حادث ختان
في الشرفة البحرية، في بيتنا بالإسكندرية، أجلس أستمع إلى أبي، بيتنا في الدور الأرضي من عمارة عالية … للشرفة سلالم تقود إلى حديقة خلفية صغيرة لها سور عالٍ، من وراء السور أسمع صوت القطار يأتي من عالم آخر، قويًّا يرج أرض البيت وأرى الجدران تهتزُّ، هذه الجدران سوف تسقط، أبي قال: إنَّ العمارة كبيرة متينة، لا يُمكن أن تسقط، أصدق كل ما يقوله أبي، أحفظ كلامه عن ظهر قلب، أَستمِع إلى حكاياته كأنما هي الحقيقة، أرمق جسده الضخْم، أنا ابنة هذا الرجل القويُّ الذي ينتصر في كل المعارك. كان أبي يخوض معارك كثيرة، مرة مع صاحب العمارة التي نسكن فيها، ومرة مع ناظر المدرسة، ومرة مع الإنجليز أو الملك أو الألمان أو الأعداء الآخرين، لا أعرف شيئًا عن هؤلاء. دخلت المدرسة في الإسكندرية، لا أذكر من المدرسة إلا اسمها، محرم بك للبنات، الشارع الذي نسكن فيه اسمه «محرم بك»، شارع طويل مخيف، يقود إلى الآخرة أو العالم الآخر، أَجري من البيت إلى المدرسة، ثُمَّ أعود جريًا أخشى التوقف في الشارع وإلا خطفني أحد اللصوص.
أسمع الحكايات عن اللصوص، في مدينة الإسكندرية قصة تجري على ألسنة الناس: «ريا وسكينة»، ماتت الاثنتان قبل أن أولد، قصتهما ظلَّت تعيش لأكثر من نصف قرن، يقبض البوليس على لص أو لصة تَسرق طفلًا، فيستعيد الناس ذكرى «ريا وسكينة».
قبل أن أخرج للمدرسة تخلع أمي من أذني الحلق الذهبي الصغير: «ريا وسكينة كانوا بيسرقوا الأطفال اللي لابسين حلقان دهب.» الأطفال ليس لهم قيمة في نظر اللصوص إلا إذا كان حلق دهب في الأذن. في الليل وأنا نائمة أشد الحلَق، أُحاول أن أخلعه من أذني، له مسمار ذهبي رفيع وقفل صغير يُغلق وراء حلمة الأذن، يحتكُّ بالوسادة كلما حركتُ رأسي، أشده في الصباح ترى أمي بقعة الدم فوق وسادتي، حلمة أذني حمراء متورِّمة، الثقب حيث المسمار الذهبي ينزف، كنتُ أظن أنني وُلدت بهذا الثقب في أذني، أن كل البنات يولدْن بهذا الثقب من أجل أن يدخل فيه الحلق، أرمق أذن أخي بطرف عين، أذنه سليمة بلا ثقب، بلا مسمار يؤلمه في الليل.
عرفت أنها الداية «أم محمد»، المرأة التي أغرقتْني في «الطشت» حين وُلدت، جاءت بعد أسبوع واحد من ولادتي، بين أصابعها الغليظة الخشنة إبرة طويلة حادة، وضعتها على النار، أصبح لونها أحمر، غرزتْها في حلمة أذني. هذه المرأة تكنُّ لي العداء؟! ثأر قديم بينها وبين جنس الإناث؟ تكره نفسها إلى ذلك الحد؟ عيناها السوداوان يكسوهما بريق عجيب وهي تَثقُب آذان البنات أو بظورهنَّ، مزيج من الفرح والتشفِّي والانتقام، جسدها السمين يترجرج داخل الجلباب الأسود، تفوح منه رائحة دم قديم وعرَق عَفِن مع رائحة الحناء الحمراء أو السوداء، وصبغة اليود والسبرتو الأحمر واللبان الدكر والبخور والشبة.
تُضفِّر شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ضفيرتين رفيعتين، تربطهما بدوبارة من صوف الماعز أو فروة الخروف، تلفهما داخل منديل أسود، تشدُّه بكل قوتها حول رأسها، تربطه فوق جبهتها على شكل عقدة.
في الجنازات ومآتم القرية أرى النسوة يربطْن رءوسهنَّ بالمنديل الأسود، في أول أيام العيد تخرج النسوة لزيارة الموتى في القبور، رءوسهنَّ مربوطة بالمناديل السوداء، فوق جبين كل واحدة منهنَّ العقدة.
العقدة فوق جبين الداية أم محمد لم تكن تُشبه أي واحدة أخرى، سوادها داكن، حجمها كبير، لها أربعة أطراف مشرشرة «الأوية» تهتزُّ مع حركة رأسها، تتربع عند منتصف جبهتها مثل عقرب أسود يرمقني بعين واحدة خالية من الرموش.
كنتُ أسمع صوتها قبل أن تدخل من الباب الخارجي يَزعق: يا أهل الدار! تهتف ستي الحاجة منتصبة: «عزرائين جه.» مَن هو عزرائين؟ مندوب من عند ربنا يهبط من السماء إلى الأرض ليَقبض على أرواح الناس دون أن ينتبهوا.
أسمع صوتها فأختفي، منذ وُلدت أراها ترمقني بالعين الواحدة المفتوحة كالدائرة لا يَطرف لها جفن، تضيق عينها وهي ترمق بطني أسفل البطن، بين الفَخِذَين، لم تكفَّ عن النظر إلى القطعة الصغيرة من اللحم — يسمُّونها «الظنبور»، (وفي اللغة الفصحى «البظر») — لم تكفَّ عن النظر إليها تستعجل بروزها، كأنما كامنة في اللحم، ما هي إلا نظرة من عينها فتَبرز إلى السطح، تُمسك الموسى بأصابعها الغليظة الخشنة، تحميه فوق قطعة حجر، يُصبح السنُّ أحمر كالنار، تشدُّ البظر بإصبعين تستأصله من جذوره بسن الموسى، تَدفنه في حفرة بالأرض، تَردمه بالتراب، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، تغسل يديها من الدم في الطشت وتقرأ الفاتحة ثلاث مرات.
تلاوة القرآن على الجرح النازف كصبغة اليود تَقتل الجراثيم وتُطهِّر الجروح، التطهير، الطهارة، المرأة المطَّاهرة هي الداية التي تقوم بعملية «الطهارة» (الختان باللغة العربية الفصحى).
في مصر عام ١٩٣٧م، في السادسة مِن عمري، كانت عملية «الختان» تُجرى لجميع البنات قبل أن يدركهنَّ الحيض، لم تكن واحدة منهنَّ تُفلت في القرية أو المدينة، في الطبقة العليا أو الطبقة الدنيا، لم تُفلت أمي زينب هانم، لم تَستطع أمي أن تُنقذني أو أي واحدة من بناتها، أنقذتُ ابنتي، وبنات كثيرات أخريات حين بدأتُ أكتب منذ أربعين عامًا.
في السادسة من عمري لم أستطع إنقاذ نفسي، أربع نسوة في حجم الداية أم محمد تجمَّعْن حولي، مكتوفة الذراعين والساقين، دقوا يدي وقدمي بالمسامير كالمَسيح المصلوب.
عرفت من زميلتي القبطية في المدرسة أنَّ المسيح صلبوه، من هو المسيح؟ قال أبي: إنه سيدنا عيسى عليه السلام، وما صلبوه وما قتلوه ولكن شُبِّه لهم؛ كما جاء في القرآن. خالتي نعمات تقول عن صديقتي القبطية: «نصرانية»، «عضمة زرقة»، رايحة جهنم. كان اسمها مريم، كانت في السادسة من عمرها، أمسكتْها الداية أيضًا، قطعت من بين فخذيها البظر، لم تكن البنات المؤمنات بالمسيح يفلتن كالمؤمنات بسيدنا محمد. عمتي رقية تقول: النبي أمر بقطع بظور البنات!
لم أتصوَّر أن النبي محمد أو النبي عيسى أو أي نبي آخر يُصدر أمرًا مثل هذا.
منذ طفولتي لم يَلتئم الجرح العميق في جسدي.
الجرح الأعمق في النفس، الرُّوح، لا أنسى ذلك اليوم، صيف عام ١٩٣٧م، مر سبعة وخمسون عامًا في ذاكرتي كأنما الأمس.
راقدة من تحتي بركة الدم، توقَّفَ النزيف بعد أيام، نظرت الداية بين فخذيَّ وقالت: الجرح خلاص خف والحمد لله، الألم ظل كالدمل غائرًا في اللحم، لم أنظر بنفسي لأعرف مكان الألم.
لا أستطيع النظر إلى جسدي العاري في المرآة أو هذه المنطقة المحرَّمة المَحفوفة بالإثم والعار!
لم أَعرف ماذا في جسدي من أشياء أخرى تستوجب القطع، في الليل أرقد مفتوحة العينين، لا أعرف ما يُخبِّئه القضاء والقدر، الغيب لا يعلمه إلا الله، محفوف بمخاطر، جسدي مثل الآخَرين أصبح ضدي يُفاجئني بأشياء مُفزِعة.
في التاسعة من عمري رأيتُ النزيف الأحمر، يُسمُّونه في العربية الفصحى «الحيض» أو «المحيض»، جاء ذكره في القرآن: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فاجأني الأذى ذلك اليوم، فتحت عيني في الصباح فوجدت سروالي غارقًا في الدم، هل تسلَّلت الداية في الليل وقطعت شيئًا آخر من بين فخذي؟ عفريت من الجن، أو شيطان من الشياطين، خلقه الله في أجسام البنات، دخَل من تحت عقب الباب ومزَّق غشاء العفة؟ هذا الغشاء يفرق البنت العذراء عن المرأة المتزوجة، الدليل الوحيد على حسن الأخلاق.
هل أراد الله أن يُعاقبني؟! أصابني بمرض البلهارسيا، سوف أنزف الدم حتى أموت، مات جدي حبش وأبوه السعداوي بالبلهارسيا. اختفَيتُ تحت الغطاء أدعو الله أن يغفرَ ذنوبي، أخرج من السرير لأتسلَّل إلى دورة المياه، أخفي الإثم والعار عن الجميع، حتى أمي، هل يستجيب الله لدعائي قبل أن يعرف أحدٌ في البيت؟ مغفرة الله تَحدث ساعةً أو نصف ساعة، أحمدك يا رب، غفرت ذنوبي، ثُمَّ يغرق السروال مرة أخرى باللون الأحمر الداكن، أعود أغسله وأتوضَّأ وأصلي، أدفن وجهي في صوت سجادة الصلاة، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، أركع وأسجد، لا أكفُّ عن الاستغفار.
في حركة من حركات السجود اندفع شيء بين ساقيَّ، صنع فوق سجادة الصلاة بقعة حمراء كبيرة، السجادة المقدسة عادت بها ستي الحاجة من أرض الحجاز، سجادة عجمية صغيرة من الصوف، رمادية اللون، مرسوم عليها الكعبة الشريفة.
الدم النجس يلوِّث الحرم المقدس!
كانت فضيحتي بجلاجل، الجيران عرَفوا الخبر، تناقلته الألسنة من عائلة أبي وأمي في القرية والمدينة.
كيف يكون الدم في جسمي نجاسة؟ كلمة «النجاسة» سمعتُها أول مرة في حياتي «الحيض دم فاسد»، لا يحقُّ للبنت خلال أيام الحيض أن تلمس مُقدَّسًا، مثل كتاب الله، لا يحق لها الصلاة، أو الصيام، أو قراءة القرآن، لسانها يُصبح نجسًا، يدها إذا صافَحها أحد تفسد الوضوء والصلاة.
أصبحتُ لا أكفُّ عن دخول الحمام، لم تكن البقعة الحمراء تتلاشى، وإن تلاشت تترك من خلفها لونًا أصفر أو أسود أشبه بظلِّها، إن تلاشى الظل بقيت الرائحة كالرُّوح الشريرة تحوم حول الجسد.
أصابني المرض النفسي، نوع من الهوس، لا أكفُّ عن غسل يدي بالماء والصابون طول النهار، مرض يصيب البنات والنساء، المسلمات منهنَّ أو القبطيات أو اليهوديات، كانت لي زميلة يهودية، في التوراة تحدَّث الله عن الحيض، يسميه «الطمث»: «في أيام الطمث تكون المرأة نجسةً سبعة أيام، كل شيء مقدَّس لا يُمسُّ، وإلى المقدس لا تجيء حتى تُكمل أيام تطهيرها، إن حبلت المرأة وولدت ذكرًا لا تطهرها تأتي بخروف وفرخ حمامة أو يمامة ذبيحة تقدمها لربها، فيُكفِّر عن ذنوبها وتطهر من دمها.»
في القرآن لم يكن الحيض «أو المحيض» إلا «أذًى» فقط، كلمة «أذى» بدت لي بريئة إلى جوار الكلمات الأخرى في التوراة، كلمة «حيض» بدت أفضل من كلمة «طمث». تتضاعَف نجاسة الدم حين تكون المولودة أنثى! تطهير الدم النجس يكون بتقديم فرخة أو خروف مشويٍّ للرب! لم يطلب الله من النساء في القرآن أي فرخة أو خروف مقابل الطهارة، شكرتُ الله كثيرًا لأنه خلق أبي مسلمًا وليس يهوديًّا. كنت أظن أن المسلمين يؤمنون بالقرآن فقط، أبي قال: إن التوراة والإنجيل كليهما «مثل القرآن»، أنزلهما الله إلى الناس هُدًى ونورًا، على المسلمين أن يؤمنوا بكتب الله الثلاثة.
وكأنما ألقى أبي فوق رأسي كوز ماء صاقع في ليلة شتوية.
كنتُ أصدِّق ما يقوله أبي، في الشرفة البحرية في الإسكندرية يَجلس ونحن الأطفال حوله، يَنظر إلى أخي «طلعت» وهو يتحدَّث، يخصه بالحديث، لم يكن يتجه نحوي إلا حين يشعر بالعطش، أو يجف حلقه: هاتي كباية مية يا نوال.
وحين تَنهض أمي لإعداد مائدة العشاء: قومي ساعِدي مامتك يا نوال.
لم أكن أنهض من مكاني، أودُّ الاستماع إلى حكاياته، خاصة حكاية سعد زغلول وثورة ١٩١٩م. شارك فيها أبي، كان شابًّا في العشرين من عمره، طالبًا في كلية دار العلوم بالقاهرة، خرج مع الطلاب يهتف ضد الإنجليز، يُلقي عليهم الطوب والحجارة، ثُمَّ بدأ الرصاص يتطاير في الجو، أصابته شظية في قدمه، حمله زملاؤه إلى نقطة إسعاف، عاد إلى كفر طحلة فوق عربة كارو تجرُّها حمارة، استقبلته أمه ومِن خلفها النساء بالزغاريد، أصبح في نظر أهل القرية بطلًا مثل سعد زغلول.
كلمة «بطل» يَنطقها أبي، عيناه تَلمعان بالبريق، منذ الطفولة يحلم بأنه يَحمل سيفًا يضرب به الأعداء، يحرِّر الوطن. يسمع أمه تغني مع نساء القرية: يا عزيز يا عزيز، كبة تأخذ الإنجليز، كانت طفلة في الثانية حين دخل الإنجليز مصر عام ١٨٨٢م.
يحكي أبي عن جدته الغزاوية، ماتت قبل أن يُولَد، سمع حكاياتها من أمه ونساء القرية، كانت طويلة فارعة القامة، تخرج من الفجر، فأسها على كتفها، وتعود عند الغروب، لم تكن أجيرة لأحد، تملك قطعة أرض صغيرة ورثتها عن أمها، لم يرَها أحد راقدة في الدار، تلد طفلها وهي تعمل في الحقل، تحمله في القفة وتعود إلى الدار، حين دخل الإنجليز إلى مصر تجمع أهل القرية، الرجال والنساء، ومنهم الغزاوية، حاملين الفئوس مستعدِّين للقتال حتى الموت، حياتهم كان أشبه بالموت.
يحكي أبي عن: حادث دنشواي، ثورة عرابي، قبل الاحتلال البريطاني، الخديو والملك فؤاد، أول دستور مصري عام ١٩٢٣م، أول انتخابات عام ١٩٢٤م، أصبح سعد زغلول رئيسًا للوزارة، خلفه النحاس، ثُمَّ جاء إسماعيل صدقي عام ١٩٣٠م، اشتد الجوع بالفلاحين والعمال، بدأت المظاهرات والإضرابات، آخر إضراب قام به عمال السكة الحديد، أعلن إسماعيل صدقي الأحكام العرفية وأمر الجيش بإطلاق الرصاص على العمال، عاد حزب الوفد إلى الحكم، أصبح النحاس رئيسًا للوزارة، ودخل في مفاوضات مع الإنجليز، وقَّعَ معاهدة ١٩٣٦م، والمظاهرات والإضرابات لم تكن تكفُّ.
كان يزورنا في الإسكندرية أقارب أبي من الفلاحين، بعضُهم هجر القرية من شدة الجوع، أصبحوا عمالًا في شركة النسيج بالمحلة الكبرى، في مصانع شبرا الخيمة في القاهرة، وفي شركة الترامواي بالإسكندرية، يتقاضى الواحد في اليوم ثلاثة قروش، يُشاركون في الإضرابات مطالبين برفع الأجور، ويَهتفون مع الطلبة ضد الحكومة والإنجليز.
في إحدى المظاهرات تجمَّع طلبة مدرسة العباسية الثانوية في الفناء الواسع، يردِّدون الهتافات ضد الحكومة، خرج الناظر إلى التلاميذ، هزءوا به هاتفين: يسقط الناظر، عاد إلى مكتبه عقد اجتماعًا عاجلًا للمدرسين، قال الناظر لأبي: يا سيد أفندي، أنت محبوب من الطلبة، مُمكن يسمعوا كلامك ونخلَص من الشغب ده.
– يا حضرة الناظر، دي مظاهرة وطنية مش شغب.
– يا سيد أفندي، لازم الطلبة يرجعوا الفصول.
– يا حضرة الناظر، البلد كلها خرجت مظاهرات، حتى العمال والفلاحين، ليه نمنع الطلبة؟
– يا سيد أفندي، ده مش وقت نقاش، لازم تخرج حالًا للطلبة في الحوش وترجعهم الفصول.
أطاع أبي الناظر وخرج إلى الطلاب في فناء المدرسة، أحاطوا به يهتفون: يحيا السعداوي، حملوه فوق الأعناق، خرجوا إلى الشارع، وجد نفسه يهتف معهم: يسقط الإنجليز، تسقط الحكومة، تحيا مصر حرة!
وعمل إيه الناظر يا بابا؟ نسأله نحن الأطفال في نفس واحد، وأنفاسنا تلهث، الضربات تحت ضلوعنا تصعد وتهبط.
يكون أبي قد نهض واقفًا يصوِّر لنا كيف كتب الناظر تقريرًا ضده، ألقاه أمامه فوق المكتب، أبي أمسك التقرير وألقى به فوق مكتب الناظر.
«اقلب دواية الحبر على تقريرك يا حضرة الناظر.»
في ركن الشرفة البحرية كنت أجلس، أرمق أبي الفارع القامة، عيناه تلمعان بالزهو، أنا ابنة هذا الرجل الوطني الشجاع، لا يخاف أحدًا، لا الناظر ولا الملك ولا الحكومة ولا الإنجليز ولا العمدة في كفر طحلة، «لا أخاف إلى الله سبحانه وتعالى.» هكذا كان أبي يقول … ويردِّد دائمًا: أنا مش باخاف لا من النزرا ولا من الوزرا (يعني النظراء والوزراء).
عام ١٩٣٨م، وأنا في السابعة من العمر انحفَر صوت أبي في ذاكرتي، أصبحتُ لا أخاف أحدًا إلا الله، إن هددني أحدٌ بكتابة تقرير ضدي أقول بصوت أبي: اقلب دواية الحبر على تقريرك.
كم من التقارير كُتبت ضدي بعد أن اشتغلت في الحكومة! تقارير سرية بحسب القانون، يكتبها الرؤساء ضد المرءوسين في الوزارات والإدارات، في كلِّ وزارةٍ أيضًا جهاز بوليس يُسمُّونه «مكتب الأمن»، يكتب التقارير، يرفعها إلى وزير الداخلية أو رئيس الدولة، العمدة كان في طفولتي كأنما رئيس الدولة، أهل القرية يقولون إنه أكبر رأس في البلد، يمشي من بعيد فوق الجسر حوله الرجال، جدران بيته عالية تعلو فوق الجسر تطل على النيل، ثلاثة أدوار بالطوب الأحمر يسمونه «الدوَّار»، يعلوها البرج له نوافذ مستديرة صغيرة أعلى من منارة الجامع، شرفتها صغيرة من الطين النيئ، يقف عليها الشيخ مرزوق ليؤذِّن.
بيوت القرية مثل الجامع مبنية بالطوب النيئ، الطين الممزوج بالتبن، زريبة الحيوانات جزء من البيت، الأرض ترابية عارية من الأثاث، حصيرة من القش، زير مملوء بالماء من النيل الذي يسمونه البحر، صندوق خشبي مزركش الألوان مركون إلى الجدار الطيني، داخله بعض الجلابيب الجديدة أو القديمة، ومنها جلباب العروس المشجر، المبقَّع بالدم منذ ليلة الزفاف.
لم يكن البيت يزيد على دورين، يُسمُّونَه «الدار»، بينهما سلم من الطين أو الخشب، يصعد إلى السطح، حيث أكوام من عيدان الذرة أو القطن الجافية، أقراص «الجلة» — روث البهائم المجفَّف تحت الشمس — زلع الجبنة الحادقة والمخلل، يتلوى داخلهما دود أبيض صغير «دود المش».
كان الجسر عاليًا أعلى من البيوت، يمتدُّ من كفر طحلة إلى قرية أخرى اسمها طحلة، تَفصلُهما مسافة كيلومتر، تتلاصَق بيوت الفلاحين، تتسانَد بعضها إلى بعض، راقدة في حضن الجسر بلون الطين الأسود.
أتمشَّى فوق الجسر مع زينب ابنة عمَّتي بهية، عمرها من عمري، تتطلَّع بعينيها إلى بيت أعلى من بيت العمدة وتقول: «دوار علما باشا، أغنى عيلة في طحلة، عندهم ألف فدان وخمسون عبدًا، جدك شكري بيه أبو مامتك أبوه الشيخ الطحلاوي الكبير، كان عنده أرض وعبيد زي علما باشا، لكن الأرض راحت منهم والعبيد راحوا، ومابقاش لهم في الكفر إلا الدوار.»
كان دوار جدي شكري بيه لا يَزال قائمًا، بيت ضخم من دورَين، مبني بالطوب الأحمر، له حوش واسع من الداخل، شرفات ومشربيات من الخشب المزدوج، مغلق طول الوقت، لم يكن أحد من عائلة أمي يزور القرية إلا وقت الحرب، يُهاجر أهل المدينة إلى الريف.
حين تزوَّجت طنط هانم (شقيقة أمي) من زوجها التاجر في الموسكي، جاءت به إلى القرية في زيارة يومين، أرادت له أن يرى أثرًا عريقًا من مآثر العائلة الكريمة.
كان هناك بعض دوارات قليلة، أربعة أو خمسة، يملكها أصحاب العِزَب الكبيرة، لهم أراضي وحقول تمتد مع امتداد الجسر حتى طحلة والرملة أو «بنها» عاصمة القليوبية.
العمدة كان صاحب السلطة بلا أملاك كبيرة، له أعوان من الرجال، يرأسهم شيخ الخفر.
مصر كانت تعيش عصر الإقطاع، كبار الملاك في القرية يملكون ٩٨٪ من الأراضي، بقية الأرض ٢٪ يملكها ٨٠٪ من الفلاحين (لا تزيد ملكية الواحد منهم على ثلاثة أفدنة)، بقية أهل القرية ٢٠٪ لا يملكون شيئًا على الإطلاق، يعملون في أراضي تحت اسم «الأُجَراء»، بعضهم لا يشتغل إلا في موسم الحصاد أو جمع القطن.
كانت «ستي الحاجة» تنتمي إلى طبقة صغار الفلاحين … تمتلك قطعة من الأرض، ثلاثة أفدنة، ورثتها عن أمها الغزاوية، ثلاثة ملايين من الفلاحين مثل ستي الحاجة، إنهم أحسن حالًا من الأُجَراء؛ لم يكن أطفالهم يموتون من الجوع، يموتون من الإسهال أو النزلات المعوية فقط، طعامهم ليس الخبز الحاف بدون غموس، إنهم يغمسون بالجبنة الحادقة مع مخلل الخيار أو الليمون الأخضر الصغير.
سعر الأرض يرتفع على الدوام، دخل الفلاح يَنخفض العام بعد العام، المُضارَبات في بورصة القطن لصالح الإنجليز وكبار الملاك، المضاربات بالأراضي الزراعية يَربح منها الإقطاعيون عن طريق رفع الإيجارات.
اشتغلت ستي الحاجة في أرضها عشرين عامًا متصلة دون أن تدَّخر شيئًا إلا مصاريف أبي ليتعلم، كان يُمكن أن تشتري فدانًا من الأرض.
«الأرض تزيد فدانًا أو تنقص فدانًا، ولا حاجة تتغيَّر في عيشة الفلاحين المرة يا بنت ابني، لكن التعليم للولد حلو، يخليه يتوظف في الحكومة، ويبقى راجل ملو هدومه.»
كانت امرأةً لا تعرف القراءة، لم تقرأ في حياتها كتابًا واحدًا، لم تقرأ القرآن كتاب الله، تقول للعمدة: أنا عارفة ربنا أكثر منك يا عمدة! ربنا هو العدل، عِرفوه بالعقل!
أخذتني ستي الحاجة معها إلى العمدة ذات يوم، كنتُ في السابعة من عمري وهي في الخمسين، قوية الجسم، فارعة القوام، العمدة إلى جوارها قصير سمين مترهِّل، بشرته بيضاء لم تعرف الشمس، مد يده وصافحني، بضة ناعمة صغيرة بالنسبة ليد جدتي الكبيرة الخشنة، لم تلمس أنامله الفأس … بين أصابعه سِبحة صفراء حباتها تلمع، في يده الأخرى مُصحف حروفه منقوشة بماء الذهب.
كان جالسًا فوق مقعد له مسنَد عالٍ، يرتدي قفطانًا أسود اللون، حوافُّه مطرَّزة بخيوط ذهبية، كانت ستي الحاجة واقفةً أمامه داخل جلبابها الأسود المُترب، من خلفها الفلاحون والفلاحات وجوههم ضامرة ممصوصة حتى آخر قطرة، بشرتهم مشققة كالأرض «البور».
لم يكن وجه ستي الحاجة ضامرًا، يدُها كانت مثل أياديهم، مشققة كبيرة الحجم، لكنها مرفوعة تشوِّح بها في وجه العمدة: الكلمة شرف يا عُمدة! فين كلمتك؟
امرأة فلاحة قوية بالفِطرة، مالكة أرضها، ليست أجيرةً لأحد، كاملة الأهلية بعد أن مات زوجُها حبش.
لم تكن ستي الحاجة الأرملة الوحيدة في القرية، كان هناك أرامل كثيرات، فلماذا هي أكثرهنَّ قوة؟
«ستك الحاجة ورثتْ أمها الغزاوية.»
بعد موت زوجها أصبحَت ستي الحاجة تَشتغِل بفأسها في أرضها من طلوع الشمس، تأتيها آلام الولادة في الحقل، تتربَّع فوق الأرض، تَنفتِح ساقاها، ترى الرأس بشَعره الأسود محشورًا بين عظمتي الفخذ، تملأ صدرَها بالهواء في شهيق عميق، تُفرغه بكل قوتها ضاغطةً بكفِّها على بطنها، يَندفع الجنين خارجًا مفترشًا الأرض، تمد ذراعها الطويلة لتمسك الفأس، بخبطة واحدة تقطع الحبل السري، بخبطة ثانية تقطع طرف الدوبارة من سروالها، تَعقدها حول «السرة»، تلفُّ المولود في جلبابها القديم، تَتكئ بذراعيها في زفير طويل، تضغط بطنها بكفها الكبيرة … تندفع المشيمة كرغيف من الدم المتجمِّد، تَردمُها في التراب، تمسح الدم عن فَخِذَيها بورق الذرة الجافة، تَرتدي سروالها الواسع من الدمُّور، تشدُّه حول وسطها بالدوبارة، تَفرش القفة بالعشب الناعم، وتضع مولودها، تُغطيه بورق الذرة الأخضر … تعود إلى دارها حاملةً القفَّة على رأسها، من خلفها الجاموسة.
في يوم من الأيام دخل عليها ابنها السيد (أبي)، عمره عشر سنوات، يَنزف من أنفه، ضربه شيخ الخفر، مسحت الدم من أنفه بخرقة قديمة، شدت طرحتها السوداء من فوق مشنَّة الخبز، لفت بها رأسها، انطلقت كالنمرة الغاضبة، شيخ الخفر كان واقفًا من حوله الرجال … رفعت كفها الكبيرة المشققة في الهواء: ما انخلق اللي يضرب ابني!
في الليل أصبح حديث القرية هذه الحكاية، مبروكة بنت الغزاوية ضربت شيخ الخفر، يتهامس الرجال والنساء، جدعة بنت جدعة، امرأة تُساوي عشرين رجلًا، لم يحدث في تاريخ القرية أن صفعت امرأة شيخ الخفر، أصبح لها هيبة … الكل يلجأ إليها.
الغزاوية أم ستي الحاجة كانت لها سمعة أخرى في القرية، شتمَت العمدة أمام بيته من حوله الخفراء، أرسل إليها في الليل رجلًا يلفُّ رأسه بعمامة كبيرة، في قدميه صندل من جلد الماعز، يمسك في يده عصا صفراء مقسمة بدوائر سوداء، في الصباح وجدوا باب دارها مفتوحًا، في المدخل يرقد كلبها مرزوق رأسها معوج، فوق التراب في الزريبة رآها راقدة، عيناها مفتوحتان شاخصتان إلى السماء، حملوها فوق رءوسهم، ساروا بها في الطريق الترابي، نساء ورجال أقدامهم حافية تلامس الأرض بلا صوت، يسيرون الصف وراء الصف بجلابيبهم البالية، عند مدخل القرية حفروا لها المقبرة، فرَشوها بورق الذرة الأخضر، بنَوا فوقها مقامًا بالحجر والإسمنت.
كل خميس كانت النساء تزورها، الرجال يمرُّون عليها في الأعياد، يتطلَّع العمدة إلى ضريحها يسأل الناس من بناه؟ لا أحد يعرف من بناه، يبنون بيوتهم بالطوب النيئ، لا أحد يعرف الإسمنت، ليس في القرية حجر أبيض.
•••
حكايات كثيرة أسمعها عن ستي الحاجة وأمها الغزاوية، للنساء تاريخ غير مكتوب، تتناقله الألسنة جيلًا بعد جيل، أجلس إلى جوار ستي الحاجة أَستمِع إلى الحكايات، أمسك ذيل جلبابها إذا ذهبت إلى الحقل، أعود معها إلى الدار، أدخل معها إلى غرفةٍ خلفيَّة تُسمِّيها «قاعة الخزين» مملوءة بالقمح حتى السقف.
لم تعد تزرع القمح بيدها، تُنقِّيه من الحصى فوق الحصيرة من القش، تحمله واحدة من عماتي فوق رأسها إلى الطاحونة ليُصبح دقيقًا ناعمًا أبيض، تعجنه ستي الحاجة في وعاء كبير من الفخار اسمه «الماجور»، تقطعه على شكل كرات صغيرة … تُلقيها داخل الفرن المحمي بالنار … يخرج على شكل أرغفة كبيرة من الخبز.
لم أعرف أن ستي الحاجة امرأة فقيرة، كانت تبدو غنية، من فوَّهة الفرن تخرج أرغفة بلا عدد، أقضمها بأسناني تذوب في فمي.
في حياتي كلها ألم آكل خبزًا مثل خبزها، لم أعرف للخبز طعمًا أو رائحة منذ أرغفتها تطقطق داخل الفرن، تتلقاها ساخنة كالنار فوق كفها الكبيرة.
لم أشهد في حياتي مثل هذه الكف الكبيرة، أكبر من كفِّ العمدة أو الملك، أكبر من كفِّ أبي.
في السابعة من عمري علَّمني أبي الصلاة، بدأتُ اسمع منه حكايات الأنبياء … سيدنا إبراهيم الذي أمسك الفأس وحطَّم الأصنام التي يَعبدُها قومه … سيدنا موسى الذي تحولت عصاه إلى ثعبان كبير ابتلع ثعابين سحرة فرعون … سيدنا يوسف رماه إخوته في البئر، وعادوا إلى أبيهم يقولون الذئب أكله، ستنا مريم العذراء ولدت سيدنا عيسى بروح من عند الله، ناداها مولودها لتهزَّ النخلة وتأكل منها البلح الرطب، سيدنا محمد هبط إليه سيدنا جبريل في غار حراء: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
عاد سيدنا محمد إلى زوجته خديجة يرتعد: «دثِّروني، دثِّروني.»
في الركن مِن الشرفة البحرية أجلس … خيالي يسرَح مع حكايات أبي … أُحملِق في السماء … أتصوَّر الله من وراء السحب، إلى جواره: سيدنا محمد، سيدنا موسى، سيدنا عيسى، ستنا مريم.
لم أكن أرى البحر من الشرفة البحرية، أشمُّ رائحته فقط، حين يهب الهواء أول الصباح في أيام الصيف نذهب إلى الشاطئ، تُسميه أمي «البلاج».
نركب العربة الحنطور، أتنافس أنا وأخي طلعت للجلوس بجوار السائق فوق المقعد العلوي، أُمسك لجام الحصان، أرى الشارع الطويل حتى نهايته، اسمه شارع كوم الدكة، نمرُّ أمام مدرسة أخي، اسمها «مدرسة كوم الدكة»، الحديقة الواسعة المُرتفعة فوق الهضبة، يلهث الحصان وهو يصعد، تُطرقع حوافره فرحًا هين يَهبط إلى كورنيش البحر، أشهق معه، أملأ صدري بهواء البحر، ينفتح الأفق عن عالم واسع من المياه الزرقاء الممدودة حتى السماء.
قبل أن أولد (في حياة أخرى) كنتُ سمكة تعيش داخل هذه المياه، شدُّوني خارج المياه رغم إرادتي بالسنارة، منذ رأيت البحر لأول مرة في حياتي، وإذا رأيتُ البحر في أي مكان من العالم ينتابني هذا الفرح، هذه الرغبة للعودة إلى حضن المياه الزرقاء، حضن الأم.
كان لنا في «بلاج الشاطئ» كابينة صغيرة من الخشب، نخلَع فيها ملابسنا، نرتدي «المايوه»، لم تكن سعدية (الخادمة) تخلع جلبابها، تجلس على الرمل تحت الشمسية تحرس الحقيبة المنتفخة بالطعام.
– ليه «سعدية» مش بتعوم معانا في البحر يا ماما؟
– ماعندهاش مايوه يا نوال.
رد أمي يَبدو مقنعًا، سعدية لا يمكن أن تسبح في البحر بدون «مايوه»، تصوَّرتُ أن «المايوه» لا يُشترى من السوق، شيء يهبه الله للأطفال الذين لهم أب وأم.
في الليل أنام في سريري تحت الأغطية، سعدية تنام فوق الأرض على الحصيرة أو سجادة قديمة، فتحت عيني رأيتها تَبكي، كانت طفلة تكبرني ببضع سنوات قليلة … لم يكن أحدٌ يراها طفلة.
تصوَّرت أنها ليست مثل الأطفال، ليس لها أب أو أم.
– عاوزة أشوف أمي يا ست نوال.
– عندك أم يا سعدية؟
– طبعًا يا ست نوال.
– وهي فين؟
– في بلدنا.
– وبلدكم فين؟
– مش عارفة.
– اسمها إيه؟
– كفر الشيخ.
بدأت أفكر في سعدية، كيف يكون لها أم؟ كيف تتركُها أمها تعيش في بيت مع الغرباء؟ سعدية تقف أمام الحوض لتغسل الصحون بعد أن نأكل، تَلتهب أصابعها من الصابون والصودا الكاوية، في ركن المطبخ تجلس داخل جلبابها تحرُس طعامنا، تتصلَّب عرقًا، نحن في المياه الزرقاء نسبح ونلعب.
في يوم جلستُ إلى جوارها فوق الرمل وبدأنا نلعب معًا، بنينا بيتًا كبيرًا من الرمل على شكل الهرم، كلما سقط البيت على ما فيه تَضحك سعدية، تلمع عيناها بالفرح، تتلاشى اللمعة في لحظة، ترمق الشاطئ بنظرة تُشبه نظرة جدتي آمنة: الناس قالوا لو مشيت على الشط ده على طول على طول، أكون وصلت كفر الشيخ على آخر النهار.
– يا عبيطة يا سعدية، الشط ده يوديكي إيطاليا مش كفر الشيخ. سمعت أمي وأبي يَقولان إن وراء هذا البحر بلدًا اسمها إيطاليا، سعدية لم تكن تصدِّق شيئًا مما يقوله أبي أو أمي، تؤكِّد لي أن بلدها كفر الشيخ توجد على امتداد الشاطئ على مسيرة نهار واحد.
صحونا في الصباح فلم نجد سعدية … خرَج أبي يبحث عنها … قبل أن ينتهي النهار عثر عليها خفراء البحر سائرةً على الشاطئ في طريقها إلى بلدها.
عادت سعدية إلينا مُطرقة الرأس … رفعت رأسها والتقتْ عيناها بعيني … أدركتُ لأول مرة في حياتي معنى الحزن … لم يكن في عينها دموع، الجفاف التام، اليأس التام.
أنظر في المرآة فأرى عيني سعدية تُطلان عليَّ، هما عيناي في لحظات الحزن أو اليأس … لحظات الندم والإحساس بالإثم … السؤال كان يدور في رأسي: كيف لم أُنقذ سعدية؟
صحونا ذات صباح فلم نجدها، مرَّت الأشهر لم يعثر عليها البوليس … تاهت على الشاطئ اللانهائي، أسرقتها واحدة من مثيلات ريا وسكينة؟ كان في أذنها حلق صغير له مسمار وقفل كالحلق في أذني، من الصفيح وليس من الذهب.
في السابعة من عمري رأيتُ أول مظاهرة وطنية في حياتي، كنتُ عائدة من المدرسة وحدي … شارع محرم بك انقلب بحرًا من الأجساد، آلاف السيقان الطويلة داخل السراويل … كلهم رجال … أصواتهم تدوي كالرعد … يدبُّون بكعوب أحذيتهم الجلدية على الأسفلت … سقطتُ وأنا أجري تحت الأقدام … كيف نهضت؟ انتشلتْني بعض الأيدي … ضاعت حقيقة المدرسة … دون أن التفت ورائي، كنت أجري حتى وصلت البيت.
أمي كانت واقفةً عند الباب … تلقفتني بين ذراعيها، كنت أبكي.
– الشنطة راحت يا ماما.
– الشنطة مش مهمَّة، المهم إنك سليمة.
تتطلع أمي إلى الشارع واقفة عند الباب، عيناها لا تَكفان عن الحركة، تبحثان في وجوه الناس عن أبي.
«ربنا يرجعه بالسلامة.»
تأخَّر أبي، نمتُ قبل أن يعود، في الحلم رأيته غارقًا في بحر من الأجساد، تحمله الأمواج إلى السماء، يهتف: «تسقط الحكومة»، تهبط به أسفل، تدوسه الأقدام وتَنطلق رصاصة في صدره، يحملونه إلى أمي يَنزف دمًا، يموت بين يديها، فتشهق بالبكاء، تحمل طفلها الرضيع «أخي الأصغر» فوق صدرها، أختي الصغرى «ليلى» تحملها فوق كتف، أخي الأوسط تحمله فوق الكتف الأخرى، أنا وأخي الأكبر «طلعت» نمشي وراءها نُمسك ذيل فستانها، ملابسنا ممزقة مثل الشحاذين.
أهبُّ من النوم مذعورة، أبي مات، قتَله الإنجليز أو الحكومة، أمي أيضًا غرقت في بحر الأجساد، حاملة إخوتي وأخواتي، أصبحتُ وحدي أمشي على الشاطئ اللانهائي، أتوه كما تاهت سعدية.