النكتة للنكتة!
وكان «مسيو كل شيء» المصري اسمه «محمد البابلي» ابن عبده بك البابلي شيخ تُجار الجواهر في ذلك العصر. وكأنما أفادته مهنة أبيه في فنِّه، فكانت نكاته وغمزاته وقفشاته أشبه بسبائك رشيقة أنيقة لامعة.
أنا حُر في شنَبي
المركب الكبير يعبُر البحر إلى بورسعيد، على ظهر المركب سُفراء في طريقهم إلى الشرق الأقصى، وعلماء آثار يبحثون عن حضارات عريقة بين أطلال الشرق، وأثرياء يطوفون حول الأرض، ورجال أعمال، ورجال مخابرات. ورجال فقط. ونساء أنيقات، ورشيقات، ومعطَّرات، ولكن رجلًا واحدًا فقط بين هؤلاء جميعًا، كان يثير الغيظ ويثير الإعجاب معًا، وكان هذا الرجل قومسيونجي صغير، وكان اسمه «كل شيء» أو هكذا أطلق عليه الكاتب العالمي سمرست موم.
«بتاع كله!»
وكان مسيو «كل شيء» يعرف كل شيء، ويحترف كل شيء، فهو خبير في لؤلؤ البحر الأحمر، وهو عالِم في الرياضيات. وأستاذ في عِلم طبقات الأرض، ولاعب كرة قدم، وممثل سينما. وخطيب، وقومسيونجي شاطر، وهو سائح ممتاز، يعرف كل شوارع المدن الشهيرة، ويعرف مطاعمها، وملاهيها ومفاتنها، وهو مغامر، له في عالم النساء تاريخ!
وهو أيضًا أديب ونديم وظريف يعرف كل النكات التي تضحك لها جميع أُمم الأرض.
وهذا المسيو كل شيء الذي رسمه «موم» ببراعة، كان له في مصر نظير، رجل من المحلة الكبرى، كان ضابطًا في البوليس، وكابتن في كرة القدم، وعازفًا على العود، وطباخًا ماهرًا، وثريًّا يُضارب في البورصة، ومقامرًا أنفق معظم لياليه وأكثر ثروته على المائدة الخضراء، ومُزارعًا يملك ضيعة وقصرًا في الريف، وكان ظريفًا لاذع النكتة، أضحك الناس وأدهشهم وسخر منهم، ثم تبخرت ثروته فسخر من الزمان ومن نفسه.
وكان «مسيو كل شيء» المصري … اسمه محمد البابلي ابن عبده بك البابلي شيخ تُجار الجواهر في ذلك العصر. وكأنما أفادته مهنة أبيه في فنه، فكانت نكاته وغمزاته وقفشاته أشبه بالسبائك، رشيقة أنيقة لامعة. ولم تكن سخريته نتيجة سخط، فهو ثري أمثل، وهو يحيا حياة الأمراء، وهو ينفق الألوف، ويُبعثر المئات على موائد القمار، وعلى الأصدقاء، وكانت له شِلة تجتمع كل مساء في ركن خاص في حلوان، وكان البابلي يعد طعام الشلة بنفسه، فقد كان كما ذكرت من قبل … يجيد طهي الطعام. وكان من بين أفراد الشلة … عبد العزيز البشري وحافظ عوض ووحيد الأيوبي، ومحمد المويلحي صاحب كتاب عيسى بن هشام، وكانوا جميعًا يتمتعون بمكانة في المجتمع.
النكتة … للنكتة!
ولقد كان من الطبيعي أن تكون سخرية البابلي — من أجل هذه الظروف وبسببها — سخرية هادئة، فيها فن أكثر مما فيها من مرارة، ولو كان النقد تناول النكتة على أنها عمل أدبي يؤدي دورًا في الحياة لقلنا إن البابلي كان من أنصار النكتة للنكتة، بعكس شفيق المصري مثلًا، الذي كان يُعبِّر بنكاته عن وجهة نظره في الحياة. ولهذا السبب أيضًا خلت كل نكات محمد البابلي (كتاب محمد البابلي لمحمد الصباحي) من كل ما يمس النظام الاجتماعي القائم حينذاك، أو النظام السياسي، فلم تكن النكتة عنده سلاحًا، كانت ترفًا، يُرفِّه بها عن نفسه، ويُرفه بها عن الآخرين، وكان آخر الأمر صورة تعكس حياته المطمئنة الوادعة!
وهناك نكتة شهيرة لمحمد البابلي تُصور اتجاهه هذا بوضوح، وهي نكتة قيلت في مناسبة هي أقرب إلى المأساة منها إلى الملهاة، ومع ذلك لم تدرك موهبته الناعمة عمق الموقف ولا مغزاه، فمست نكتته السطح ولم تنفذ إلى الأعماق.
كان له تابع يُدعى سُنقُر، وكانت علاقته بالبابلي مشبوهة، فقد كان يُدبر له أمر الليالي الحمراء، ويبحث له في كل يوم عن صيد ثمين، وباختصار، كان يقوم للبابلي بنفس الدور الذي كان يقوم به بوللي للملك السابق فاروق.
وجاءه جماعة من الصحاب في المساء وجلسوا يلعبون ويشربون، ثم قال أحدهم مندهشًا: تعرف يا محمد بك، إحنا اكتشفنا إمبارح سر خطير. ويستفسر محمد البابلي من صاحبه عن السر الخطير، فيجيبه ضاحكًا والدهشة لم تفارقه بعد: امبارح بس عرفنا أن سنقر يحفظ القرآن، كان معانا في المأتم وبعدين الفِقي غلط فكشفه وصحح الآية.
حكاية كما قلت تُصور مأساة، رجل يحفظ القرآن تدفعه الظروف وتجبره على احتراف مهنة وضيعة، كيف حدث هذا، ما هي الظروف التي أدت بالمقدمات إلى غير النتائج التي كانت متوقعة؟ أي مأساة عنيفة هي التي أدت برجل يحفظ القرآن إلى أن يعمل قوادًا لمحمد البابلي.
أسئلة لم تخطر ببال البابلي على الإطلاق، ولكن المفارقة تهزه فيقول نكتة، نكتة رشيقة وأنيقة ولامعة … ليس إلا، نكتة رجل ليس من طبقة سنقر، بل لعله يزدريها ويحتقرها.
استمع إلى محمد البابلي يُعلق على الموقف بنكتة: لازم الفقي كان بيقرأ في سورة النساء.
وعلى هذا الطراز تأتي نكت البابلي كلها. نكت خفيفة سريعة تمليها المناسبة، عمادها مقدرة فائقة عند البابلي على التلاعب بالألفاظ، ولكنها لا تهتم بالمضمون ولا تُعنى به.
•••
كان يلعب الطاولة مرة مع صديق، فيلعب لعبة لم تعجب خصمه، فيسخر منه قائلًا: بقى دي لعبة يا سي بابلي، أُمال إيه الفرق بينك وبين الحمار؟
ويرد البابلي على الفور: ما فيش فرق بيني وبين الحمار غير الترابيزة.
•••
ويجلس في بار بالعتبة، وعلى مقربة منه يجلس رجل رث الثياب زَرِيُّ الهيئة، يعب الخمر بشراهة، فيصيح فيه البابلي: يا راجل ارحم نفسك.
ويقول الرجل وهو نشوان: أرحم نفسي إيه يا بيه؟ ما تشوف لونها … ياقوتي.
ويرد البابلي على الفور: أيوة يا خويا، النهاردة ياقوتي، وبكره يا … قُوتي (من القوت).
•••
مهارة لفظية ليس أكثر ولا أقل، وبراعة في استخدام التورية بلا تكلف ولا عناء.
ويعهد إليه والده وهو شاب بقطعة أرض ليستغلها بنفسه، ولكنه يسيء استغلالها، فيطلب إليه الوالد أن يترك الأرض، وفي مناقشة عاصفة يثور الوالد على محمد البابلي: انت مش نافع، انت مش بتاع شغل، انت بتاع سهرات بس وبتاع لف ودوران. الأرض دي بتاعتي ولازم تسيبها أو أطردك منها.
ويسكت محمد البابلي ويعبث بشاربه في حركة عصبية … ويثور الوالد ويصرخ في وجهه مؤنبًا: مش عيب واقف تلعب في شنبك قدامي.
ويجيب محمد البابلي في ضيق: وهو بتاعك راخر؟
ويضحك الوالد حتى يقع على الأرض، ويتركه يعبث في الشارب، ويعبث في الأرض.
•••
ويضايقه رجل أُحيل على المعاش، يضايقه بزيارته، ومرافقته، والبابلي يضيق بصداقة الرجل المفروضة عليه فرضًا … ولكن حياءه يمنعه من مصارحة الرجل، ثم ينتهز فرصة حتى يلتقي بصاحب مطبعة ويكلفه أن يطبع له بطاقة باسمه، ويسأله صاحب المطبعة: نكتب الاسم، محمد عبده البابلي، أو محمد البابلي بس؟
ويجيبه البابلي وصاحبه الثقيل يقف بجواره: لا اكتب محمد المعاش.
ويسأله الرجل في دهشة: محمد المعاش؟
ويجيب البابلي في هدوء: أيوة، ما هو الراجل دا (ويشير إلى صاحبه) حالوه عليَّ … ويفهم الرجل الثقيل أخيرًا، فيذهب إلى غير رجعة!
•••
وكان لمحمد البابلي ولدٌ يعمل موظفًا في بلدية المحلة، وكان البابلي يمنحه خمسة عشر جنيهًا كل شهر فوق مرتبه، ولكنه لم يكن يكتفي بما يأخذه، بل كان دائم الإلحاح على والده في طلب النقود.
وضاق البابلي بطلبات ابنه، فصرخ في وجهه ذات يوم غاضبًا: انت بتودي الفلوس فين؟
– فلوس إيه، هيه دي فلوس؟
– كده، طيب اسمع أما أقولك، تبادلني، يعني انت تاخد مركزي وأنا آخد مركزك، وتخلصني م الهم اللي أنا فيه.
وأجاب الابن في سرور: مستعد.
– مستعد تخلصني م الهم اللي أنا فيه؟
– يعني أتنازلك عن الأرض، وعن الفلوس؟
– مستعد.
– بس على شرط، أتنازلك كمان عن أمك.
•••
ويفاجئه صديق وهو يدخن في رمضان، فيصافحه ويجلس إلى جواره، ثم يحاول أن يجاذبه أطراف الحديث، ولكن البابلي يلتزم الصمت، ثم تتحرك شفتاه تترنمان بكلمات مبهمة، فيسأله الصديق: الله! إنت بتعمل إيه؟
ويجيبه البابلي: بقرأ قرآن!
– قرآن! وانت فاطر؟
– مانا بقرأ آية فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
•••
ويعيش محمد البابلي حياة بهيجة؛ سهرات، وحفلات، ومآدب، وأصدقاء، ومضاربات في البورصة، وتريقة على عباد الله، ثم يعتزل الوظيفة ويتفرغ لممارسة الحياة. ويلتقي به صديق، فيسأله في إشفاق: انت سبت البوليس؟
ويضحك البابلي وهو يقول: لا … البوليس أفرج عني.
وتنتهي به حياة اللهو إلى الإفلاس. فيعيش بقية حياته في قلق، ولكن النكتة لم تفارقه أبدًا.
يسأله صديق: انت عدلست (نسبة إلى عدلي باشا) ولا وفدست (نسبة إلى الوفد).
فيجيب البابلي: أنا فلست.
وكان هذا في حقيقة الأمر هو موقف محمد البابلي من الحياة، عدم الارتباط بشيء إلا بحياته الخاصة، وبمزاجه الخاص، فلما طحنته الحياة، ذاب في مأساته الخاصة.
يسأله صديق آخر عن أحواله فيخبره بما آل إليه حاله، فيسأله في إشفاق: طيب والطين (الأرض)؟
فيجيبه في حزنٍ حقيقي: شِلته.
•••
ويستمع إلى سي عبده الحامولي يغني «أهل السماح والمِلاح فين أراضيهم»، فيتنهد البابلي في حسرة ويقول: في البنك العقاري.
وكان البابلي قد رهن أراضيه في البنك العقاري.
•••
ويقضي البابلي آخر أيام حياته فقيرًا لا يملك شيئًا، البنك استولى على الأرض، وضاع في اللهو ما كان معه من نقود، والخمر تبتلع النَّزر اليسير الذي كان قد تبقَّى، ويهجره أغلب أصدقائه، ويتحاشاه حتى أقرب المقربين إليه، ويفقد كل شيء. حتى تابِعه الذليل سُنقُر مات! ويمر عليه متسول يسأل شيئًا لله، فيجيبه في ثورة: الله، ما خد كل حاجة، حتى سُنقر.
ثم يموت محمد البابلي، وتموت معه كل نكاته، لأن نكاته لم تكن من النوع الذي يعيش؛ إذ لم يكن البابلي يستهدف من ورائها شيئًا إلا المتعة والإضحاك. ورغم اضطراب الأحوال السياسية والاجتماعية في زمانه، ورغم وفورة المضحكات المبكيات حينئذٍ، فإن محمد البابلي لم يستخدم موهبته أبدًا في «جلد» النظام القائم وأربابه، ربما لأنه كان أحد المستفيدين من قيام النظام بكل متناقضاته وأخطائه، وحتى بعد أن حطمته المأساة وأفلس ظل صديقًا للنظام، ولم يستخدم موهبته أبدًا في عدائه.
لم يرتبط محمد البابلي بشيء، غير شلته. لذلك لم يُعنَ بالشعب؛ لأنه لم يحس بوجوده. وكان الشعب عنده، وفي أعظم صوره، خدم الملاهي، والفلاحين في الضيعة، وحراس قصره، وسُنقُر الذي صحح الآية للمقرئ، لأنه كان يقرأ من سورة النساء!
على أية حال، لقد ذهب البابلي بعد أن أضحك أبناء طبقة كان البابلي ينتمي إليها … طبقة أبناء الذوات. ولهذا السبب لم يحفظ الشعب نكاته، ولم يرددها من بعده … فماتت. أخذها الله أيضًا كما أخذ أرضه وأمواله وأصدقاءه، وكما أخذ تابعه الذليل، سُنقُر!