من جُحا إلى الشناوي
الحقيقة … أن هؤلاء الرجال كانوا يُضحِكون الناس والعَبَرات تخنقهم، ويُشيعون الأمل واليأس يكاد يقتلهم، ويضحَكون بالشفاه وفي القلوب حسرة. ومات أغلبهم حزينًا مهمومًا بعد أن ترك خلفه ابتسامةً مضيئة … على كلِّ الشِّفاه.
مَن هم هؤلاء الظرفاء؟ الذين أشاعوا البهجة في نفوس مُعاصِريهم، بل وفي نفوس أبناء الأجيال التي جاءت من بعدهم. وكيف أكتب عنهم؟ ومن أي زاوية أتناول سِيَرهم الحافلة وقصصهم الغريبة العجيبة الحافلة بكلِّ الألوان؟
أبو الظُّرفاء
يقول البعض إن هؤلاء الظرفاء — على مر العصور — منذ أن نسج خيال الناس المكدودين قصة «جُحا أبو الظرفاء» ليتلهَّوا بها وليضحكوا منها وعليها، كانوا مجرد جماعة من المهرِّجين، عاشوا وماتوا، ومروا على أرض البشر دون أن يتركوا خلفهم أثرًا.
ولكن، هل هذا صحيح؟
الواقع يصفع هذا القول على قفاه، فبعضهم — بعض هؤلاء الظرفاء — قاد الجماهير وأشعل نار الثورة، واقتحم تاريخَ البطولة من أوسع أبوابه، ومن هؤلاء مثلًا الزعيم الظريف عبد الله النَّديم.
ويقول البعض الآخر إن هؤلاء الظرفاء كانوا في مجموعهم من دود الأرض الذين سحقتهم الأقدام على الطريق فتعلَّقوا بدنيا الرغَد والثراء والشهرة العريضة، واقتحموا هذه الدنيا العجيبة متطفِّلين، يُضحكون الأغنياء والوجهاء والمشهورين، وأن دورهم في الحياة لم يكن يزيد كثيرًا عن دور «الأُدَباتية» و«القُرَداتية» واللاعبين على الحبال.
ظُرفاء جبابرة
ولكن الواقع يعود فيُكذِّب هذا الزعم أيضًا، فمن بين هؤلاء الظرفاء مَن كان يجمع بين العلم والشهرة، ومن هؤلاء الدكتور محجوب ثابت، ومنهم العملاق في دنيا الأدب، كحافظ إبراهيم والشيخ البشري.
ومنهم مَن تولى منصب الوزارة وينحدر من عائلة عريقة يضرب أصلها الطيب في بطن التاريخ إلى غورٍ سحيق … وأقصد به المرحوم حفني محمود.
ونظرة خاطفة إلى هذا الصفِّ الطويل من الرجال الظرفاء في العصر الحديث تجعلنا نُهمل ما يقوله عنهم أصحاب العقول والألسنة الجافة. وعلى هذا الأساس ستكون نظرتنا إليهم عندما يأتي دور كل منهم لنؤرخ عنه.
والذي أود أن أذكره الآن للقُراء، أنني بعد بحثٍ طويل في تاريخ هؤلاء الرجال خرجت بحقائق مُشرقة ومريرة معًا!
عبد الله نديم
من هذه الحقائق مثلًا أن زعامة عبد الله النديم قد انصهرت في البداية — بداية حياته — في هذه المهنة التي احترفها طويلًا … مهنة الظُّرف، فهي المهنة التي قادته إلى المقاهي الحقيرة الصغيرة المنتشرة داخل أزقة أحياء الإسكندرية العتيقة. وجعلته يخالط الحمَّالين والنشَّالين وأصحاب المزاج، الذين يسخرون بكل شيء ومن كل شيء سخريةً مُرَّة مُوجعة، كأنها السِّياط تجلد ظهر المجتمع الذي عاشوا فيه واكتوَوا بأوضاعه المقلوبة … والشعب المصري يحب النكتة ويطرَب لها، ويستخدمها كسلاح حادٍّ يطعن به، في غير هوادة ولا شفقة، كل الأعداء الذين يحيطون به ويسدون عليه السُّبل نحو الارتقاء.
ولكأن عبد الله النديم كان يعرف، بالحاسة المجهولة التي يتميَّز بها كل زعيمٍ، أنه عن طريق زعامته في النكتة يستطيع أن يتزعم الجماهير ويدفعها دفعًا نحو الثورة … وقد استطاع النديم أن يتزعم الشِّلل التي كان يجالسها في المقاهي الحقيرة في صِباه، وكأنها كانت تجربة خطيرة في حياته أهَّلته لتزعُّم الشعب كلِّه في ثورة عرابي.
والذي يقرأ خُطب النديم اليوم، التي كان يلقي بها صباحَ مساء إبان الثورة، يعجب لهذا القدر العجيب الذي جعل الرجل الزعيم يستخدم مواهبه الأولى في الزعامة؛ فتراه لا ينسى النكتة وهو يخطب في الجماهير، وسنعود عند كتابة سيرة النديم الظريف إلى توضيح هذه النقطة بالذات، التي أغفلها المؤرخون جميعًا عندما تعرَّضوا لسيرة هذا الرجل العظيم.
غلطة طه حسين
هذه حقيقةٌ … وهناك حقيقة أخرى، وهي أن الناس أصدروا أحكامًا غاية في البُعد عن الحقيقة ضد هؤلاء الرجال؛ فوصفوا حافظ إبراهيم بأنه كان يتعمد إضحاك الأثرياء والباشوات ليفيد منهم. وهي غلطة، كما قلت، فظيعة وقع فيها فيما بعدُ أستاذنا الدكتور طه حسين عندما كتب مقالًا عن حافظ قال فيه هذا المعنى منذ شهرٍ. وكأن المفروض أن يكون الأديب متجهم الوجه، يحتل فمه أكليشيه من الاحتقار للناس، فلا يضحك إلا بقدرٍ ولا يطرب إلا بمقدارٍ.
هذه الحقيقة المُرَّة لا تجد لها مثيلًا في بلاد أخرى؛ فلم نسمع بعدُ أن أحدًا في إنجلترا وصَف برنارد شو بأنه مُهرِّج، بل إنهم اتخذوا من تهريجه هذا دليلًا على العبقرية. وكذلك كان الحال مع أوسكار وايلد، الأديب الذي قضى حياته كلَّها وهو يضحك على موائد العشاء والشاي في قصور لندن … ولم يقل واحد من الإنجليز من معاصريه أو من الذين جاءوا بعده إن أوسكار وايلد كان يتعمد إضحاك الناس ليكتسب منهم، مع أن الثابت في التاريخ أن أوسكار وايلد كان فقيرًا، وأنه اضطر للزواج من إحدى النبيلات الدميمات ليضمن لنفسه عيشًا مستقرًّا. أمَّا الويسكي والحفلات الصاخبة — هكذا يقول تاريخ أوسكار وايلد — فقد كان شيئًا مضمونًا لدى الأصدقاء.
ابتسامات ودموع
والحقيقة المُرة الأخيرة، أن هؤلاء الرجال كانوا يُضحكون الناس والعَبَرات تخنقهم، ويُشيعون الأمل … واليأس يكاد يقتلهم، ويضحكون بالشقاوة وفي القلوب حسرة. ومات أغلبهم حزينًا مهمومًا … بعد أن ترك خلفه ابتسامة مضيئة … على كل الشفاه.
على أية حال، لقد ذهب هؤلاء الظرفاء الكبار بعد أن تركوا خلفهم أثرًا كبيرًا، فبعضهم استطاع أن يُغيِّر تاريخ بلاده، والبعض الآخر استطاع أن يبُث الأمل في نفوس الناس، الأمل بمستقبل باسم مشرقٍ، وغدًا أعظم حالًا من اليوم، وهي مهمة عظيمة لم يقُم بأعظم منها العباقرة الكبار الذين غيَّروا وجه التاريخ.
الظرفاء الأحياء
ولن ننسى ونحن نكتب عن تاريخ الظرفاء الأحياءَ منهم. ولن ننسى أيضًا المرحوم أبو المجد، الشاب الذي مات قبل الأوان، ومات وعلى شفتيه ابتسامةٌ وفي نفسه مأساةٌ.