العروسة والعريس
هذا الضيف غير عادي، لماذا أُقدِّم له القهوة وليست أختي ليلى أو الخادمة؟ إذا كانوا قد دبَّروا خطة ما فسوف أُفسدها، لن تَنتصر عليَّ هؤلاء النسوة المُجتمعات في الصالة، ضحكاتهنَّ ترنُّ في أذني، ماذا يُضحكهنَّ بهذا الشكل الوقح؟ لماذا تُكركر بضحكة أنثوية ماجنة ممطوطة، لم أسمع ضحكة أمي بين هذه الضحكات، شعرتُ بنوع من الطمأنينة، أتقف أمي بجانبي؟!
الضحكات تَنقطع فجأة وأسمع الهمس أو الهسيس يرنُّ في أذني أكثر وقاحة من الضحك، أراهنَّ من شق الباب جالسات مُتَّكئات متلاصقات فوق الكراسي والكنب البلدي، يرنُّ صوت أبي أو رجل في غرفة الصالون، فيَنتفضْنَ كالدجاجات المذعورات يُطاردهن ديك في عشة الفراخ يبغي اغتصابهنَّ، يتنافسْنَ عليه، تشدُّه الواحدة منهن إليها بيدها، وتطرده بعيدًا عنها باليد الأخرى.
أهو الانفصام أو الحلم بالاغتصاب؟ تُخفيه الواحدة منهنَّ في الأحشاء كالجنين السِّفاح، تحوطه بذراعَيها حين تغيب في النوم، يطلُّ في عينيها حين تصحو مثل جذوة نار مغطَّاة بالتراب في حفرة أرض. تحت عيونهم الرمادية الصفراوية الباردة أرى شعيرات دموية متفجِّرة بلون أحمر. عيناي، أيمكن أن يُصبح لهما هذا اللون أو هذه النظرة المزدوجة؟ احتراق تحت السطح، وقناع أبيض فوق الوجه من مَسحوق البودرة، يُشبه الجير أو الجبس المُذاب في الماء؟
كنتُ أهرب من عيونهنَّ، لا أطيق النظر فيها، وفيها مرض مُعدٍ مثل الجذام، ما إن تُلامسني نظراتهنَّ حتى ينتقل إليَّ المرض.
الليلة السابقة لمجيء هذا الضيف لم أذُقْ طعم النوم من الهسيس، التقطتُ كلمة «العريس»، جلست في الفرندة وحدي طوال الليل.
وجهي مُحتقِن بالدم، يداي فوق خدِّي ملمسها خشن، خدش القضبان الحديدي فوقهما، صورته أمامي واقفًا تحت نافذتي، صوته يسري في أذني: أهلًا نوال. صوته في الغياب أكثر عذوبة ورقة، الحزن على الغياب ينقِّيه من الشوائب كلها، ومنها الحزن ذاته، رقيقٌ شفَّاف مثل رذاذ المطر، يَنتشِر في السماء، ملايين الذرات الضوئية تُنقِّي الهواء من الرمل والتراب المُتطاير.
نسمة الليل الناعمة، أنامل حانية تُلامسني، يزحف الحزن إلى جسدي، يُذكِّرني الحنان بغياب الحنان، تتعلَّق عيناي بنجمة بعيدة وحيدة تلمَع عيناها بالدموع، ضوءُها ثابت قويٌّ، لا تَرتعش كالنجوم الأخرى، أتكون هي نجمتي؟! كان أبي يُشير إليها ويقول: «كوكب الزهرة.» كانت عند العرب قبل الإسلام واحدة من الإلهات اسمها «العُزَّى»، تحولت إلى امرأة عاهرة مَنكوشة الشعر شبيهة «بالوحش»، قادرة على إغواء الرجال، على إخراج الله من قلوبهم، أغوَتْ رجلين هما هاروت وماروت، بعد أن أغوتهما أرادت الصعود إلى السماء، الله منعها من الصعود، أوقفها في منتصف الطريق بين الأرض والسماء، أصبحت هذه النجمة الوحيدة بلا حول ولا قوة، تحمل اسمًا آخر غير اسمها الأول. السماء في الليل مخيفة، مُحاطة بالأسرار، عيون الله تراني جالسة في الفرندة، وعيون الجان، الذين ورد ذكرهم في القرآن.
كنت أخاف من الجلوس وحدي في الظلام، أخشى أن تنقضَّ عليَّ رُوحٌ من تلك الأرواح الخفية، جلست تلك الليلة وحدي في الظلمة، كنتُ أفكِّر في شيء خطير أنساني الجانَّ والعفاريت، هل أتسلَّلُ في الليل وأهرب من البيت قبل أن يأتي الصبح؟
كانت الفكرة تُسيطِر على عقلي إلى حد الرعدة، هل أمشي في الظلمة وحدي؟ تَفترسني الذئاب التي تعوي طوال الليل، يَسرقني اللصوص الذين يَخرُجون إلى الشوارع بعد أن ينام الناس؟
أنتفِض جالسةً فوق الشلتة في المقعد القش، المَخاطر كلُّها تضاءلت إلى جوار الخطر القادم في الساعة السادسة والنصف مساء الغد …
الجميع يُرتِّبون لهذا الموعد من وراء ظهري، أشياء جديدة كانت تأتي، فناجين قهوة مُزركشة لم أرها من قبل، أكوابٌ تلمع مثل الكريستال، مفارش فوقَ المَناضد، ستائر فوق النوافذ، البياضات فوق الكراسي، كلُّها انغسلت وانضغطت تحت المكواة الحديدية. السجادة العجمية الكبيرة في الصالون خرجت فوق سور الفرندة تحت الشمس، بالمَضرب الخيزران ضربتها أمي وثلاث من النِّسوة حتى آخر ذرة تراب، تحت الضربات كانت السجادة تحتكُّ بالسور الحجري، يصدر عنها صوت كأنين إنسان من لحم ودم.
هذه السجادة العجمية رافقت أمي مِن ليلة زفافها حتى ليلة موتها، تَنتقل معنا من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، حيث يحلو للحكومة أن تُرسل أبي، داست فوقها الأقدام من الضيوف والزوار، شهدت مولدي ومولد إخوتي التسعة، ألوانها الزاهية بهتَت مع السنين، يتراكم التراب في ثناياها مع الحزن، وهبوب الرياح، ينحلُّ وبَرُها في برد الشتاء إلى حدِّ وجود ثقبٍ تراه العيون.
أمي حين تضرب السجادة تُغلق جفونها وتزمُّ شفتيها، ترفع المضرب الخيزران عاليًا ينطح السماء، تهبط فوق السجادة بكل قوتها، كأنما تَضرب مخلوقًا حيًّا ليلفظ النفس الأخير، تبدو أمي امرأةً أخرى ليست أمي، ليست المرأة الرقيقة ذات الصوت الناعم، البشرة الحريرية والعيون العسلية.
كل شيء فيها يتغيَّر حتى لون عينَيها، تكسوهما طبقة رمادية معتمة كعيني أمها، تضربُ الخادمةَ بالمضرب الخيزران نفسه، بكل قوتها تضربها، بالغضب المخزون في جسدها منذ ولدتها أمها.
لم تشترك طنط نعمات ذلك اليوم في ضرب السجادة، كان لها دورٌ آخر مع عمتي رقية، قبضت عليَّ الاثنتان داخل الحمام، واحدة أمسكت يدي الاثنتين، الثانية فرشت «الحلاوة» فوق ذراعي كما تفرش لبخة الأنتوفلوجستين، ثُمَّ راحت تنزع الشعر عن الجلد … صراخي كان يرتفع من وراء باب الحمام، أرفسهما بقدميَّ وركبتي، جاءت ستي الحاجة وربَّتت على كتفي: كلُّه لمصلحتك يا عين أمك.
ما هي مصلحتي في نزع الشعر عن جسدي؟ أُدرك بالفطرة أنَّ الشعر فوق الجسد نوع من القوة، الكرامة؟
أي مصلحة في البشرة المسلوخة المَلساء مثل جلد الثعبان؟ أي نوع من العرسان يَنجذب لهذه البشرة؟ أي نوع من الرغبة أو الشهوة تُثيرها هذه البشرة إلا شهوة الاغتصاب والإذلال؟!
أقسمتُ وأنا جالسة في الفرندة أن أهربَ قبل أن يطلع الفجر، هبطت السلالم على أطراف أصابعي، فتحت الباب الخارجي، نظرت في الظلمة المَمدودة أمامي، أغمضتُ عيني، ألقيتُ نفسي فيها، أقفز في بحر أسود أغرق فيه حتى الموت.
عُدتُ إلى مكاني فوق المقعد في الفرندة ألهث، قطْعُ الشريان فوق مِعصَمي أسهل من الخروج إلى الشارع المظلم. دخلتُ إلى الحمام معي الموسى الذي أبري به القلم الرصاص، كان أبي يَحلق به ذقنه، قرَّبتُ الموسى من معصمي، يدي ترتعش تكاد تقطع إصبعي بدل الشريان، رأيت الدم ينزف من إصبعي، انتفضتُ كالفأرة المذعورة، عاجزةً عن التنفس، الهواء لم يعد هواءً، مياه سوداء تُغرقني. عُدت إلى مكاني في الفرندة، الليل كان طويلًا يتَّسع لكل شيء … للهرب … للانتحار، للقفز من سور الفرندة وكسر عظامي، أصرُخ بأعلى صوت، أُشعل عود كبريت في صفيحة الجاز أحرق البيت، جلستُ في مكاني عاجزة عن فعل أي شيء.
بدت هذه الأشياء نوعًا من الجبن، حياتي بدت أعزَّ من أن أفقدها، عظامي أثمن من أن أكسرها، لم يكن سور الفرندة عاليًا بالقدر الذي يُساعد على الموت، ربما أفقد عظام ساقي وأعيش على عكازين من الخشب مثل زميلتي حميدة، ولماذا أحرق البيت بكلِّ ما فيه؟ النار ستَزحف إلى غرفة أخواتي الصغيرات، بريئات بلا ذئب، وأختي الصغرى الرضيعة، لماذا أحرقها مثل الآخرين؟ أليس هو الجُبن بعينه؟
الدم من إصبعي المجروح توقَّف عن النزف، البعوض يرنُّ في أذني، بعوضة فوق ذراعي المنزوعة الشعر، بشرتي بيضاء مَلساء تُشبه ذراع أمي أو طنط نعمات، البعوضة كبيرة الحجم (بالنسبة للبعوض البريء يلدغ دون أن يسبِّب المرض)، ساقاها الخلفيتان أطول من الساقين الأماميتين، مؤخرتها عالية، رأسها مُنخفض يخرج من فمها خرطوم طويل يشبه الإبرة، تغرسه في لحمي وتمص الدم.
لم أشعر بالألم، بل هي اللذة، تمنَّيتُ أن تُفرغ البعوضة عروقي من الدم، تنفث سمومها كلها في جسدي.
البعوضة تمتلئ بالدم، انتفخ بطنها مثل الأنثى الحامل، لم تعد قادرةً على الطيران، التصقت بذراعي ونامت، دمي كان مسمَّمًا، مصَّته البعوضة حتى آخر قطرة، حلاق الصحة في كفر طحلة يضع دودةً طويلة وراء أذن المريض لتمصَّ الدم الفاسد، شعرت بالراحة كأنما شُفيت، بدأ النوم يداعبني.
خيوط الفجر تُولد من بطن الأفق، وضعتُ نفسي في السرير، لذة الشفاء بعد المرض، لذة الراحة بعد الليلة المُرهِقة، الاستسلام الكامل للقضاء والقدر، التحرُّر من الخوف من القضاء والقدر، الانتباه إلى شيء آخر، عاد الصفاء إلى عقلي مع وميض الضوء، فكَّرتُ في خطة أُنقذ بها نفسي، كانت فكرة بسيطة، أبسط من فكرة الانتحار.
•••
«ياللا يا نوال، البسي الفستان الجديد.»
تظاهرت بالطاعة العمياء، نهضتُ من السرير، امتدَّت أذرُع النِّسوة بالفستان، أولها ذراع طنط هانم، يدها تسوِّي الكشاكيش فوق صدري، بأصابعها قرصتْ ثديي، تبعتها يد طنط نعمات، قرصتني في الثدي الآخر وهي تصيح: عشان ربنا يرزقني بالعريس على طول، أصابتْني قرصتها بألم في حلمة الثدي، لدغة عقرب أو ثعبان.
فكرة شائعة تقول: إنَّ قرص العروسة من ثديها أو فخذها أو ذراعها يجلب العرسان لغيرها من البنات، يدرُّ اللبن في الأثداء الجافة، ويؤدِّي إلى الحبل عند النساء العقيمات.
انقضَّت عليَّ النسوة من عائلتَي أمي وأبي، العانسات منهنَّ والعاقِرات والمطلَّقات والأرامل والبائرات والعاجزات عن الحبل أو الزواج أو العثور على رجل يُطفئ اللهيب تحت السطح البارد … أصبحتُ قطعة لحم فريسة لأصابعهنَّ الصلبة المتصلِّبة المصرة على اغتصاب اللذَّة المكبوتة المحرومة المدفونة في القاع، في بطن الأرض «البور» المتعطِّشة حتى التشقُّق.
وقفتُ مُستسلمةً للأيادي، الأصابع تَقرصني في بطني، في ثديي، في فخذي، في عنقي، في أي مكان من جسدي، استسلام كامل دون مُقاومة، أختزن طاقتي لتنفيذ خطتي السرية، في الليل وأنا نائمة في الحلم، كنتُ أرقُد عارية الجسد تنهشني أصابع مدبَّبة كأسنان الكماشة الحديدية، أحاول النهوض لأَهرُب، لا أستطيع الحركة، ذراعاي وساقاي مربوطة في الأرض والأبواب كلها مقفولة.
كان ضمن طقوس تجميلي (في عين العريس) هو دعك أسناني بمسحوق الملح، تُصبح بيضاء لامعة، قامت بهذا الدور طنط فهيمة، أسناني ليست بيضاء بالقدر الكافي، أحبُّ أكل الباذنجان الأسود من الحقل، أقضمه بأسناني دون طهي مثل منعم، يترك فوقَها طبقة سوداء لا تُغسَل بفرشاة الأسنان العادية.
أمسكتني طنط فهيمة وهي تقول: «العريس يطفش على طول لو شاف سنانك السودة دي!» وراحت تدعك أسناني بمسحوق الملح وأنا أصرُخ، في المرآة رأيت اللثة حمراء متورمة، تنزف الدم لأقل لمسة بطرف إصبعي.
شعري أيضًا لم يكن يعجب هؤلاء النسوة من الخالات، لم يكن مُرسلًا ناعمًا مثل شعورهنَّ، فيه تموجات طبيعية، طنط نعمات تراه نوعًا من القُبح، «العريس يطفش على طول لو شاف شعرك المجعَّد ده يا جارية ورور!» راحت تكوي شعري بالمكواة الحديدية، تسخنها على النار حتى يصبح حديدها أحمر، تلف بها خصلات شعري، في أنفي رائحة الشياط، الدخان المُتصاعد من شعري المحترق يكتُم أنفاسي، لسعتني بطرف المكواة في طرف أذني.
في مدخل الصالون شماعة من الخيزران لها مرآة مُستطيلة، ينظر فيها الضيوف، يخلعون الطرابيش، المعاطف، الكوفيات، يُعلِّقونها على أذرع الشماعة قبل الدخول.
الشماعة في ممر صغير مربع، أمرُّ به حاملةً صينية القهوة قبل أن أدخل إلى العريس، تحت رفِّ الشماعة السفلى باذنجانة بشرتها سوداء، بلون وجه إبليس، توقفت أمام المرآة أنظر إلى نفسي، فتاة غيري داخل فستان حريري يَكشف عن ذراعين بيضاوين مسلوختَين، شعرها ناعم مُرسَل فوق كتفَيها، شفتاها حمراوان، خداها حمراوان، عيناها حمراوان، يعلوهما حاجبان رفيعان مقوسان نُتف شعرهما بالملقط، قدماها مقوَّستان تتأرجَحان فوق كعبين رفيعين.
وضعت الصينية فوق الأرض، مسحتُ اللون الأحمر من شفتي بكفِّي، قضمتُ الباذنجان بأسناني، نكشت شعري بأصابعي، حملت الصينية ودخلتُ بلا صوت، رأسي مُطرَق إلى الأرض مثل البنات المؤدَّبات، جفوني مُسدَلة مثل القطط المغمضة قبل أن أدخل وقفت وراء الباب المُوارب، أصغيتُ لحظةً قبل أن ألقى نظرة دائرية في الغرفة الشديدة الإضاءة، أسمع صوت أبي، كان مُنهمكًا في الحديث مع العريس، الحرب العالمية، الإنجليز، الألمان، الملك، النحاس.
لم ترتفع عيناه نحوي من شدة الانهماك.
– الملك باين عليه مع الألمان، والنحاس لازم يكون مع الإنجليز، والإنجليز عاوزين مصر تدخل الحرب معاهم، لكن احنا مالنا، نحارب ليه مع الإنجليز والحلفاء، بقه بذمتك دول حلفاء؟ معايا يا عبد المقصود أفندي؟
– إيوه معك يا سيد بيه.
العريس (عبد المقصود أفندي) رآني في اللحظة التي دخلت فيها، تقدمتُ نحوه معطيةً ظهري لأبي، أخفي وجهي في الصينية، سرتُ بخطوة بطيئة مُتأرجحة، أول مرة في حياتي أرتدي الكعب العالي المدبَّب، يرمقني العريس بعينين ضيقتين مثل عيني الصقر، فوق رأسه طربوش أحمر مائل على جنب له شراشيب سوداء تهتزُّ فوق أذانه، يرتدي بدلة ضيقة داكنة اللون، ربطة عنق حمراء مشدودة حول عنقه، صديري ضيِّق، في يده منشة، يغطس جسده داخل «الفوتيه»، شفتاه مُنفرجتان فقَدتا القدرة على الانطباق.
عند زاوية فمه شيء من اللعاب الأبيض مثل إسماعيل أفندي، اقتربتُ منه أزمُّ شفتيَّ، أمطهما في غضب، ثُمَّ فتحت فمي عن آخره في ابتسامة عريضة ليرى أسناني. سمعتُه يعطس بصوت عال: «أطس!» انتقلت إليَّ العدوى، عطست أنا أيضًا: «أطس»، فاهتزَّت الصينية من يدي، انسكب «وش» القهوة في الصحن. بذلت أمي الجهد لتجعل للقهوة هذا «الوش». في أنفي رائحة البن مع الحبهان والباذنجان، خليط يؤدِّي إلى العطس لا شك، عطستُ مرةً أخرى، واهتزَّت الصينية أكثر، انسكب مزيد من القهوة في الصحن. العرق يسيل مثل الماء البارد تحت الفستان، يَرشح العرق من جسدي كأنما أنا نائمة، العرق يُغرقني، جو الغرفة مُشبَع برائحة العرق. كنتُ أتحرَّك بخطوة بطيئة، جسدي مُتخشِّب، مطوَّق، مربوط بشيء ما، أبي الذي يعرفني جيِّدًا كان يمكن ألا يعرفني في تلك اللحظة، كان مُستغرقًا في الحديث، لم يرني من الوجه، أكان الاستغراق في الحديث محاولة للانسحاب من الموقف دون مسئولية؟! تركني أبي وحدي أواجه حتفي، أدرك أنه ليس من الحكمة أن تلتقي عيناه بعيني لحسنِ حظِّي. العريس كان يرمقني بنظرة فاحصة، عيناه الضيقتان ترمقان صدري بنظرة جانبية محدبة، المصباح الكهربائي يُعطي ضوءًا قويًّا، لعب الضوء الكهربائي دوره في الكشف عن آثار الباذنجان الأسود، ثُمَّ انتبه أبي إلى وجودي، سمعته بقول للعريس: دي نوال! أكبر بناتي.
– ما شاء اﻟﻠ … (أطس) … ما شاء الله … (أطس).
العريس يعطس وهو يكرر كلمة: «ما شاء الله» … أيُخفي الصدمة في العطس؟! تقدمتُ نحوه أكثر، انحنَيتُ أمامه بالصينية، دبَّ الصمت بصوت مُفزع، لم أسمع إلا صرير طاحونة الدقيق في شارع المحطَّة، صرير أشبه بصراخ إنسان حي، اهتزَّت يداي لسماع الصوت، كعب حذائي العالي الرفيع تعثَّر في ثقب السجادة، وأنا أنحني، انقلبت الصينية بكل ما عليها من فناجين قهوة ساخنة وأكواب ماء مثلَّجة فوق صدر العريس.
أشبه بالكوارث تحدُث، تنقلب الأشياء بفعل الزلازل والبراكين، لا يستغرق الزلازل أو البركان أكثر من بضع ثوان أو دقائق، لكن هذه الكارثة استمرَّت عدة أسابيع، أصابني منها علقة ساخنة، لم تكن تُهمُّني العلقة الساخنة، لقد تبخر العريس مع سحُب الصيف الرقيقة.
ما الذي حدث وأنقذني؟! صوت طاحونة الدقيق مثل صرخة إنسان حي؟! الصمت المفاجئ؟! الضوء الكهربائي القوي؟! كل شيء توقَّف يشهد اللحظة الخارجية عن الزمان والمكان، اللحظة المُفزِعة حين انتفضَت الصينية وانقلبت، أكان ذلك كل شيء؟!
في صيف ١٩٤٢م حصلتُ على الشهادة الابتدائية، درجاتي كانت ممتازة، الوجوه حولي لا تكشف عن الفرح، الشفاه ممطوطة، الهسيس بين النسوة يدور: «إيه فايدة الشهادة إذا كان مصيرها الجواز؟ إيه فايدة الشطارة في المدرسة إذا كانت خايبانة في المطبخ وكل عريس ييجي تطفشه؟!»
لم أعُد أَخرج من البيت، بلغتُ الحادية عشرة من عمري، أصبحتُ عانسًا بلغة طنط نعمات. كنتُ طويلة القامة، أطوَلَ من أخي الأكبر طلعت، النهدان فوق صدري نافران، مَن يراني يظن أنني في الخامسة عشرة، لم أعد ألعب مع الأطفال في الحقل، تخصصتُ في طبخ الملوخية، دعك البلاط ليُصبح كالمرآة، من وراء جدار المرحاض تترامى لي صيحات الأطفال وهم يَلعبون، ضحكاتهم تخترق أذني مثل وخْز الإبر، كنتُ أضحك مثلهم في الماضي البعيد في حياة أخرى، مِن بين قضبان النافذة الحديدية أراه. «أخي طلعت» يَجري ويقفز في الحقول الخضراء الواسعة، يركب البسكلتة ويطير بها في المساحات الممدودة حتى الأُفُق … يَستنشق الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أنا داخل المطبخ المُظلم أبتلع الدخان المُتصاعد من وابور الجاز.
وابور الجاز بيني وبينه عداء فطري، كائن غريب الأطوار، له إرادته الخاصة المُعاكسة لإرادتي، مندوب لبعض القُوى المجهولة في الأرض والسماء، إذا أردتُ له أن يشتعل ينطفئ، إذا أردتُ له الانطفاء يهبُّ في وجهي، لسان من النار، يُعاكسني مثل القضاء والقدر.
له رأس مربع يُسمُّونه «الطربوش»، أسود اللون يتراكم عليه الهباب، من تحته عنُق أسود، يتوسَّطه ثقب مثل ثقب الإبرة، مسدود بالهباب، تُسلِّكه أمي بعد أن تضع نظارةً فوق عينيها، طنط نعمات كان لديها عدسة مُكبِّرة مستديرة تمسكها بيدها اليسرى، تقربها من عينها اليمنى، فترى الثقب الصغير في حجم عين الجمل.
منذ السابعة من عمري بدأت أمي تُدرِّبني على إشعال وابور الجاز، وبدأ أبي يُدرِّبني على الصلاة، ما العلاقة بين وابور الجاز والصلاة؟ … حركة الجسم مُتشابهة، أَحني ظهري لأُشعل الوابور بحركة تُشبه الركوع، أسلُك الثُّقب المسدود بإبرة تَلتوي تَنكسر داخل الثُّقب، أخرجها بإبرة أخرى، أنحني، يُلامس أنفي طربوش الوابور، حركة تُشبه السجود.
كان الثقب ينسدُّ دائمًا، ذرَّة دخان أو هباب أو عكارة في الجاز، في قاع الصفيحة تترسَّب عكارة لزجة سوداء مثل القَطران أو الزِّفت، جاز مغشوش، بائع الجاز كان يَدور على البيوت، عربة كارُّو فوقها برميل كبير ينادي بصوت عال: جاز! جاز!
– الجاز بتاعك مغشوش يا عم عثمان!
– ده أحسن جاز في الدنيا، والله العظيم!
– ليه تحلف بربنا كدب يا عم عثمان؟
– ده أحسن جاز في الدنيا، عليَّ الطلاق بالثلاثة!
– عيب عليك يا راجل تحلف بالطلاق عشان شوية جاز.
– أمال أحلف بإيه يا ست هانم؟
– يعني ما عندكش إلا ربنا أو مراتك، شوف حد تاني تحلف بيه!
بائع الجاز كان وجهه ضامرًا يعلوه نمَش أسود، عيناه تُبربشان، لا يقوى على النظر في وجه أمي، تَختفي أمي من النافذة، فيُحملِق في الخادمة سعدية بعينين مفتوحتَين، يغمز لها بعين، يقرصُها في ذراعها ويقول: ده جاز زي الحليب، ينشرب ع الريق يا بت!
رائحة الجاز تُصيبني بالغثَيان، تعثُر أمي في شَعري على قملة أو سبانة (بيضة القَملة)، تَغسل رأسي بالجاز، أقف أمام الوابور لأُشعلَه، يَندفع في وجهي لسان من اللهب، أتراجع إلى الوراء بسرعة (كما تفعل أمي) قبل أن تَحرق النار أطراف شعري، تملأ أنفي رائحة جاز محروق وشياط.
«خلِّي بالك يا نوال من الوابور، ساعات يهب كدة ويعمل حريقة.»
كالشهقة تُفلت الكلمة «حريقة» من بين شفتيَّ، في الليل وأنا أحلم أرى الوابور يهبُّ، بيتنا يحترق، أمي تَحترق تُصبح قطعة فحم، مثل ابنة عمتها الكبيرة ماتت محروقة، هبَّ فيها وابور الجاز، أَجري خارج البيت، أهبُّ من النوم أتصبَّب بالعرق.
تدرَّبتُ على إشعال الوابور دون أن أكسر الإبرة، أسلِّك الثُّقب المسدود دون أن أنحني أو أركع، أقف أمام الوابور مستقيمةَ الظهر مرفوعة الرأس، كان بصري حادًّا أرى النجوم في عز الظهر، مثل زرقاء اليمامة رأت جيوش الأعداء قبل أن يراهم أحد.
«نوال بقت شاطرة.»
أصبحت أحمل لقب «شاطرة»، الشاطرة صفة حميدة تتحلَّى بها البنات الماهرات في المطبخ، الغسل، دعك البلاط، توليع وابور الجاز دون كسر الإبرة، أسمعهم يقولون: «نوال شاطرة»، أشعر بالفرح والحزن، الفرح كان أكثر من الحزن، يَزيد حماسي للطبخ والغسل، أدعك البلاط لأرى فيه وجهي.
«نوال بقت شاطرة.»
تركت لي أمي مهمَّة توليع الوابور، أنام كل ليلة فأسمع صوت الوابور يَنفجر، أمي داخل النار، أجري إليها أُنقذها، تَحترق وتموت، يضعونها داخل كفنٍ حريريٍّ أبيض فوق السرير النحاسي الأصفر، الكفن في الحلم هو ثوب الزفاف الحريري الأبيض.
كان الحلم يتكرر بأشكال مختلفة، يُلازمني في طفولتي وشبابي، لم يُفارقني حتى تخرجتُ في كلية الطب، أصبحتُ طبيبة «امتياز» بمستشفى قصر العيني الجامعي، في أبريل ١٩٥٥م، استلمت أول راتب شهري، تسعة جنيهات، «كل جنيه يَنطح أخوه» بلغة ستي الحاجة.
القسط الأول خمسة جنيهات، الأقساط كلها تَنتهي بعد ستة وثلاثين شهرًا.
أمي كانت مثل الزهرة، استعادت ضِحكتها الطفولية، عاد البريق يكسو عينيها العسليتَين، تقرأ شهادة نجاحي، صوتها يتألَّق بالفرح: مبروك يا نوال، يا دكتور نوال!
– البركة فيكي يا ماما.
اندفعت كلمة «ماما» من بين شفتيَّ مثل شحنة مكبوتة من الحب، التقاليد في عائلة أمي لا تسمح للحب أن يظهَر، وإن كان حبَّ الأم. تقبيل الأطفال يتوقف بعد سن الرضاع، تقاليد موروثة عن الأتراك، الطبقة العليا أو الوسطى، البرودة في المشاعر نوع من الرقيِّ.
الأمومة كنتُ أراها في عينَي أمي، جمرة نار مخبوءة داخل سلسلة حديدية، أفعل مثل أمي، أُخفي مشاعري وراء لوح من الزجاج.
تسللتُ إلى البيت ذلك اليوم من أبريل ١٩٥٥م، ورائي ثلاثة عمال من محل «شاهر» يحملون البوتاجاز، دخلوا على أطراف أصابعهم إلى المطبخ، وضعوه تحت النافذة إلى جوار «النملية» السلك، خرجوا على أطراف أصابعهم، شعاع شمس الأصيل يتسلَّل من بين جدران البيوت المتجاورة، يَنفذ إلى المَطبخ من بين قضبان النافذة الحديديَّة، يسقط فوق ظهر البوتاجاز بإرادة سماوية، سطحه أبيض لامع قادر على إشعاع الضوء.
دخلت أمي إلى المطبخ، اتَّسعت عيناها: من أين جاء هذا البوتاجاز؟
– هبط من السماء يا ماما.
في عينيها بريق الفرح الطفولي، كانت في طفولتها تحلُم مثلي بيوم يختفي فيه وابور الجاز، رأتْ مثلي البوتاجاز في المحلات والدكاكين، يَشتعل بلهب أزرق صافٍ، شكَّة واحدة من عود الكبريت، دون إبرة تسليك، لا دخان لا هباب، ترمق بعينَيها الثمن المعلَّق فوق ظهره، تتنهد وتمضي في طريقها.
كنتُ أريد أن أحوطها بذراعي، أضع رأسي فوق صدرها وأبكي، أُطلق سراح الدموع المكبوتة منذ وُلدت، كانت هي الأخرى تريد أن تحوطني بذراعَيها، تُطلق سراح أمومتها الحبيسة. وقفتْ أمامي وأنا وقفت، عاجزتان عن العناق، عاجزتان عن تبادُل قُبلة واحدة، واقفتان … بيننا مسافة من الهواء لا تزيد على طول الإصبع، كانت مثل البحر الواسع أو ألف سنة من الزمان لا يمكن اجتيازها.
عاشت أمي بعد ذلك اليوم أربعة وثلاثين شهرًا، ماتت قبل أن أُسدِّد ثمن الأقساط بشهرَين اثنين.
•••
عبد المقصود أفندي لم يكن العريس الأخير، جاء بعده آخرون، الواحد منهم لم يكن يعود بعد أن أقدِّم له القهوة، لم تنقلب الصينية بعد ذلك الانقلاب الأول، شيء آخر يحدث، صوت الطاحونة، نقيق الضفادع في الحقل أو صرير الصراصير، نعيق بومة فوق الشجرة.
يكفي أن تنعق بومة واحدة حتى يتشاءم الناس وأوَّلهم العرسان، أصبحتْ لي سُمعة بين عائلة أمي وأبي، قادرة على تطفيش أي عريس، كيف؟ يتباحَثون في هذا السر، تعدَّدت الآراء والنظريات، البشرة السمراء، علامة الفقر، القامة الطويلة، العضلات القوية غير المطلوبة في البنات، الفم الواسع، الأسنان الأمامية البارزة في الضب.
«الضب»، ورثتُه عن أمي وخالاتي من عائلة شكري بيه، عمتي رقية أكَّدت أنه السبب الوحيد وراء هروب العرسان، اختلفَت معها ستي الحاجة، «عين الحسود» أصابت ابنها السيد بيه، سوف تبور ابنته الكبرى، من ورائها تبور بناته الأخريات، سوف تفقأ عين الحسود بعمل يندرج تحت «السحر».
كانت لي سُمعة أخرى في المدرسة، بنت شديدة الذكاء، «الذكاء» لم يكن من الصفات الحميدة للبنات، شهادة أخي طلعت تأتي من حولها دائرة حمراء علامة السقوط، يعيش بيتُنا في صمت مثل المأتم، يَخرج أبي صامتًا ويدخل صامتًا، إن تكلَّم فهو يؤنب أخي: أختك البنت تنجح وانت تسقط؟! ابن التاجر بياع الكراريس ينجح وابن مفتش التعليم يسقط؟! بقه ده معقول؟!
الحُزن على رسوب أخي في المدرسة يُغطِّي على الفرح بنجاحي، في الليل أبي يهمس لأمي: يا ريتها كانت الولد وهو البنت، لازم علينا غضب من ربنا يا زينب!
ذكائي ليس إلا غضب الله على أبي وأمي، نوع من الإثم يَستوجِب الإخفاء مثل حذائي القديم، مثل الثقب في السجادة العجمية.
لم يكن في منوف مدرسة ثانوية للبنات، اقترح أبي على أمي أن أبقى في البيت أُساعدها، أخفِّف عنها عبء رعاية العدد المتزايد من الأطفال، أمي رفضت هذا الاقتراح، تفوُّقي في المدرسة شجعها على مواصَلة تعلُّمي، أو إدراكها أنني لن أخضع كما تخضع البنات، أنني لن أنجح في الزواج.
كانت أمي مُختلفة عن إخوتها لحسن حظي، في أعماقها بذرة تمرُّد، ذكاؤها حين كانت تلميذة متفوقة في المدرسة، الحلم منذ طفولتها أن تعيش حياة غير أمِّها، السُّلطة المطلقة لأبيها في البيت جعلتها تَنفر من السلطة على أطفالها.
لم يكن أبي مثل جدِّي شكري؛ لم يَشرب الخمر، لم يسهر خارج البيت، لم يعرف نساءً غير أمي، القانون وشرع الله يُعطي أبي الحق المُطلَق في الطلاق والزواج بأربع نساء، لم يَستخدم أبي هذا الحق. كان زوجًا مُخلصًا لأمي، ساعَدَها في أعباء البيت، يتحمَّل وحده مسئولية الإنفاق، كان أبًا نموذجيًّا لا يَضرب أطفاله مثل الآباء الآخرين، يلعب معهم، يُعطيهم مساحة للنقاش والجدل في أمور الدين.
لم يحدث أن رأيتُ أبي وأمي يتشاجَران، مرة واحدة رأت أمي في منامها أبي مع امرأة أخرى، استيقظت أمي في الصباح حمراء العينين، غاضبةً على أبي، سمعتُ صوت أبي عاليًا لأول مرة في حياتي: يعني أنا مسئول كمان عن أحلامك يا زينب!
صوت أبي لم يَرتفع عن صوت أمي … بينهما نوعٌ من الاحترام، كلاهما يُدرك قوة الآخر، أبي العائل الوحيد للأُسرة، لم يكن لأمي قوة إلا شخصيتها، رفْضها الإهانة، استعدادها لحزم حقيبتها والعودة إلى بيت أبيها شكري بيه.
كانت الطبقة تلعب دورها في إحداث توازُن القُوى في بيتنا، أمي تُدرك أنها تنتمي إلى طبقة أعلى من طبقة أبي، لم تكن تُصرِّح بذلك، سلوكها كان يوحي أنها انحدرت من سلالة الأميرات.
أبي مثل أمي يُدرك قيمة التعليم، لولا التعليم ما انتقل أبي من طبقة الفلاحين الفقراء إلى الطبقة الوسطى مِن المثقَّفين، أدرَك أبي أن مستقبلي في التعليم مضمون أكثر من مستقبلي في الزواج، سأَدخُل المدرسة الثانوية في القاهرة، لكن أبي كان متردِّدًا.
في الليل أسمع أبي وأمي يتهامسان: نوال حتعيش وحدها في مصر يا زينب؟
– حتعيش في بيت خالتها هانم.
– بيت خالتها مش زي بين أبوها وأمها.
– نوال واعية لنفسها، ماتخافش عليها يا سيد.
– مصر مش زي منوف يا زينب.
– نوال شاطرة، أنا عارفاها، ترميها في النار ترجع سليمة.
كلمات أمي تنتشلني، كذراعَيها في طفولتي فوق الموجة العالية، أرى نفسي أمشي داخل النار دون أن أحترق، أمشي في البحر فوق الأمواج دون أن أغرَق، أمي الحقيقية، أجدها بجواري حين تتأزَّم الأمور، يتخلى عني الجميع فأجدها، قد أكون بعيدةً عنها في مكان آخر، لا تسمع صوتي إذا ناديتها، تأتي في اللحظة الحاسمة، لا أدري كيف، وتُنقذني.