودة من الكون حيث هي تكون.
ثُمَّ جاءت الصدمة التي ضيَّعت السحر ومعه الحب، كان ذلك في بداية الصيف عام ١٩٤٨م، كان الامتحان النهائي على الأبواب، وتعوَّدتُ مثل بنات الداخلية أن أمشي في الممرات الطويلة أمام العنابر في يدي الكتاب أراجع الدروس، كان هناك ممرٌّ يدور حول غُرف النوم الخاصة بالمدرسات، وهو الممرُّ المفضَّل لدى البنات لأسباب يعلمها الجميع، لم أكن أقترب من هذا الممرِّ، أخشى أن تفتح مس سنية بابها فتراني وتُدرك أني أنتظرها، ألا تعرف أني أنتظرها؟! كنت أتظاهر بالرَّزانة والثقل، ولست خفيفة أو شعنونة مثل البنات الأخريات.
كان اليوم الجمعة، ولم تكن مس سنية كغيرها من المدرسات تقضي يوم الجمعة في المدرسة، تحمل حقيبتها الصغيرة بعد نهاية الحصص يوم الخميس ولا تعود إلا يوم السبت صباحًا. هكذا كنت أتمشى أيام الجُمَع في ذلك الممر دون حرج، أرفع وجهي من فوق الكتاب لأَرمق باب غرفتها المغلق ثُمَّ تعود عيناي إلى الكتاب، كنتُ أعرف أن غرفتها خالية منها، أن المدرسة كلها خالية منها، بل إن الكون كله قد أصبح خاليًا خاويًا فارغَ المعنى؛ لهذا كنت أتمشى في الممر وأرمق بابها، كأنما الباب قد أصبح جزءًا منها، ومع شيء من الخيال يمكن أن يكون الكل ويعود للكون معناه.
فجأة انفتح الباب في اللحظة التي مررتُ بها أمامه، ورأيتها أمامي، تسمرت في مكاني فاقدة النطق، لكني رأيتها، كانت ترتدي قميص نوم وفوطة على كتفها وفي يدها صابونة، منظر عادي تمامًا، إلا أنه كان مفتوحًا عند الصدر، ولمحتُ ذلك الشيء البارز في صدور النساء والذي يسمُّونه «الثدي»، بعقلي الواعي كنتُ أقول لنفسي: إنَّها امرأة، ولا بدَّ أن يكون لها ثدي ورحم وكل شيء، إلا أنها فكرة مجرَّدة، أمَّا أن يصبح للفكرة لحم ودم فهذه هي الطامة الكبرى.
أصابتني الصدمة بما يُشبه الغثَيان، كنت أظنها من فصيلة الأرواح، وكم رأيتُ ثدي أمي وهي تُرضع الطفل وراء الآخر، وكم رأيت من أثداء الزميلات في الداخلية، إلا أنني لم أشعر بالنفور كما حدث لي هذه المرة، لماذا؟ لم أعرف، كانت صدمتي فيها كبيرة حين اكتشفتُ أنها أنثى، أصابتني الفجيعة فيها كأنما هي المسئولة، أو كأنما خدعَتْني في الظاهر وهي في الباطن شيء آخر.
تبدَّدتْ نشوة الحب مثل سحابة الصيف الرقيقة، لم يعد لوجودها في الكون السحر القديم، إلا أن علاقة خاصة ظلَّت تَربطني بها، صورتها الأولى ظلت في خيالي بعد أن تركت المدرسة، احتفظت في درج مكتبي بصورتها وهي تلعَب التنس، طويلة ممشوقة تَبتسم بإشراقة الشمس. مضت أربعة أعوام أخرى ثُمَّ التقَيتُ بها مصادفةً في شارع قصر العيني، لم أتعرَّف عليها، تحوَّلتْ في أعوام أربعة إلى امرأة عرجاء عجوز. رفعت وجهَها وابتسمَت، تعرَّفتُ على الابتسامة والبريق العسلي. مش معقول! مس سنية؟!
نطقتُ اسمَها بسهولة، وكان هذا الاسم يصيبني بالخرس وقلبي تحت الضلوع يتوقَّف، انتي فين يا نوال؟! في كلية الطب هنا في شارع قصر العيني، يعني حتبقي دكتورة مش أديبة! وتلعثمتُ لم أعرف بماذا أردُّ، كأنما دخولي كلية الطب كان خيانةً لها، «نوال، انتي موهوبة، خسارة تدخلي الطب.» «وانتي فين يا مس سنية؟» «أنا انتقلت لمعهد الموسيقى هنا في شارع قصر العيني.»
في الشارع نفسه على بُعد دقيقتَين بالخطوة السريعة، كنتُ أزورها في معهد الموسيقى، في كل مرة يتدهور بها الحال، كانت مُصابة بمرض لا علاج له في الطب، يُسمُّونه التهاب المفاصل المزمن، بالإنجليزية «روماتويد أرثرايتس».
آخر مرة رأيتها كان في عام ١٩٥٥م، بعد أن تخرَّجتُ وأصبحت طبيبة امتياز في قصر العيني، أصبحتْ عاجزةً عن تحريك مفاصل يدَيها أو قدميها، كان وجهها رغم ذلك يُضيء حين تراني، يعود البريق إلى عينيها العسليتين، وقلبي كان يئنُّ لماذا هي بالذات تُصاب بهذا الداء، لم يكن هذا المرض يُصيب إلا واحدًا في المليون من البشر.
ثُمَّ ماتت قبل أن تموت أمي بعام واحد.
•••
اشتهرت في مدرسة حلوان أنني عاشقة للأدب والشعر والنثر، في الحفلات المدرسية كنتُ أقف على المنصة وأُلقي كلمة من تأليفي أو قصيدة شعر، أكبر الاحتفالات كانت بعيد ميلاد الملك أو عيد مولد النبي، كانت هجرة النبي من مكة إلى المدينة المنورة من الاحتفالات الكبيرة أيضًا، يُسمونها «عيد الهجرة».
عام ١٩٤٨م أقامت المدرسة احتفالًا كبيرًا بعيد الهجرة، قبل الاحتفال بيومين جاءني المدرِّس وطلب منِّي إعداد كلمة أُلقيها في الاحتفال. حبستُ نفسي داخل المكتبة، قرأتُ عن حياة النبي محمد، ولدتْه أمُّه آمنة بنت وهب، ماتت وهو رضيع، كفَله عمُّه عبد المطَّلب، أصبح راعيًا للإبل في الصحراء، اشتهر بالأمانة فسماه الناس الأمين، كان محبوبًا في قبيلته قريش، تزوجته السيدة خديجة من أشراف القبيلة، عهدتْ إليه بأموالها ليتاجر فيها، كان يعتزل في غار حراء يفكر ويتعبد، نزل إليه سيدنا جبريل بالقرآن، قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. لم يَفهم النبي محمد ماذا يعني جبريل، أصابه الذعر، وعاد إلى زوجته خديجة يرتعد، أسنانه تصطك، قال لها: دثِّروني دثروني، هدَّأت السيدة خديجة من روعه وشرحت له الأمر، أرسل الله إليكَ جبريل يُبلغك بالرسالة، أنت نبي الإسلام، انهض وبلِّغ الرسالة للناس.
كانت السيدة خديجة هي أول المسلمين الذين آمنوا بسيدنا محمد، من بعد ذلك دخل الناس في دين الله أفواجًا، إلا أنها كانت الأولى، لولاها ما بدأ زوجها رسالته وما بدأ الإسلام. هكذا قال لي أبي، شعرتُ بالفخر لأنها امرأة مثلي، أتحدى بها عمي الشيخ محمد حين يقول: إن الله لم يخاطب النساء في القرآن، وأنه لم يَذكر اسم امرأة واحدة في كتابه الكريم إلا مريم أم المسيح سيدنا عيسى عليه السلام.
بدأتُ أقرأ القرآن من الغلاف، أدركت أن كلام عمي الشيخ محمد صحيح، لم يَذكر الله اسم حواء ولم يخاطبها إلا من خلال زوجها آدم، لم يَرِد ذكرُ السيدة خديجة بحرف واحد مع أنها أول من وضع الحجر الأساسي في صرح الإسلام، وهي التي وجَّهَت زوجها نحو الطريق الذي جعله نبي المسلمين.
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي، لم يكن أبي يعرف الإجابة عنها، يَكتفي بقوله: هذه حكمة الله، وهناك أشياء في الدين تؤمن بها قلوبنا؛ لأنَّ العقل البشري عاجز عن الإلمام بحكمة الله.
لم تكفَّ الأسئلة عن الدوران داخل رأسي، أصابني صداع مزمن مجهول السبب، قالت لي حكيمة المدرسة: إنه بسبب فوران الدم في سنِّ المراهقة، أعطتني حبوب الإسبرين وأقراصًا أخرى.
كانت حرارتي تهبط لكنَّ الألم ينتقل إلى أجزاء أخرى من جسمي، تشتدُّ الآلام في أيام الحيض؛ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، ألزم الفراش في هذه الأيام وأعتزل العالم، أقول لنفسي: «بيدي لا بيد عمرو.» سأعتزل أنا العالم ولن أعطيه الفرصة كي يعتزلني، يتمرَّد جسدي على جسدي وتتقلص العضلات في أحشائي فيُصيبني المغص الحاد، ما إن أرى الدم في ملابسي حتى أشعر بالغثيان، أكفُّ عن الأكل وإن قرصني الجوع، وإذا أكلتُ تقيَّأتُ.
لا أكفُّ عن تطهير نفسي، أغسل جسمي بالمياه الساخنة والصابون عدة مرات، أكاد أنقع نفسي في الماء المغلي والصودا الكاوية، أفتح الدش فوق رأسي وأتشهد، كما أنا في معركة أموت فيها من أجل الطهارة وابتغاء مرضاة الله، اقرأ الفاتحة والشهادة وبعض أجزاء من سورة مريم أو سورة النساء، تصورت أن هذه السور تناسب هذه الحالة النسائية أكثر من السور الأخرى.
لحسن الحظ جاء عيد الهجرة في يوم لا أعاني فيه من الأذى، كنتُ أخشى أن تأتي المناسبة الطاهرة في يوم لا أكون فيه طاهرة، كان المدرِّسون يقولون لنا: إن النساء في أيام المحيض يجب ألا يقفن بين يدي الله للصلاة، وألا يقرأن بصوت مسموع أو غير مسموع حرفًا واحدًا من القرآن الكريم أو أحاديث الرسول ﷺ. كنتُ أرتعدُ في الحصة حين يُطلَب منِّي قراءة شيء من هذه الكلمات المقدَّسة، كان الموت أهون من الإعلان في الفصل عن حالتي من حيث المحيض، منذ أدركني هذا الأذى وأنا أخفيه عن الناس جميعًا بمن فيهم أمي وأفراد أسرتي في البيت، كأنما هو جريمة أو إثم عظيم أنا المسئولة عنه.
منذ أن طلب منِّي المدرس أن ألقي كلمة في عيد الهجرة وأنا أدعو الله أن يمنع عني الأذى ذلك اليوم، لم يكن لي أن أقف فوق المنصة أتحدَّث بصوت عال تسمعه الآذان عن الهجرة النبوية الكريمة، وأستشهد بآيات من القرآن والأحاديث الشريفة وأنا ملتبسة بما يستوجب اعتزال النساء حتى يتطهرْن. وكنتُ أقترف الإثم في السر وأنا أُعدُّ كلمتي داخل المكتبة، كنت أعرف أن الله يراني ويعرف متى يأتيني المحيض، وكم عذبتني هذه الفكرة التي لم تُفارقني منذ الطفولة.
حفظتُ كلمتي عن ظهر قلب لأُلقيَها في الاحتفال بعيد الهجرة، كانت قبيلة قريش تؤمن بالأصنام، وهي تماثيل من الحجر لا تنفع ولا تضر، كان سيدنا محمد يدعو الناس للإيمان بالله الواحد الأحد والقرآن الكريم. استعدَّت قريش لقتل النبي فهرَب منها في ظلام الليل، رقد في فراشه ابن عمه «علي بن أبي طالب»، في الطريق إلى المدينة المنورة اختبأ النبي وصاحبه في كهف مهجور، أرسل الله عنكبوتًا فنسج خيوطًا فوق الباب، هذه معجزة من معجزات الله، رأى كفار قريش خيوط العنكبوت فلم يدخلوا الكهف، قال لهم عقلهم أن لا أحد دخل الكهف وإلا تمزقت خيوط العنكبوت على الباب، مضوا في طريقهم، خرج النبي محمد وصاحبه من الكهف، وصلوا إلى المدينة المنوَّرة سالمين، استقبلهم جموع الأنصار بالفرح والتهليل.
وقفت على المنصة في مدرسة حلوان، القاعة مليئة بالتلميذات والمدرِّسات والمدرِّسون جالسون في الصفوف الأمامية، تتوسطهم الناظرة والضيوف من وزارة المعارف، أنا واقفة مشدودة القامة مرفوعة الوجه نحو السماء، أُلقي كلمتي بصوت أبي، يتهدَّج صوتي وأنا أنطق اسم الله تعالى، أحرِّك ذراعي في السماء وأنا أقول: معجزة من معجزات الله، أن يأتي العنكبوت في هذه اللحظة وينسج خيوطه فوق الباب! أضغط على مخارج الألفاظ والحروف، أمدُّ كلمة العنكبوت من علامة التأكيد والإيمان المطلق بمعجزة الله، أحسُّ الخفقان تحت ضلوعي والدموع تكاد تقطر من عيني. أسمع التصفيق يدوي في القاعة فأُعيد المقطع عن العنكبوووووت بصوت أم كلثوم أو عبد الوهاب يغني أحد المواويل أو الشيخ محمد رفعت في الراديو يتلو القرآن باللحن البطيء الممطوط.
أصبحتْ لي سُمعة طيبة في المدرسة، يشيرون إليَّ بالبنان، هذه هي التلميذة المثالية، تجمع بين العلم والإيمان، تتفوَّق في الكيمياء والفيزياء والبلاغة وفصاحة اللسان، تَكتُب النثر والشعر وتحفظ الأحاديث والقرآن.
هكذا ارتبط الأدب العربي في خيالي بالإسلام، بدأ الدين يدخل وجداني مع حبي للأدب، نسيتُ طفولتي، لا أعرف كيف تحولت من طفلة تشكُّ في عدالة الله إلى فتاة رشيدة شديدة الإيمان، فقدتُ قدرتي الفطرية على اكتشاف التناقُضات، وفي النوم لم يعد الله يتجسد أمامي بشكل آدمي أو غير آدمي، الشيطان أيضًا غاب عن أحلامي، من تحت الوسادة يسري إليَّ صوت التصفيق الحاد يدوِّي في القاعة، فكَّاي يَنفتحان عن آخرهما، أتثاءب، أشد قصة العنكبوت وأتشدَّق بمعجزات الله.
أفتح عيني في منتصف الليل أشعر بالإثم، أنهض إلى دورة المياه أتوضَّأ ثُمَّ أعود إلى العنبر على أطراف أصابعي، أفرش قطعةً من ملابسي فوق البلاط كأنما هي سجادة صلاة، أتهجد لله ركعتين أو ثلاثًا، أقرأ بصوت غير مسموع بعض الآيات من القرآن الكريم، كانت هي الآيات ذات الجرس الموسيقي كأنما قصيدة شعرية ذات وزن وقافية: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
كنت أتغنَّى بهذا المقطع الأخير كأنما أنشودة: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. عيناي تدمعان وأنا أنطق كلمة الموءودة، كأنما أنا التي وئدتُ منذ ولدت.
كانت طفولتي في طريقها إلى الزوال الكامل، الفتاة المثالية الناضجة بدأت تُسيطر على عقلي وجسدي، ذكريات الطفولة أصبحتْ كالإثم تستوجب الاستئصال من الذاكرة، شبح الحب الأول كأنما شبح شيطان أو الخطيئة الأولى، ثُمَّ طغى الإيمان الكامل على بقايا الشكِّ، وبدأتُ أنحدر إلى اليقين بخطوة ثابتة تُشبه خطوة أبي.
أصبحتُ المثل الأعلى للبنات في التقوى والصلاح، أُواظب على الصلاة وصيام شهر رمضان العظيم، أنطق الكلمات بلغة عربية فصيحة، أدعم كلامي بآيات من كتاب الله الكريم أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
•••
جاءت شهادتي «التوجيهية» ناجحة بامتياز، أردت أن أدخل كلية الآداب لأُصبح أديبة، قال أبي أن كلية الآداب لا تُخرج إلا الموظفين أو الكتبة وليس الأدباء، ثُمَّ ما مستقبل الأدباء يا نوال؟ يعيشون ويموتون فقراء مثل الشاعر الديب، يردِّد أبي بعض أبيات يسخر فيها الشاعر من فقره، ومنها ذلك البيت يقول فيه: وكأنني حائط كتبوا عليه: هنا يا أيها المزنوق طرطر! تضحك أمي وتقول: «آداب إيه يا نوال، دي الكلية اللي بيدخلها الطلبة الساقطين أو الواخدين درجات واطية، وانتي واخدة أعلى الدرجات، ادخلي كلية الطب، يمكن تبقى دكتورة مشهورة زي الدكتور علي إبراهيم، وكمان تعالجينا ببلاش!»
في أحلامي كنت أرى نفسي أديبة مثل طه حسين، فأنا أحب اللغة العربية، حروفها وكلماتها وجرسها الموسيقي في الأُذن، كنتُ أؤمن أن الله وحده هو الذي خلق اللغة العربية، فضَّلها على غيرها من اللغات وأنزل بها القرآن. تصورتُ الإنجليزية صنعها البشر، لكن العربية لغة إلهية من صنع الله سبحانه وتعالى، والأُمَّة العربية هي خير أُمَّة خلقها الله. وأمشي في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، أرمق الإنجليز من علياء، إنهم يتكلمون لغة بشرية ويَنتمون إلى أُمَّة أدنى، لم يَرِد ذكرها في كتاب الله الكريم، في النوم تصحو الطفلة الخرساء تسألني بلا صوت: «يعني إذا كان ربنا بيحبنا أكثر من الإنجليز، ليه خلاهم بينتصروا علينا ويحتلونا، وهم اللي يكتشفوا قوة البخار والكهرباء والراديو واللاسلكي والطيارة والغواصة؟!»