من نبوية موسى إلى مدرسة السنية
حملتُ حقيبتي إلى محطة القطار، كان معي أبي، ظلَّ واقفًا على رصيف المحطة حتى تحرَّك القطار، أول مرة أركب القطار وحدي، عينا أبي مملوءتان بالقلق وشيء آخر غير القلق، طبَقة شفافة مثل دمعة كبيرة محبوسة يَبتلعها قبل أن أراها. أردتُ أن أعانقه، ذراعاي لم تتحرَّكا، وقفتُ في نافذة القطار أُطلُّ عليه، أخفي الدموع تحت ابتسامة عريضة، دوت صفارة في أذني، امتلأ الجو بالدخان، أمسَك أبي بالنافذة، يمشي مع القطار، يجري مع القطار.
«خلي بالك من نفسك، اوعي التذكرة تقع منك، اركبي تاكسي من محطة مصر لبيت طنط هانم، ابعتي لنا جواب أول ما توصلي، خلي بالك من نفسك، مع السلامة يا نوال. أردتُ أن أمسك يد أبي، خشيتُ أن يسقط تحت عجلات القطار، يفقد ساقَيه ويمشي على عكازين. لم يترك أبي النافذة حتى آخر الرصيف، لوَّح لي بيده، يتراجع إلى الوراء مع المحطة، لوَّحتُ له بيدي وأنا أبتسم، الدموع تنهمر فوق وجهي.»
كنتُ أحب السفر وركوب القطار، هذا اليوم جلستُ في مقعدي، أمسح الدموع، بدت الرحلة طويلة موحشة، العيون ترمقني، جالسةً وحدي، بنت صغيرة في الحادية عشرة من عمرها تُسافر وحدها إلى مصر، حقيبة ملابسي إلى جواري، أسندها بيدي حتى لا يَسرقها أحد، حقيبة المدرسة فوق ركبتي، بها كيس النقود والتذكرة وكشكول غلافُه أزرق أُسجِّل فيه مذكراتي.
اليوم، ٩ سبتمبر ١٩٤٢م، أنا حزينة لفراق أمي وأبي، أشعر بالندم وتأنيب الضمير، تمنَّيتُ يومًا أن يموت الاثنان لأَخرُج إلى الشارع بدون إذن وألعب مثل أخي، أركب البسكليتة، قلبي ينوء بالحبِّ لأمي وأبي، الحب يولد في قلبي منذ فراقهما، أيكون الفراق هو شرط الحب؟
انتبهت إلى صوت رجل يُكلمني، كان جالسًا في المقعد المقابل لي، يختلس النظر إلى حقيبتي، أيسرقني أنا أم كيس الفلوس؟
«رايحة مصر لوحدك يا بنتي؟!»
لم أردَّ عليه، لا أكلِّم الغرباء في الطريق. له وجه يُشبه عبد المقصود أفندي، العينان الغائرتان تتجهان مباشرةً إلى صدري. أدخلت الكشكول الأزرق إلى الحقيبة وحوطتُها بذراعي، من النافذة أعمدة السواري تتراجع إلى الوراء، تراجعَت الحقول الخضراء، بدأت الجدران السوداء والبيوت المتهدِّمة الملطَّخة بالدخان، امرأة نحيفة شاحبة تنشر الغسيل في إحدى البلكونات، يذوب وجهها داخل دخان القطار مع غسيلها الأبيض.
وصلتُ محطة مصر لحظة غروب الشمس، العمارات والأبنية الباهتة قابعة تحت سماء رمادية، الدخان مثل الشبورة، أسير وحدي وسط زحام المحطة، حاملة الحقيبتَين. ثوبي من الصوف الرخيص من فوقه بلوفر باهت يَنفذ منه هواء بارد. وأتلفَّتُ ورائي؛ أخشى أن يتبعني الرجل الذي كان في القطار. البوابة الضخمة، ميدان باب الحديد، سقطتُ في خضمٍّ متلاطم من البشر، دوامة تدور فيها السيارات والترامات والموتوسيكلات، أثبتُ قدمي في الأرض الأسفلت، أنظُر في جميع الاتجاهات، أُلقي نفسي في البحر دون أن أعرف السباحة، أجتاز الميدان، كادت تَدهسني سيارة، امتدت بعض الأيادي وانتشلتني.
كان هناك عدد من سيارات الأجرة التاكسي، المُسافرون استولوا عليها، لم يبقَ إلا تاكسي واحد قديم بدون رفرف، انقضَّ عليه رجل طويل. بدأت الدنيا تُظلم وأنوار المَصابيح تُضاء، قررتُ السير على قدمي حتى بيت طنط هانم، اخترتُ امرأةً عجوز، ملامحها توحي بالطيبة، سألتها عن شارع الضاهر، وصفت لي الطريق وهي تُشير بإصبعها: شايفة الشارع اللي هناك، ده شارع الفجالة، امشي فيه على طول مع شريط الترامواي تلاقي نفسك في شارع الضاهر.
المرة الأولى أمشي في شارع الفجالة، شارع المكتبات، من وراء نوافذ المحلات الزجاجية أرى الكتب معروضة، مئات الكتب والعناوين وأسماء المؤلِّفين، التقطت اسم طه حسين.
عند تقاطع شارع الفجالة مع شارع الضاهر مبنى كبير مكتوب عليه: «مدرسة الفنون الطرزية للبنات». رأيت بنتًا من عمري تحمل حقيبة المدرسة تمشي وحدها، تدبُّ فوق أسفلت الشارع بحذاء جلدي قوي، خطوتها واثقة شجاعة، خجلتُ من نفسي، أتكون هذه الفتاة أشجع منِّي؟! خجلت من حذائي القديم يُغطِّيه تراب الشارع في منوف، لم تكن الشوارع في منوف مرصوفةً بالأسفلت، خبطتُ قدمي في الأرض، نفضتُ التراب عن حذائي، شددت قامتي الطويلة، سرت بخطوة قوية أدبُّ على الأسفلت.
شارع الضاهر يتألق نظيفًا لامعًا تحت الأضواء، العمارات على الجانبين جديدة تبرُق كأنما بُنيت بالأحجار الكريمة، أبوابها شفافة من الزجاج، لها أعمدة عالية رخامية. كنتُ أرى هذه الأبواب الشفافة في الحلم. لافتة كبيرة فوق الباب مكتوب عليها المدرسة الثانوية للبنات، أدخل من الباب أخرج حاملةً الشهادة النهائية «التوجيهية»، أدخل بها إلى الجامعة، كلمة «الجامعة» تجعل قلبي يدقُّ، لم أكن رأيتُ الجامعة بعد، سمعت الكلمة، كلية الآداب في الجامعة، أتخرَّج أستاذة كبيرة، يَضعون كتبي في نوافذ المحلات في شارع الفجالة.
شارع الضاهر كان يرمقني بعيون مملوءة بالفرح، يمتدُّ أمامي، تحت أقدامي، أمشي فوقه، يرحب بي فخور بهذه الفتاة أستاذة المستقبل.
وصلت عمارة زوج خالتي، رأيتُ وجهه، تبدَّد الفرح، قابلتني طنط هانم، البرود العاطفي الموروث عن عائلة شكري بيه، أخذتْني إلى الحمام لأخلع حذائي، رمَقتِ الثُّقب في جوربي بنظرة متعالية، أجلستني في البانيو، أمسكت الليفة الخشنة راحت تدعك جسمي. شعرت بالمهانة داخل البانيو الأبيض اللامع، صحن ضخم مِن الكريستال أو اللؤلؤ، لم يكن في منوف بانيو، الطشت الكبير من النحاس نستحمُّ فيه، أغرقتني طنط هانم في البانيو، ابتلعت الماء بالصابون بالمهانة، تصوَّرتُ نفسي سعدية الخادمة، كانت تُغرقها أمي في الطشت، تَغسل لها شعرها بالجاز أو تحلقه بالموس.
لم تكن طنط هانم تُشبه أمي، كانت سمراء البشرة، شعرها أسود غزير، تَستعرض على الضيوف جواهرها أو قطع الأثاث في غرفة الصالون، الغُرفة الأخرى تسميها «الأنتريه»، كلمة فرنسية تعني «المدخل»، خالتي هانم تتباهى أمام الناس بأنها تَعرف الفرنسية.
أراها جالسة مع الضيوف في غرفة الصالون، المقاعد المذهَّبة المطلية بالحرير تُسمِّيها «الأبيسون»، فستانها الحريري يكشف عن ركبتها، تضع الساق فوق الساق، تُشعل سيجارة (لا تدخن حين تكون وحدها) تُنادي على السفرجي: يا عم عثمان، هات لي «آن فير دو سيل فوبليه.»
عم عثمان يفهم هذه العبارة، يحضر لها كوب ماء، يتباهى هو أيضًا أمام الضيوف أنه يعرف الفرنسية، معلوماته في اللغة الفرنسية مثل طنط هانم، كلمات لا تَزيد على أصابع اليد الواحدة.
«هند» الابنة الكبرى لطنط هانم، تَصغُرني قليلًا، تبدو طفلة أنا أمُّها، غُرفتها مليئة بالعرائس، سريرُها لونه ورديٌّ، سيارة المدرسة (على شكل أوتوبيس أحمر)، تَحملها كل صباح مع حقيبتها إلى المدرسة.
هند تجلس معي إلى مائدة الطعام في الصباح الباكر، تُناولها طنط هانم كوبًا كبيرًا من اللبن، تسألني بصوت بارد: عاوزة لبن؟
– لا.
أحب اللبن، أقول «لأ» كأنما أكرَه اللبن، أبي يَدفع لها ثمن اللبن ونفقاتي كلها حتى الغسيل والمكوى والكهرباء وكل شيء، الطريقة التي تسألني بها لم يكن لها إلا رد واحد: «لأ.»
تملأ الصحن لابنتها بالطعام، لا تضع في صحني إلا القليل، أغضَب، أنهض دون أن آكل، يشتدُّ بي الجوع، أشتري من مصروفي رغيفًا وقطعةً من الجبن أو الحلاوة الطحينية.
أنام على سرير صغير من الصَّاج، اشتراه أبي، وضعتْه طنط هانم في أحد الأركان في غرفة مهملة، اشترى لي أبي منضدة صغيرة أُذاكر عليها ولمبة كهربية.
لم تكن طنط هانم تُشجِّعني على المذاكرة، كلما رأت اللمبة مضاءة في الليل تُطفئها وهي تقول: ذاكري بالنهار علشان الكهربا غالية.
في أول كل شهر يُرسل إلى أبي قائمة مصروفاتي، منها الكهرباء واللبن، لم أشرب اللبن لكنها تُضيفه إلى القائمة، هل أقول لأبي أو لأمي؟ كنتُ أخاف أن أبقى في منوف بدون مدرسة.
دخلتُ مدرسة نبوية موسى الثانوية في العباسية، كانت أقرب المدارس لبيت طنط هانم في شارع الضاهر، أركبُ الترام من أمام البيت وأهبط من الترام أمام باب المدرسة. قضيتُ عامًا دراسيًّا كاملًا (١٩٤٣م)، لم أعرف في مدينة القاهرة إلا الطريق الذي يَسلكه الترام من باب طنط هانم إلى باب نبوية موسى.
كانت التلميذات يُطلقن على الناظرة نبوية موسى «بعبع أفندي». في طابور الصباح أراها تمشي بخطوة تُشبه مس هيمر، ترتدي تايير أسود، جوربًا طويلًا أسود، تيربون أسود، عيناها سوداوان مملوءتان سوادًا.
كانت تَفرض علينا نحن التلميذات ارتداء هذا السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، أعطى أبي لطنط هانم مبلغًا من المال، أصبح لي تايير أسود، جورب أسود طويل سميك لا يشفُّ الساقين، شريط أسود من التفتاه لربط ضفائر الشعر.
داخل المرآة، رأيتُ نفسي غرابًا أسود، مطَّت خالتي هانم شفتيها: نبوية موسى لازم عانس زي طنط فهيمة، وعاوزة كل البنات يبقوا عوانس زيها.
لم أعرف شيئًا عن نبوية موسى، واحدة من رائدات تعليم البنات، أي ريادة وأي تعليم؟ لم تكن رائدتي ولا مثَلي الأعلى في حياتي، عضلات وجهها دائمًا متقلِّصة في تكشيرة أشد كآبة من تكشيرة جدي، لم أرَها مرة واحدة تَبتسم، لم أسمعها مرة واحدة تقول صباح الخير. تُقلِّد الناظرات الإنجليزيات، الناظرات الألمانيات في عصر هتلر، الناظِرات الفرنسيات في مدارس الراهبات.
تكره البنات، تكرهُني حين تلتقي عيناها بعيني، تكره نفسها أيضًا داخل السواد، أصبحت المدرسة مثل المأتم، كل شيء بلون الحداد.
طنط هانم لم تحبَّ اللون الأسود، ترتدي الفساتين الحرارية الزاهية الألوان، بيتها الأنيق بالأشياء الزاهية، السواد في المدرسة كان أكثر بهجة لي مِن بيت طنط هانم.
طنط هانم أصغر من أمي بعامين اثنين، أدخَلَها جدي مدرسة الراهبات كما فعل مع أمي، أخرَجها من المدرسة، زوَّجها من تاجر يملك دكانة في شارع الموسكي وبعض العمارات، منها العمارة في شارع الضاهر.
في زمن الحرب ازداد ثراء التجار، منهم زوج خالتي هانم. أبي يَمقُت التجار، يُطلق عليهم اسم أصحاب الذمَّة الخَرِبة، لا ضمير عندهم إلا الرِّبح، يَضعون المليم فوق المليم، يصنَعون الملايين، لا يقرءون الكتب ولا الصحُف، لا يُشاركون في المظاهرات الوطنية، مهما أصبحوا من الأثرياء لا تذهب عنهم صفة البخل والتقتير، تقوم المعركة بينهم بسبب نصف مليم، التاجر منهم يخشى إفراغ أمعائه، بِلُغة ستي الحاجة: «يخاف يشخ يجوع.» يعاني أغلبهم من الإمساك.
البُخل من الأمراض المُعدية، يَنتقل من الزوج إلى زوجته، تتفوَّق الزوجة على زوجها لتحظى برضاه، لتأمن بطشه.
كانت طنط هانم تخشى زوجها، أسمع من أمي أنه ليس زوجًا مُخلصًا، يسهر في الحانات ودور اللهو، لا يعود إلا البيت إلا قُرب الفجر، تعثُر طنط هانم في ملابسه على آثار نساء أُخريات، روج أحمر في المنديل، عطر حريمي في السروال، ترى وتسكُت، تخشى أن تفتح فمها، يُدِّدها بالطلاق، يزداد ثراءً وتزداد سلطته، يعطي نفسه مزيدًا من الحريات، كنتُ أناديه باسم: عمي عبد الحليم.
طويل القامة، مبطَّط الوجه، يشبه التمساح، عيناه ضيقتان غائرتان، شفتاه مزمومتان، يدخل البيت عند الفجر وأنا نائمة، يخرج عند الظهر وأنا في المدرسة، لم أكن أراه إلا يوم الأحد. يوم الإجازات يغلق فيها الدكان في الموسكي، أعود من المدرسة بعد الظهر فأراه جالسًا إلى المائدة يتناول وجبة الصَّباح، لا يرفع وجهه عن الصحن، عيناه مُغمضتان أو نصف نائم، يَرمُقني بطرف عين صامت، تنفرج شفتاه عن كلمة واحدة: «كويسة.» أترُك له المكان، أمشي إلى غرفتي، يرمقني كأنما أمشي فوق رأسه وليس على الأرض.
في إجازة العيد سافرتُ إلى منوف، ركبتُ القطار من محطة باب الحديد (ميدان رمسيس)، قلبي يخفق بالفرح، سوف أرى أمي وأبي وإخوتي وأخواتي، المرة الأولى في حياتي أَفترق فيها عنهم، استقبلوني بالفرح والبريق في العيون، لا عناق ولا قبلات، المشاعر المطلَّة من العيون أقوى من أي عناق، سألتني أمي: مبسوطة في بيت طنط هانم يا نوال؟
– أيوة يا ماما.
خشيتُ أن أقول الحقيقة، ليس هناك حل سوى أن أبقى في منوف، أحرم من مواصلة المدرسة، في يوم أرسلت طنط هانم رسالة عاجلة إلى أمي: «خذوها إلى بيت عمها.»
كان يوم أحد، بدأتُ أرتدي طاقم نبوية موسى الأسود لأذهب إلى المدرسة، بحثتُ في الغرفة عن التايير، لم يكن عندي إلا تايير واحد، كيف أذهب إلى المدرسة بدون تايير؟!
طنط هانم أخطأت، علقت التايير في الدولاب في غرفة زوجها، لا يُمكن لأحد أن يفتح عليه الباب حتى يصحو وحده قرب الظهر.
جاء الأتوبيس الأحمر يأخذ بنتها هند إلى المدرسة، بقيت وحدي أفكِّر ماذا أفعل، هل أغيب عن المدرسة لمثل هذا السبب التافه؟ أمي تفتح الباب وأبي نائم دون أن يَحدُث شيء، أتخاف طنط هانم من زوجها إلى هذا الحد؟
تركتني طنط هانم أقضم أظافري من شدة الغيظ. لم يكن يُهمُّها أن أذهب إلى المدرسة أو لا أذهب، كان تضيق من حرصي على المذاكرة، كلما رأتْني أقرأ الدرس تقول لابنتها هند: شوفي بنت خالتك، بتذاكر طول الوقت وانتي بتلعبي بالعرايس!
الغضب يتجمَّع في صدري كالبخار المضغوط. لا أغيب عن المدرسة وإن مرضتُ، نظرتُ إلى ساعتي فوق معصمي، كل لحظة تمرُّ عطلة إجبارية تُشبه الراحة المفروضة في المرض، غضبي يشتدُّ، يتراكم منذ وُلدت. من خلال النافذة السماء خاوية بلا معنى، السيارات تمرق في الشارع بلا هدف، اللحظة الحاضرة تمتدُّ بلا نهاية، بلا ماضٍ ولا مستقبل، المستقبل بدا مُظلمًا، غيابي عن المدرسة غياب عن الحياة، يُفكِّك الأشياء في الكون، يُتلفها، يُدمِّرها، ليس يومًا واحدًا، بل أيام عمري كلها تضيع، ليست عطلة مؤقتة، بل عطلة أبدية، عطلة تلميذة بلا عطلة، بلا راحة منذ ولدتها أمها.
الخروج إلى المدرسة لم يكن مجرَّد خروج، كان الانعتاق، الحرية، الابتعاد عن الأرض، الاقتراب من السماء.
النافذة مفتوحة إلى السماء، مفتوحة إلى الأرض، إلى الشارع، تَرتفع عنه مسافة ستة أدوار، قفزة واحدة وأطير كما في الحلم؟ أو أسقط ويتهشَّم رأسي؟
قدماي تتحركان نحو النافذة، أتوقف لا أستطيع الاقتراب، أخاف من الموت، أخاف من الغياب عن المدرسة، الخَوفان يجتمعان، يرجَّان الأرض تحت قدمي، أتحرَّك مع الارتجاجة، أتَّجه نحو النافذة، الموت أسهل من الغياب، أسهل منهما السير نحو الباب، مشيتُ إلى الباب، ذلك الباب، المغلق على التايير، الخوف يتصاعَد مع الاقتراب من الباب، الخوف الجديد مع الخوف القديم منذ وُلدت، اندفعتُ نحو الباب بقوة القطار المُندفع بالبخار، اندفعت بكل جسمي، فتحته بكل قوتي بكل ثقلي، دخلتُ إلى الغرفة المعتمة المملوءة بهواء راكد يَرقُد فيها تمساح ميت، مثل الصاروخ اتجهت إلى الدولاب، فتحتُه بيدٍ واحدة، أمسكت التايير باليد الأخرى، اندفعتُ خارجةً كما دخلتُ بالخوف نفسه.
أنتفض، أرتدي التايير، أشدُّ الجاكيت لأغلقه حول صدري، انقطَع أحد الأزرار، عناصر الخوف كلها تجمعت داخل جسدي، داخل الهواء يملأ البيت، تَرتعش له الستائر المعلقة على النوافذ، أسمع صوت اصطكاك الحرير بالجدران كالأسنان تُزمجر، ريح مثل الإعصار تزأر، صوتُ طنط هانم؟ صوت زوجها؟ لم أسمَع إلا أصوات الريح، أمسكتُ حقيبتي، أسرعتُ خارج البيت، قفزتُ السلالم، قفزتُ داخل الترام المُسرع، هبطت أمام المدرسة، كادت تدهسُني سيارة وأنا أجتاز الشارع، اندفعتُ داخل الباب قبل أن يُغلَق.
كان الجرس دقَّ، دخلت التلميذات إلى الامتحانات، كان يومًا من أيام الامتحانات، جلستُ في الفناء مُطرقة الرأس، الدموع تجري فوق وجهي، غيابي من الامتحان يعني السقوط، كان أبي يُحذِّرني من السقوط، يشير بإصبعه إلى الجردل والفرشة: «إذا سقطتي مرة واحدة مافيش إلا مسح البلاط!»
نهضتُ من فوق الدكة الخشبية، لاحت لي فكرة، أدخل إلى مكتب الناظرة، أحكي لها ما حدث بشأن التايير، أطلب منها أن تأذَن لي بدخول الامتحان.
كانت المرة الأولى والأخيرة ألتقي وجهًا لوجه بالأستاذة نبوية موسى، كان لها وجه يقطع الخميرة من البيت (بلغة ستي الحاجة)، أصبحتُ أكره جميع الوجوه الشبيهة بوجهها، جعلتني أكره المدرسة والتعليم وكل شيء في الدنيا، أبي (إذا أراد أن يُعاقبني أو يفزعني) يقول لي: لازم أبعتك تاني عند نبوية موسى!
لا أذكر من نبوية موسى إلا وجهًا عابسًا مشدود العضلات، عيناها سوداوان واسعتان، تتسعان لما في العالم من كآبة سوداء، وقفت أمامها أرتجف، جالسة داخل مكتبها كالأسد في عرينه، متحفِّزة تنتظر الانقضاض، قبل أن أفتح فمي انفجرت بصوت غاضب: أنا عارفة الحجج الفارغة بتاعة البنات المايعين، لازم وقفْتِ ساعة قصاد المراية تساوي حواجبك.
لم تكن في غرفتي مرآة، لم أكن أرى نفسي، إلا حين أفتح الباب الخارجي، كان هناك مرآة طويلة في المدخل، ألمح داخلها شبحًا أسود يحمل رأسًا يُشبه رأسي، فتاة طويلة نحيفة شاحبة ترتدي الحداد.
لم أكن أيضًا من «البنات المايعين»، أمشي مشدودة الجسم كالعسكري الأسود، طنط هانم تطلق عليَّ اسم غفير الدورية.
نبوية موسى لم تكن تنظر إليَّ، عيناها مقلوبتان إلى الداخل، جاحظتان مقلوبتان إلى الخارج، تَشردان بعيدًا في السماء، كانت هي الأخرى غاضبةً على السماء، غاضبة على جنس الإناث، الغضب تجسَّدَ فوق جبينها تكشيرةً قاتمة تشبه خالتي فهيمة: امشي روحي الامتحان بسرعة، وإذا تأخرتي مرة ثانية مافيش غير الطرد النهائي من المدرسة! مفهوم؟
صوت نبوية موسى اخترق أذني، تَطرُدني من مكتبها، أسرعتُ أجري إلى الامتحان، نجحت، انتقلت إلى السنة الثانية الثانوية، نقل أبي أوراقي إلى مدرسة السنية، انتقلتُ إلى بيت عمي الشيخ محمد السعداوي في حي العنبري بالقلعة.
•••
أصبحت تلميذة في مدرسة السنية الثانوية للبنات، قضيتُ فيها عامين اثنين (١٩٤٤م، ١٩٤٥م)، كلمة «السنية» كان لها رنين في الأذن، نوع من الرهبة والأَّبهة، مدرسة السنية لها تاريخ في مصر، تخرجَت فيها رائدات التعليم من المعلمات، أسمع طنط فهيمة تنطق كلمة «السنية» بأنف شامخ: في السنية عرفت أبلة نظيرة.
ترنُّ كلمة «أبلة نظيرة» في أذني أكثر رهبة وأبَّهة من كلمة السنية، من هي أبلة نظيرة؟ واحدة من الرائدات مثل نبوية موسى، أسمع صوتها يَخرُج من الجهاز السحري الذي يسمونه «الراديو»، صندوق من الخشب له ثقوب مفتوحة إلى الداخل، عيون سِحرية مفتوحة على العالم الآخر، تنبعث منها الأصوات قادمة من السماء.
كانت طنط فهيمة (الأستاذة فهيمة شكري) ذات أهمية أكبر من النساء والرجال في عائلة أمي وأبي، طنط فهيمة تَعرف واحدةً من الكائنات السحرية المتكلِّمة في الراديو، عرفتها في مدرسة السنية.
كنتُ جالسة بين أبي وأخي طلعت داخل التاكسي المُنطلق بنا إلى بيت عمي الشيخ محمد، قال أبي لأخي: إنه دخل مدرسة بنبا قادق الثانوية، سيَسكُن معي في بيت عمي، التفَتَ أبي ناحيتي وقال إنني دخلتُ مدرسة السنية.
خفقة واحدة هائلة من قلبٍ ارتجَّ لها التاكسي، اصطكَّت عجلاته بأسفلت الشارع مُحدثةً صوتًا عاليًا، وارتجاجات في جسدي، في جسد أبي أيضًا، طربوشه كان يَخبط في سقف السيارة، أمسكه بيديه الاثنتين، سقط عن رأسه، وضعه فوق ركبتيه.
قال أبي: هذا اسمه شارع محمد علي، على جانبَيه رأيتُ الأعمدة الحجرية الضخمة «البواكي»، المحلات، الدكاكين، الزحام، الترام يُصلصل وراءنا يكاد يدهس التاكسي، تبادل سائق الترام مع سائق التاكسي اللعنات، شتَم كل منهما أم الآخر وأباه حتى سابع جدٍّ، انطلق كل منهما في طريقه لاعنًا الدين والدنيا وشارع محمد علي بما فيه من المُومسات وبيوت البغاء.
كان بيت عمي في زقاق ضيق غير مرصوف بالأسفلت، مملوء بالحفر والمطبات وأكوام القمامة، زمجر السائق وهو يدخل الزقاق، توقف قبل أن نصل إلى البيت، بركة صغيرة من الماء والطين تفوح منها رائحة المجاري، أيُّ فارق بين هذا الزقاق وشارع الضاهر؟ أي فارق بين عمي الشيخ محمد وبيت طنط هانم؟
عمي الشيخ محمد السعداوي يَحمل لقب أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر الشريف، تصورت أن بيته أجمل من بيت تاجر الموسكي! شقة ضيقة مُظلمة في الدور الرابع، بيت قديم آيل للسقوط، له مدخل ضيق شديد الظلمة، أحمل حقيبة كبيرة، أتعثَّر فوق السلالم وراء أبي وأخي، كل منهما يحمل حقيبة بيد، في يده الأخرى عود كبريت مشتعل.
في كل دور يتوقف أبي ليُشعل عود كبريت جديد، يلتقط أنفاسه، يواصل الصعود، أنا وأخي من خلفه نلهث بصوت مسموع.
كلمة «السنية» والأبهة تبخَّرت في الجو، قلبي يغوص إلى أسفل مع كل درجة أصعدُها نحو بيت عمي، أبي يقول شيئًا ليُخفِّف الصدمة، يخفِّف عن نفسه عبء تأنيب الضمير والندم لإحضارنا إلى هنا، أو لعلَّه وجد الفرصة سانحة ليتحدث في السياسة: حكومة فاسدة، لا تحترم العلم ولا العلماء! نظام فاسد لا يكسب فيه إلا الجهلاء وتجار الخردة في الموسكي.
انحفرتْ كلمات أبي في ذهني، خفَّفت عني الإهانة، الفقر يُهين كرامة الإنسان، يمتلئ الصدر برائحة المجاري كل صباح، الفول، العدس، الأصوات تَنطلق من الأمعاء داخل المرحاض؟!
باب المرحاض إلى جوار باب الغرفة التي أصبحتْ غرفتي (وأخي طلعت)، غرفة رطبة باردة، في الشتاء ثلاجة، وفي الصيف حارة ملتهبة، زنزانة من الصفيح داخل قرص الشمس، نافذة واحدة صغيرة تفتح على جدار أسود مسدود، تتصعَّد منه رائحة طبيخ حامض يغلي على النار، باب آخر صغير يفتح على السلالم الخارجية.
نعمة من عند الله هذا الباب الصغير، يُعفينا من المرور في الصالة عند الخروج. الصالة مثل السرداب، كنبة بلدي يجلس عليها عمي وزوجته وأقاربها من عائلة العقباوي.
كلمة «العقباوي» ترنُّ في أذني مع كلمات أخرى مثل: العقاد، بنبا قادق، القلعة، العنبري، روماتزم العمود الفقري، كلمات مترابطة داخل سلسلة واحدة في ذاكرتي مع الزقاق المظلم في حي العنبري قرب القلعة، الغُرفة الرطبة من البلاط، أصابتني الآلام في عمودي الفقري، بنبا قادق الثانوية يسقط أخي فيها آخر العام. العقاد يتحدَّث عنه العقباوي مع عمي الشيخ محمد، القرآن يُرتِّله عمي قبل أن ينام، الأذان ينطلق قبل الفجر من الجامع مثل قذائف المدفع، مدرستي الثانوية السنية تحوَّلت إلى قلعة، سجن كبير يحوطه سور حجري قُرب جامع السيدة زينب، الشحاذون وأصحاب العاهات أمام باب الجامع يلهثون: «شلاه يا ست!»
أمشي كل صباح من بيت عمي إلى المدرسة، مسافة تَستغرق الساعة، أحمل حقيبةً مليئة بالكتب والكراريس، جسمي أصبح مائلًا على جنب، أحسُّ الألم في مؤخِّرة العمود الفقري وساقي اليسرى، أجلس في منتصف الطريق لأستريح، أصل المدرسة بعد أن يُضرَب الجرس، أجد الباب الخشبي مغلقًا، أدقُّ الباب بقبضة يدي، بابًا ضخمًا أسود من أبواب السجون، يَحرسه بوَّاب عملاق من الصعيد فوق جبهته تكشيرة غائرة في اللحم تُشبه تكشيرة الناظرة، أصابع يدي تتورم في أيام البرد، ثقل الحقيبة محفور في بطن اليد، الألم يمتدُّ من ذراعي إلى كتفي، يَهبط عبر العمود الفقري إلى ساقي اليسرى، أدقُّ الباب، أصابعي المتورمة تنزُّ الدم، أبتلع الدموع واقفةً في الشارع، لعاب ممزوج بالملح، طنط هانم أصبحت الملاك الأبيض في جنة مفقودة.
لا يَنفتح الباب، أعود أدراجي إلى غرفتي المُعتمة، أذاكر دروسي تحت الغطاء في السرير البارد من الصاج، أجلس على الكرسي الخشبي مخلخل الأرجل، أنحني بظهري فوق المنضدة المنخفضة، لمبة كهربية (٢٠ وات) تشع ضوءًا أصفر يَخفت في النهار عن الليل.
إذا اشتد الدقُّ على الباب أو إذا أراد الله الفرج، أسمَعُ الصرير أشبه بمَفاصل عظام مُصابة بالرُّوماتيزم، يطلُّ وجهه العملاق الأسود، يَضغط على أسنانه الكبيرة البيضاء تصطكُّ، الصرير أشبه بصرير الباب: ممنوع الدخول بأمر الست الناظرة، مفهوم!
– لازم أقابل الناظرة يا عم عبد الله!
– ممنوع المجابلات مع الست الناظرة، ممنوع، مفهوم!
يطرقع الباب بالصرير منغلقًا.
•••
في إجازة العيد سافرتُ مع أخي إلى منوف، أسعل حين أنهض في الصباح، أمشي محنية الظهر، جسمي مائل على جنب، أخَذني أبي إلى الدكتور حنا (صديقه القديم)، فحَصني في غمضة عين، قرص خدي: بنتك زي الحصان يا سيد بيه، عاوزة شوية حديد وزرنيخ يجمد عضامها، طولت بسرعة أوي، بقت أطول منِّي، ما شاء الله!
قامتي أصبحت أطول من قامة الدكتور حنا، أطول مِن أخي الأكبر طلعت، أطول من كل زميلاتي في المدرسة، متى حدث هذا الطول السريع؟!
صحوتُ من النوم فوجدت يدي تصل إلى مفاتيح الراديو فوق الرفِّ العالي، بالأمس لم أصل إليها، أكانت عظامي تطول في الليل حين أفرد ذراعيَّ وساقي؟! أصبحتُ أنام مكوَّرةً حول نفسي كالجنين في النهار، أُقوِّس ظهري، أنحني للأمام، في كتاب المطالعة الرشيدة: «القامة الطويلة ميزة الرجال، القامة القصيرة ميزة النساء والأنوثة.» المرأة الجميلة عظامها دقيقة هشَّة، يمامة كتكوتة، تتهشَّم في العناق.
عظامي طويلة قوية مثل الحصان، لا شيء فيها قابل للكَسر، أمشي كل يوم ساعتين حاملةً حقيبتي الثقيلة، أدوس على الألم وأمشي، خطوتي ليسَت سريعة كما كانت، أمشي ولا أتوقَّف حتى باب المدرسة، هذا الباب هو نجاتي، الثغرة الوحيدة في جدار حياتي، أَنفُذ منه إلى حياة أخرى ليست للغرفة المظلمة الشبيهة بالقبر.
اشتدَّ بي الألم، فأخَذني أبي إلى الطبيب في ميدان كبير اسمه الإسماعيلية، طنط فهيمة قالت إنه أشهر طبيب في مصر في أمراض العظام.
منذ الدكتور «حنا» في منوف أصبحتُ أكره الأطباء، الأصابع الصلبة تَنقُر فوق صدري كأنما صندوق خشبي، الأنفاس السريعة اللاهثة تفوح منها رائحة السبيرتو وصبغة اليود ومحلول اليزول، الصوت المعدني والضحكة الميكانيكية الخالية من المرح، الأنف الشامخ الخالي من الكبرياء.
للمرة الأولى أركب العُلبة المربَّعة ذات القضبان الحديدية التي تصعَد الأدوار العليا، طنط فهيمة تُسميها «الأسانسير»، كلمة فرنسية تعني «المصعد»، تلاشى الألم في عظامي مع الصعود حتى الدور التاسع كأنما أركَب طائرة، أصبح جسدي خفيفًا، تحرَّرتُ من الجاذبية الأرضية، ضحكتُ بصوت مسموع، أُغمض عيني، أطير.
الفرح تبدَّد حين دخلت العيادة، صالة الانتظار الواسعة، زحام من المرضى، عكاكيز خشبية، وجوه صفراء شاحبة، عيون مُنكسرة، واستسلام كامل، انتظار الموت مثل انتظار مقابلة الطبيب.
سوف أُصبح مثلهم، سوف أتَّكئ على عكاز خشبي وأقضي عمري في غرفة الانتظار، الانتظار هو الموت، لا أُطيق الانتظار، أتحرَّك من مقعدي، أمشي في الطُّرقة خارج العيادة، أدبُّ بقدمي، أُعلن أنني قادرة على المشي دون عكاز، لستُ مريضةً، لست في حاجة إلى طبيب، لست في حاجة إلى الانتظار!
جاء التومرجي مُرتديًا مريلةً بيضاء، نظَّارة زجاجية تشبه نظارات الأطباء، عيناه ضيقتان غائرتان، تلمعان مثل عيني الصقر، الشارب الأسود فوق الشفة، مِن أين جاء التومرجي؟ كان مختبئًا في غرفة جانبية يسجِّل في الدفتر إيراد اليوم، انقضَّ على أبي بصوت يُشبه نقيق ضفدع أو نعيق البوم: كشف مستعجل يا بيه؟
فوق الجدار لافتة معلَّقة، قائمة الأسعار، تُشبه القائمة في دكانة ألف صنف وصنف في منوف، شهادة الدكتور من كلية الطب القصر العيني داخل برواز ذهبي، صورة التخرج والأساتذة الأطباء، بعضُهم واقف على شكل صف، البعض جالس على الكراسي داخل البِدَل الداكنة اللون، الوجوه المشدودة العضلات، الأنوف الشامخة، الساق فوق الساق أكثر شموخًا بلا كبرياء.
قبَض التومرجي ثمن الكشف المستعجل، دخلنا إلى الطبيب، يُشبه الدكتور حنا، الصوت وطريقة الكلام، يخلط الكلمات العربية بكلمات إنجليزية، الضَّحِكة الميكانيكية تنمُّ عن اليأس أكثر من المرح، كلية الطب تصكُّ الأطباءَ بمطرقة واحدة، يتخرَّجون من تحتها مثل القروش المتشابهة!
رقدتُ فوق منضدة الكشف، تركني عاريةً أنتفِض من البرد، يردُّ على التليفون، طالت المكالمة، نسيني فوق منضدة الكشف، عاد واضعًا في فمه سيجارًا سميكًا أسود اللون، تُسميه طنط فهيمة «البايب»، ينفث الدخان في السقف، يَفحص عظامي، لوى فقرات ظهري تُطقطق بصوت عالٍ، تكسَّرت، فانطلقت صرخة.
لم يَشفني الطبيب، أصابني بالانزلاق الغضروفي في الجزء السُّفلي من عمودي الفقري، عانيتُ منه طوال حياتي، خرجتُ من عيادته أعرج عاجزةً عن المشي، أدوس على قدمي فأشعُر بألم مثل الصاروخ في ظهري، اضطرَّ أبي أن يسندني، وصلنا المصعد.
ميدان الإسماعيلية أوسع مما كان، محطة الترام بعيدة، أبعد مما كانت، لم أستَطِع السير.
جلستُ على الرصيف، اضطرَّ أبي إلى استئجار «تاكسي» بدل الترام.
تأخرتُ عن المدرسة أسبوعًا، الطبيب أعطاني بعض الأقراص أصابتْني بأوجاع أكثر.
أراد أبي يأخذني معه إلى منوف، سمعة كلمة «منوف» فنهضتُ مِن الفراش واقفة مُنتصبةً فوق قدمي، أثبت لأبي أنني قادرة على المشي، قادرة على الذهاب إلى المدرسة.
لا أريد أن أغيب يومًا واحدًا … أُسافر إلى منوف؟ سأَغيب شهرًا على الأقل، سأغيب العمر كله، سيبدأ الحصار من جديد في منوف، سيَظهر عريس جديد، مؤامرة جديدة نحو المصير المحتوم على البنات.
تشبَّثتُ بالبقاء في بيت عمي حتى آخر العام الدراسي، أراد أبي أن ينقلني إلى بيت جدي تحت رعاية طنط فهيمة: مش معقول يا سيد بيه الولد والبنت يعيشوا في أوضة بالشكل ده، أنا مُستعدة آخدهم معايا يعيشوا في بيت جدتهم تحت رعايتي.
نجحتُ وانتقلتُ إلى الثالثة الثانوية، أخي لم ينجَح، اضطرَّ أن يُعيد السنة، أصبحنا في بيت جدي الڤيللا الكبيرة المُحاطة بالحديقة في شارع الزيتون، جدي مات منذ عامين، أصابه التهاب رئوي، قضى سهرةً حمراء في إحدى ليالي الشتاء، عاد إلى البيت يَرتجف بالحمى، لم يكن دواء البنسلين موجودًا في مصر، قرأتْ طنط فهيمة في الصحُف عن البنسلين أنه اكتُشف من مادة العفن، أصبحت آكل الخبز المُعفن. آلام الظهر بدأت تخفُّ، مات جدي بعد أسبوع من السهرة، كان يعالج الحمى بالخمر، يَهذي بعبارة: «داوِني بالتي كانت هي الداء.» بعد موته تنفَّسَت جدتي آمنة الصُّعَداء، فتحت فمها المُغلَق وملأت صدرها بالهواء، الهواء كان محملًا بجرثومة مجهولة أصابتها في حلقها، سخرية القضاء والقدر، بدأت جدتي آمنة تَنطِق بعد صمت السنين، نطقَت فانسدَّ حلقُها بالورم الخبيث.
لا يستطيع أحد نطق كلمة «السرطان»، كلمة الموت أسهل على اللسان، يُسمُّونه «المرض إياه»، هذا الاسم لم تسمَعه جدتي آمنة، قالوا لها: «الإنفلونزا» في الحلق، والتهاب اللوز، بقيت في فراشها عامًا، تراكَمَ الألم في جسدها مع الحزن. الطبيب «أخصائي الأورام الخبيثة» رشق في عنقها «إبرة الراديوم»، أصبح عنقها مخرومًا بالإبرة ملفوفًا بالشاش، رأسُها عاجز عن الحركة، عيناها الرماديتان تَدوران حولها مملوءتين بالألم المشلول، إصبعها الشاحب بلون الضباب يشير إلى موضع الإبر في عنقها، إصبع ضبابي يشير إلى كُتلة ضبابية من الشاش، ماذا في عُنقها؟! لا تستطيع أن تسأل، عيناها تتعلَّقان بالسقف، تَخرقان الجدار، تَنفُذان إلى السماء، تسألان الله: ليه يا رب؟
أنفاسها في الليل لم أسمعها بأذني، كنتُ في بيت عمي، طنط نعمات كانت تصحو على صوت هامس ينادي في الليل: يا رب! أهو صوتها أو صوت أمها في الغرفة المجاورة: ليه يا رب الظلم ده؟ أنا عملت إيه؟! تورَّمت عين طنط نعمات من البكاء والنداء للرب في الليل، في النهار تحبس الدموع، تتراكم الدموع في حلقها كالغصة، الورم الخبيث! أهو كيسٌ مملوء بالدموع؟!
قضيتُ عام ١٩٤٥م في بيت جدي، أصبح اسمه المرحوم، جدَّتي آمنة أصبح اسمها المرحومة، أصبحتُ في الثالثة ثانوي، أنام في السرير العريض بجوار طنط فهيمة، أخي طلعت له غرفة مُستقلة بجوار غرفة خالي زكريا، طنط نعمات لها غرفة مستقلة، غرفات أخرى في البيت، طنط فهيمة أصبحت ناظرةً لإحدى مدارس البنات. لم تشأ أن تكون غرفتي وحدي، تُحكم رقابتها على نومي وأحلامي، الرعاية هي الرقابة! تحمل سلسلةً من المفاتيح كالسجانة، مفتاح لغرفة مكتب المرحوم، مفتاح لغرفة المرحومة، مفتاح لغرفة «الكرار» تُخزِّن المؤن، مفتاح لغرفة «الدادة» الخادمة الصغيرة الشبيهة بسعدية، مفتاح لغرفة المخزن في الحديقة جمعت فيها الصور ذات الإطارات الذهبية، مفتاح الدولاب الكبير؛ حيث التحف الثمينة والأوراق والوثائق الهامة، ورقة قديمة باهتة بخطِّ الخديو إسماعيل، عثرت عليها طنط فهيمة في مكتب المرحوم، تُخرجها أمام الضيوف، تحملق فيها بعينيها الجاحظتين من وراء العدسات السميكة شامخة بأنفها: الخديو إسماعيل أخذ العزبة بتاعة المرحوم جدِّي، كان لازم يدفع ثمنها، مات من غير ما يدفع حاجة، لازم أطالب بحقنا من الحكومة.
خالي زكريا طالب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، عيناه تلمَعان بالأمل، العزبة سوف تعود، أيام العز والرفاهية، مثل أخي طلعت يَكره الدراسة والقراءة، يُفضِّل الذهاب إلى السينما والمسرح وسباق الخيل.
أخرُج في الصباح الباكر إلى المدرسة، تدقُّ ساعة الحائط الكبيرة في الصالة الواسعة ست دقات، تفتَح طنط فهيمة عينيها: الساعة ستة، اصحي يا نوال، أرتدي ملابسي بسرعة، أخرُج دون فطور، أمشي شارع الزيتون حاملة حقيبةً المدرسة، أجري لأَلحق بالقطار، من النافذة أقرأ أسماء المحطات، محطة «سراي القبة»، السور الأحمر الضخم، سراي المَلِك، الحدائق الخضراء الواسعة، الزهور، المحطة بعدها «منشية الصدر»، البيوت المتهدِّمة، جدرانها ملطخة بالدخان الأسود، حبال الغسيل في النوافذ والبلكونات تهتزُّ مع اهتزازات القطار، «كوبري الليمون»، أهبط في محطة كوبري الليمون، أهبط إلى ميدان باب الحديد، أجتاز الميدان؛ حيث تمثال نهضة مصر الذي نحته محمود مختار (١٨٩١م–١٩٣٤م)، انتقل إلى الجيزة أمام الجامعة، انتصب مكانه رمسيس الثاني.
أركب الترام من باب الحديد حتى محطة السيدة زينب، السور الحجري «السنية»، أدخل من الباب الأسود المشقَّق والجرس يدقُّ، أجري إلى الطابور.
الرحلة من البيت إلى المدرسة بالقطار والترام تَستغرق ساعتين، أخرُج في السادسة والنصف لأصل إلى المدرسة في الثامنة والنصف، في الشتاء يتأخَّر النهار، شارع الزيتون في الصباح الباكر مُعتِم مثل الليل، أجري لا أتوقف حتى محطة القطار.
ساقاي طويلتان تساعدان في الجري، استعدتُ صحَّتي في بيت الزيتون، الشمس تدخل من كل النوافذ، الهواء محمَّل برائحة الورد والزهور، الغُرفة المُعتمة في بيت عمي سقطت في العدم، سجَّلتها في الكشكول الأزرق، مُفكرتي السرية.
أول يناير ١٩٤٥م، الأمس كان الاحتفال برأس السنة الجديدة، خالي زكريا كان في الحفل الكبير في بيت عمه طاهر بيه في شارع المَلِك، أخي طلعت كان معه، طنط نعمات كانت في بيت عمتها بدور هانم في حدائق القبة، طنط فهيمة كانت في حفل مع زميلاتها في المدرسة، خالي يحيى خرج مع زملائه الموظفين في مصلحة السكة الحديد.
بقيت وحدي في البيت الكبير الموحش، لم أذهب مع أخي إلى بيت جدي طاهر، لا أحب الذهاب إلى هذا البيت، طنط يلدز وطنط دولت وخالي ممدوح، لا أحبُّ الثلاثة، طنط يلدز ترمقُني بعينيها الخضراوين، تشمَخ بأنفها، تَنطق الكلمات الفرنسية، لا أفهم ما تقول.
طنط دولت تضع ساقًا فوق ساق، تسألني مِن طرف أنفها عن اسمي واسم مدرستي، خالي ممدوح يفتح حقيبتي دون إذن، يَنظر فيها ويقول بصوت كالفحيح: «البنات دائمًا يخبوا حاجات حلوة في شنطهم.» أشدُّ منه الحقيبة، أخشى أن يأخذ منها مُفكرتي السرية.
يشدُّها منِّي ويجري إلى غرفته، أجري وراءه أشدُّها منه، في غرفته يحاول أن يُقبِّلني، أدفعه بعيدًا بذراعين قويتين، عظامي القوية تُنقذني منه.
خالي ممدوح طالب في الجامعة مثل خالي زكريا، ضعيف العظام، نحيف الجسم، عيناه ضيقتان مُستديرتان غائرتان، عينا صقر ضعيف أو فأر، ليس في عينيه نظرة حبٍّ أو إعجاب، يستعرض أمامي ما يملك. الولاعة الذهبية يشعلها بخبطة واحدة، علبة السيجارة في يده يدقُّ بها سطح العلبة، سلسلة المفاتيح من الذهب، يُحرِّكها بين أصابعه كالسبحة، مفتاح السيارة الصفراء الصغيرة يركنُها أمام الباب الخارجي، يسدُّ بها الباب، الداخلون أو الخارجون يتأكَّدون أنها سيارته وليست للجيران، يعجز خالي ممدوح عن إقامة حوارٍ معي، يظنُّ أنني كالبنات من عائلة شكري بيه أو طاهر بيه، أن السيارة تبهرني أو المقتنيات الذهبية.
كنت محصَّنة ضد مظاهر الثراء، ورثتُ عن أبي احتقاره للأثرياء، صوته في أذني: حذاء مملوء بالفلوس!
خالي ممدوح يبدو لي مثل حذاء لامع بالذهب، طالب في الجامعة، لم يسمَع عن طه حسين، لا يقرأ الكتب، لا يَكتُب ولا يرسم، لا يعزف على العود، ليس له هوايات إلا معاكسة البنات، هو وخالي يحيى توءمان.
دقَّت ساعة الحائط الثانية عشرة، لم يعد أحد من سهرة رأس السنة الجديدة، توقفتُ عن الكتابة جالسة وحدي في الصالة الواسعة، مسامير الصور بارزة فوق الجدران، خلعتْ طنط فهيمة جميع الصور، أرادت أن تنسى صورة أبيها، تنفَّسَت الصُّعداء بعد موته مثل جدتي آمنة.
صوتٌ يُنادي من غرفة جدتي: يا رب؟ ليه يا رب الظلم ليه؟ رُوح جدَّتي عادت من القبر، شبح أسود يتحرك وراء الباب.
تجمَّدتُ في مكاني، البيت كبير موحش مملوء بأشباح الموتى، روح جدِّي تدقُّ الأرض بالعصا، صوته عالٍ: يا إلهي أنت جاهي، جرس الباب يُصلصل، لا أحد يدخل أو يخرج، الأَرواح تُحرِّك الجرس المعلق أعلى الباب.
الغرفة الصغيرة في بيت عمي أصبحت واحة الأمن، لم تكن هناك أشباح موتى إلا شبح زوجة عمي تَمشي من الصالة إلى المرحاض، كانت حيةً، ليست ميتة مثل جدي وجدتي، كانت تبدو في العتمة مثل الروح الخارجة من القبر، تتسنَّد على الحوائط، ساقاها مُقوَّستان تحت جسمها السمين، تلهث، تتوقف، تأخذ نفسًا طويلًا، تنهيدةً عميقةً، تُواصل خطواتها الزاحفة داخل الشبشب، كعبه يطرقع على البلاط، تدخل المرحاض فيطرقع صوتها: مين اللي سد الكنيف؟!
كلمة «الكنيف» تَعني المرحاض (بيت الأدب بلغة ستي الحاجة)، تدقُّ باب غرفتي وأخي، تسألنا بصوت الضفادع: مين فيكو اللي سد الكنيف؟!
أخي طلعت يَكتُم الضحك، يفتح الباب يقول لها: لازم عمي الشيخ محمد، عشان بيحب الكرنب المحشي!
كانت زوجة عمي تَطبخ جالسة في غرفة نومها، تقضي النهار في حشو الكرنب والباذنجان، وعمل فتة الكوارع بالثوم، وحشو المنبار بالبصل والفلفل.
في كفر طحلة كان لعمي الشيخ محمد زوجة أخرى هي «أم فوزية»، نحيفة خفيفة، لا تكفُّ عن الحركة وعمل السِّحر ضد ضرتها، (الضرة هي الزوجة الثانية)، تهمس في أذني: «مرات عمك الشيخ محمد في مصر زي الفيل أبو زلومة الخالق الناطق، مالهاش شغلة إلا حشو بطن عمك الشيخ، راجل فلاتي بتاع نسوان زي المرحوم أبوه، نعمل إيه؟ ستِّك الحاجة هي اللي علمته وصرفت عليه في الأزهر، وبقه لابس قفطان وعمة، تحت القبة شيخ يا شيخ محمد!»
في بيت عمي (في حي العنبري) زوجته الثانية تقول: «عمك الشيخ محمد ساب «أم فوزية» عشان مجنونة، عقلها طاقق، مالهاش شغلة غير الشبشبة والسحر عشان عمك الشيخ يرجع لها.»
قبل أن تعود طنط فهيمة من سهرة رأس السنة الجديدة، قبل أن أغلق مفكرتي بعد منتصف الليل أول يناير ١٩٤٥م، كتبت: أنتظر إجازة العيد بفارغ الصبر لأُسافر إلى منوف، أشعُر بالحنين إلى أمي وأبي وأخَواتي، أشعر بالحنين إلى الحرف «ف»، يَعزف العود في هدوء الليل تُنثر، سأدخل مدرسة الفنون الجميلة وألقاه. هل تخرَّج من المدرسة وتزوَّج؟ أيعيش هنا في مصر؟ هل ألتقي به مصادفةً في الطريق إلى المدرسة؟!
في إجازة العيد سافرتُ وأخي إلى منوف، اشترى أخي كاميرا صغيرة، كان عاشقًا للصور، يدخل إلى الغرفة في الحديقة حيث تُخزِّن طنط فهيمة الصور، يقضي الساعات يتفرَّج على الصور، عثر على صورة لأمي وهي تلميذة في المدرسة، صورة له وهو طفل تَحمله أمي فوق صدرها، وجهها يشبه الملكة نازلي تَحمل طفلها الملك فاروق، أو العذراء مريم تحمل المسيح، أراد أخي أن يأخذ هذه الصور إلى منوف، طنط فهيمة رفضت. كان يَحرم نفسه من الطعام، يدَّخر القرش على القرش، اشترى الكاميرا الصغيرة ليَلتقِط صورةً في منوف لأمي، كنتُ أحب الصور مثل أخي، القراءة كنت أحبُّها أكثر، أقرأ القصص والروايات، في أوقات الفُسحة تلعب البنات في الحوش أجلس على الدكة الخشبية وأقرأ، في حصة الألعاب الرياضية كنت أقرأ أيضًا، في حقيبتي شهادة طبية مكتوبة بخط يشبه نغبشة الفراخ: مطلوب إعفاء التلميذة نوال السيد السعداوي مِن حصة الألعاب الرياضية؛ لإصابتها بآلام روماتيزمية في عظام الظهر والساق اليُسرى.
أصبحت هذه الشهادة تلازمني في حقيبتي بعد أن تلاشت الآلام، أُقدِّمها للناظرة حين أتأخَّر في الصباح أو أغيب عن المدرسة يومًا أو يومين، أعطَت الناظرة أمرًا للبواب أن يفتح لي الباب، أبي يقول: رب ضارة نافعة.
في منوف التقَط أخي طلعت كثيرًا من الصور، أمي تتمشَّى في الحقل من حولها أخواتي الصغيرات، صورتي أجري وراء فراشة بيضاء، وضَع ذراعه في ذراعي «أنكاجيه» والتقطت لنا أمي الصورة، جاء أبي التقط له أخي صورة واقفًا بين الزرع في يده المنشَّة فوق رأسه الطربوش.