المازني … ثالث الفرسان
المازني الضاحك خير مَن يقول النكتة، حتى ولو كانت على نفسه … فهو الذي أطلق على نفسه وعلى الأستاذ العقاد رقم ١٠ فالعقاد طويل، مُفرط في الطول كرقم واحد، والمازني قصير مثل الصفر.
ثلاثة فرسان ظهروا في عالَم الأدب في مرحلة دقيقة خطيرة … مرحلة انتقال من عصر يُقلِّد ويحاكي ويتمسك بالإطار القديم دون الموضوع؛ لأن الموضوع لم يكن له وجود في أدب المدرسة الاتباعية، ثم جاء الفرسان الثلاثة في هذه المرحلة الخطيرة التي أخذ الأدب فيها ينسلخ من أردِيَته القديمة، إلى عالم جديد يهتم بالمضمون ويُعنَى بالتعبير عن النفسية الفردية، والنفسية الجماعية على السواء وكان الفرسان الثلاثة هم: عبد الرحمن شكري، وعباس العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني.
حياة صحفي
وعاش المازني حياته يكتب ويؤلف ويترجم ويشتغل بالصحافة، وكان المازني قبل ذلك يعمل مدرسًا ثم ناظرًا لمدرسة ثانوية حتى قامت الثورة المصرية عام ١٩١٩م، فنزل المازني إلى الميدان بقلمه، يكتب كل يوم مقالًا من نار في صحيفة «الأخبار» مع الأستاذ أمين الرافعي، وعندما توقفت «الأخبار» عن الصدور عام ١٩٢٥م، وقف المازني حياته على الكتابة والتأليف والاشتغال بالصحافة حتى مات في أغسطس عام ١٩٤٩م.
وحياة أديب
وبين أغسطس عام ١٨٩٠م، وهي السَّنة التي وُلد فيها المازني، وأغسطس عام ١٩٤٩م عاش المازني حياة ثائرة قلقة شديدة التأثر والانفعال … وكان المازني ساخرًا … ساخرًا بالأوضاع، ساخرًا بالقيم المتحجِّرة التي صنعها بعض البشر.
ومن خلال هذه السخرية، وُلد أدب المازني الخالد … خالد لأن أدبه كان مصريًّا، فيه بساطة المصري ومرحه وإيمانه الشديد بالقضاء والقدر.
وهذه النقطة بالذات — الإيمان الشديد بالقضاء والقدر — أخذها الكثيرون على المازني، وهاجموه طويلًا ورموه باليأس، ولكن هؤلاء المهاجمين نسوا أو تناسوا أن المازني كان أصدق أدباء العصر الذي عاش فيه.
صديق الجميع
ولعل سر سخرية المازني … صورته … فقد كان قصيرًا نحيفًا، أعرج من أثر حادث قديم.
ولعلَّ أصدق وصف للمازني ما كتبه هو في مقدمة روايته الطويلة «إبراهيم الكاتب» فقال:
«إنني سمحٌ متواضع، قانع، سلس عطوف، مغتبط بالحياة، راضٍ عنها قانع بها، أتلقى الحياة بغير احتفال، وأفتر للدنيا عن أعذب ابتساماتي، وأحس السرور يقطر من أطراف أصابعي كالعرق.»
وكان شغوفًا جدًّا بكتابات الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين، واستطاع المازني أن يجد لسخريته اللاذعة مجالًا من المضمون المصري الذي يعيش فيه، فجاءت قصصه مصرية صميمة — بالنسبة لعصره — وأيضًا بالنسبة لما ظهر قبله، قصة «زينب» لهيكل، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، وساعده اشتغاله بالتدريس فترة طويلة على مخالطة الناس والاحتكاك بمختلف البيئات، وملاحظة الأفراد ومراقبة سلوكهم، ولذلك تعتبر قصص المازني مرآة للعصر كلِّه.
مدرسة المازني
ولعلَّ إنتاج المازني يعتبر القاعدة التي استند إليها كُتَّاب القصة من الشباب في جيلنا المعاصر، وعناوين قصصه تدل على مدى التجديد والجرأة في التجديد كذلك، «ع الماشي»، و«ميدو وشركاه»، و«على الحديدة»، و«الدكان»، ويقحم العامية في الأسلوب العربي أحيانًا.
الوصف الصادق
والمازني أيضًا كان أصدق الكُتَّاب في وصفه، ولم يصف الشمس مثلًا بأنها كطبق من الذهب، بل كان يتعمد اختيار وصفه من محيطه من الأشياء التي تقع عليها عيناه.
إنه يقول مثلًا: «أَقْدَم من هرم خوفو»، «معدتي طاعنة في السنة كمخلاة قديمة»، «أشكال ليس لها معارف كدرهم المسيح.»
وهو يصف زنجية فيقول: فكأنها زير عليه إبريق مقلوب فوقه كرة ذات ثقوب. وهو يصف الزواج فيقول:
«الزواج يشبه لبس الحذاء، والأعزب كالذي اعتاد الحفا.»
وهو في كتاباته سريع النكتة، جُمَله قصيرة متلاحقة مثل طلقات الرصاص، تمامًا مثل مارك توين وأوسكار وايد:
رقم ١٠
وعندما نترك المازني الأديب، نرى المازني الضاحك خير مَن يقول النكتة، حتى ولو كانت على نفسه، فهو الذي أطلق على نفسه وعلى الأستاذ العقاد رقم ١٠، فالعقاد طويل، مُفرِط في الطول كرقم ١، والمازني قصير مثل الصفر.
وحدث مرة أن هوجم المازني والعقاد وواحد من أسرة النشاشيبي في مدينة القدس، ثم أطلق عليهم مجهول النار ثم انطلق هاربًا، وأثناء إطلاق الرصاص انطرح العقاد أرضًا، وأطلق النشاشيبي ساقيه للريح، وبقي المازني مكانه، وسألوه بعد ذلك عن سر ثباته أمام الرصاص فأجاب: أنا خُفت أجري … الراجل يشوفني!
القصة بقرش
وكتب مرة في مقدمة كتاب له يحوي عدة قصص قصيرة يقول:
«يحوي هذا الكتاب عشر قصص قصيرة، سهرت في كتابتها الليالي الطويلة، ولقيت في طبعها عَنَتًا وإرهاقًا، وقدمته لك أيها القارئ بعشرة قروش، أي إن القصة الواحدة لا تساوي إلا قرشًا واحدًا.»
لتقوية الطرق
وروى مرةً أنه ذهب إلى طبيب أُذُن يشكو إليه من صَمَم جزئي ألمَّ به، ودلل للدكتور على صحة شكواه بأنه لا يسمع جيدًا الطرق على الباب، فوصف له الطبيب دواء مقويًا للسمع، وبعد فترة طويلة سأله الطبيب عن حاله، فأجاب على الفور: أبدًا، وداني زي ما هي، ولكن بسمع الخبط على الباب كويس، يظهر إن الدواء بيقوي الخبط!
أعمله بالطو
وحدث أن اشترى العقاد صديريًّا جميلًا من فلسطين، ورآه المازني فأُعجب به جدًّا، فقال للعقاد: إنت لازم تجيب لي صديري المرة الجاية، أعمله بالطو.
داس على طربوشي
ودخل المازني مرة مذعورًا داخل «دار الهلال» يسأل كل مَن يلقاه: ما فيش واحد طويل دخل هنا؟!
ولما سألوه عن سر لهفته في السؤال عن الرجل الطويل أجاب: أصله خلاني ماشي وداس على طربوشي.
ملاها مني
وأعطى ساعته لساعاتي «يملؤها» له، وبعد أن تسلمها اكتشف أنها ما زالت على حالها تُؤخر تارة، وتُقدم تارة أخرى، فقال المازني: الراجل أديت له الساعة يملاها، يظهر إنه ملاها مني.
نسخة
وأهدى مرةً نسخة من كتابه إلى أحد الأصدقاء، ووعده الصديق بقراءته، ثم مضت فترة طويلة والصديق يعتذر عن عدم قراءته، وقابله المازني ذات يوم، فسأله في جدٍّ بالغ: إنت كنت بتعوم في النيل امبارح؟
– ليه؟
– أصلي لقيت نسخة من كتابي في المية!
عشان العيل
وجاء مرة المازني إلى بعض أصدقائه فقال لهم فخورًا: تعرفوا النهاردة أنا حميت فلان من «علقة» كان راح يأكلها.
وتساءل الأصدقاء جميعًا في دهشة: ازاي؟
– أنا ماشي مع فلان واتشاكل مع واحد تاني، والراجل حلف لازم يضربه «علقة» لحد ما يموته.
– وبعدين؟
– وبعدين الراجل بص ناحيتي وقال: طيب حسيبك عشان خاطر العيل اللي معاك.
الأديب والإنسان
وهكذا كان المازني الإنسان، خفيف الظِّل، حلو النكتة، حاد السخرية مثل المازني الأديب، غير أن المازني الأديب لازمته مسحة من التشاؤم جعلته يقول في مقدمة كتابه «حصاد الهشيم»: ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق وشغلت به المطابع، وصدعت به القراء؟ … إنه كله سيَفنى ويُطوى بلا مراء، فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وتسوية الأرض لمَن يأتون من بعدهم.
ومَن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ … فلندَع الخلود إذن، ولنسأل: كم شبرًا مهدنا من الطريق؟
ولكن هل هذا كلام متشائم؟
أبدًا، إنه من خلال تشاؤمه يبدو متفائل النظرة إلى المستقبل واثقًا كل الوثوق من سعادة الأجيال المقبلة، فخورًا بالأشبار التي مهدها في الطريق الشاق الطويل نحو المستقبل الزاهر.
ويكفي المازني أنه مات بعد أن مهَّد شوطًا طويلًا، واستطاع بحق أن يصبح على رأس كتاب القصة الطويلة والقصيرة في بداية القرن العشرين، ويكفيه إنه مهَّد الطريق لغيره.
وصحيح أن المازني مات.
ولكن، بقي إنتاجه، وظلت البشرية وستظل، سعيدة بإنتاجه، مُقدرة للأميال الطويلة التي مهَّدها من الطريق.