أُلفة الموت
دخلت كلية الطب خريف ١٩٤٨م، السنة الأولى التي يسمُّونها الإعدادية، نتلقى المحاضرات في مبنى كلية العلوم في المبنى الرئيسي للجامعة.
كلمة «الجامعة» كان لها رنين ساحر في الآذان … جامعة فؤاد الأول في الجيزة، القبَّة الضخمة والساعة المنتصبة في السماء تدوي بشكل مهيب تقشعرُّ له الأبدان، لم يكن يدخلها إلا الرجال، ثُمَّ فُتحت أبوابها أخيرًا للنساء. في القاعات يجلس الطلبة إلى جوار الطالبات … الدقات تتصاعد تحت ضلوعي لمجرد الفكرة … أيُمكن أن يكون هناك اختلاط بين البنات والجنس الآخر من الرجال؟! ثلاث كلمات تجعل الدم العذريَّ يصعد إلى وجهي: الاختلاط، الجنس، الرجال.
لم يكن الاختلاط بين الجنسين مُباحًا إلا في مدارس رياض الأطفال وفي الجامعة، بينهما كان الاختلاط ممنوعًا؛ أي في المدارس الابتدائية والثانوية، قضيتُ عشر سنوات في هذه المدارس (أربع سنوات في الابتدائية وست سنوات في الثانوية).
عضلة القلب تنتقض وأنا أمشي في الشارع قبل أن أَدخل من الباب، كأنما سأقع في حبِّ أول رجل ألتقي به في الجامعة، أشدُّ عضلات وجهي وجسمي، أرسم فوق جبهتي تكشيرةً وأمطُّ شفَتي. السابعة عشرة من عمري، ياه! سبعتاشر سنة؟! يرنُّ الرقم في أذني ضخمًا، كأنَّما سبعون أو سبعمائة، منذ بلغت السابعة من عمري يقولون عني كبيرة، أكبر البنات … جميع البنات في آل سعداوي وشكري بيه تزوجْنَ وأصبحْنَ أمَّهات قبل أن يَبلغْن السابعة عشرة من عمرهنَّ.
كان لعمي الشيخ محمد ابنة من زوجته الأولى في كفر طحلة اسمها فوزية، كان يُمكن أن تدخل الجامعة مثلي، لكنه زوَّجها من مدرس في قرية اسمها «بلتان» بجوار كفر طحلة، «الاختلاط في الجامعة فيه خطورة على البنت يا سيد أفندي.» يَهمس عمي في أذن أبي بصوت كفحيح الشيطان … تتصدى له أمي بصوتها العالي: «بنتنا نوال نرميها في النار ترجع سليمة، نوال غير كل البنات يا شيخ محمد.»
كلمات أمي تنتشلني عاليًا فوق رءوس البنات كما كانت ذراعاها ترفعانني فوق أمواج البحر وأنا طفلة. منذ دخلتُ كلية الطب تُناديني أمي بلقب الدكتورة، أبي يَمنحني هذا اللقب أمام الضيوف فحسب، يمطُّ عمي الشيخ بوزه في ضيق كأنما بيني وبينه ثأر قديم أو عداء موروث مجهول الأصل، لم يكن يَنطق باسمي، يناديني بكلمة واحدة، هي: «يا بت!» ترنُّ في أذني نابية، فلا أرد عليه، «أنا باكلمك يا بت ردي عليَّ.» أُعطيه ظهري كأنما هو غير موجود، «رايحة فين يا بت، تعالي هنا سمَّعي سورة البقرة، انتي حافظة القرآن ولا لأ، كتاب ربنا أحسن لك يا بت من كتب الطب! القرآن جامع شامل لكل العلوم … وانت يا واد يا طلعت، تعالى هنا جنبي سمع سورة البقرة!»
كان أخي طلعت أكثر جرأةً منِّي، يرد على عمي الشيخ ساخرًا: «أنا اسمي الأستاذ طلعت، الموسيقار الكبير.» ينتفض عمي الشيخ من فوق الكنبة كمَن لسعته أفعى، تقفز العمامة البيضاء الكبيرة من فوق رأسه، يُمسكها بيديه الاثنتين وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يُهرول داخل قفطانه الواسع.
كانت له مشية تُشبه زوجته في حي العنبري كالبطة المزقمة، جسمه قصير ممتلئ باللحم، له كرش مرتفع مثل امرأة حامل، ساقاه رفيعتان تتأرجَحان ويجري وراء أخي: «تعالى هنا يا واد يا قليل الأدب!»
لم يكن يكسب في هذه المباراة إلا اللهاث، نسمع صوت الهواء يخرج من فمه وأنفه وربما أيضًا أمعائه، كانت زوجته الثانية لا تكف عن إطعامه بالفتة والكوارع بالثوم ومحشي الكرنب، وكان أخي طلعت لا يكفُّ عن الضَّحِك ويسدُّ أذنَيه بأصابعه إذا رآه يدخل المرحاض.
لم يكن أخي طلعت يفعل هذه الأشياء إلا في غياب أبي، أمي تكون بعيدةً عنَّا في المطبخ، تأتي إلينا حين يرتفع صوت عمي الشيخ وهو يؤنِّبنا نحن الاثنين، كنت أشارك أخي هذه الشقاوة الصغيرة، والتي كانت مصدر بعض المباهج الكبيرة في حياتنا.
كان عمي الشيخ محمد مختلفًا كل الاختلاف عن أبي؛ ربما لأنه لم يكن ابن ستي الحاجة، ورث أبي عنها القامة الفارعة المَمشوقة والذكاء الفطري، درس أبي وعمِّي معًا في الأزهر، تخرَّجا معًا، بقيَ عمي في الأزهر أستاذًا أزهريًّا، لا يُدرك من الإسلام إلا الحدود والقيود، اقتحم أبي دار العلوم ومدارس أخرى، بل علَّم نفسه اللغة الفرنسية، كان يمكن أن يكون وزيرًا للمعارف لو دخل لعبة السياسة والأحزاب، إلا أنه ترفَّع عن النفاق أو الصعود إلى السلطات على حساب الكرامة وحرية الرأي.
لم يكن في بيت عمي الشيخ محمد مكتبة تضمُّ كتبًا أخرى غير القرآن والشريعة أو الكتب الدينية، في مكتبة أبي كانت هناك الروايات وقصائد الشعر والتراجم، وكتب مُتعدِّدة في الأدب والنقد والفلسفة والتاريخ. كانت فوزية ابنة عمي الكبرى تحب المدرسة، تَهمس لي حين نلتقي بأحلامها، كانت مثل زينب (ابن عمتي بهية) تحلم بأن تكون أستاذةً كبيرة، أصبحت زوجة لأحد المدرسين في بلدة بلتان، وأنجبت عددًا من الأولاد والبنات. أحيانًا كنتُ أمرُّ على بيتها في طريقي إلى كفر طحلة، وجهها الشاحب الحزين يُذكِّرني بوجه أمها، يبدو عليها الإعياء، أمامها وابور الجاز فوق الأرض، تقلِّب بالمغرفة داخل حلة كبيرة يتصاعد منها الدخان، ابنتها الكبرى إلى جوارها، ترمقني بعينين يكسوهما البريق: «أنا عاوزة يا ماما أطلع دكتورة زي خالتي نوال.» ترمقها أمها بنظرة صامتة، تمصمص شفتيها كأنها تتذكر حلمها القديم، ثُمَّ تخفي وجهها داخل الحلة فوق النار.
أخذتني ابنتها إلى الغرفة الصغيرة، رفعت مرتبة السرير وأخرجت كشكولًا يُشبه مفكرتي السرية وأنا في مثل عمرها، فتحة أصابعها الرفيعة الطويلة تُشبه أصابعي، رأيتُ بين الأوراق فراشةً بيضاء محنَّطة، وورقة صغيرة مطويَّة، فتحتُها فرأيتُ قصاصة إحدى الصحف عليها صورتي، من تحتها مقال لي تحت عنوان: «المرأة إنسان له عقل.»
لمعت عيناها بالدموع وهمست في أذني: «نفسي أكتب زيك يا خالتي نوال.» إلا أنَّ حلمها مثل أمها، اندثر وراح في العدم.
في العام ١٩٤٨، العام الذي دخلت الجامعة، انتقل أبي من منوف إلى الجيزة، قدَّم شكوى إلى وزير المعارف، قال فيها: إن الترقية في الوزارة تعتمد على الوساطة أو القرابة لأصحاب النفوذ، إنه سوف ينشر الشكوى في صحُف المعارضة.
كان للمعارضة ضد الحكومة بعض القوة، انتشرت بين الناس الشائعات عن فساد الملك والحكم، اشتدَّت وطأة الغلاء ومعه التذمر الشعبي، الحركة الوطنية أصبحت تَجتذِب أعدادًا أكبر من الشباب وطلاب الجامعة، المظاهَرات الوطنية تنفجر من حين إلى حين.
أصبح أبي مراقبًا عامًّا للتعليم في محافظة الجيزة، استأجر بيتًا من دور واحد تحوطه حديقة صغيرة، كان الحي جديدًا هادئًا في أول شارع الهرم يُسمُّونه «العمرانية»، يطلُّ على ترعة طويلة يسمُّونها «ترعة الزمر»، نَمَت على جانبيها الأشجار الباسقة، تخترق شارع الهرم من تحت كوبري صغير، لم يكن هناك عمارات عالية أو محلات تجارية … لا نسمع ضجيج السيارات في شارع الهرم الصاعدة إلى الأوبرج وهضبة الأهرامات الثلاثة، أو الهابطة تحت نفق قطار الصعيد إلى ميدان الجيزة وكوبري عباس أو شارع الجامعة وحديقة الحيوان.
لم يكن لأمي أن تسكن في عمارة عالية أو شقة بدون حديقة، كانت تحبُّ أن تفتح النافذة في الصباح فتدخل الشمس وترى الأشجار والخضرة، أصبحت الخضرة ضرورية لها كالهواء والشمس، أبي تربى بين الزرع والحقول، يَستشعِر الحنين دائمًا إلى القرية ودار أمه المفتوحة على المساحات الخضراء.
كل يوم أمشي على قدمي من البيت إلى الجامعة، مسافة ساعة في الصباح الباكر ومثلها في العودة آخر النهار، تعودتُ المشي بخطوة واسعة سريعة، في قدمي حذاء جلدي أسود كعبه مربع متين مثل كعوب الرجال، في يدي حقيبة جلدية سوداء تُشبه حقائب الأطباء، أرتدي تاييرًا لونه رصاصي من الصوف الذي تُصنع منه بدلة أبي، قامتي مشدودة طويلة أطول من زملائي في الكلية، رياضة المشي كل يوم أصبحت ضرورية، يُنعشني الهواء البارد في الصباح الباكر.
أخرج من شارعنا الصغير إلى شارع ترعة الزمر، أسير حتى شارع الهرم، وأتجه يمينًا نحو نفق القطار لأصعد منه إلى ميدان الجيزة، ثُمَّ أنحرف إلى اليسار لأدخل شارع الجامعة. كان شارعًا مهيبًا تُظلِّله الأشجار الباسقة على الجانبين، وأشجار حديقة الحيوان الضخمة تُطلُّ من وراء السور الحجري العالي، يترامى إلى أذني صوت زئير الأسد أو زقزقة العصافير، في الناحية الأخرى كانت مدرسة السعيدية الثانوية التي دخلها أخي طلعت بعد مدرسة منوف.
كالبحر الضخم من الأجسام يُغطُّون أرض الشارع والرصيفين، لا يُمكن لسيارة أن تمر، كلهم ذكور، لم أكن ألمح طالبة مثلي إلا نادرًا، أشعر بالغربة وسط هذا البحر من الرجال، يَمضون في طريقهم بخطوة جادَّة، قد يهمس أحدهم في أذني: «صباح الخير يا جميل.» أمام باب كلية الزراعة كان ثلاثة من الطلاب يَنتظرونني كل صباح.
يهتف واحد منهم حين يَراني مقبلة في الشارع: «سامية جمال أهه!» مجموعة أخرى من الطلاب أمام باب كلية الهندسة، يُطلقون عليَّ اسم «إستر ويليامز»، سألت بعض زميلاتي في الكلية من هي «إستر ويليامز»، عرفت أنها بطلة فيلم اسمه «السابحات الفاتنات»، دخلتُ السينما، ورأيتُها فوق السينما، ورأيتها فوق الشاشة، كانت طويلة رشيقة فامتلأتُ بالزهو. سامية جمال كانت راقصة ممشوقة القامة، لم أرها إلا على الشاشة، تذكَّرتُ أحلامي الطفولية حين رأيت نفسي راقصة رشيقة تَطير في الجو وتمشي فوق الأثير.
كانت هناك أيضًا تعليقات ساخرة، يتهكَّم بعض الطلبة من خطوتي الواسعة الطويلة أو قامتي الطويلة، اقترب منِّي طالب قصير وتطلَّع إلى رأسي العالي وقال ساخرًا: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟»
حين أعود إلى البيت أحكي لأمي وأبي … كانا يضحكان كثيرًا على النُّكتة … أحيانًا تتطلَّع أمي إلى رأسي وتسألني: «يا ترى الهوا عندك فوق حلو؟» لم تكن أمي طويلة القامة، ترتدي الحذاء ذا الكعب العالي وتظلُّ قامتها أقصر منِّي، تشبُّ على أطراف أصابعها وتقول: لو كنت طويلة زي نوال!
في الكلية ألمح العيون ترمقني، في أعماقي أُدرك أن هناك شيئًا يجذب العيون إليَّ، نوع مجهول من الجاذبية، ليس هو الجمال الأنثوي المألوف … شيء آخر لا أَعرفه، لكني أحسُّه وأدركه في الأعماق.
أصبحت لي صديقات بين الزميلات الجديدات، ومن زميلاتي القديمات في حلوان دخلت صفية معي كلية الطب، سامية دخلت الصيدلة، فاطمة دخلت الآداب، أصبحنا نجتمع في بوفيه كلية الآداب، الوحيد في الجامعة نرى فيه الطالبات جالسات، ربما لأنَّ عددهن في كلية الآداب كان أكثر من الكليات الأخرى.
لم تكن التقاليد حينئذٍ تشجِّع البنات على دخول الكليات العلمية، مثل: الطب والهندسة أو العلوم البحتة. كلمة «العلم» في اللغة العربية مذكَّرة، لها رنين رجوليٌّ في الآذان، كلمة «الآداب» مؤنَّثة، تتشابه حروفها مع كلمة أخرى، هي «الأدب»، وهناك مثل شائع يقول: «الأدب فضَّلوه عن العلم.» وكأن «الأدب» بالمعنى الأخلاقي مطلوب من الإناث فحسب، أمَّا الذكور فهناك مثل شائع يقول: «لا يعيب الرجل إلا جيبه.»
إحدى الصديقات الجدد اسمها «كاميليا»، اشتهرت باسم «بطة»، كانت تسكن في أول شارع الهرم بالقرب منِّي.
جسمها قصير ممتلئ على شكل مربع، وَجهُها كبير مربَّع تتوسطه عينان مربعتان واسعتان، تُكحِّلهما بالقلم السميك الأسود، أو مسحوق الكحل الأكثر سوادًا، بشرتها سمراء تُغطِّيها بطبقة من مسحوق البودرة الأبيض، شفتاها ممتلئتان مربعتان أيضًا، تصبغهما بقلم «الروج» الأحمر، ترتدي «جيب»، «جونلة» ضيقة قصير، تزداد ضيقًا عند ركبتيها السمينتين، فلا يُمكنها السير إلا بخطوة ضيقة بطيئة، تتعثر فوق الكعب العالي الرفيع.
كانت بطة نموذج الجمال الأنثوي، صوتها رقيق، تَقلب الحروف العربية الخشنة مثل الضاد والطاء إلى حروف أكثر رقة، الدال «بدل الضاد»، والتاء «بدل الطاء»، والسين «بدل الصاد»، وحرف الراء ينقلب إلى «غين» كما يفعل الفرنسيون، تقول عن صفية «سفية»، وكلمة الضلمة تصبح «دلمة»، والطب يصبح «التب»، وبكرة تصبح «بكغة».
أصبح لبطة الكثير من المعجَبين، تُقلِّدها الزميلات في تكحيل العين والتايير الضيق الأنيق، حتى «سامية» التي كانت في مدرسة حلوان شاحبة الوجه والشفتَين أصبحت تُلوِّن وجهها وتكحِّل عينيها، قد تلوي قدميها فوق الكعب العالي أو يلتوي لسانها فتقول «بكغة» بدل «بكرة».
كان لبطة أيضًا عم أو خال يَحمل لقب «الباشا»، ومنصب في السراي، قد تظهر صورته في الصحف فتشمخ بأنفها المربع في السماء كأنما هي بنت الملك.
كانت الجامعة في تلك الفترة تَموج بالمظاهرات الوطنية، داس الطلاب على صورة الملك، يَخفق قلبي بالفرح حين أدخل من باب الجامعة فأرى الطلبة مجتمعين في الفناء، والهتاف يدوي: يسقط الإنجليز، يسقط الملك، أستعيد أحلام طفولتي عن سقوط النظام أو تغيير العالم.
لم تكن الطالبات يخرجْن في المظاهرات إلا القليلات من كلية الآداب أو غيرها من الكليات النظرية، طالبات الطب والعلوم وطلبة الكليات العلمية كانوا أكثر اهتمامًا بالدراسة عن السياسة.
«السياسة دي تهريج وكلام فارغ للطلبة الفاضيين في الآداب والحقوق.» كنتُ أسمع هذه العبارة تتردَّد على ألسنة أساتذة الطب والعلوم، لكنَّ أبي كان يهتمُّ بالسياسة، يقرأ صحف الحكومة والأحزاب المُعارضة، لا يكفُّ عن الحديث عن فساد الملك والحكم، عن الاحتلال الإنجليزي والاستعمار، «خير بلدنا رايح للأجانب وشوية الحرامية اللي ماسكين الحكم.» كان يسمي مصر مجتمع اﻟ ٢٪ يملكون كل شيء، وبقية الشعب يعاني الفقر والمرض والجهل، والثالوث المُزمن إياه يا نوال ليس له حل إلا تغيير النظام، وكيف يتغير النظام؟ الشعب اللي نايم ده لازم يصحى ويقوم ويثور يا نوال، كلمات أبي تجعل الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أحسُّ بالدم يغلي في عروقي، فوران من الغضب المتراكم في صدري منذ الطفولة، ألستُ واحدةً من هذا الشعب الذي يجب أن ينهض ويثور؟! في المظاهرات أجدُني وسط الطلبة أهتف معهم بسقوط النظام، أدوس بقدمي على صورة الملك والباشوات والإنجليز، في عام ١٩٤٨م عرفتُ عدوًّا اسمه دولة إسرائيل، وقضية وطنية جديدة اسمها تحرير فلسطين.
كانت السياسة عالمًا غامضًا، لا أعرف عنه إلا القليل، أُشارك في المظاهَرات الطلابية باندفاعة حب الوطن، أعود إلى البيت منكوشة الشعر مبحوحة الصوت، أصابتْني طوبة في الرأس كادت تقلع عيني اليسرى في إحدى المظاهرات.
بدأت أمي تحذِّرني: «بلاش تمشي في المظاهرات يا نوال، خطر عليكي.» أبي أيضًا بدأ يحذِّرني ويتراجع عن أقواله السابقة: «مظاهرات إيه وكلام فارغ إيه، خليكي في الطب يا نوال، الدراسة عاوزة تفرغ كامل.»
إلا أن أبي لم يكفَّ عن قراءة الصحف، في الصباح أو المساء، أراه جالسًا في الصالة أو الفرندة يرشف القهوة مع دخان السيجارة مع الأخبار المنشورة في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام، أمي إلى جواره ترشُف قهوتها، تميل بنصفها الأعلى ناحيته، تلتقط بعينيها العناوين: حل جماعة الإخوان المسلمين … مصرع النقراشي باشا، مصرع حسن البنا، صورة الملك فاروق داخل برواز كبير، فوق شغاف قلوب المصريِّين نُقشت صورة صاحب الجلالة المفدى.
هذا الشعب المصري الوفيُّ الأمين يشمله الفرح الكبير في العيد الملكي العظيم، ولا يملأ قلبه لصاحب الجلالة إلا الولاء والطاعة.
من غرفتي وأنا أراجع دروسي أسمع صوت أبي الغاضب: جرايد عاوزة الحرق! ولاء وطاعة إيه، يا صحفيِّين يا منافقين! الملك خلاص نهايته قربت، كفاية عليه صفقة الأسلحة الفاسدة وانهزام الجيش المصري في فلسطين!
فوق مكتبي كانت الكتب الجديدة وكشاكيل المُحاضرات، في درج مكتبي كيس جلدي أسود به أدوات التشريح: مشرط صغير نشرِّح به الصراصير والضفادع.
كانت جريدة الأهرام قد استقرَّت في سلة المهملات تحت مكتبي، أمسك المشرط في يدي، مزقت به صورة الملك والحروف تحتها: «الطاعة والولاء!»
في قاموس اللغة في مكتبة أبي بحثتُ عن أصل هاتين الكلمتين، يرجع أصلهما إلى عهد العبودية، العبودية تعني الوطنية والولاء والطاعة. وفي أول ١٨٩٠م نشرت جريدة الأهرام بمناسبة عيد ميلاد الخديو هذه الكلمات: «فوق شغاف قلوب المصريين نُقشت حروف الحب والطاعة والولاء، هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في عيد ميلاد الخديو العظيم، إن مداد العبودية والطاعة والولاء تخطُّه يد الإخلاص، وتَنقشُه على قلب كل مصري وطني.»
كلمة الحب تعني العبودية، وكلمة العبودية تعني الإخلاص والطاعة والولاء، ومنذ عام ١٨٩٠م حتى عام ١٩٤٨م سقطت كلمة العبودية من قاموس الصحافة المصرية، كانت قوة العبيد تتصاعَد وتهدِّد الحكم من خلال الحركة الوطنية، إلا أنَّ جريدة الأهرام ظلت تحافظ على ما تُسميه الموروث وإن كان الرَّوَث. إنها أحد أعمدة الحكم في مصر، أداة من أدوات قهر الشعب والعبيد، لم يكن لكلمة الطاعة أو الولاء أن تزول من قاموسها وإلا زالت الجريدة ذاتها، وهي تتَّخذ من صورة الأهرامات شعارها المطبوع في الصفحة الأولى، الهرم الأكبر في الجيزة، والأحجار التي حمَلها العبيد فوق ظهورهم لبناء مقبرة فرعون تكاد تُشبه كُتَل الأوراق يحملها الصبية فوق ظهورهم كل صباح وهم يصيحون: الأهرام! الأهرام! … خطبة الرئيس! … خطبة الرئيس!
عام ١٩٤٩م دخلت مبنى كلية الطب في شارع قصر العيني، أصبحتُ في سنة أولى مشرحة، كلمة «مشرحة» ترنُّ في أذني ساحرة، أكثر سحرًا من رنين الساعة أو قبة الجامعة الضخمة، خيالي يَسرح قبل أن أدخل من الباب.
أيمكن أن أُشرِّح جسد إنسان، أن أفتح بالمشرط تلك العضلة تحت الضلوع لا تكفُّ عن الخفقان؟! أو الخلايا داخل الرأس لا تكفُّ عن التساؤل واستعادة الصور في طفولتي؟!
في السنة الإعدادية لم أشرِّح إلا الضفادع أو الصراصير أو الخنافس، في حياتي منذ وُلدت لم تقع عيناي على إنسان ميت، قشعريرة تزحف إلى جسدي بمجرد سماع الكلمة، أرمق من بعيد باب المشرحة، الضربات تحت ضلوعي تتصاعَد، أنفاسي تضطرب، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت أو الأرواح وجهًا لوجه؟ رائحة نفاذة تنفذ إلى أنفي، أهذه هي رائحة الموت؟!
كانت رغبة الاستطلاع أشد من الخوف، دخلتُ بقدمي إلى المشرحة، دخلت معي صفية وبطة، المَناضد الرخامية مرصوصة في القاعة الواسعة، فوق كل منضدة جثة حولها ثمانية من الطلبة، طلبة السنة الأولى يُطلَق عليهم اسم «الجونيور»، طلبة السنة الثانية اسمهم «السينيور».
أصبحنا ثماني طالبات نجلس حول منضدة واحدة، واحد من الطلبة «السينيور» جاء ليشرح لنا، كان هو التقليد المَّتبع داخل المشرحة، الطلبة القدامى يُساعِدون الطلبة الجدد، يتنافس الطلبة الجدد فيما بينهم على مساعدة الطالبات.
كُنَّا نرتدي المعاطف البيضاء داخل المشرحة، نجلس على كراسي بدون ظهر، أربعة مِنَّا حول الجزء الأعلى للجثة أو الرأس والعنق … الأربعة الأخريات حول النصف الأسفل أو الساقين.
في ركن المشرحة بالقرب من الباب كانت صناديق خشبية كبرة مملوءة بالفورمالين، يحفظ الجثث من العفونة، قبور من الخشب قابعة في الركن بجوار الحائط، يسبَح فيها الموتى، داخل السائل ذي الرائحة النفاذة، يحرُسهم فرَّاش المشرحة «عم عثمان»، عيناه ضيقتان تلعمان كعيني الصقر، أصابع يديه مشقَّقة من طول ما غمسها في الفورمالين، بشرته محروقة، وجهه أسمر شاحب ممصوص يشبه وجوه الفلاحين في قريتي.
كان عم عثمان يُغلق الصناديق بالمفاتيح كأنما تحتوي كنوز الأرض، يقف أمامها مُنتفخ الأوداج كأنما هو سيدنا رضوان يحرس باب الجنة! لم يكن يبتسم إلا في وجوه الطلبة الأثرياء، يَنفحه الواحد منهم ثلاثة جنيهات ثمن الجثة الواحدة، كان يَسرق الجثث بالاتفاق مع الحانوتي، يشتري الثلاثة بخمسين قرشًا، وفي الليل يتسلَّل إلى القبور يجمع عظام الموتى ثُمَّ يبيعها قطعة قطعة.
في الفناء أراه واقفًا في الصباح الباكر داخل معطفه الأبيض المبقَّع بالفورمالين، أذناه منتصبتان تلتقطان أصوات النسوة يُولوِلن وراء النعش الخارج من المستشفى، الجسد الميت لم يبرد بعد داخل التابوت الخشبي، يَمشي عم عثمان في الجنازة حتى القبر، وأصبح يمتلك من الأموال والعمارات أكثر من الدكتور مورو باشا عميد الكلية، هكذا كان الطلبة يقولون.
حين أعود من المشرحة إلى البيت تَصرُخ أمي من الفزع كأنما أجلب في حقيبتي عفاريت الموت، تجعلني أخلع حقيبتي وحذائي خارج الباب، ملابسي كلها مع المعطف الأبيض مع أدوات التشريح تضعهما في الماء يغلي فوق النار.
في الأيام الأولى للمشرحة أصابتني الرجفة وأنا أقطع بالمشرط في اللحم الآدمي، توقفتُ عن أكل اللحوم بكل أنواعها، ما تقع عيني على قطعة لحم في سلطانية الشوربة حتى يصيبني الغثيان، كأنما هي ساق الميت تسبح داخل سائل الفورمالين.
كانت أمي تجهِّز لي وجبة غداء في علبة صغيرة أضعها في حقيبتي، ساندويتش من اللحم أو البيض لإمدادي بالبروتينات … بعض الخضروات والفاكهة الغنية بالفيتامينات، كنت ألقي هذه العلبة بكل ما فيها إلى صفيحة القمامة، أقضي النهار كله في الكلية دون أن آكل شيئًا، أشرب كوب الشاي بالنعناع أو الليمون، يُعدُّه لي «عم محمد» في غرفة الطالبات.
كنت أندهش حين أرى الطلبة «السينيور» يمسكون المشرط بيد، وفي اليد الأخرى ساندويتش يأكلون ويشرِّحون في الوقت ذاته، ثُمَّ راحت الدهشة وأصبح «الجينيور» يُقلِّدون «السينيور». رأيت الزميلات يأكلْن وهنَّ يجلسن حول المنضدة من فوقها الجثة، وفي غرفة الطالبات أصبحتُ ألتهم ساندويتش اللحم الذي أعدته أمي، عادتْ لذة الأكل إلى ما كانت عليه، عادت أشدَّ مما كانت، الشهية للحياة تشتدُّ بجوار الموت كالضوء يتألق أكثر بجوار الظلمة.
أحد أساتذة الكلية كان قريبًا لزميلتي بطة، من عائلة أمِّها أو أبيها، لم يكن «عم عثمان» يمنع عنها شيئًا من الكنوز داخل الصناديق، أعطاها هيكلًا عظميًّا كاملًا بنصف الثمن، كانت تسكن في منزل دورين في أول شارع الهرم، في الدور السُّفلي نصبتْ أمُّها الهيكل العظمي فوق قوائم خشبية، كانت بطة تدعوني إلى بيتها لتُراجع الدروس؛ فهي تشتري كل ما هو مطلوب من كتب أو جثث.
لم يكن في مقدوري أن أشتري من عمِّ عثمان إلا بعض عظام اليدين والقدمين، مرتب أبي في الحكومة لم يكن صغيرًا، لكنه ينفق على تسعة من الأولاد والبنات في المدارس، كان يمتلك قطعة أرض صغيرة في كفر طحلة، يبيعها جزءًا جزءًا لتسديد الديون، مصاريف كلية الطب كانت أغلى من غيرها، وثمن الكتب كان مرتفعًا، الأسعار كلها تتضاعَف مع ازدياد الغلاء. تأخرتُ في دفع المصاريف في السنة الإعدادي، في سنة أولى مشرحة تأخرتُ أيضًا في الدفع، وصل إلى أبي خطاب من الكلية تُطالبه بالدفع وإلا فسوف تضطرُّ الكلية لفصل الطالبة كريمتكم.
ثُمَّ جاء اليوم الذي ناوَلني فيه أبي المظروف داخله القسط الأول من المصاريف، لمحتُ رعشة صغيرة في يده وهو يُناولني المظروف، يقتطع من طعام إخوتي الصغار ليَدفع ثمن تعليمي، يخرج في الصباح الباكر كل يوم، يشقى في العمل طوال النهار، يعود إلى البيت مرهقًا منهوك القوى، أول كل شهر يناول أمي المرتب كله، تسدِّد ديون البقال والجزار والفكهاني والخضري والمخبز والصيدلية ولا يَبقى إلا القليل، نعيش نصف أيام الشهر على ما تسمِّيه أمي الشكك، نوتة صغيرة تدوَّن فيها الديون يومًا بيوم.
أول كل يوم تناولني أمي مصروفي لركوب الأتوبيس أو الترام إلى الكلية، كنتُ أمشي على قدمي وأُعيد إليها المصروف، أو أدَّخره لأشتري بعض الكتب، أو بعض المفاصل أو العظام من عم عثمان.
كنتُ أشفق على أبي وأمي من العبء، أحاول التخفيف عنهما.
كانت أمي تشقى في العمل داخل البيت طوال النهار، تساعدها خادمة صغيرة تُشبه سعدية، أقف إلى جوارها أمام الحوض لأُساعدها في غسل الصحون، قد أمسح البيت كله في يوم إجازتي الجمعة، أو أعفي أمي من الطبخ أو إعداد المائدة أو أي عمل آخر في البيت.
كم كرهتها في طفولتي تلك الأعمال المتكرِّرة الكئيبة، لا أنتهي من إعداد وجبة الفطور حتى تأتي وجبة الغداء، لا ينتهي الغداء حتى نبدأ في الإعداد لطعام العشاء، لا أكاد أنتهي من تنظيف الأرض حتى تُغطَّى بالتراب، لا يَفرغ الحوض من الصحون بعد الأكل حتى يمتلئ من جديد، كأنما هو صراع لا نهائي ضد دوران الأرض حول نفسها، أو حركة التراب في الكون، أو انقباضة عضلات المعدة أو الأمعاء داخل البطون.
ذلك اليوم ناوَلني أبي المظروف داخله القسط الأول من مصاريف الكلية، لمحت رعشت يده، وبصمات أصابعه فوق أوراق البنكنوت من رائحة عرقه، كان قلبي يئنُّ وأنا أحمل المظروف في الشارع كأنما أحمل أبي بجسده الضخم داخل حقيبتي، أحمل الكرة الأرضية فوق رأسي وأمشي … ربما نوع ما من تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب، أيجوع أخوتي الصغار ويُصابون بالأنيميا أو فقر الدم لأصبح أنا طبيبة!
لم أحمل في حقيبتي هذا المبلغ الكبير من قبل … خبَّأتُ المظروف داخل كشكول سميك داخل الحقيبة، أغلقت الحقيبة بالقفل، وضعتُها تحت إبطي، أتلفَّت حولي في الشارع، العيون ترمقني بنظرة غريبة، كأنما هي كلها عيون لصوص، قادرة على اختراق الجلد واللحم، وأنوفهم أيضًا قادرة على التقاط رائحة الفلوس.
لم أركب الترام أو الأتوبيس حيث يكون النشالون، أصابعهم خفيفة تَنشل النقود في غمضة عين مثل أصابع الجان أو الأرواح الخفية، سِرتُ على قدمي من الجيزة إلى شارع القصر العيني، دخلت إلى مبنى الإدارة في الكلية، وقفت أمام الموظَّف المختص باستلام المصاريف أو شئون الطلبة.
كان هناك طابور يتحرَّك ببطء شديد؛ فالموظف يترك مقعده ويغيب طويلًا داخل مكتب آخر، لم يكن أيضًا يحترم النظام، ما إن يقدِّم له الطالب كارت توصية حتى يأخذه قبل الآخرين الواقفين قبله، ما إن يدخل أستاذ في الكلية أو موظَّف كبير حتى ينتفض واقفًا ويخرق نظام الطابور، لا أحد يعترض من الطلبة الواقفين، الكل يَكتُم الغضب. من خلفي سمعت طالبًا يهمس في أذن زميله: «البوظان في الكلية زي البوظان في البلد كلها، نظام فاسد، والفلوس اللي بندفعها دي خسارة فيهم، لو كان عندي قريبة أو واسطة للباشا العميد كنت أخذت المجانية.»
رنَّت في أذني كلمة «المجانية»، سمعتُ عن شيء اسمه مجانية التفوق، كنت متفوقة والأولى في مدرستي، فلماذا لم أحصل على المجانية؟! البوظان أو الفساد لا يمكن أن يقف في طريقي لأحصل على حقي، الدم في عروقي يغلي وجسدي اندفع وحده خارج الطابور، سألتُ عن مكتب العميد، إنه رئيس الكلية، أكبر رأس بين الأساتذة لا يُمكن الدخول إليه، بابه مغلق تعلوه لمبة حمراء، لا ينفتح إلا لكبار الأساتذة أو الوزراء والباشوات، العميد في اجتماع مُهمٍّ، قال لي مدير مكتبه، ثُمَّ سألني: معاكي كارت توصية؟! انفجرتُ بغضب: يعني لازم أجيب واسطة للعميد علشان أقابله؟
رمقني المدير بنظرة حانقة، كأنما أنا التي أخرق النظام أو القانون وليس هو … سمعنا صوت الجرس يرن فوق رأسه، انتفض واقفًا، أحكم إغلاق بدلته بالأزرار ثُمَّ أنطلق بخطوة سريعة وظهر منحن داخل غرفة العميد.
انغلق الباب وراءه، وقفت أحملق في الباب المسدود في وجهي تعلوه اللمبة الحمراء، حقيبتي تحت إبطي داخلها المظروف، رعشة يد أبي وبصمات أصابعه مرسومة بالعرق، بشرة إخوتي الصغار تعلوها بقع الأنيميا وفقر الدم، أصابع أمي حمراء ملتهبة بالصودا الكاوية والصابون، ليس معي كارت توصية، وليس لي قريب يحمل لقب الباشا.
وجدت جسدي يَندفع نحو الباب بقوة الغضب والخوف والأمل واليأس ومشاعر أخرى مُتناقضة، تفاعَلتْ معًا داخل العضلة المنقبضة في صدري، وراء هذا الباب يقبع الموت أو الحياة سيان، لم يعد يهمُّني ما الذي يمكن أن يحدث … مجانية التفوق أو الفصل النهائي من الكلية، كلاهما واحد، أصبح هدفي الوحيد هو فتح هذا الباب المسدود في وجهي بصرف النظر عن العواقب، تبدَّد الخوف والأمل واليأس والغضب وغيرها من المشاعر، لم أكن أشعر بشيء، نوع من التخدير الكامل لحواسِّي الخمس يَسبق أي عمل شجاع وإن كان الارتماء تحت عجلات القطار أو الانتحار.
رأيتُ نفسي داخل غرفة كبيرة مهيبة كأنما دخلت قصر عابدين يوم المظاهرة الكبيرة عام ١٩٤٦م؛ النجفة الضخمة والسجاجيد السميكة، الصور المذهبة فوق الجدران، المكتب الضخم من خشب الأبنوس الأسود تعلوه النقوش، من وراء المكتب يطلُّ طربوش أحمر فاقع اللون، النصف الأعلى لبدلة سوداء وربطة عنق، عينان واسعتان سوداوان تحملقان في وجهي وتتسعان، فوق رأسه كانت صورة الملك فاروق داخل إطار ذهبي يرتدي ملابس الجيش والنياشين.
كان وحده في الغرفة، لا اجتماع مهمًّا ولا أرى شيئًا آخر، رمقتُ مدير مكتبه المرتجف أمامه، منعني من الدخول، لكن الموضوع مُهمٌّ جِدًّا. «دكتور»، كنت أظن أن لقب «دكتور» يناسب عميد كلية الطب، إلا أن مدير مكتبه همس في أذني قائلًا: اسمه سعادة الباشا العميد، لم يكن في مقدوري أن أنطق هذه العبارة «سعادة الباشا»، كأنما في حُروفها تَكمُن الإهانة أو العبودية، وما إن ينطقها لساني حتى يُصاب بالشلل وأتحول من إنسان ناطق إلى حيوان أعجم.
وقفت أحملق في وجه العميد لا أعرف كيف أبدأ، جاءني صوته من وراء المكتب مُنخفضًا مبحوحًا، يشبه صوتي بعد الهتاف الطويل في المظاهرات: إيه الحكاية يا بنتي؟! كلمة «بنتي» مع لهجته الهادئة أضاف عليه لمسة من الأبوية.
تشجَّعت وقلت دفعة واحدة: «أنا أستحق مجانية التفوق يا دكتور، فيه طلبة أقل منِّي أخذوا المجانية علشان لهم واسطة»، رنَّت كلمة «واسطة» في الجو، فانتفض مدير المكتب وقال: سعادة الباشا العميد معاندوش حاجة اسمها واسطة، أرجوكي انتي دخلتي بدون إذن وسعادة الباشا العميد مشغول!
لم أتحرَّك من مكاني، لقد دخلت بقدمي وانتهى الأمر، عليَّ أن أدافع عن نفسي حتى آخر رمق، اسمك إيه يا بنتي؟ صوته مليء بالطيبة، فلماذا يضع أمامه بابه ذلك المدير الشبيه بالضبع؟ تشجَّعتُ أكثر وقلت له اسمي واسم أبي.
أضفتُ بلهجة لا تخلو من الزهو أن أبي شارك في ثورة ١٩ وأنه من رجال التعليم في مصر، له تسعة من الأولاد والبنات كلهم في المدارس والجامعات، لا يفرِّق بين تعليم الولد والبنت، كأنما كنتُ أقف فوق منصة وألقي خطبة، رأيتُ العميد يبتسم: «وانتي نمرة كام في التسعة يا بنتي؟» «أنا نمرة اثنين، فيه أخ أكبر منِّي بسنة واحدة وأنا الثانية، لكن كنت دايمًا الأولى في المدرسة.»
لم يَستغرق لقائي بالعميد أكثر من خمس دقائق، جعلني أكتب طلبًا بالمجانية، أو أملأ إحدى استماراته، ثُمَّ أمسك قلمه الأحمر وكتب التأشيرة أسفل الورقة: «تُمنَح الطالبة المجانية الكاملة طوال سنين الدراسة بالكلية»، التوقيع: العميد د. مصطفى عمر.
لا أعرف كيف خرجتُ من مكتبه، أو كيف عُدت إلى البيت، ربما خفَّ جسمي فلم تعد قدماي تلامسان الأرض، كأنما أطير وأحلِّق في الجو، رغم التحليق ظلت حقيبتي تحت إبطي داخل المظروف، أحرك ذراعي وساقي في الهواء، أتعجَّل اللحظة وأنا أصل إلى البيت، أرسم وجه أبي أمامي، عيناه السوداوان تتسعان وتتسعان ويملؤها البريق، ويشتدُّ ليغرق الكون كضوء الشمس.
كان أبي جالسًا فوق الكنبة في الفرندا مرتديًا البيجاما، عاد لتوِّه من الخارج، أمي في المطبخ تعد له فنجان شاي مع قطعة من فطيرة الذرة التي خبَزتها في الفرن، رائحة فطيرة الذرة في أنفي حتى اليوم رغم مرور خمسة وأربعين عامًا، صورة أبي محفورة في خيالي، عضلات وجهه متهدلة قليلًا من الإرهاق، شحوب قليل ينم عن التعب أو القلق.
انحناءة خفيفة لكتفَيه كأنما يحمل فوقهما العبء، لون البيجاما أبيض يميل إلى الزرقة قليلًا بسبب الزَّهرة التي تُضاف إلى ماء الغسيل، أزرارها من الصدف الأصفر حجم القرش، أحد الأزرار مفقود، والزر الأخير مكسور، سروال البيجاما متهدِّل قليلًا.
لحظة محفورة في ذاكرتي بالتفاصيل … حكيت لأبي ما حدث، بدت الحكاية خيالية من تأليفي، لم يصدِّقها حتى أخرجت المظروف من حقيبتي، فتَحه بأصابع مُرتعشة كأنما سيجده خاليًا، حين وقعت عيناه على أوراق البنكنوت نهض واقفًا، مدَّ يده لي مُصافِحًا: برافو يا نوال، برافو! جدعة والله! تعالي يا زينب شوفي بنتك عملت إيه!
يوم من أيام الفرح في بيتنا، ارتفعَت مكانتي في عين أبي، أصبح يناديني بلقب دكتورة، حين تكون أمي متعبة ينهض في الصباح الباكر ليُعدَّ لي الشاي والفطور، أو يجهِّز لي علبة الغداء لآخذها معي إلى الكلية.
وأصبَح في إمكاني أن أشتري بعض الكتب، وجُمجمة كاملة باعها لي عم عثمان، وضعتها داخل حقيبتي الجلدية مع الكتب والكشاكيل، ما إن رأتها أمي حتى صرخت: «جايبة معاكي ميت … يا نهار أسود.» وأغلقت عليَّ غرفتي مع حقيبتي مع الميت، لم يكن لي أن أفتح الباب دون أن تُخفي عينيها بيديها الاثنتين، كأنما عفريت الميت خرج إليها لحظة انفتاح الباب.