عبد الحميد الديب
ويدور عبد الحميد في الحلقة المفرغة حول نفسه، يستجدي الناس ويشتمهم، ويقرض شعرًا، سيظل رغم كل ما يقال فيه، أصيلًا في حياتنا، وله في تاريخنا تاريخٌ.
عام ١٩٣٠م، وصدقي باشا يحكم مصر بيَدٍ من حديد، وكثيرون لا يستطيعون دفع الضرائب المستحقة عليهم، ويسقط عشرات قتلى المحنة بالذبحة والجلطة والموت المفاجئ السريع، وعساكر البوليس تجوب القرى والحقول.
وكان منهم والد الشاعر البائس الحزين، عبد الحميد الديب.
من دار العلوم … إلى الشارع
حدث ذلك عام ١٩٣٣م، وكان عبد الحميد الديب في دار العلوم، ووجد نفسه فجأة بين أمرين، إما مواصلة الدراسة والموت جوعًا، وإما الخروج إلى الشارع والبحث عن طعام، واختار عبد الحميد الشارع، وخرج إليه.
ولكن ماذا يستطيع طالب دار العلوم الفاشل أن يصنعه، إنه يستطيع الوقوف عدة ساعات أمام بعض الصغار يعلمهم شيئًا مما تعلَّمه، ويقبض أصابعه كل نهار على قروش تساعده على الحياة، ولكن هذه المهنة الكئيبة لم ترق في عينيه طويلًا؛ فسرعان ما هجرها إلى الشارع من جديد.
وكانت نفسه قد امتلأت يأسًا وفاضت أسًى، وشبت في جوانحه نار الكراهية لكل الناس … لم يكن عبد الحميد يعلم أنهم مثله مظلومون، ظنَّ هو — خطأً — أنهم مسئولون عن محنته.
وكان عبد الحميد يملك أدوات الهجوم على الناس؛ يملك لسانًا سليطًا، وموهبة تطيعه من قرض الشِّعر، خصوصًا عندما يكون الشِّعر موجهًا ضد أحد، حتى ولو كان هذا «الأحد» هو عبد الحميد الديب نفسه!
ويتساءل عبد الحميد الديب وهو في المحنة التي لا يعرف مبررًا لها، هل هو حقًّا مخلوق آدمي، له نفس الحقوق التي للآخرين؟ يتساءل في شِعر حزين يقطر ألمًا وحزنًا وكفرانًا بكل شيء:
وهو يكره الناس، ويعدُّهم مسئولين عن محنته، إنهم يسخرون منه؛ فلا بد أن يسخر بهم، هؤلاء الذئاب أكَلة لحوم البشر.
وينظر عبد الحميد إلى نفسه … إنه لا يجد ما يأكله. وأيضًا لا يجد ما يستره:
والناس ليس عندهم وفاء … وأصدقاء الطفولة والصبا لا يرحمون تدهوره، وتتحالف عليه المِحن، الزمن الغادر والأصدقاء، وعبد الحميد يجترُّ حسرته في شِعره:
يسخر من نفسه
ولكن ماذا يفعل هو، وقد فقد كل شيء حتى المقاومة، إنه يستسلم الآن للمصير الذي انتهى إليه، إنه كرجل سقط من فوق عمارة مرتفعة، فهو لا يستطيع إلا أن يدور مع الريح في كل اتجاه!
وهو في نفس الوقت يحقد على الحياة، ويتمنى أن تزول، إنه أناني سَوَّد الحرمان قلبه، وحطم نفسه، إنه ذئب هو الآخر … مثل الآخرين.
إنه ينسى نفسه هذه المرة … ويذكر «علينا» لأول مرة، لقد أصبح عبد الحميد شمشمون. يودُّ لو تهدَّم المعبد على رأسه، وعلى كل أعدائه … والبشر جميعًا أعداء لعبد الحميد.
ويدور عبد الحميد في الحلقة المفرغة حول نفسه، يستجدي الناس ويشتمهم، ويقرض شِعرًا، سيظل رغم كل ما يقال فيه، أصيلًا في حياتنا، وله في تاريخنا تاريخ.
حذاء جديد
ولكنَّ عبد الحميد لا ينسى في ساعات صفوه أن يُضحك الناس، وأن يُبهجهم؛ يقابله صديق مرة فيتحاشاه عبد الحميد، ويهرع الصديق لعناقه ويسأل: لماذا يتحاشاه؟!
ويقول عبد الحميد إنه قد قرر أن يتحاشى الناس كلهم، فقد أصبح له حذاءٌ جديد وبدلة جديدة.
ويضحك الصديق حتى يستلقي على قفاه، فقد كانت البدلة والحذاء ليسا جديدين، ويغيب عبد الحميد أيامًا طويلة، ثم يعود للظهور من جديد … ويسأله صديق عن سر غيبته ويجيب عبد الحميد: كنت في البلد، شفت «الفدانين» ورجعت، ويتساءل الصديق مندهشًا: فدانين ايه؟ ويجيب عبد الحميد: واحد صاحبي اسمه محمد الفدانين.
•••
وكان يجلس الساعات الطويلة يروي قصة مغامراته مع النساء، وكيف أن سيدة متزوجة من رجل عظيم وقعت في هواه، وكيف ذهب معها إلى شاطئ البحر، وقضى معها أيامًا جميلة بهيجة.
ويسكت عبد الحميد الديب، ثم يرتفع صوت صائحًا: عليَّ الطلاق ما حصل يا عبد الحميد، ويصيح عبد الحميد على الفور: عليَّ الطلاق ما حصل.
حل العمائم
ويذهب عبد الحميد مع أحد أصدقائه إلى قرية قريبة من القاهرة ليؤدي واجب العزاء في وفاة أحد مشايخ الأعراب.
وكان السرادق مكتظًّا بالناس أصحاب العمائم، ويقف عبد الحميد على دكة خشبية ويصيح في الجالسين وهم آلاف: أيها الناس، قال رسول الله ﷺ: إذا مات عزيز لديكم فحلوا عمائمكم … ويُخيم الصمت على السرادق، ويحل جميع الموجودين عمائمهم في صمت، ثم يرتفع صوته من جديد، أعيدوها كما كانت.
ويكشف عالم من الأزهر كان في السرادق، وأخذته المفاجأة فحل عمامته هو الآخر، ويكشف أنه ليس هناك حديث نبوي في هذا الشأن على الإطلاق!
وتثور الجماهير على عبد الحميد الذي غرر بها، ويلزم عبد الحميد فراشه بعد ذلك شهرًا كاملًا لا يستطيع أن يبرحه من أثر الضرب الشديد.
ولكن عبد الحميد رغم كل شيء يعيش في مشاكل لا حصر لها، وهو يريد أن ينسى مشاكله … ولا سبيل إذن إلا المخدرات، ويغرق عبد الحميد في بؤرة الهيروين، ثم تظهر له وظيفة في الأفق … عام ١٩٤٣م.
أرادت السلطة البريطانية أن تُظهر للناس قوتها في ميدان الحرب، فجاءت بطائرة ألمانية سقطت في معركة العلمين، ووضعتها في ميدان قصر النيل، ليراها الناس، وكان لا بد من رجل يرشد الناس إلى قصة الطائرة، وكان الرجل عبدَ الحميد، ولم تمضِ شهور حتى أزيلت الطائرة من الميدان، وعاد عبد الحميد إلى الشارع.
مشرد رسمي
ثم يأخذه الأستاذ عبد الحميد عبد الحق ويوظفه بوزارة الشئون الاجتماعية، وبمرتب شهري قدره ستة جنيهات.
ستة جنيهات ليأكل وينام ويلبس كما يفعل سائر الموظفين، ولا سبيل الآن إلى التسول، فهو موظف حكومي كبير … ويضيق عبد الحميد بالوظيفة وما جرَّته عليه فيقول:
ويهجرها إلى الأبد، ليعود إلى الشارع يشتِم الناس ويستجديهم، وتشتد عليه العلة ويقسو عليه الداء … وينتهي به الحال أخيرًا إلى فراشٍ قذر بمستشفى قصر العيني.
وكأنما لمح عبد الحميد نهايته … لقد آن لهذا الكادح المعذَّب الذي قست عليه ظروف أقوى منه كثيرًا، هي الظروف التي جرَّت على أبيه الخراب، وقتلته محسورًا، وألقت به هو إلى الشارع مع الكلاب … آن له أن يستريح ويهتف عبد الحميد وكأنه يرى مصيره المحتوم:
ثم يقمص عينيه ويستريح إلى الأبد.
ولم يترك خلفه شيئًا، سوى عشرات من القصائد، بعضها يصلح للنشر، وبعضها يعاقب عليه قانون العقوبات، وحجرة قذرة مُعتِمة كان ينام فيها أحيانًا ولم يكن بها شيء، كان هو فيها كل شيء.
لم يذكره أحدٌ عندما مات. رجل واحد فقط ذكَّر الناس به؛ فقد كان صديقًا له في حياته، هو الشاعر الكاتب المعروف كامل الشناوي، فقد كتب يومها يقول:
«اليوم مات شاعر تعرَّى واكتست الأضرحة، جاع وشبعت الكلاب.»
وكم من الكلاب ماتت بالتخمة، وكم من الناس ماتوا مثل عبد الحميد الديب من الجوع.