سيد الظرفاء
لم يكن البشري مجرد ساخر من الناس والحياة، بل كان فنانًا عميق النظرة، رقيق الإحساس، وله بحوث قيِّمة في الغِناء والقراءات والشِّعر والأدب، وعاش حياة حافلة.
مَن هذا المعمم الضئيل الذي يوزِّع وقته بين بار اللواء، ومجالس الأدب، والكتابة في الصحف بأسلوب ضاحك غريب، يقطر فلسفة وعمقًا وفهمًا أصيلًا لطبائع البشر ودخائل الناس؟
إنه الشيخ عبد العزيز البشري، أحد الذين صنعوا تاريخ الأدب الرفيع في مصر … وواحد من أفرد «الشِّلة» العظيمة النابغة التي نفحها القدر لمصر في فترة من أعظم فترات تاريخها الحديث؛ شوقي وحافظ إبراهيم ومحجوب ثابت، ولكن عبد العزيز يمتاز عنهم بأنه معمم، وسخريته لاذعة تُدمي ولا تجرح، وبديهته حاضرة، ولسانه كسيفِ الله المسلول، حتى على نفسه.
يقابله رجل في الطريق فيطلب منه أن يقرأ خطابًا. وكان الخط رديئًا إلى درجة لم تُمكِّنْه من القراءة فاعتذر للرجل، وظن الرجل أن الاعتذار لجهل الشيخ، فصرخ في وجهه متعجبًا: أُمال لابس عِمة ليه؟
ونزع البشري عمامته من فوق رأسه وألبسها للرجل وصاح فيه: طيب لما الحكاية حكاية عِمة، اقرأ أنت الجواب بقى!
ويستيقظ من نومه ظُهرًا على صوت موسيقى منبعثة من بيانو متنقِّل وأصوات مزعجة لجماعة البلياتشو، الذين كانوا ينتشرون في مصر في تلك الأيام، ويلبس أفرادهم الجِبَّة والكاكولا، ويدهنون وجوههم بالزفت والدقيق، ويضعون على رءوسهم عمائم، وفتح الشيخ البشري النافذة وطلب من جماعة البلياتشو أن ينصرفوا ليتمكن من النوم، ولكنهم لم يفعلوا. فطلب منهم بالحُسنى أن ينصرفوا مرة أخرى، ولكنهم لم يعملوا بنصيحة الشيخ. ووقف الشيخ البشري في النافذة يصيح بأعلى صوته: أنت راح تمشي يا جدع وإلا أنزل أضربك قلمين … ثم يستطرد: ولا أنزل أضربك قلمين، الناس تقول ده معاهم.
الأبونيه!
وكان يجلس مع «الشِلة» رجل كلما جاء دور الحساب في بار اللواء يصر على أن يدفع، ثم يخرج من جيبه ورقة من فئة الخمسين جنيهًا. وبالطبع كان الجرسون يعتذر فيدفع آخر من أفراد الشلة، وتكررت هذه القصة أكثر من مرة. وفي مرة هَمَّ الرجل بدفع الحساب بعد أن أقسم أكثر من مرة، ثم أخرج نفس الورقة المالية الكبيرة، وعلق البشري على الفور: إنت برضه طلَّعت الأبونيه؟
وكان الشيخ البشري في مأدبة عند الأباظية، وخرج ليغسل يديه بعد الغداء وترك جِبته السوداء معلقة على مقعد في الحجرة، وعندما عاد وجد أحدهم رسم وجهًا لحمار بالطباشير على الجبة فقال الشيخ متسائلًا: مين فيكم اللي مسح وشه في الجبة؟!
وشوهد حزينًا ذات يوم، فسأله حافظ إبراهيم عن سبب حزنه، فروى البشري القصة؛ قال: جاءني اليوم رجل من الريف يرغب ويُلِح في نشر اسمه بالجريدة. وسألته: هل أنت عمدة؟ فأجاب بالنفي. هل كنت ضمن زُوَّار رئيس الوزراء؟ قال لا. هل مات قريب لك فننشر اسمك في النعي، أجاب لا. قلت له اسمع اذهب فارمِ بنفسك تحت الترام وعندئذٍ سننشر اسمك.
وسأله حافظ: وماذا يحزنكَ في الموضوع؟
وأجاب البشري: يبدو أن الرجل أطاعني؛ فقد خرج ولم يعُد.
ويرى حافظ شابًّا وسيمًا فيهتف قائلًا: الله أكبر، هكذا أبناء الأمهات اللاتي تُدفع المهور الغالية لهن.
ويُعقب البشري على الفور: على كده الست والدتك دفعت «دوطة» للمرحوم والدك.
زِيور كله
وقلمه كان أكثر مرارة من لسانه. كتب عن زيور باشا ذات مرة يقول:
«فإذا اطَّلعت عليه أدركت أنه مؤلَّف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت ولا كيف تَعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول غيره.»
ثم يقول:
«وأهل مصر يأخذون على زيور «كله» ما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية. وإنهم ليعدون عليه بأموال الدولة واستهتاره بمصالحها، ولكن من الظلم أن يؤخَذ البريء بجريرة الآثم، وأن يُعاقَب المظلوم بجريمة الظالم. فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كُوع زيور الأيسر، أو القسم الأسفل من «لُغْدِه»، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى.»
«إن الحق والعدل ليقضيان بتأليف لجنة تقوم بعمل تحقيق مع صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوًا عضوًا، وتُحقق مع أشلائه شِلوًا شِلوًا … ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل.»
مصابيح الدُّجى
ثم يغمز بعض السادة مشايخ الإسلام فيقول:
«وزيور يحترم البرنيطة؛ حتى إنه لا يردُّ لحاملها طلبًا. وحتى لقد زعموا أن بعض كبار علمائنا الأعلام، مصابيح الدجى وعُمد الإسلام، بعد ما أعياه الكد والجهد وشدة السعي وطول الوقوف بالأبواب في سبيل وظيفة خالية، عزم أخيرًا على لبس القبعة؛ لعله يَحظى بمعونة زيور على إفتاء الديار أو مشيخة الإسلام، ومولانا الشيخ المذكور أعلاه لا يعدم ألف فتوى من الشريعة، تحلُّ له هذه الذريعة.»
باسم الأمة والحكومة
ويصف الدكتور محجوب ثابت فيقول:
«هو في ميراثنا القومي لا يقل عن آثار سقارة، وجامع السلطان حسن ومقابر الخُلفاء. وهو جزء من تقاليدنا، كحفلة المحمل ووفاء النيل وشم النسيم. وإنك لتراه كلما ساروا بضَحية حُرية — يقصد شهيد — كان الدكتور أول المشيعين. فإذا كان اجتماع في الأزهر كان فارسه المعلم، فإذا تعانق الهلال والصليب كان هو الهلال. وإذا اعتدى أحد على جماعة الأرمن طار الدكتور إلى دار قنصليَّتهم يخطب جمعهم ويعقد معهم المعاهدات باسم الأمة والحكومة.»
مُطالب سابق
وكتب مرة في السياسة اليومية مُطالِبًا الدكتور محجوب ثابت بأن يكتب على بطاقته: دكتور محجوب ثابت، مطالب بالسودان سابقًا، وعضو نواب حاليًّا.
فكري زمان
وكتب مرة يصف صديقًا، فقال:
المشق بالسياط
ويشن الشيخ البشري حملة رهيبة على المتقعِّرين في الفُصحى، الذين يتشبثون بالغريب من اللفظ، حتى لتحسبهم يكتبون رطانة، فيقول إذا أبيتم ألا يتندَّر الناس إلا بالفصيح فعليكم أولًا بتحفيظ الأمة كلها المعلَّقات السبع والمذهبات السبع والمنتَقَيات السبع والملحمات السبع، وأنا زعيمٌ لكم بأن الناس لن يعودوا يسمعون في أعراس أولاد البلد في قافية أسماء الشوارع مثلًا: اللي على جِتتك! اشمعنى؟ الضرب الأحمر. وسيسمعون بدلها — إن شاء الله: هذا البادي على جُثمانك؟ ما باله؟ من أثر المشق بالسياط!
ويداعب حافظ إبراهيم في بابه المختار … المرآة … فيقول: «جهم الصوت، جهم الخلق، جهم الجسم، كأنما قُدَّ من صخرة في فَلاة موحشة، ثم فكر في آخر لحظة أن يكون إنسانًا فكان والسلام، أمَّا عيناه فكأنهما دقَّتا بمسمارين دقًّا وأما لون بشرته — والعياذ بالله — فكما عُهد به إلى نقاش مبتدئ تشابهت عليه الأصباغ والألوان فذاب أصفرها في أخضرها في أبيضها في بنفسجها، فخرج خرجًا من هذا كله لا يرتبط بواحد منها بسبب. وإذا أطلقته في البر حسبته فيلًا، وإذا أطلقته في البحر حسبته درفيلًا.»
أعور شِمال
ويقابله صديق في الطريق فيشكو له الشيخ البشري من ألم شديد في المُصران الأعور، ويشير له على مكان الألم في الجانب الأيسر من بطنه، ولكن الصديق يُطمئنه بأن المُصران الأعور لا يوجد في الناحية اليمين، ويُجيب البشري في هَمٍّ شديد: يمكن أنا أعور شمال.
نظرة عميقة
ولم يكن البشري مجرد ساخر من الناس والحياة؛ بل كان فنانًا عميق النظرة، رقيق الإحساس، وله بحوث قيِّمة في الغناء والقراءات والشِّعر والأدب، وعاش حياة عريضة حافلة. وسُئل قبل وفاته بأيام عن أعظم شاعر … فأجاب: عبد الحميد الديب. وأعظم أشعاره قال:
وكأنما كان الشيخ البشري ينعى نفسه، فمات بعد ذلك بأسبوع، وكان قبل ذلك بأيام ملءَ السمع وملء البصر. وضاعت مع الشيخ البشري فترة من أجمل فترات تاريخنا.