ليس بعد الضحك ذنبٌ!
«إذا كان ليس بعد الكفر ذنبٌ، فليس بعد الضحك شيء أكثر فائدةً للإنسان.»
إذا كان ليس بعد الكفر ذنب، فليس بعد الضحك شيء أكثر فائدةً للإنسان. بشرط أن يكون الضحك بواسطة … فن عظيم! والشعب المصري شعبٌ ضاحك بطبعه، علَّمَته سنوات الذل والعدوان أن يُسَلي همَّه بالنكت والتأليس والضحك على الفاضي والمليان! ولذلك كان من الصعب أن تكون ساخرًا في مصر؛ إذ كيف يستطيع فرد واحد أن يُضحك شعبًا من الساخرين العِظام! والنكتة المصرية مثل الطرشي والليمون المعصفَر والطافيا … معتَّقة وحراقة وكاوية، تنطلق أحيانًا كالرصاصة تندب في الضلوع!
وأول نُكَتيٍّ شهير في مصر كان يعيش في عهد كافور الإخشيدي، وكان اسمه سِيبَوَيْه المصري؛ وذلك لغرامه الشديد بالفُصحى، وتعلقه الشديد بالصرف والنحو والإعراب، وكان سيبويه يركب حمارةً بيضاء اللون ويمشي في الأسواق هاجيًا أعداءه ومنافسيه بأفحش الألفاظ، وعندما سُئل لماذا تركب حمارة، قال: لأن عندي في البيت حمارة تركبني!
ولقد جاء المتنبي إلى مصر فحمَل عليه سِيبَويه المصري حملةً شَعْواء، وكان من الأسباب الرئيسية التي نفرت المتنبي من مصر ومن أهل مصر، وجعله يهجوهم ويهجوها بشِعره الرائع العظيم.
الشعر الحَلَمَنْتِيشي!
ولقد ظهر في مصر بعد ذلك بنصف قرنٍ فقط عشرات ومئات مثل سيبويه المصري، ولكن على نحو آخر، شعراء عقلاء وعلماء، تحولوا فجأة إلى مجانين يقولون أشعارًا ولا لَخْبَطة البغبغان، أولهم أبو الرقعمع، وابن مكنسة، وابن دانيال، ولقد استمر هذا الشِّعر وتطوَّر، وأطلقوا عليه في العصر الحديث اسم الشِّعر «الحَلَمَنْتِيشي»، ونبغ فيه عباقرة أفذاذ كان من بينهم حسين شفيق المصري، ومحمد مصطفى حمام. وقد ترك حسين شفيق المصري ثروة هائلة من الشِّعر الحلمنتيشي كان أعظمها «المشَعْلَقات السبع» على وزن المعلقات السبع، التي تركها فطاحل الشعراء العرب مُعلقةً بخيوط من ذهب على أستار الكعبة!
ولقد حرصتُ على تدوين نصِّ المشَعْلقة في الجزء الخاص بشفيق المصري، وذلك لكي يقف القارئ على مدى الجهد الذي بذله الشاعر الحلمنتيشي في كتابة هذه المشَعْلقة، ذلك أن بعض الموهومين يظنون أن الشِّعر الحلمنتيشي سهل! وأنه يكفي أن تقول أي كلام فارغ وهايف لتصبح من الشعراء الحلمنتيشيين!
ولكن الغريب في الأمر حقًّا أن يكون الشعب المصري هو الشعب الوحيد في العالم الذي يفرز شعراء من هذا النوع … وأن تكون مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي يقول شعراؤه شِعرًا من هذا اللون!
ومن الإنصاف أن أقول أن هذا الشِّعر الحلمنتيشي لم يزدهر ولم يصبح أدبًا محترمًا إلا في مطلع القرن العشرين؛ حيث كان وسيلة للنقد وسلاحًا في معركة التَّريَقة على أوضاع الحكم. وصرخة احتجاج ضد الأوضاع المقلوبة في الحياة.
والواقع أن النكتة المصرية والفكاهة عمومًا لم يصبح لها وضع مرموق إلا في العصر الحديث. ذلك أن الرجل الفكهي كان لا يعدو مجردَ مهرجٍ، أو أراجوز، أو طالب قُوتٍ في نظر الآخرين، وإن كان الإنصاف أيضًا يقتضينا أن نقول إن السواد الأعظم من الناس الفكهية كانوا في الواقع أرزقية وطلاب قوت.
والسبب أنه في مطلع هذا القرن اقتحم سوق الفكاهة عددٌ من الوجهاء وكبار الموظفين ومشاهير الأدباء، من بينهم الدكتور بكير الحكيم، ورشاد بك القاضي، والدكتور محمد رأفت، وحسن بك رضا المحامي، ومحمد بك المويلحي، ومحمد بك البابلي، ونعمان باشا الأعصر، وخليل بك خير الدين، وحافظ بك إبراهيم، وساويرس بك ميخائيل، ولم يمارس هؤلاء الناس الصنعة لإضحاك الناس، بل للضحك عليهم.
وقبل أن يدخل السوق هؤلاء الأعلام، كانت الفكاهة مجرد «قفش» ومهرجان للقافية. وهذا النوع من الفكاهة لا يحتاج إلى ذكاء كثير، بل يحتاج إلى براعة في التلفيق، وهو لا يحتاج إلى سرعة خاطر؛ لأن أغلبه محفوظ ومكرر ومُعاد، ويقال في كل مقام. فإذا كانت قافية السيارات مثلًا يقال: وِشَّك من الضرب.
– اشمعنى؟
– كبر ليه.
ويقال أيضًا: لما تخش بيتكو.
– اشمعنى؟
– يبقى فيه تيس.
ولاحظ التلفيق الذي بين كابورليه، وكبر ليه، وكذلك بين فِتيس السيارة، وفيه تيس، التي يقصدها الفنان المشترك في القافية.
ولقد برز في هذا اللون من الفن عشرات وألوف، ولكن أبرزهم على الإطلاق كان إمام العبد، ثم يأتي حسين الفار، وسلطان الجزار.
ولكن هؤلاء البهوات المتفرغين للنكتة، طوَّروا القافية إلى شيء آخر رفيع.
ولقد شارك البابلي مشاركةً فعالة في تطوير النكتة المصرية وتهذيبها، حتى ليجعل السامع يموت من الضحك بعباراتٍ أرقَّ من النسيم، وهو في هذا بعكس بيرم التونسي، الذي يُضحك بكلام صريح وعبارات صريحة ومعنى أكثر صراحة.
يقول بيرم التونسي:
والمعنى هنا واضح وصريح، لا لف فيه ولا دوران.
وكان المعلم دبشة الجزار من أعلام القافية أيضًا، ولكن أكثر ما قاله لم يُدوَّن، ولكن من القليل الباقي له عبارات تدُل على ذكاء حاد وسرعة بديهة ليس لها مثيل.
•••
ويُعتبَر مأمون الشناوي هو التطور الجديد لهذا الاتجاه، نكتته مزيج من القافية والنكتة، علَّق على اطِّراد الزيادة في وزن حمادة الطرابلسي، فقال: «أنا كنت قاعد وشفته وهو بيتخن.»
وكان يركب سيارة مع صديق فقال لصحاب السيارة: ما تحاسب شوية.
فقال الصديق: أصل الشارع كله مَطَبَّات.
وقال مأمون: مش معقول المطبات دي كلها في الشارع، دا لازم مطب لزق في العَجَلة.
وكان يركب سيارة قديمة جدًّا وقذرة جدًّا، فقال للسائق: ابقى اغسل الإِزاز بتاع العربية.
فقال السائق: دا مفيش إزاز يا بيه، دا الإزاز مكسور.
فقال مأمون: طيب ابقى اغسل الهوا.
ولكن كامل الشناوي كان على عكس هؤلاء، كانت النكتة عنده قصة قصيرة وصورة فنية. وهذا النوع من النكت نبغ فيه عشرات من الناس، ولكنهم جميعًا تلاميذ في مدرسة كامل الشناوي، ومن هؤلاء عبد الحميد قطامش المحامي، وعباس الأسواني، وزكريا الحِجَّاوي.
وإن كان زكريا الحجاوي أكثرهم براعةً؛ عندما يتكلم، فإذا كَتَب تحوَّل إلى إنسان آخر متجهِّم شديد الكآبة … كأنه مستودع أحزان!
والحقيقة أنه ليس كل مَن يقول النكتة يجيدها في الكتابة. فقد كان البابلي من أبناء النكتة العظام، ولكنه لم يكتب شيئًا، وعبد الحميد قطامش كلامه يقطُر سخرية وضحكًا، ولكنه حين يكتب شيئًا لا وصف له على الإطلاق، ولو أن عباس الأسواني استطاع أن يكتب كما يتكلم لأصبح لدينا أديبٌ ليس له نظير على طول الزمان.
ومن هذا الطراز أيضًا كان الشيخ عبد العزيز البِشري، فقد كان تمسُّكه باللغة العربية الفصحى الحقَّة، هو الحائل بينه وبين اكتشاف روحه الحقَّة كأديب. وأعظم آثاره في النكتة هي التي تركها شفاهة.
دخل مرَّة على حافظ إبراهيم وكانا في طريقهما إلى رحلة، فاستمهله حافظ إبراهيم حتى يغسل وجهه، فقال له البشري: وشك مش عاوز غسيل، نفَّضه كفاية.
وكان الشيخ البشري في مأدبة عند الأباظِيَّة، وحين عاد بعد أن غسل يديه اكتشف أن أحدهم قد رسم وجهًا لحمار على الجبة فقال البشري: مين فيكم اللي مَسَح وِشه في الجبة؟!
ويشكو لطبيبه من ألم في المُصران الأعور، ويشير له إلى مكان الألم، فيطمئنه الصديق بأن المصران الأعور في الجهة اليُمنى، والألم الذي يعانيه في الناحية الشمال، فقال البشري: طيب ما يمكن أن أعور شِمال.
ولكن الشيء الذي تطور حقًّا هو فن الكتابة الضاحكة.
ولقد كانت كتابات البِشري هي أعظم المحاولات في هذا الطريق، وكذلك استطاع بيرم التونسي وحسين شفيق المصري أن يضيفا أشياء كثيرة إلى فن البشري، والسبب هو قدرتهما الفائقة على استعمال العامية، وثقافتهما العريقة في التراث.
وكانت مجلة البَعكُوكة إضافة جديدة مستقِرَّة؛ لأن كل المحاولات السابقة لم يتوافر لها الاستمرار؛ كالسيف والمسامير والشجاعة والخلاعة. وحتى الكشكول أيضًا لم يُكتب لها البقاء. ولو لم ينضم صاحب البعكوكة إلى قلم الاستعلامات البريطاني، ولو لم يُكرِّس جهوده للحرب ضد بيرم التونسي، ولو لم يبذل جهدًا فائقًا لنفاق الملك وبطانته؛ لولا هذا لكانت مجلة البعكوكة هي خير ما نعتز به في هذا المجال. ذلك أن الفكاهة لا يمكن أن تدوم طويلًا إذا كانت حربًا ضد المبادئ، أو إذا استُخدمت ضد الشعب.
ثم جاءت بعد ذلك مجلة كلمة ونص وكانت إضافة جديدة بعد البَعكوكة.
وتُعتبر مجلة صباح الخير هي آخر فوج هذا الطابور. ولكن ينبغي لنا الوقوف لحظة عند مجلة الفُكاهة التي أصدرتها «دار الهلال»، والتي كان يحررها حسين شفيق المصري ووليم باسيلي.
فلقد كان العيب الحقيقي في هذه المجلة هو الوقوف في الوسط بين الطغاة والمحكومين، وبين الاستعمار والشعب، الظالمين والمظلومين، فكانت الفكاهة فيها للفكاهة؛ ولذلك لم تصمد طويلًا، واضطُرَّت دار الهلال إلى دَمجها في مجلة «الاثنين والفكاهة»، ولعلَّ هذا هو عيب وليم باسيلي أيضًا، فلو أنه اتَّخذ لنفسه موقفًا محددًا فلربما كان له الآن شأن آخر. ولكنه آثر الحياد في المعركة، لذلك كانت فكاهته فاترة باردة لا تنفذ حتى العظم.
والفكهي الحق ينبغي أن يكون ممرورًا غاية المرارة، وإلا فإن فكاهته تصبح ضربًا من اللهو.
ومن كُتَّاب الفكاهة العظام يحيى حَقِّي، ولكنه آثر السكوت، لا أدري كيف؟ وجليل البنداري أيضًا كاتبٌ فكهي جيد، ولكنه عندما يتكلم يتحوَّل إلى شتَّام. وصلاح جاهين كاتب فكهي ممتاز، ولكنه عندما يتكلم لا تسمع أي شيء، وأحمد رجب يَعيبه أنه وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه وليم باسيلي من قبل، ومحمد عفيفي كاتب فكهي جيد، ولكنه يبدو في كتاباته مُتأثرًا بالغرب أكثر من تأثره بالتراث. ولكن كل هؤلاء على مستوًى أعظم بكثير مما كان عليه الذين سبقونا إلى رحمة الله.
ابن سَودُون
ولعلَّ من غريب الأمور أن الكتابة الفكاهية منذ ٥٠٠ سنة كانت أحسن منها في أوائل هذا القرن. فقد كتب ابن سودون المصري أشياء رائدة وبسيطة تصلح للنشر هذه الأيام … كتب مرَّة خطابًا إلى أبيه في الصعيد:
«ويا والدنا العزيز، أُعرفك أنني نجوت من خطر خطير وشرٍّ مستطير، فقد غسلت الجبَّة ونشرتها على حبل الغسيل، كانت الليلة قمرها غائبٌ وبردها أثيل؛ ولذا تعكر الجو فجأة، وهبت ريح عاتية، من جهة الشَّمال آتية، وإذا بالجبة تطير، وعلى الأرض تستقر، فوالله يا والدي، لو كنت أنا في الجبة ساعة هذا الحادث الخطير، لكنت مت في الحال، وأصبحت جثتي كالفَطير … ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.»
هذه عينة من كلام ابن سودون.
وإليك عينة أخرى من كلام البشري:
«ولقد كان حافظ إبراهيم يعرف عني شدة الخوف، مثلًا من سرعة السيارات، يستدرجني إلى إحداهن لنزهة أو لغدوة، ولا أركب حتى استوثق من أن السائق لا يُسرع، وإذا هو قد أوصاه، وربما رشاه، فما يكاد الخنزير يبدأ عمل السيارة، حتى يجريها في سرعة الكوكب الهادي والبرق الخاطف، ما يُبالي زحمة الطريق، ولا مواجهة التِّرام، ولا يطامن منه أنه يرقى قلعة، أو مشت على حافة ترعة، أو نحو هذا مما يغلب توقع التلف منه على توقع السلامة!»
من هذه المقارنة نجد أن كفَّة ابن سودون أرجح، فإذا قارنَّا الاثنين بأي كاتب ساخر جديد وجدنا أن النتيجة في جانب الجديد.
وأعتقد أن بمصر عددًا من الكُتَّاب الضاحكين أضعاف أضعاف ما هو موجود في أي بلد آخر.
وفي ألمانيا الغربية مثلًا يدفعون ثلاثة أضعاف الأجر المحدَّد لمَن يكتب برنامجًا يُضحك المشاهدين.
وفي ألمانيا الشرقية دور النشر تُترجم كل الكتب الساخرة التي تصدر في أنحاء العالم … لأنه لا يوجد كاتب واحد ساخر في ألمانيا كلها … غربها وشرقها.
ولعل كُتَّابنا المسرحيين جميعًا من الكتَّاب الفُكاهيين.
وأعظمهم في هذا المجال بلا شك نعمان عاشور، ويأتي بعده سعد وهبة، ثم ألفِريد فرج.
ولعلَّ مصر أيضًا هي البلد الوحيد الذي يتمتع بهذا العدد الوفير من رسَّامي الكاريكاتير. ذلك أن الرسَّام الكاريكاتير هو كاتب ساخر؛ لأن الكتابة الساخرة، هي الأخرى، نوع من الكاريكاتير.
فإذا استثنينا من رسَّامي الكاريكاتير صاروخان، وطوغان، وعبد السميع، باعتبارهم رسَّامي سياسة وأحداث ومواقف درامية، لو استثنينا هؤلاء لوجدنا عشرات من الرسَّامين الفُكَهيين، أعظمهم بلا جدال: رخا، وصلاح جاهين، وبهجت، وحجازي، وإيهاب، وجورج، وطوغان، والمُضحِك العام مصطفى حسين.