لعنة الظروف!
وعاش محجوب ثابت يُصارع هؤلاء، ولكن أحدًا لم يصارعه، بل اتفقوا جميعًا على حُبِّه، واتفقوا على شيء آخر كان يغيظ الرجل ويحنقه؛ أن يضعوه في المكان اللائق … أن يظل رجلًا هازلًا يضحكون منه، ويضحكون عليه.
كان ثريًّا، وكان نائبًا، وكان سياسيًّا، وكان كاتبًا، وكان زعيمًا للعمال، وكان زميلًا وأستاذًا للعظماء والزعماء والوزراء، وكان صديقًا لأنبغ وأشهر وأعظم أبناء عصره، وكان ظريفًا، ابن نكتة، تجلس إليه فلا تمله، وتسمعه فلا تزهد حديثه، عاش حياة طويلة عريضة، وخرج منها بكل شيء إلا الوزارة … والزواج.
كان يرغب في الزواج، وحاول مرتين، وعدَل، عدل في المرة الأولى عن إشفاق، وفي الثانية عن فشلٍ.
كان يدرس في سويسرا، وكانت له زميلة مليحة روسية شابة من النبلاء، بيضاء كالحليب، في عينيها زُرقة المحيط، وفي شَعرها صفار الذهب … وأحبها وأحبته … وطلبت إليه أن يتزوجها فأمهلها أيامًا يدبر فيها أمره. وذهب الرجل الحائر يستشير صديقه مراد سيد أحمد — وهو الذي سيصبح فيما بعد وزيرًا للمعارف في مصر — فينهاه عن هذا الزواج، خشية أن تفسره العامة في مصر تفسيرًا سيئًا؛ إذ كيف للوطني المجاهد أن يتزوجَ أجنبية؟!
وفعلًا هجر الروسية النبيلة وفرَّ إلى باريس.
وكما كان صديقه السبب في عدم زواجه في المرة الأولى، كذلك كان السببَ في المرة الثانية صديقٌ آخر، فبعد ربع قرن، طويلًا فكَّر في الزواج، ثم فوجئ وهو يقطع خطوته الأولى نحو تحقيقه بصديق يتزوج من التي كان قد اختارها زوجةً له، فأصابته المفاجأة بعُقدة من الزواج، فأقسم ألا يتزوج حتى يموت، وفعلًا كان!
حلم لم يتحقق
أمَّا الوزارة فقد كان يتلهف عليها ويترقبها، وكان يرى أنه أحقُّ الناس بها، وكان يؤمِّل أن يستَوزِره الوفد، ولكن الوفد لم يفعل، فخاصمه وهاجمه طول حياته، وحقد على زعمائه وأعضائه … وانتظر أن يحقق محمد محمود أُمنيته الكبرى، وفعلًا، استدعاه محمد محمود عام ١٩٢٨م عندما أصبح رئيسًا لوزارة القبضة الحديدية، وتوقع الرجل أن يُسند إليه محمد محمود الوزارة، فحمل معه كل مشاريعه وكل برامجه، وذهب إليه، ولكنه فوجئ بمحمد محمود يعرض عليه مرافقته في رحلته إلى الأقاليم … وكتم الرجل غيظه وسافر معه، مؤمِّلًا أن يحقق بُغيته بعد الرحلة، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فهاجم محمد محمود بشدة وبعنف، وخاصمه حتى مات!
بسمارك أفريقيا
واعتزل الأحزاب وهاجمها، ورأى فيها شرًّا وبلاءً وخطرًا، وهاجم كل الزعماء وحمل عليهم، ولكن موقفه مع صدقي كان يختلف عن ذلك؛ لأن صدقي الذكي أراد أن يمسك هذا اللسان عن مهاجمته، فانتهز فرصة توليه الحكم عام ١٩٣٠م، فأنعم عليه بمنصب كبير أطباء الجامعة … وفرح الرجل بالمنصب فرحًا كبيرًا، وتحركت مواهبه تمدح صدقي وتُشِيد به، حتى لقَّبه ﺑ «كليمونصر» مصر، و«بسمارك» أفريقيا، وحتى مدح دستوره — دستور عام ١٩٣٠م — ووصفه بأنه خيرٌ ألفَ مرة من دستور ١٩٢٣م!
ولم يكن مما يُشرف إنسانًا في ذلك العصر أن يمدح صدقي ويُشِيد بمزاياه … فما بالك إذا كان هذا الإنسان وطنيًّا بحقٍّ، أبلى بلاء حسنًا في الثورة، وادَّعى زعامة العمال الذين سَلَّط عليهم صدقي هراوته، ثم رصاصه، ثم دفنهم وهم أحياء؟!
صورة للعصر
ولكن … هكذا كان الدكتور محجوب ثابت، أحد أبناء الجيل المضطرب الحائر الذي سبق ثورة ١٩١٩م وأعقبها، بل كان محجوب ثابت هو ممثِّل هذا الجيل بجدارة، وصورة حية لروح العصر!
كان محجوب ثابت إذن مضطربًا مُشوَّشًا كالعصر الذي عاش فيه، احترف الطب وجمع ثروة من ورائه، ولكنه يهجر عيادته ليجمع تبرعات للوفد، ثم ينتظر الجزاء فلا يجد إلا الإهمال والإعراض، فيثور على الوفد، ويمدح حزب الأحرار، ولكن حزب الأحرار يعامله كرجل هازل، يحبه نعم، ولكن بقدر لا يرتفع بالرجل إلى منصب الوزارة، فيخاصم الحزب ويحمل عليه، ثم يُنصِّب نفسه زعيمًا للعُمال، فإذا جاء صدقي إلى الحكم عام ١٩٣٠م انضم إليه يمدحه ويدعوه له، بينما صدقي وجنوده يسفكون دم العمال على قارعة الطريق.
وعاش محجوب ثابت حياته يُصارع هؤلاء وهؤلاء … ولكن أحدًا لم يصارعه، بل اتفقوا جميعًا على حُبِّه، واتفقوا على شيء آخر كان يغيظ الرجل ويحنقه؛ أن يضعوه في المكان اللائق، وكان مكانه اللائق … أن يظل رجلًا هازلًا يضحكون منه، ويضحكون عليه.
حدث مرة أن رشَّح الدكتور محجوب ثابت نفسه ضد مُرشح الوفد في إحدى دوائر الإسكندرية، وحاربه الوفد حربًا لا هوادة فيها، واستطاع أن ينتصر في النهاية، ويدخل مجلس النواب نائبًا … رغم أنف سعد.
وتصور أنت نائبًا يدخل مجلس النواب رغم أنف سعد، وهو الذي لو رشح «حجرًا لانتخبناه»، وتصور أي خطر وأي قدر يكون لهذا الذي تحدى «الأمة وإرادة الأمة» … ولكن محجوب ثابت كان شيئًا آخر … حتى في نظر سعد … ولذلك نرى سعدًا لا يغضب منه ولا يحقد عليه، بل يتواطأ مع مجلس النواب ليسخر منه، فيُوعِز إلى أعضاء لجنة الطعون بأن يتباطئوا في تقديم تقرير الطعن المقدم ضد محجوب ثابت لتظل نيابة الدكتور معلَّقة.
ويتردد محجوب ثابت على مكتب سعد زغلول ألف مرة، يطالبه بالفصل في الطعن المقدم ضده، ويعِد سعد، ثم يُخلف، ثم قرر أخيرًا أن ينظر المجلس في الطعن.
وكلف سعدٌ النقراشي بتدبير مسرحية لمداعبة الدكتور محجوب ثابت، فيتكلم حمد الباسل مدافعًا عن صحة نيابة الدكتور، ويخطب علي أيوب معارضًا في انتخابه.
الشَرْبات يا محجوب!
وينعقد المجلس، ويهُب علي أيوب معارضًا صحة نيابة الدكتور محجوب ثابت، ويعلن أن لجنة الطعون وقعت في خطأ حسابي — غير مقصود — مما أدى بها إلى رفض الطعن، ويطلب في حزم إعادة النظر في الطعن، ورفض نيابة الدكتور محجوب ثابت.
ويثور الدكتور محجوب، وسعد على المنصة يبتسم ويضحك، ويطلب من علي أيوب أن يعيد الكلام بتُؤَدة حتى يتمكن النواب من سماعه ودراسته.
ويعيد علي أيوب الكلام، والدكتور يستمع إليه وهو جالس مكانه كالمأخوذ، والنُّقراشي يجلس خلفه متظاهرًا بالأسف.
ويطلب سعد من محجوب ثابت أن يرد على كلام علي أيوب، فيطلب التأجيل، ولكنْ سعد يرفض التأجيل، ويثور الدكتور على سعد، ثم يتوسَّل، ولكنْ سعد يتجاهل ثورته ويرفض توسَّله، ويطلب إلى الدكتور ماهر أن يتكلم.
وينهض أحمد ماهر ويبدأ الكلام، فإذا به يحمل على زميله علي أيوب ويفند كلامه، ثم أعلن رفض الطعن وصحة عضوية محجوب ثابت، ويهجم النواب على محجوب ويحملوه على الأعناق إلى بوفيه المجلس، ويهتف أحدهم ويردد الآخرون الهتاف «نريد الشربات يا محجوب» ومحجوب يرفع يديه — كما يفعل الزعماء — ويحييهم، وسعد يشهد المنظر عن كثب وهو يضحك من الأعماق.
وهذه الحادثة تكفي لتفسير موقف الأحزاب والزعماء وكبار الشخصيات من محجوب ثابت … إنه رجل ظريف … لا أكثر ولا أقل!
ميراث قومي
إن الكاتب الساخر عبد العزيز البِشْري يكتب عنه فيقول:
«لا شك أن الدكتور ثابت، يُعدُّ بحق من ميراثنا القومي، ولو جرى عليه القدر لكان لا بد للأمة من محجوب ثابت بأية طريقة، إنه في ميراثنا القومي لا يقل عن آثار سقارة وجامع السلطان حسن ومقابر الخلفاء، ولقد أصبح على الزمان جزءًا من تقاليدنا الأهلية كحلقة المحمل ووفاء النيل وشم النسيم.»
«والدكتور في المصريين كإنجلترا في الأمم، كلٌّ منهما يرى عليه للآخرين تبعات لا تنقضي، فإذا كان الكلام في النيل، تولى الدكتور الكلام وملكه على جمهرة المهندسين، وإذا كانت الثورة، تَصدَّر الدكتور لجنة الوفد المركزية، وكلما انتشرت في البلد مظاهرة كان قائدَها، وكلما ساروا بجنازة كان على رأس المشيعين، فإذا كان اجتماع في الأزهر كان الدكتور فارسَه الذي لا يُشق له غبار، وإذا كانت مشاكل للعُمال أبى الدكتور ألا أن ينفرد بها من دون الناس جميعًا، كان نقيبًا لعُمال العنابر ولفافي السجائر وسواقي الأوتوموبيلات وشيالي المحطات وخدم الفنادق والقهوات، وجميع الطوائف من كل بدَّال وبقَّال وجزار.
وفي الحق فإن الدكتور يرى نفسه مسئولًا عن كل ما في البلد من هابط وصاعد، وقائم وقاعد، وغادٍ ورائح، وسائح وبارح، ودارج على متن الغبراء، وطائر في جو السماء، فإذا كانت هناك منطقة خارجة عن اختصاص الدكتور فهي عيادته فقط!
وإني أقترح على الحكومة أن تصدر قرارًا ينزع ملكيته وإضافته إلى المنافع العامة، ولعلَّها بعد العمر الطويل تجعله من نصيب دار الآثار!»
انتهى كلام البِشْري.
وهو في اعتقادي صورة عبقرية صوَّرها قلم البشري لمحجوب ثابت … وأغلب ظنِّي أن محجوب ثابت ثار على هذا الكلام، فقد كان يكره المداعبة حين تجرح، وكانت أكثر الدعابات الجارحة تأتيه من شوقي.
كان شوقي يعرف نقطة ضعفه، فكان يحمل إليه دائمًا أنباء لا تسُره «كم أنت ضائع الحق يا محجوب، إن صاحبك النقراشي اعترض على تعيينك وزيرًا للصحة، ولم يهدأ له بالٌ إلا بعد أن حذف اسمك من قائمة الوزارة» … ويصدِّق الدكتور محجوب الدعابة، وينطلق يسب النقراشي، ثم يدرك بعد أيام أن شوقي خدعه، وأنه كان ضحية مؤامرة مدبرة … ولكن إدراكه أن شوقي يخدعه كان لا يمنعه من أن يصدِّق نفس الرواية إذا عاد شوقي وقصَّها عليه، وقد ظلَّ شوقي أكثر من خمسة أعوام طويلة يحمل إلى الدكتور محجوب ثابت نبأ اختياره وزيرًا للصحة، ثم اعتراض بعض الوزراء على هذا التعيين … وظل محجوب خلال هذه السنوات الطويلة يُصدق شوقي في كل مرة، ثم يكتشف عقب كل مرة أنها كانت خدعة، وأنه كان ضحية مؤامرة مدبرة.
هجاء شوقي
وكان محجوب يغضب أيامًا ثم تصفو نفسه، فيعود إلى شوقي، ولكن شوقي هجاه بقصيدة جعلت محجوب يقرر الدخول مع شوقي في معركة طاحنة، وأعلن أنه سيُعرِّي شوقي أمام الناس، وأنه سيكشف عن سرقاته الشِّعرية، وسيُميط اللثام عن جهله — جهل شوقي — وسيجعل منه عِبرة لمَن يرى، وفعلًا، يكتب الدكتور محجوب مقالًا ناريًّا في هجاء شوقي ويبعث به إلى الأهرام، ولكنه يعود يتصل بالأهرام في المساء طالبًا إلى المسئولين فيها عدم نشر المقال، فقد خشي أن يؤدي نشره إلى قطيعة أبدية بينه وبين شوقي، وكانت القصيدة التي أهاجت محجوب وأغضبته:
رأيه في معاصريه
ولقد كتب محجوب ثابت رأيه في أكثر معاصريه: قال عن مصطفى النحاس: إنه كان يمثِّل الوطنية طالبًا، والنزاهة والشجاعة قاضيًا، والإخلاص محاميًا، أمَّا النحاس الزعيم فلأترك الحكم عليه للتاريخ.
ووصف مكرم عبيد بأنه خطيب العواطف، وإذ يلقي خطبته أو يدبج مقاله، أو يدلي بحديثه، فكأنه يوقعه على قيثارة، صديق ودودٌ وعدوٌّ لدودٌ، فهو ملاك في صداقته، شيطان في عداوته، جبار في خصومته.
وقال في إسماعيل صدقي: إن المنصِفِين من أبناء هذه الأمة يعترفون بوطنية إسماعيل صدقي وبُعد نظرة، وأن التاريخ سينصفه، وسيقدره الأبناء والأحفاد، بل بدأ الناس يفهمونه، ألم يحمله طلاب الجامعة على الأعناق تكريمًا؟!
وكان للدكتور رأي في فاروق ووالده فؤاد لا أظنُّه كان رأي محجوب ثابت الحقيقي، وأغلب ظني أنه رأي تجاري أراد الدكتور أن يصل به إلى كرسي الوزارة، وهو المنصب الذي عاش محجوب ثابت ومات وهو يحلم به، وكان يرى أنه أحق الناس في مصر بوزارة الصحة.
لقد ذهب إلى محمد محمود بعد تأليف الوزارة، وانفجر في وجهه ساخطًا لاعنًا مُحتجًّا … لقد جعلتم من البنداري وزيرًا للصحة وهو محامٍ، لا أطعن في مكانته بين المحامين، ولكن ليست لديه معلومات صحية، ولا دراسات طبية، كما أنه لم يشتغل بالمسائل العامة، ولم يجاهد كما جاهدت، ولم يُضطهَد كما اضطُهِدت، ولم يُنكَب في سبيل الوطن كما نُكِبت، ولم يُنفَ كما نُفيت، ولم يُفتَّش له مكتب كما فُتِّشت، ولم يُتلَف له كتاب، وبالجملة لم يؤدِّ كما أديت، ثم قال مُنشدًا قول غيره في محمد محمود:
ويبدو أن الدكتور يئس من تولي الوزارة فقنع بالحديث عنها، وكيف أنهم فاتحوه في الأمر فرفض، واشترط شروطًا غاية في الحزم وغاية في القسوة، وقد أنشد حافظ إبراهيم فيه قصيدة جاء فيها:
وبعد حياة طويلة عريضة حافلة، قُدر لمحجوب ثابت أن يهدأ وأن يستريح، ولقد ظل حاضر البديهة متوقِّد الذكاء حتى في لحظاته الأخيرة، وظل يذكر مشروعاته واحدًا بعد الآخر، ثم عضَّ على شفتيه وقال في أسفٍ عميق: لو كنت توليت الوزارة لنفذتها!
ثم أغمض عينيه … ومات … وكانت آخر كلماته المشروعات والوزارة!
والحق أقول: إن محجوب أحق من كثيرين بالوزارة، وإنه كان شجاعًا جَنَت عليه شجاعته، كما أودى به ظُرفُه … ويبدو أنهم كانوا يغفرون كل شيء إلا أن يكون ظريفًا، ولهذا السبب وجدنا في كرسي الوزارة … اللصوص والخونة والعملاء، الذين أكلوا على الموائد وتسلقوا طريقهم على الأكتاف كالقرود.
أما محجوب ثابت فقد حرموه من الوزارة، فقد كان مجرمًا … كان ظريفًا!