الحلم
«نوال موهوبة، يمكن تبقى فنانة ممتازة يا زينب هانم.»
هذه العبارة تقولها مس إيفون لأمي حين تزورنا في البيت، قلبي يَخفق حين أسمعها تنطق «نوال»، يصبح اسمي غير الأسماء، أسمعه لأول مرة، كلمة «موهوبة» ترفعني فوق السحب.
مس هيمر تزورنا في البيت أحيانًا ومعها مس إيفون، أو تأتي مس إيفون وحدها، تفتح أمي الصالون، الغرفة المقدَّسة في البيت، مغلقة طول العام، النوافذ والأبواب، لا تفتح إلا للضيوف الغرباء، مقاعدها من الخشب الزان، مكسوة بالحرير الأحمر له ملمس القطيفة، مساندها ذهبية، يسمُّونها «الطقم المدهَّب»، الكرسي فيها يحمل لقب «الفوتيه»، له غطاء أبيض يحميه من الهواء والضوء. فوق الأرض سجادة عجمية كبيرة زاهية الألوان، دخلت بها أمي مع جهاز العروس ليلة زفافها.
لم يكن مسموحًا لنا نحن الأطفال أن ندخل إلى الضيوف الغرباء، وتسأل مس إيفون: فين نوال؟ أسمع صوت أمي يناديني: يا نوال، تعالي سلمي على مس إيفون، أكون واقفةً وراء الباب أنتظر هذه اللحظة، أُرهف السمع لما يدور، أندفع إلى الصالون مثل الصاروخ.
في الصالون لم تكن أمي هي المرأة التي أراها في المطبخ، تَرتدي مع ثوبها الحريري وجهًا آخر وجسدًا آخر، يَنسدِل شعرها الذهبي الطويل فوق كتفَيها العاريتين البيضاوين، عنقها يبدو أطول مما كان، يشعُّ ضوءًا ناعمًا كالرخام، يحوطه العقد «الألماظ» الماسي، تَنعكس على فصوصه الأضواء، في أذنيها يتدلى الحلق الألماظ، يهتزُّ مع رأسها، تشعُّ فصوصه كالنجوم، فستانها الحريري الأصفر، له حمالتان رفيعتان فوق الكتفين، يكشف عن الجزء الأعلى من صدرها حتى بداية الشق بين النهدين، يتربع «البروش» فوق صدر الفستان أعلى النهد الأيسر مثل قرص الشمس، حول مِعصمها الأيسر ساعة حريمي صغيرة لا يمكن رؤية أرقامها الدقيقة، محلاة بفصوص من الألماظ، حول إصبعها الخنصر خاتم الزواج الذهب، محفور عليه اسم زوجها «السيد السعداوي»، حول معصمها الأيمن الإسورة ذات الفصوص المشعَّة، وهي الشبكة التي قدمها أبي لأبيها يوم الخطبة.
في الصالون أمي تبدو مثل الملكة أو واحدة من الأميرات، صوتها يرنُّ متألِّقًا صافيًا كالماء العذب، ضحكتها لها رنين الفضة، تُلقي رأسها إلى الوراء مع شَعرها، تضحك كاشفة عن أسنانها البيضاء، يدها صغيرة بضة تتحرك برقة في الهواء وهي تتكلم، أو تسكن في حجرها وهي صامتة، تتشابك أصابعها مع اليد الثانية، ينامان فوق فخذيها مثل توءم يمامتين.
إلى جوارها تبدو مس إيفون، تنطق أمي كلمة «إن شاء الله» بهذا الصوت، فأُدرك أن الله لن يشاء أبدًا، وأن البيانو لن يدخل بيتنا في حياتي.
أبي يَدخل إلى الصالون ليسلم على مس إيفون، في كل مرة تسألُه عن البيانو، في إحدى المرات قال لها أبي: بيانو إيه يا مس إيفون، الغلاء بيزيد يوم ورا يوم، وماهية الحكومة بتنقص!
انكمشتُ داخل جسدي من شدة الخزي، أصبح أبي في نظري رجلًا فقيرًا، داخل جلباب البيت أو البيجاما من الزفير المُقلم، قدماه الكبيرتان السمراوان داخل شبشب قديم يشبه شبشب ستي الحاجة، أُطرق برأسي إلى الأرض، أخفي كعب حذائي المتآكل تحت المقعد، السجادة العجمية تبدو كالحة الألوان منحولة الوبر يعلوها ثقب صغير أخفيه بقدمي.
كنتُ في التاسعة من العمر، أحلم كل ليلة بالبيانو، مئات الليالي، آلاف الليالي، أحلم أن البيانو هبط من السماء ودخل إلى غرفتي من النافذة، ستة وعشرون عامًا أحلم بهذا البيانو حتى بلغَت ابنتي «منى» العاشرة من عمرها، اشتريتُ لها بيانو من أحد المزادات في القاهرة، ثمنه خمسة وستون جنيهًا، ادَّخرتها من راتبي منذ تخرَّجت في كلية الطب، أحد عشر عامًا أدَّخِرها الشهر وراء الشهر. كنتُ أسكن وابنتي في شقتي في الدور الخامس «في الجيزة»، فتحت عيني في الصباح ورأيت البيانو يدخل من النافذة مربوطًا بالحبال، بدت اللحظات خيال من طول ما رأيتُ هذا المشهد في النوم، الليلة، ستة وعشرون عامًا، بدت الحقيقة هي الحلم.
•••
لبَيتِنا في منوف غرفة واسعة تحت الأرض يُسمُّونها «البدروم»، تخزِّن فيها أمي بعض الأشياء القديمة، أخي «طلعت» جعل منها عُشًّا للحمام الزاجل، ومسكنًا لكلبه الكبير «فاتي» من نوع الوولف، يُشبه الذئب، تفزَع منه البنات المتجمِّعات حول طرمبة المياه يملآن الجرار. يبتسم أخي ويمد عنقه مثل الديك الرومي. يربِّت على رأس الكلب كأنما هو البطل مروِّض الأسود. ترمقه البنات بطرف عين، تمتلئ عيونهن بالإعجاب، يتلكأْنَ في ملء الجرار، يتضاحكْن، يتغامزن، يُطلقن القفشات والنكات، تطل عليهنَّ من النافذة «أم محمد» (زوجة الحاج محمود)، فيسود الصمت، تختفي الواحدة وراء الأخرى.
«بنات آخر زمن، مايستحوش!»
هذه العبارة، «أم محمد» تردِّدها كل يوم، كلمة «مايستحوش» تعني البنات بدون حياء أو خجل، البنات في زمن «أم محمد» كان عندهنَّ حياء، تُطرق الواحدة برأسها حين تمشي، لا يمكن أن ترفع عينها في عين رجل، لا يمكن أن يخرج منها صوت أو تضحَك بصوت مسموع مثل هؤلاء الفاجرات.
– في أيامنا كانت البنات مؤدَّبة يا أم محمد.
– أيوة يا ست زينب هانم، كانت البنت قطة مغمَّضة، لكن النهاردة في الزمن الأغبر ده البنت من دول ماتستحيش، عينها مفتوحة، يندب فيها رصاصة يا ست زينب هانم.
هكذا يدور الحوار بين أمي وأم محمد، حين تأتي لزيارتنا، تنضمُّ إليهما طنط نعمات (إذا جاءتنا في زيارة)، أو ستي الحاجة أو واحدة أخرى من الخالات أو العمات الزائرات. يجلسْن في الصالة الواسعة على الكنب البلدي، يشربْن القهوة أو المُغات، تقرأ «أم محمد» لهنَّ الفنجان، يلعبْن الكوتشينة «بصرة» أو «كونكان»، تقرأ لهنَّ طنط هانم البخت في ورق الكوتشينة، يُطرقعن باللبان الدكر أو النتاية. تُطرقع ضحكة طنط نعمات وهي تصيح: انا باحب الدكر أكثر من النتاية، ترتفع الضحكات النسوية الناعمة المَمطوطة أو المكتومة كالشهقات، تُخفي عمتي رقية نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء وتقول: يَسلم بقك يا نعمات هانم، تمط طنط فهيمة شفتيها في امتعاض: النتاية طعمها أحسن إذا كانت من الوراور، تضحك ستي الحاجة حتى تدمع عيناها تقول: الوراور مافيش زيهم، تنهض أم محمد وتُعدُّ «الحمام» أو «البخور» أو «الحلاوة». تُدندن أمي بأغنية سيد درويش: «فيك عشرة كوتشينة في البلكونة»، وأغنية «يا حاير يا داير يا جوز الضراير.»
– البيضة تقول للسمرة.
– مين زيك عندي يا جارية.
– والسمرة تقول للبيضة.
– الجير كتير على الحيطاني.
– واللفت بأرخص الأتماني.
– وجوزي ما يحب إلا أني.
– وأكثر لياليكي برة.
صوت أمي وهي تُغني يَترامى لي من الصالة وأنا في غرفتي الصغيرة، من وراء باب الحمام المغلق أسمع صوت صرخات طنط نعمات أو طنط هانم أو فهيمة، أُدرك أن أم محمد تَنزع الشعر من أجسادهن «بالحلاوة»؛ عجينة من السكر والليمون تُطهى على النار حتى تُصبح مطاطة، تنزع بها النساء الشعر من فوق أجسادهنَّ، الذراعين، الساقين، تحت الإبط، أسفل البطن وبين الفخذين.
الواحدة منهنَّ تخرج من الحمام مثل الأرنب المسلوخ، وجهها أحمر بلون الدم، ذراعاها وساقاها وعيناها، حاجباها مَنتوفان، وجفونها حمراء متورمة.
ترمقني الواحدة منهن بعين غاضبة، كأنما كشفتُ عن عورتها أو عن منبع ذلِّها وهوانها، تمتد يد الواحدة منهن فتلزمني في كتفي بإصبع حاد مثل الإبرة، تَقرصني من خدي أو أذني أو ثديي، قرصة مؤلمة تُشبه قرصة العقرب، لم أكن أعرف لماذا يفعلن ذلك، هل كانت مداعبات أم عقوبات؟ أصابع قوية مدبَّبة متصلِّبة محرومة من شيء ما، تُعوض عن حرماتها بأن تَغرز نفسها في لحم الأطفال.
أكثرهن غضبًا منِّي كانت طنط نعمات وعمتي رقية، امرأتان تنتميان إلى طبقتَين مختلفتين، من عمر واحد تقريبًا، بدون زوج «مطلَّقتان»، من البُعد متشابهتان، عند الاقتراب يظهر بينهما التناقض؛ اليدان الكبيرتان المشقَّقتان لإحداهما تعلوهما آثار مقبض الفأس، اليدان البيضاوان الأخريان ناعمتان من البطالة واللاعمل. الاثنتان تؤمنان بالله والرسول، تخافان من نار جهنم، تَخضعان لقانون الزواج والطلاق، تقرءان الغيب في الفنجان والودع، تَحضُران الزار وجلسات تحضير الأرواح، تُعلِّقان حول عنقَيهما «حجابًا» يُبطل مفعول الحسد والسحر، ماتت الاثنتان في صمت دون أن يَدري أحد، مهجورتَين بلا بيت ولا أطفال.
من مكاني في «دير هام» على بُعد السنين وآلاف الأميال، أراهما تَسيران عبر فرجة في السحب، المرأتان الفانيتان، تحملان فوق ظهريهما صليبَيها وتسيران، تُلقيان بأنفسهما في النار، طاعةً لله وتكفيرًا عن الذنب منذ أمهما حواء.
لم أنجذب إلى حياة النسوة هؤلاء، لم أتخيَّل نفسي واحدة منهن، أفتح الكوتشينة لأعرف مستقبلي، أو أنزع الشعر من فوق جسدي بالحلاوة وأبكي من الألم.
حياة النساء كانت تبدو مليئةً بالألم، تفوح منها رائحة البصل والثوم، أو الشبَّة والبخور، أو العطور الممزوجة بالعرق أو الكسل والخمول.
لم أتخيل نفسي مثل طنط نعمات أو أمي، كنتُ أتخيل نفسي مثل أبي، ورثتُ عنه حلم طفولته، أسمعه يناديني: نوال، عاوزة تشوفي السيرك؟
– أيوة يا بابا!
فتح مدرسةً نموذجية في الجيزة للأطفال، عَقَدَ اجتماعًا لرجال التعليم من جيله في الجيزة، وضعوا خطة إقامة المدرسة، وجمعوا في عام واحد من الأموال ما يكفي، أقاموا المدرسة بجهودهم الخاصة، أقاموها في تواضُع وصمت.
كان أبي يكتب الشعر ولا يسعى إلى النشر، يقرؤه لنا في الفرندة، يهز رأسه مع اللحن أو القافية، يقرأ علينا أشعار المعري وأبي نواس وبشار بن برد. أبو نواس الذي عشق الخمر والفجور. الشاعر الديب، الذي قال عن نفسه:
أشعر بالسعادة وأنا أستمع إلى أبي، سعادتي تتضاعف حين يأخذنا نحن الأطفال معه إلى السينما أو المسرح أو السيرك.
لم يكن في منوف إلا سينما واحدة تَعرض أفلام عبد الوهاب، منها فيلم «دموع الحب»، لا أذكر منه إلا أغنية: «ياما بنيت قصر الأماني»، أو عبارة واحدة من الأغنية، هي: «يا نوال فين عيونك.»
لم يكن المسرح مثل السينما، كان يأتي في المواسم أو الأعياد، مثل السيرك، الفتاة من عمري، لاعبة السيرك، تركب فوق الأسد والنمر، تَمشي على الحبال، ترقص، تُغني، تقفز في الهواء مثل العصفورة، جسمها الرشيق مَرِن بغير عظام، تُحركه كما تشاء.
صورتها محفورة في ذاكرتي، صوتها يُغنِّي، حركتها الخفيفة كالريشة، أسمعها، أراها موجودة أمامي بلحمها ودمها، أنا جالسة في السيرك، صوتها السوبرانو يتجاوز جدران الخيمة الكبيرة في الميدان، مئات العيون تتطلَّع إليها وهي تمشي فوق الحبل، أُمسك أنفاسي والجالسون إلى جواري يُمسكون أنفاسهم (بمن فيهم أبي وإخوتي)، تقفز من فوق الحبل المُعلَّق بين السماء والأرض، يُصيبني الإغماء، تَنفرج شفتي عن الشهقة، صورة وجهها الجانبية نحتت من الحجر المقدَّس، يكسوها ضوء مسحور.
السيرك يأتي في إجازة العيد، أرى الخيمة منصوبة، فأتعجَّب أبي للذهاب، كان أبي يتلكَّأ دائمًا، يَنتظر الأقارب أو زوَّار العيد، هؤلاء العمات أو الخالات، لم يكن في العيد أثقل من الزوار، يتجمَّد قلبي وأنزوي في غرفتي، ماذا أفعل لأُنقذ فرحة العيد من الضَّياع؟
أنتظر في غرفتي أَقضم أظافري، أُرهف أذني لأسمع صوت أبي يناديني: نوال، تعالي سلمي على عمتك رقية وطنط نعمات.
تُظلم الدنيا في عيني، تُصبح عمتي رقية وطنط نعمات أقبح وجوه في الكون، أَخرُج من غرفتي وأسلِّم عليهما، أُطيع أبي ليرضي عني.
كان السيرك يبدأ أول أيام العيد، ويَبقى حتى آخر اليوم، لم يكن أبي يأخذُنا إلا في اليوم الأخير، منذ بداية النهار أرتدي ملابسي وأستعدُّ، أبي يتحرَّك في بطء، يُفرغ صبري، لا أُطيق الانتظار.
– يا بابا! السيرك!
– سيرك إيه وكلام فارغ إيه، خليكي هنا مع مامتك ساعديها في المطبخ!
هذا هو صوت طنط نعمات أو عمَّتي رقية أو واحدة أخرى من النسوة، يَسقُط قلبي في قاع قدمي، أنظر إلى أبي، إنه متردِّد، سيأخذ أخي ويتركني، يُشفق على أمي من التعب.
صوت أمي ينقذني: خذ نوال معاكم يا سيد، أنا مش عاوزة مساعدة.
أبي يحاول التقرُّب إلى أمي على حسابي، يقول لها بصوت حنون: خليها هنا تساعدك يا زينب، والشغل كتير عليكي في العيد.
يغوص قلبي مرة أخرى إلى قدمي، أتجمَّد واقفةً في الصالة، أُحملق في وجه أبي وأمي، يتبادلان الابتسامات، يغمز أبي لأمي بطرف عينه مؤكِّدًا: خليها معاكي في المطبخ يا زينب.
أتلفَّت حولي، أنظر في العيون، أحاول أن أعرف الحقيقة، هل يقول أبي ذلك من باب الدعابة أو الفكاهة، كان يعرف أنني لا أطيق كلمة «المطبخ».
أخيرًا بعد أن يتصبَّب منِّي العرق أرى أبي يبتسم لي ويقول: سماح المرة دي، تعالي معانا.
أقفز حتى يخبط رأسي السقف، أكاد أُعانق أبي، عاش أبي ومات دون أن يُعانقني أو أعانقه، لم يكن العناق جزءًا من التقاليد في تلك العائلات المتوسِّطة، جدتي الفلاحة كانت تعانقني وتغمرني بالقبلات، «أمي» زينب هانم ابنة شكري بيه عاشت وماتت دون أن تُعانقني أو تُقبِّلني قبلة واحدة.
أُعبر عن الفرح بالقفز في الهواء، أنطلق خارج البيت قبل أبي، أحرِّك ذراعي وساقي بقوة، قلبي مملوء بالفرح، والقلق يُلازم الفرح، الوساوس تدور في رأسي: هل تأخَّرنا عن الموعد وانتهى السيرك من الوجود؟ أيُمكن أن يغيِّر أبي رأيه؟ يأمُرني بالعودة إلى البيت لأساعد أمي؟
أبي يدرك ما أنا فيه، يتسلَّى أحيانًا بإغاظتي، يتوقف فجأة في الطريق، يقول: يا خبر! إحنا سايبين ماما لوحدها في المطبخ، إيه رأيك يا نوال؟
يُبطئ السير أو يسلِّم على أحد أصدقائه في الشارع، يشتري علبة سجائر، يقف يتحدث مع البائع عن الحرب العالمية الثانية.
يا رب! أُنادي على الرب وأنا واقفة أضرب بقدمي، أخي طلعت أيضًا كان يضرب الأرض بقدمه، هيهات لمن ينادي، استبدَّ بنا القلق، يشدُّ أخي يد أبي ويقول: بابا، اتأخَّرنا، وأنا أصيح بدوري: السيرك خلاص راح، يا خسارة!
ينظر إلى الساعة فوق مِعصمه ويقول: لسة بدري أوي، يا للهول! أكره أبي إلى حدِّ الموت، غليظ القلب، يهوى تحطيم قلوبنا، يَنقلب الكرهُ إلى حبٍّ جارف حين يمسك أخي من يد ويُمسكني من اليد الأخرى ويَنطلق بنا إلى السيرك.
أسمع زئير الأسد أو صهيل الخيول أو النمور قبل أن نصل إلى الخيمة الكبيرة، على الباب الزحام شديد، لم نكن نلحق إلا بمقاعد فوق الدكك الخشبية العلوية «الترسو»، فاتنا بعض الألعاب البهلوانية أو رقصة الخيول أو الأسد أو الفيل أو النمر، الفتاة الراقصة تمشي على الحبال، كانت النمرة الأخيرة لحسن الحظ، قلبي لا يكفُّ عن الخفقان، أنفاسي تصعد وتهبط، أحرِّك ذراعيَّ وساقيَّ، أرقص معها، في آخر النمرة تَنحني الراقصة للجماهير، يُلهبون أكفهم بالتصفيق، يصيحون، يصفِّرون، تمر على الصفوف في يدها الدُّف، تُصبح على بعد صفين أو ثلاثة من مقاعدنا، أشعر بقربها منِّي، فإذا رأسي يدور، سأَقفز من المقعد إليها، أفكر في عمل شيء خارق للعادة، أحوطها بذراعي وأُعانقها، ثُمَّ أعود إلى مقعدي في غمضة عين لأجلس بين أبي وأخي مثل المصلوبة أو المحكوم عليها بالموت، أرتعد في مكاني، أخشى أن أقفز فعلًا في المقعد، أُخفي وجهي بيدي وأكاد أبكي.
في طريق العودة إلى البيت أسير صامتةً مُطرقة الرأس، ليس أمامي إلا البيت المُعتم وغرفتي المعتمة والأيام المعتمة والوجوه المعتمة من العمات والخالات، لا أمل في العودة لرؤية السيرك، بدءوا يَنزعون قوائمه من الأرض، واختفت الخيمة الكبيرة، وعاد الميدان مثل الخرابة الواسعة.
قبل أن أنام همستُ في أذن أخي: عاوزة أقول لك حاجة مهمة أوي!
– إيه هي؟
– إوعى تقولها لبابا أو ماما أو أي حد.
– إيه هي؟
– احلف بربنا إنك مش حتقولها لحد.
– إيه هي بس؟
– احلف بربنا الأول.
– والله العظيم مش حقولها لحد.
– احلف ثلاث مرات.
– مرة واحدة كفاية.
– يا تلات مرات يا بلاش.
– بلاش.
في الصباح رأيت الحاج محمود واقفًا مع أبي في الصالة، جاء يَستدين مبلغًا من المال حتى أول الشهر، ناوله أبي المبلغ داخل مظروف صغير.
«أول الشهر يا سيد بيه المبلغ كله حيكون عند سعادتك.»
قال الحاج محمود هذه العبارة وهو يمدُّ يده لأبي بإيصال، أمسك أبي الورقة بين يديه ثُمَّ مزَّقها.
«مش معقول، أمسك عليك ورقة يا حاج محمود، كلمتك عندي كفاية، الكلمة شرف.»
الخادمة أحضرت صينية القهوة، مع البسكويت أو الكعك. أمام البيت الحمارة واقفة فوق ظهرها أكوام من القماش، أخي طلعت يعاكسها، يناديها: يا عزيزة، معلهش معلهش … شيه! شيه! مُقلِّدًا صوت الحاج محمود. يأتي الكلب الوولف جريًا نحو أخي، يربِّت على رأسه، يرمق البنات المتجمِّعات حول الطرمبة.
رآني أخي، فاقترب وهمس في أذني: إيه بقة السر بتاع امبارح؟
– احلف بربنا ثلاث مرات ما تقوله لحد.
أخيرًا يَستسلم أخي، يقسم بالله العظيم ثلاث مرات، أُقرِّب فمي من أذنه وأهمس له بالسر: أنا قررت حابقى إيه لما أكبر؟
– حتبقي إيه؟
– رقاصة زي البنت اللي في السيرك.
رمقني أخي طلعت بعينين يَملؤهما البريق، قرَّب فمه من أذني وهمس: أنا حاضرب مزِّيكه على العود، وانتي ترقصي، ونعمل فيلم دموع الحب زي عبد الوهاب!
ربط هذا السر بيني وبين أخي، بدأت صداقتنا تنمو.
أخي «طلعت» متعدِّد الهوايات، يَنتقل من هواية إلى هواية.
يشركني في بعض هواياته، علمني العزف على العود والغناء، ولغة الحمام الزاجل، يربط الرسالة في ساق الحمامة، يقرِّب فمه من منقارها ويهمس بشيء، تطير الحمامة في الجو ثُمَّ تعود إليه وفي ساقها رسالة أخرى.
لأخي صديقة اسمها «إيلينا» ابنة «زخاري» اليوناني صاحب البقالة في شارع الكنيسة، هي الأخرى تهوى الحمام الزاجل، تَجلس إلى جواري في المدرسة وتقول إنها تفهم لغة الحمام.
حاولت أن أفهم لغة الحمام دون جدوى، أُرهف أذني لصوت الحمامة وهي تقرِّب منقارها من منقار الحمامة الأخرى، لا أسمع إلا زغونة بلا حروف ولا كلمات، تصوَّرتُ أن إيلينا وأخي طلعت أكثر ذكاءً منِّي.
أخي من النوع الكتوم، لا يَبوح بأسراره لأحد، يغلق على نفسه باب غرفته، يفتح نافذته المطلة على الطرمبة، يَرمق البنات وهن يملأن الجرار، في يوم رأيتُ واحدة منهن تتشعبط فوق الجدار، تمسك بقضبان النافذة وتأخذ منه شيئًا، ماذا كان أخي يعطي البنات؟ في يوم رأيته يعلق شرائط سوداء فوق نافذته، تصوَّرتُ أن واحدة من صديقاته ماتت، كانت أمي تقول له: باين عليك ورثت خالك يحيى في الجري ورا البنات.
قبل أن تَنام كانت أمي تغلق الباب على الخادمة سعدية حتى لا يدخل إليها أخي في الليل، في الإجازة الصيفية اشتركتُ مع أخي في هواية جديدة، هي نشْر الخشب الأبلاكاش، قضينا شهور الصيف ننشر الخشب بمنشار طويل رفيع، صنعنا من الخشب أشكالًا كثيرةً من الطيور والحيوانات والناس، صنعنا سيركًا فيه أسد ونمر وفِيَلة وخيول، جعلنا الراقصة رشيقة واقفة على إصبع قدم واحد، صنعنا رجلًا يُشبه إسماعيل أفندي في يده عصا من الخيزران، ومس هيمر بحذائها ذي الكعب السميك، وطنط نعمات، وعمتي رقية، وأم محمد، والحاج محمود فوق حمارته.
أقمنا معرضًا كبيرًا في البدروم، وضعنا التماثيل الخشبية منتصبة فوق قواعدها، دعونا أبي وأمي لافتتاح المعرض، مضى على هذا اليوم ثلاثة وخمسون عامًا، الصورة محفورة في ذاكرتي، هبَط أبي وأمي فوق السلالم على نغمات اللحن الافتتاحي، عزفه أخي على العود، قصَّ أبي الشريط، ورفعنا الستار، ملاءة كبيرة بيضاء، جلست أمي إلى جوار أبي في الصف الأول، جلس الإخوة والأخوات وجمهور صغير من الأقارب والجيران، زملاؤنا وزميلاتنا في المدرسة.
أمسك في يدي عصا خشبية رفيعة، أُحرِّكها في الهواء على نغمات العود، أنا «المايسترو»، بطرف العصا أُشير إلى الشخصيات الخشبية، أحكي عنهم قصصًا من تأليفي، رأيتُ العيون مشدودة إلى حركة يدي، الحياة تدبُّ في التماثيل لمجرد لمسة من طرف العصا، أشخاص حقيقيُّون يلعبون أدوارهم في قصص حقيقية، الحمام الزاجل يتكلَّم بلغة الناس، حمارة الحاج محمود أيضًا نطقت وبدأت تغني مع اللحن الذي يعزفه أخي على العود: الصبح بدري أشيل فوق ضهري القماش …
– توب فوق توب فوق توب …
– يدلدل رجليه …
– أدور بيه في الحواري طول اليوم …
– آخر النهار نرجع …
– أنا ماشية وهو راكب …
– معلهش يا عزيزة! شيه! شيه!
يغني أخي طلعت معي المقطع الأخير، نردِّد معًا مع دقات العود الراقصة: معلهش يا عزيزة! شيه! شيه!
– شيه! شيه!
– شيه! شيه!
المدعوون يدقُّون الأرض بأقدامهم ويغنُّون معنا، الحمام الزاجل انطلق في الهواء يتراقص مع اللحن، تتدلى من ساق الحمامة رسالة حب بيضاء تُرفرف في الجو مثل العلم.
الأسد والنمر والفيلة والخيول ترقص هي الأخرى فوق قواعدها الخشبية، راقصة السيرك تقفز في الهواء، إسماعيل أفندي يَضربها على ردفها بالعصا وطربوشه يقع، مس هيمر تدبُّ بكعب حذائها على الأرض، طنط نعمات تمطُّ الحلاوة وتنزع الشعر عن ساقيها، عمتي رقية ترقُص في الزار وتَنكش شعرها، «أم محمد» تهشُّ البنات عن الطرمبة وتقول: بنات فاجرة آخر الزمن!
في نهاية العرض عزَف أخي اللحن الختامي، سمعنا التصفيق يدوي في البدروم، أبي وأمي واقفان في الصف الأول يُصفِّقان، عيونهما تلمع، تقدَّم أبي نحو أخي وصافحه لأول مرة في حياته، يَضحك ويقول له: إذا فشلت في الدراسة اشتغل مزيكاتي زي عبد الوهاب، صافحني أبي أيضًا لأول مرة في حياتي، وقال: خيالك واسع في حكاية القصص، أمي تَضحك وتقول: إذا فصلوا أبوكم من الحكومة نعمل فرقة في المسرح زي بتاعة الريحاني.
بدأت أثق في خيالي وقدراتي على حكاية القصص، أصبح البدروم هو أجمل بقعة في الكون، كل شيء فيه يتراقص، حتى العنكبوت في السقف يَرقُص داخل خيوطه الرفيعة، بيديه ورجليه يصفِّق، للتصفيق في أذني دويٌّ، حركة اليدين وهما تصفِّقان، أيدي أبي وأمي، عيونهما تلمع بالدموع، في أعماقي طاقة محبوسة تودُّ الانطلاق، لا أعرف كيف.
•••
الطاقة الحبيسة في جسدي أُحسُّها تحت القلب مباشرة، في الخندق العميق تحت الضلوع، ما هي؟ الفرح، الحزن، الغضب، الحلم بالحرية والطيران خارج جدران المطبخ والبيت والمدرسة؟ إلى أين؟
الحلم يتجمَّع تحت ضلوعي، حلم قديم، أقدم من الذاكرة والتاريخ، أصدق حلم هو حلم الطفولة، يَنفصل عن زمانه ومكانه، يُصبح أكثر صدقًا وأكثر نقاءً، يتوالد مع الزمن.
أحتضن الحلم وأنا نائمة، أُهدهده، إنه طفلي المقدَّس، تحوطه هالة من البراءة، يتحول في النوم إلى الجسد الدافئ، ذراعاه تلتفَّان حولي كذراعَي أمي، إن هجَرني تتسرَّب منِّي قوتي، يتملَّكني الحنين إليه، كأنما هو حرارة القلب، الطاقة المحرِّكة لجسدي، إن زاد عليَّ الحد يُصبح شلالًا هادرًا من الغضب يكتسحني، يُدمِّرني وأنا نائمة في الليل، يهدأ الشلال نهرًا وادعًا حنونًا أو شعاعًا دافئًا من الشمس.
في الصبح أفتح عيني وأنظر في عيني أختي «ليلى» أو أخواتي الأُخريات، أبحث في عيونهم عن ذلك الشيء أو الحلم الذي يؤرِّقني في الليل، عيونهم كانت صافيةً هادئةً لا تَكشف عن أرق أو شيء ينغِّص عليهم النوم، في المدرسة أيضًا كنتُ أنظر في عيون البنات، أبحث في الجامعة، في كلية الطب، أنظر في عيون الزميلات والطبيبات، وكل مَن أرى من النساء، أُحملق داخل عيونهم باحثةً عن ذلك الحلم.
ربما خيال وليس حقيقة، الحلم يبدو لي كالحقيقة، جزءًا من الحقيقة، عقلي الباطن كان يصحو في النوم، يتحرَّك داخل رأسي، يجعلني أطير وأحلِّق في السماء، في جوف البحر، في بطن الأرض، وأموات داخل القبر.
العقل الباطن مثل المخزن أو البئر، تَرسُب في القاع الأشياء الثقيلة على القلب، تطفو على السطح الأشياء الخفيفة، الطيران والفرح، أفتح عيني في الصباح مُشرقةً مثل الشمس، قلبي يَخفق لليوم الجديد بدم جديد، النوم غسلني من أحزان الأمس، كيف؟ كأنما لم يكن هناك أمس.