أوراقي … حياتي
سماء زرقاء، شديدة الزُّرقة، يُسمُّونها هنا في «ديرهام» «كارولينا بلو»، في هذه الولاية الجنوبية على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي في أمريكا الشمالية، تذكِّرني بسماء مصر … في قريتي، في طفولتي، وخطواتي الأولى نحو الصبا والشباب في المدينة، طالبة حالمة بكلية الطب، أمشي في المظاهرات، المظاهرة الصامتة بالذات في نوفمبر ١٩٥١، حين بدأ قلبي يَخفق للحب وأنا في العشرين من العمر، الخفقة القوية تحت الضلوع تُذكِّرني بخفقة الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر.
السماء الزرقاء فوق رأسي الأشيَب بشَعري الأبيض المُتناثر تشبه السماء الزرقاء في القاهرة، وأنا أمشي في المظاهرة بشعري الأسود الغزير، وقامتي الفارعة المشدودة، والدماء الفائرة في جسدي، فتاة شابة تتأجَّج عيناها بالبريق النابع من حلم الطفولة، لم يتغير الحلم منذ كنت في السابعة من العمر، لم ينطفئ، غير قابل للانطفاء حتى نهاية العمر.
الشمس ساطعة كأنما بداية الربيع مع أننا في نهاية الخريف، سماء القاهرة عارية من السحب، لؤلؤ أزرق فوق رأسي وأنا أمشي، مياه النيل تترقرق، فيروزٌ يسيل بين ضفتي النهر، الخُضرة تذوب في الزرقة، والعصافير تحتمي بفروع الشجر؛ فهناك ريح شمالية قادمة، شتوية رغم الدفء الناعم بحرارة الجسم.
لقد جئتُ إلى هذا المكان البعيد ومعي أوراقي وذكرياتي، كلمة «جئتُ» لا تعبِّر عن الحقيقة، لأنني لم آت إلى هنا بإرادتي، لم أغادر الوطن باختياري، قوى عاتية مثل الأعاصير تقتلع الناس كما تقتلع الشجر، تنتزعهم من أرضهم وبيوتهم، تُلقي بهم بعيدًا في ما يسمونه «المنفى».
بيني وبين كلمة «المنفى» عداء، لا توجد قوة يُمكن أن تنفيني عن الوطن؛ فالوطن يسافر معي حيثما أكون، والسماء تُسافر معي، والشمس أيضًا تسافر معي، والقمر والنجوم، وأحلام طفولتي تسافر معي داخل جسدي كما كنتُ طفلةً، وقلبي يخفق بالقوة نفسها كما خفق وأنا في العاشرة من العمر.
في الليل حين تهدأ رياح المحيط الأطلنطي وتنام العصافير، أُشعل المصباح إلى جوار المدفأة وأعود إلى الوراء ثلاثة وأربعين عامًا، أراني أمشي في مظاهرة ١٩٥١، إلى جواري «أحمد» الحب الثاني في حياتي وزوجي الأول، الذي منَحني أغلى ما يمكن أن يُمنَح، وهي ابنتي. ومدينة القاهرة التي عِشنا فيها الفرح والحزن، الحرية والاستعباد، غرست في نفوسنا تَناقُضَها، تطاحنها، عذابها تحت سعير الاستعمار والإقطاع، سعير الحرِّ والحرب والحب والحنق، أي حنق، يشتعل فجأة، فيندفع الناس من بيوتهم إلى الشوارع يَصرُخون، يهتفون ضد حكوماتهم، يلعنون الدين والدنيا معًا.
القاهرة، مدينتي أحملها فوق صدري مثل أمي في أيامها الأخيرة، لم يكن لي أن أعرف مدينتي إلا بعد أن أذهب بعيدًا عنها، هنا في آخر الدنيا، وراء البحار والمحيط، في هذه «الديرهام» الصغيرة المعزولة، تَنتزعني من الوحدة نجمتي في السماء «الزهرة»، وُلدت معي، وتموت معي، تنتزعني كل ليلة من الظلام، بعيدًا عن غبار الليالي المحمَّلة برمال الصحراء ورياح الخماسين، وأُدرك الآن على البعد أنَّ مدينتي بريئة، لا يمكن إدانتها بما فعلت بنا؛ فهي كالأم تقتُل أطفالها حمايةً لهم من موت آخر أشد وأقسى، وقد أنقلِبُ ضدَّ مدينتي كما كنت أنقلب ضد أمي، أصبُّ عليها غضبي، إنها التي يجب أن تُدان وإن كان علينا نحن أطفالها أن ندفع ثمَن خنوعها أو اللامبالاة.
ما هذه المدينة القاهرة؟ المقهورة؟ ما كنْه مدينتنا هذه وما سرُّها؟ وما الذي يمكن أن يحدث لنا حين نسمع كلمة «القاهرة»؟ … في غمضة عين أجتاز المُحيط الأطلنطيَّ والبحر الأبيض المتوسِّط وثلاثة وأربعين عامًا من العمر، وأجدُني أمشي في شارع قصر العيني حيث كلية الطب والمستشفى الفخم الراقد بين فرعَي النيل مثل تمساح مريض مشقَّق البشرة، محروق بالشمس، مملوك للذباب والشحَّاذين وأصحاب العاهات، يدقُّون بعكاكيزهم فوق الكوبري بين قصر العيني القديم والجديد، وهؤلاء الذين يَسكنون على الضفة الأخرى من النهر، في الحي الراقي الذي يُسمُّونه «جاردن سيتي»، القصور والفيلات الأنيقة تحوطها الحدائق، يَسكنها الباشوات من الطبقة العالية الحاكمة، وإلى جوارهم السفارات الأجنبية، السفارة البريطانية التي حكمت مصر أكثر من سبعين عامًا، والسفارة الأميركية التي تتربَّع على العرش اليوم، دولة أخرى داخل الدولة.
وهؤلاء الذين ينتمون إلى ما يُسمَّى «الشعب»، نحن الطلبة والطالبات، أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أو الفلاحين أو العمال من الطبقات الكادحة، يُسمُّونها الطبقات «الدنيا» أو «السفلى»، وأحيانًا يقولون «الطبقات المحرومة».
كلمة «الحرمان» كانت تُعبِّر بالضبط عن حالتنا نحن الأطفال وقد أصبحنا شبابًا في غمضة عين، وتفتَّحت عيوننا على مدينة ليس لنا فيها شيء إلا أن نمشي في شوارعها ونهتف ضد الملك والحكومة والإنجليز، ضدَّ الثالوث المقدَّس المترابط منذ ١٨٨٢ بوثيقة كاثوليكية لا تنفصم إلا بالموت، وقد خلَّف لنا ثالوثًا آخر غير مقدَّس، ثالوثًا شيطانيًّا، هو: «الفقر والجهل والمرض.»
كلمة الحرمان لها وقع عذب في أذني، وكم شعرتُ بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحب، كالشمعة تحترق، يذوب شمعها، يسيل فوق جسدها من شدة العذوبة والرقة إلى حد الفناء من أجل الآخَرين، الإضاءة، أي إنكار لذواتنا، أن نحترق ونموت لينعم الآخَرون بالضوء، هكذا تربَّينا منذ وُلدنا في بيتنا ومدارسنا، ونشأت الهوَّة بيننا وبين ذواتنا، وأصبحت كلمات مثل: القناعة، والصبر، والزهد، والفداء، والتضحية، والحرمان، كلمات مقدسة، نلوكها كل يوم في صلواتنا مثل حبات السبحة، وأحلامنا تَنسحب من الأرض إلى السماء، إلى الهواء؛ حيث نُبحلِق في الفراغ، نحلم بقصْر بعد الموت في جنة عدن.
إلا أنَّ عيوننا كانت تَرتطم دائمًا بالقصور القائمة فوق الأرض، فوق الضفة الأخرى من فرع النيل، في «جاردن سيتي»، وقد نتمشى بالقرب من تلك الأسوار العالية من الطوب الأحمر، والشرفات الكبيرة ذات الأعمدة الحجرية العالية المطلَّة على النيل، يترامى إلى سمعنا ضحكات أنثوية ناعمة، وقهقهات ذكورية غليظة، مع رائحة السيجار والكافيار والويسكي واللحم المشوي، ودقات الموسيقى مع إيقاع الرقص والتانجو، وهنا ندرك أن كل شيء وفير موفور متنوِّع وغزير، والأكل والجنس وكل شهوات الدنيا.
خيالي كان يسرَح وأنا أمشي في جاردن سيتي، لا شيء يَفصلها عن مستشفى القصر العيني إلا بضعة أمتار، في بعض خطوات أنتقل من ثالوث الفقر والمرض والجهل إلى الثالوث المقدَّس؛ حيث تختفي الكلمات المقدسة التي حفظناها عن ظهر قلب: الحرمان، الزهد، الصبر، القناعة، الفداء، التضحية، وأكاد أفعل ما كان يفعله «منعم» الطفل الفلاح في منوف، حين كان يَتشعبط على قضبان النافذة في بيتنا ويشهق: ياه! ربنا بيحبكم، أعطاكم خير كتير، لكن احنا الفلاحين الغلابة ربنا غضبان علينا.
كان «منعم» يتصور أنني سعيدة داخل هذا البيت، لم يكن يرى تعاستي، أنا أيضًا كنت أتصور أن سكان «جاردن سيتي» سعداء، يأكلون أنواعًا من الفاكهة لا نأكلها مثل التفاح والكريز، لم أكن أعرف ما هو الكريز وتلك الأسماء الأخرى التي لم تَرد في القرآن الكريم، لم يكن لسكان الجنة في كتاب الله إلا عناقيد العنب والنخيل (البلح). كان أبي يشتري لنا البلح والعنب، إلا أن التفاح كان غالبًا لا يأكله إلا الأغنياء، أمَّا الكريز فلم أسمع عنه إلا في جاردن سيتي. كنت أمر بالفكهاني الأنيق يعرض الثمار اليانعة بألوانها الزاهية، يهبط الخدم من القصور ويشترون، يترامى إلى سمعي «الكريز» وكلمات أخرى لا أعرفها، أنواع مأكولات أو فواكه ربما تُزرَع في أرض أخرى، يسمُّونها «بلاد برة»، وكل شيء يأتي من «بلاد برة» كانوا يقولون عنه أفضل وأرقى، سواء كان مأكولات أم شهادات.
«بلاد برة»، يسمونها «الغرب»، وبلادنا يسمونها «الشرق»، يقولون إن الشرق رُوحاني، يحرم لذائذ الدنيا وأولها لذة الجسد أو الجنس، سوف تتوافر هذه اللذة بإذن الله في جنة عدن، وكم شعرنا بالفخر في أول الشباب لانتمائنا إلى الأرض المقدَّسة الطاهرة، مهبط الأنبياء والأديان، الناس فيها يعيشون على الغذاء الرُّوحي لأنهم تجاوزوا مشكلة الجسد.
ذات يوم في خريف ١٩٥٧، بعد أن وقَّعنا قسيمة الطلاق وأنهينا قصة الحب التي دامت ست سنوات، كُنَّا نتمشَّى على شاطئ النيل بجوار القصر العيني، حين سألني أحمد فجأة: أتعرفين يا نوال ماذا تفعل القاهرة بالحب؟ قلت: ماذا تفعل؟ قال: القاهرة تفعل بالحب ما يفعله وابور الطحين؛ الخارج من تحته إمَّا أن يكون رجلًا مسحوقًا مجروحًا بعمق في رجولته، أو روحًا طاهرةً تعاني الوحدة، يعني نبيًّا.
كانت ورقة الطلاق تَعني الفراق بين الزوج وزوجته، إلا أننا كُنَّا نلتقي، يدور بيننا حوار أجمل من العلاقات الزوجية، أدركنا أن «الزواج» يُفسد الحوار بين الرجل والمرأة، يفسد الصداقة والحب، يدمِّر الأشياء، يسحقها، يطحنها مثل وابور الطحين، يُعيدها إلى ما كانت عليه في العصور القديمة، زمن العبودية.
كان «أحمد» طالبًا في كلية الطب في السنة الرابعة وأنا في السنة الأولى، عرفته لأول مرة في المظاهرة الصامتة الكبرى، ست سنوات عاشت قصة الحب، تبدو لي من بُعدِ المكان والزمان كأنما لم تكن إلا رواية قرأتها أو قصة في حياة امرأة أخرى، لم يبقَ منها إلا الخيال وصور في الذاكرة أستعيدها.
الشمس كانت ساطعة ذلك اليوم من نوفمبر ١٩٥١م، الأشعة تنساب فوق رأسي من خلال عطر الياسمين، الهواء مَشحون بتراب الأرض، التراب ممزوج بمياه النيل له رائحة منعشة، تراب الأرصفة وشوارع القاهرة وقد أُطفئت برذاذ الماء، سحابات الخريف الخفيفة الندية تقترب من الأرض، لا تحمل الأمطار وإنما الرذاذ القليل النادر ندرة التفَّاح والكريز، يَنتشر اللون الرمادي أو الأزرق المغبَّر، والأرجواني الصحراوي الجيري أو الترابي والقرمزي، فوق كل هذا تسطع الشمس بقرصها المتوهج القادر على تمزيق السحُب، تَصبغ مياه النيل بالوهج البرتقالي الأخضر، ورطوبة المطر المُختنق تكسب الهواء لمعانًا، ونكهة الأرض العطشى تتلقى الرذاذ مهدية سماوية من عند الإله.
تحت كل ذلك تقبع مدينة القاهرة تحت غطاء شفَّاف من الحزن يُشبه الشبورة، هواء الخريف دافئ يحمل بقايا سخونة الصيف، يُلهب الجسد خلال الرداء القطني الخفيف، يعالج الجسد وقد عادت إليه الرُّوح أو ربما هي الروح عاد إليها الجسد، قضبان سِجني أحسُّها تتخلَّل وأنا أمشي في المظاهرة الصامتة، بلا هتاف، تتساقط بين قدميَّ الأغلال رغم الصمت، مدينة القاهرة ممدودة أمامي عارية عن الزيف، حُبلى بالأمل، كالمرأة تسير نحو الحبِّ، نحو الحرية، نحو المستقبل المجهول، رغم ضوء النهار الساطع.
كانت الهتافات ممنوعة، لكنَّ الآلاف كانت تتنفَّس في نفس واحد، يشقُّ عنان السماء، تمشي بخطوة واحدة تَرتجُّ لها الأرض، في مدينة واحدة هي القاهرة، تنشر شذراتها صامتةً كأوراق الزهر، وفي هذه اللحظة التقَت عيوننا أنا وأحمد، ألحانٌ خفيفة غير منطوقة تهزُّ القلب، أجسادنا وسط آلاف الشباب تدوس شوارع المدينة باحثين عن الاستقلال، عن الانعتاق، عن التحرر من العبودية.
كان زعماء الطلبة يسيرون بين الصفوف، أحدهم كان «أحمد»، كان مملوءًا بالحلم الطفولي مثلي، وكنت مثله أمشي في شوارع المدينة، يخيِّم عليها كآبة الحكم الأجنبي، وكآبة الحكم المحلي، يسمُّونه «الملَكية السامية»، طنين عربات الترام وهي تنتفض فوق قضبانها الحديدية في شارع قصر العيني، تفوح منه رائحة المشرحة والفورمالين، وجروح المرضى الغارقة في الدم والصديد، ولون صبغة اليود في الجو، والسرادقات الطويلة داخل المستشفى، هنا كثيرًا ما التقينا. في المستشفى كان هناك مساحة من الأرض لملاعب الطلبة، كانت توجد دكة خشبية عند ملعب التنس، رُصَّت عليها أكواب الشاي بالنعناع الذي كُنَّا نشربه، أو زجاجات الكازوزة المثلجة في أيام الحر، يحملها إلينا «عم محمود» صاحب البوفيه، غرفة معتمة بجوار غرفة تغيير الملابس، يغلي فيها الشاي على وابور جاز، يرصُّ ألواح الثلج الطويلة داخل صندوق خشبي يسميه الثلاجة، فوق طاولة خشبية مشقَّقة يُقطِّع الرغيف الفينو نصفين، يدس في كل نصف شريحة من الجبن الرومي وقطعة من مخلل الخيار ويُسميه «ساندوتش».
لكن كل شيء كان يسبَح في ضوء غريب، من أين كان يأتي الضوء؟ عيناه بلون العسل المصفى كانت تشعُّ هذا الضوء، لم أكن أرى منه إلا هذا الضوء في العينين، كطفلة العاشرة في حبِّها الأول، لا يمكن أن تهبط عيناها إلى ما تحت العينين.
فقط نتبادل النظرات في صفاء الأرواح السامية، هؤلاء الذين يُنكرون رغبات الجسد، كان ممتعًا أن نجلس فوق الدكة مُرتبكَين خَجِلَين مُتلعثمَين، تتلاحق أنفاسنا في اضطراب، ماذا كان يُفزعنا؟ هل كُنَّا ندرك ما نُنكره؟ هل كُنَّا نُطرق إلى الأرض خجلًا مما يراودنا في خيالنا؟ لكن الرسائل كانت تمضي بيننا، من وراء وَعينا، خلال عيوننا المتَّسعة المندهشة، والكازوزة المثلَّجة أو الشاي المنعنع، والدكة الخشبية المنزوعة القشرة، نجلس عليها لا نحس العالم مِن حولنا. نَرشف على مهَلٍ من الكوب الزجاجي، نرشف المدينة بكل ما فيها، حتى المستشفى القديم المُفعَم برائحة الفورمالين، وصبغة اليود تسري إلى صدورنا مُنعِشة كزهر الياسمين.
كنتُ الليلة أقلِّب في ذكرياتي وأوراقي القديمة، تحول بعضها إلى ورق أصفر رقيق تآكلَتْ سطوره وبهتت الكلمات، البعض الآخر أتلفه المطر والرطوبة المُرتفعة في ديرهام بولاية نورث كارولينا، هذه الرطوبة لا نعرفها في مصر، الهواء هنا يتشبَّع بالماء، والأفق يَنفتِح عن سيول كالأنهُرِ تَنهمِر من جبال سماوية، تذرو الناس ومعهم أوراقهم وذكرياتها، إلا أنني أقاوم، منذ وُلدت أقاوم اللامبالاة بأوراقي وكتاباتي.
اللامبالاة تنتقل إليَّ كأنما بالعدوى، فما جدوى أن أكتب عن قصة حبٍّ ماتت منذ أربعين عامًا؟ مدفونة كالمومياء في بطن الصحراء على بُعد آلاف الأميال في شمال أفريقيا؟!
ومع ذلك، فأنا أبالي، هذه الأوراق هي حياتي، هي حلم طفولتي وشبابي، هذه الذكريات أحبها رغم الألم، أستحضرها، أُثبتها في خيالي، فهي قصتي مع الحب حين كنتُ في العشرين من العمر، أيُّ حبٍّ يُمكن أن يكون أكثر عمقًا من هذا الحب؟ تعاسته كانت نوعًا من النشوة، استعذاب الألم يكشف عن آلام جديدة لا يعرفها إلا القدِّيسون والعشاق، لكن لمسة واحدة باليد في المصافحة العابرة، أو نظرة خاصة على البُعد كانت قادرة على تحوِّل الألم الهائل العميق إلى سعادة أعمق.
كم أُدرك الآن أنه من السهل أن يقع الإنسان في الحب، وأن الصمت في الحب أبلغ من الكلام؛ فاللغة بشرية صنَعها البشر، محدودة بحدود عقولهم وأجسامهم وتاريخهم، لكنَّ الحب يتجاوَز التاريخ، يتجاوز العقل والجسد والرُّوح، ويحلِّق وحده في ملكوت آخر.
من السهل أيضًا أن يموت الحب، كما تنطفئ الحياة في غمضة عين، مثل جناح الفراشة يتمزَّق لأقل لمسة؛ كالدقيق المسحوق الناعم يَطير في الهواء بنفخة واحدة، شفاف يكشف ما تحته دون عناء كالهواء.
«اللي متغطِّي بالأيام عريان، واللي متغطي بالحب عريان.» هكذا كنتُ أسمع من الناس.
أنا وحيدة اليوم تمامًا، جالسة في غرفة مكتبي، أطلُّ على الحديقة من ورائها غابة ديوك، فتاة أميركية رشيقة جاءت تَسقي الزهور، ترتدي بنطلونًا من الجينز الضيق، شعرها ذهبي مرفوع إلى أعلى، طالبة عندي في فصل الإبداع، في جامعة ديوك، تَقبض من الإدارة مرتَّبًا شهريًّا نظير رعايتها الحدائق والزهور، تسدِّد من راتبها نفقات تعليمها وسكنها وطعامها وبنزين سيارتها الحمراء الصغيرة.
يأتي إليها صديقها على باب الحديقة، يدقُّ الكلاكس، تطير إليه كالفراشة كما كنتُ أطير وأنا في العشري من العمر حين يدقُّ أحمد جرس الباب.
اليوم لم أعد شابة، أصبحت كهلة تجاوزت الستين من العمر، لستُ سعيدة ولستُ تعيسة أيضًا، أجلس مُعلِّقة كالشعرة أو الريشة في منطقة انعدام الوزن، خليط من الذكريات البعيدة الغارقة في الضباب، لا شيء يُعيد إليَّ بهجة الشباب، العزاء الوحيد عندي في هذا القلم أحرِّكه فوق الصفحة الخالية فتَمتلئ هذه الكتابة الصامتة من احتكاك سنِّ القلم بالورق، إلا أنها تجلب الماضي أمامي حاضرًا، تبعث الحياة في الموتى، تُعيد تشكيل الحقيقة لتَكشف عن حقيقتها الخفيَّة.
إنَّ ما نُسميه حقيقة ليس إلا الغطاء المُعتم، مثل: قشرة الأرض، تخفي في بطنها الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة، وإنها الكتابة، هذه الكتابة هي التي تبحَث وتبحث حتى تعثر على سبيكة الذهب أو الفضة، على الجوهرة المكنونة.
كانت الكتابة منذ طفولتي هي ملاذي الوحيد، أهرب إليها من الأم والأب والعريس، وبقيَتِ الكتابة في كهولتي أيضًا الملاذ الوحيد أو الأخير، التصالح المُمتع من خلال الكتابة مع الماضي والحاضر، مع كل ما أصابني في الوطن من جراح.
لم أكن مثل أخواتي البنات، أستسلم للقضاء والقدر، كنتُ أسعى إلى تحقيق كل شيء آخر عن طريق الخيال، وإلا فلماذا يقع الإنسان في الحب؟ لماذا كل هذه الآلام عند اللقاء بالآخر؟ إن العزاء الذي أنشده في الكتابة (والذي قد لا أناله) ليس عزاءً يمكن أن أراه في عينَي «أحمد» إذا التقيتُ به في القاهرة، لقد افترقنا وسلك كل مِنَّا طريقًا مختلفًا في الحياة، وتحوَّل الألم القديم إلى راحة أشعر بها اليوم، كأنما الزمن نسيج من الذهب، يُخفي كل ما هو مؤلم أو غير جميل، والكلمات فوق الورق تتخذ لنفسها حياة مستقلة.