زيارة السيد جرايس في منزله
لا، بل أصغِ إليَّ.
لم يَعُد لديَّ شكٌّ في أن المذنب الذي كانت إلينور ليفنوورث مستعدةً لأن تُضحِّيَ بنفسها من أجله هو شخصٌ كانت تُكِنُّ له الحبَّ فيما مضى؛ فالحب، أو الإحساس القويُّ بالواجب النابع من الحب، يكفي في حد ذاته ليُبرر مثل ذلك التصرف الحاسم. لم يتبادَر إلى ذهني، كلما سألتُ نفسي مَن يمكن أن يكون هذا الشخص، سوى اسمٍ واحد فقط، بغيض كما كان بِناءً على كلِّ أحكامي المسبقة، هو اسم السكرتير العادي، بانفعالاته المفاجئة وتصرُّفاته المتقلبة، وبأساليبه المحيِّرة واعتداده المدروس بالنفس.
ومع ذلك، من دون الضوء الذي سلَّطه مسلك إلينور الغريبُ على تلك المسألة، لم أكن سأختار هذا الرجلَ باعتباره شخصًا معرَّضًا بأي حال من الأحوال للاشتباه فيه؛ فلم تكن غرابةُ مسلكه في التحقيق واضحةً بالدرجة الكافية حتى تدحضَ عدم احتمال أن يجدَ شخصٌ بمثلِ علاقاته مع المتوفَّى دافعًا كافيًا لارتكاب جريمة كان من الواضح جدًّا أن عواقبَها لن تكونَ في صالحه. لكن إذا كان الحبُّ قد دخل بوصفه عاملًا في المسألة، فما الذي لا يمكن توقُّعُه؟ كان جيمس هارويل، السكرتير البسيط لتاجر شاي متقاعد، شخصًا؛ أما جيمس هارويل، الذي هيمنَت عليه عاطفتُه نحو امرأةٍ جميلةٍ مثل إلينور ليفنوورث، فكان شخصًا آخر؛ وبوضعه على قائمة الأطراف الواقعين تحت طائلةِ الاشتباه، شعرتُ أنني لم أكن أفعلُ سِوى ما كان يُبرِّره النظرُ على النحو الواجب في الاحتمالات المطروحة.
لكن، بين اشتباهٍ سطحي ودليلٍ فعلي، ثَمة فارقٌ شاسع! أن تعتقد أن جيمس هارويل قادرٌ على ارتكاب جُرم، وأن تجد دليلًا كافيًا على اتهامه بهذا الجرم، كانا أمرَين شتان بينهما. وجدتُ نفسي تلقائيًّا أنفر من هذه المهمة، التي كنت قد عقدتُ العزم تمامًا على الشروع فيها؛ أخذ تصور ما لموقفه التعس، إن كان بريئًا، يفرض نفسه عليَّ، وأخذ يجعل انعدام ثقتي فيه يبدو لي غيرَ لائق إن لم يكن جائرًا تمامًا. لو كنتُ أستلطف هذا الرجلَ أكثر، ما كنت سأغدو متأهبًا هكذا لأن أشكَّ في أمره.
لكن لا بد من إنقاذ إلينور ليفنوورث أيًّا كانت المخاطر. ما إن تصبح فريسة لآفة الشك، مَن بإمكانه أن يعرف عاقبة الأمور؛ فإلقاءُ القبض عليها ربما — في حال وقوعه — قد يُعكر صفوَ شبابها ويستلزم أكثرَ من مجرد مرور الوقت حتى ينقشع. أما اتهامُ سكرتير مُعدِم فقد يكون أقلَّ بشاعةً من هذا. عزمت أن أزور السيد جرايس باكرًا.
في تلك الأثناء، المشهدان المتناقضان لإلينور من ناحية وهي تقف ويدها على صدر المتوفَّى، ووجهها مرفوعٌ يعكس كبرياءها، الأمر الذي لم أستطع أن أتذكره دون أن يغلبَني الانفعال، وماري، من ناحية أخرى، وهي تتركها غاضبةً بعد نصف ساعة فقط من لقائها، لم يُفارقا ذهني وأبقَيَاني مستيقظًا بعد منتصف الليل بوقتٍ طويل. كان الأمر أشبهَ بمشهدٍ مزدوج يجمع بين النور والظلام اللذين، مع تناقضهما، لا يندمجان ولا ينسجمان معًا. عجزت عن الهروب من ذلك الأمر. مهما فعلت، لازمَتني الصورتان، وأفعمتا روحي بأملٍ وتشكُّكٍ متناوبَين، حتى لم أعد أعرف ما إذا كان عليَّ أن أضع يدي مع إلينور على صدر المتوفَّى، وأقسم بثقتي المطلقة في صدقها ونقائها، أم أُدير وجهي مثل ماري، وأهرب مما عجزتُ عن فهمه والتصالح معه.
متوقعًا أن أواجه صعوبةً، بدأتُ في صباح اليوم التالي بحثي عن السيد جرايس، وبداخلي إصرارٌ قوي على ألَّا أسمح لنفسي بأن تُحبطني خيبةُ أملٍ أو أن يُثبط عزيمتي إخفاقٌ مبكر. كانت مهمتي أن أُنقذ إلينور ليفنوورث؛ وحتى أفعل ذلك، كان ضروريًّا لي ألا أُحافظ فقط على هدوئي، وإنما أيضًا على رِباطة جأشي. كان أسوأ ما كنت أتوقعه أن تتأزَّم الأمورُ قبل أن أحصل على الحق، أو أنال الفرصة، في أن أتدخَّل. رغم ذلك، منحَني الإعلانُ عن إقامة جنازة السيد ليفنوورث في ذلك اليوم بعض الارتياح في ذلك الاتجاه؛ كانت معرفتي بالسيد جرايس كافية، كما ظننت، لتُبرر اعتقادي بأنه سينتظر إلى ما بعدَ انتهاء مراسمِ تلك الجنازة قبل أن يشرع في اتخاذ إجراءاتٍ قصوى.
لا أعرفُ إن كان لديَّ أيُّ أفكار واضحة عن الشكل الذي يجب أن يكون عليه منزلُ محقِّق؛ لكن حالما وقفتُ أمام المنزل الأنيق ذي الثلاثة الطوابق المبنيِّ من الطوب الذي أُرشِدت إليه، لم يكن بوسعي سوى الإقرارِ بأنه كان ثمة شيءٌ في شكل مصاريع النافذة نصف المفتوحة، التي تنسدلُ فوقها ستائرُ نظيفة لا عيبَ فيها، يدل بشدة على شخصية المقيم فيه.
أجاب دقاتي العصبيةَ نوعًا ما على جرس الباب شابٌّ ذو هيئة شاحبة، له خصلات شعر حمراء تنسدل على أذنيه. ردًّا على سؤالي بشأنِ ما إذا كان السيد جرايس بالداخل، أعطاني شيئًا أشبهَ بنخرة ربما كانت تعني النفي، لكني أخذتها على أنها تعني الإيجاب.
«اسمي ريموند، وأود مقابلته.»
رمقَني بنظرةٍ تفحَّصت جميعَ تفاصيل هيئتي وملابسي، ثم أشار إلى بابٍ عند أعلى السلم. دون انتظارٍ لتوجيهاتٍ أخرى، أسرعتُ لأعلى، وطرَقتُ الباب الذي كان قد أشار إليه، ودخلت. كان في مواجهتي الظهر العريض للسيد جرايس منكبًّا على مكتبٍ ربما تكون قد حملته سفينة مايفلاور.
صاح: «عجبًا! هذا شرف لي.» ثم نهض، وفتح باب مِدفأة ضخمة كانت تشغل منتصف الغرفة مُصدِرًا صريرًا ثم أغلقه بعنفٍ. وقال: «يوم قارس البرودة، أليس كذلك؟»
أجبتُه: «بلى»، وكنت أنظر إليه بتمعُّن لأرى إذا كان في مِزاج يسمح بالتواصل معه. أردفت: «ولكن، لم يكن لديَّ سوى وقتٍ محدود لأتحقَّق من حالة الطقس. فقلقي بشأن جريمة القتل هذه …»
قاطعني: «هذا مؤكد»، مثبتًا عينَيه على مِسْعار المدفأة، لكن من دون أن يُضمر أيَّ نية عدائية، أنا متأكد من ذلك. «شأن محير تمامًا. لكن لعله كتابٌ مفتوح لك. أرى أنَّ لديك شيئًا تريد أن تخبرني به.»
«بالفعل، مع أني أشكُّ إن كان من قبيل ما تتوقَّعه. سيد جرايس، منذ آخرِ مرةٍ رأيتك فيها، أخذَت اعتقاداتي عن نقطةٍ بعينها تَقْوى حتى صارت قناعةً مطلقة. إن محور شكوكِك هو امرأة بريئة.»
لو أنني كنت أتوقَّع منه أن يُظهر أيَّ استغراب على هذا، لكان مقدرًا لي خيبة الأمل. علَّق قائلًا: «تلك قناعةٌ مفرحة جدًّا. وأنا أحترمك من أجل امتلاكك لها، يا سيد ريموند.»
كظمتُ ردَّ فعلٍ غاضبًا. أردفت مُصرًّا على استفزازه بطريقةٍ ما: «وأنا لي كل الشرف؛ لذا أتيت إلى هنا اليوم لأطلبَ منك باسم العدالة والإنسانية المشتركة أن تُرجِئَ العمل في ذلك الاتجاه إلى أن نكون مقتنعين بأنه لا يوجد أثرٌ أصدق يمكن اقتفاؤه.»
لكن لم يكن ثمة أيُّ مظهر دالٍّ على الفضول أكثرَ من ذي قبل. صاح: «حقًّا! من الغريب أن يصدر من رجل مثلك طلبٌ كهذا.»
لم أنزعج من قوله، وأردفت قائلًا: «سيد جرايس، إن سُمعة امرأة، ما إن تُوصَم، تظل كذلك إلى الأبد. إن إلينور ليفنوورث تمتلكُ الكثير من الصفات النبيلة التي لا ينبغي التعامل معها باستهانةٍ في قضيةٍ مصيريةٍ بهذا القدر. إذا منحتَني انتباهك، أعدك أنك لن تندم على هذا.»
ابتسم، وسمح لعينَيْه بأن تشردا من مِسْعار المدفأة إلى مسند مقعده. علَّق قائلًا: «حسنًا؛ أسمعُكَ؛ هاتِ ما عندك.»
أخرجت مفكرتي من محفظتي، ووضعتها على المنضدة.
صاح: «ما هذه! مفكرة؟ هذا غير آمن، غير آمن جدًّا؛ لا تضَع مخطَّطاتك على الورق أبدًا.»
دون التفاتٍ إلى مقاطعته، تابعتُ حديثي.
«سيد جرايس، لقد أُتيحت لي فرصٌ أكثر منك لدراسة هذه السيدة. رأيتها في وضعٍ لا يمكن لأي شخصٍ مذنبٍ أن يكون فيه، وأنا واثق، بما لا يدعُ مجالًا للشك، ليس فقط من أنها لم تقترف هذه الجريمة، وإنما أيضًا من أن قلبها بريءٌ منها. ربما كان لديها بعض المعلومات عن أسرارها؛ وهو ما لا أتجرَّأ على إنكاره. فالمفتاح الذي شوهد بحوزتها سيدحضُ قولي إن فعلت. ولكن ماذا لو كانت تمتلكُ بعض المعلومات؟ لا يمكنك أن ترغب أبدًا في أن ترى العار يلحق بامرأةٍ بهذا الجمال لأنها تُخفي معلوماتٍ من الواضح أنها تعتبر أن مِن واجبها أن تتكتَّم عليها، بينما بقليلٍ من البراعة المتسِمة بالصبر قد ننجحُ في مقاصدنا من دونها.»
قاطعني المحقق قائلًا: «ولكن، إذا افترضنا أن هذا صحيح؛ فكيف لنا أن نصلَ إلى المعلومات التي نسعى إليها من دون اتباع الخيطِ الوحيد الذي أُتيح لنا حتى الآن؟»
«لن تصلَ إليها أبدًا باتباع أي خيط قدمَتْه لك إلينور ليفنوورث.»
ارتفع حاجباه على نحوٍ معبِّر، لكنه لم يقل شيئًا.
«لقد استُغِلَّت الآنسة إلينور ليفنوورث على يدِ شخص يعرف مدى ثباتها وكرم أخلاقها، وربما حُبها. دعنا نكتشف مَن يمتلك النفوذ الكافيَ ليتحكم فيها إلى هذا الحد، وسنجد الرجل الذي نبحث عنه.»
صدَرت من بين شفتَي السيد جرايس المطبقتَين همهمةٌ لا أكثر من ذلك.
ولإصراري على أنه يجب أن يتحدث؛ انتظرت.
علَّق أخيرًا، بشيء من الاستخفاف: «في ذهنك، إذن، شخصٌ ما.»
أجبتُ: «لن أذكر أي أسماء. كل ما أريده المزيدُ من الوقت.»
«إذن، أنت تعتزم أن تجعل هذا الأمر مهمةً شخصية.»
«أجل، أعتزم ذلك.»
أطلق صفيرًا طويلًا، بصوتٍ منخفض. وأخيرًا سأل: «هل تسمح لي أن أسألَك إذا كنت تتوقَّع أن تعمل بمفردك تمامًا؛ أم إذا توفَّر لك مساعدٌ مناسب، ستترفَّع عن مساعدته وتستخف بنصيحته؟»
«لا أرغب في شيء أكثرَ من أن تكون زميلي.»
اتسعت الابتسامة التي على وجهه بسخرية. وقال: «لا بد أنك واثقٌ من نفسك جدًّا!»
«أنا واثق جدًّا من الآنسة ليفنوورث.»
بدا أن الإجابة سرَّته. وقال: «دعنا نسمع لما تعتزم فعله.»
لم أُجِب على الفور. كانت الحقيقة أنني لم أكن قد وضعت أيَّ خططٍ.
تابع حديثه: «يبدو لي أنك أخذتَ على عاتقك مهمةً صعبةً إلى حدٍّ ما على هاوٍ. من الأفضل أن تدعَ الأمر لي، يا سيد ريموند؛ من الأفضل أن تدع الأمر لي.»
أجبتُه: «أنا متأكد من أن لا شيء سيُسعدني أكثر من أن …»
قاطعني قائلًا: «لا داعي لذلك، ولكن سيكون مُرحَّبًا بأي تواصلٍ منك من حينٍ لآخر. لست أنانيًّا. أنا مستعدٌّ لتقبُّل الاقتراحات: مثل، على سبيل المثال، إذا كان بوسعك، الآن، أن تُخبرني بأريحيةٍ بكل ما رأيته وسمعته فيما يتعلق بهذه القضية، سيُسعدني للغاية أن أستمع.»
شعرت بالارتياح لأنني وجدتُه مستجيبًا جدًّا، وسألت نفسي ماذا عليَّ حقًّا أن أُخبره؛ لم تكن توجد أمورٌ كثيرة من شأنه أن يراها حيوية. ومع ذلك، لم يكن من المناسب أن أتردَّد في تلك اللحظة.
قلت: «سيد جرايس، لا أملك إلا حقائقَ قليلةً يمكنني أن أضيفها إلى ما تعرفه بالفعل. بالتأكيد، أنا متأثر بالقناعات أكثرَ من الحقائق. إن عدم ارتكاب إلينور ليفنوورث لهذه الجريمة مطلقًا هو أمرٌ أنا متأكد منه. وعلى الجانب الآخر، أنا متأكد بالقدر نفسِه من أن الجانيَ الحقيقي هو شخصٌ معروف لها؛ ويستتبع ذلك باعتباره أمرًا مفروغًا منه استنادًا إلى الحقائق أنها تعتبر لسببٍ ما أن التستُّر على القاتل واجبٌ مقدس، حتى ولو على حساب سلامتها الشخصية. والآن، بالاستعانة بهذه المعلومات، لا يمكن أن تكون مهمةً صعبة عليك أو عليَّ أن نتوصَّل على نحوٍ مُرضٍ، لعقولنا على الأقل، إلى هُوية هذا الشخص. المزيد من المعلومات القليلة الأخرى عن العائلة …»
«إذن أنت لا تعرف أي شيء عن التاريخ الخفيِّ لهذه العائلة؟»
«لا شيء.»
«ولا تعرف حتى ما إذا كانت أيٌّ من هاتَين الفتاتَين مخطوبة؟»
أجبتُ، فَزِعًا من هذا التعبير المباشر عن أفكاري: «لا أعرف.»
ظل صامتًا لبرهة. وأخيرًا صاح قائلًا: «سيد ريموند، هل لديك أي فكرة عن الأوضاع غير المواتية التي يعمل فيها أيُّ محقق؟ على سبيل المثال، ربما يُخيَّل إليك أنه بوُسعي التخفِّي تحت عباءة أي فئة من فئات المجتمع؛ لكنك مخطئ. مع الغرابة التي قد يبدو عليها الأمر، لم قطُّ أبدًا بأي وسيلةٍ ممكنةٍ في التخفِّي تحت عباءة إحدى الطبقات على الإطلاق. لا يمكنني انتحالُ شخصية سيد نبيل. لم يكن مجديًا انتحالُ شخصية الخياطين والحلاقين؛ دائمًا ما يُكتَشَف أمري.»
بدا مغتمًّا للغاية حتى إنني بالكاد استطعتُ أن أمنعَ نفسي من الابتسام، على الرغم من اهتمامي وقلقي الخفيَّين.
«حتى إنني استخدمت خادمًا فرنسيًّا، كان يفهم في الرقص والشوارب؛ ولكن كل ذلك كان بلا جدوى. أول سيدٍ نبيلٍ دنوت منه حدَّق فيَّ — أعني سيدًا نبيلًا بمعنى الكلمة، وليس أحد المتأنِّقين الأمريكيين الذين تعرفهم — ولم أُبادله التحديق؛ كنت قد نسيت تلك الضرورة أثناء دردشتي بوجه بيير كاتنيي ماري المصطنع.»
كنت مستمتعًا، ولكني كنتُ مرتبكًا قليلًا من هذا التغيير المفاجئ في مجرى الحديث، فنظرت إلى السيد جرايس بتساؤل.
«أظن الآن أنه ليس لديك مشكلة؟ ربما خُلِق المرء هكذا. أتظن أنه يُمكنني حتى أن أطلب سيدةً للرقص من دون أن يحمرَّ وجهي خجلًا، ها؟»
قلت: «حسنًا، …»
أجاب: «بالضبط؛ لا يمكنني. يمكنني أن أدخل منزلًا، وأنحنيَ أمام سيدة المنزل، وأدعَها تبدو أنيقة كما يحلو لها، ما دامت في يدي مذكرةُ توقيف، أو كانت ثمة مسألةٌ تخص العمل تجول في ذهني؛ ولكن عندما يتعلق الأمر بزيارةٍ متسمة باللين والرفق، ورفع كأس شامبانيا ردًّا على نَخْبٍ، وأمور من هذا القبيل، فأنا فاشل تمامًا.» وغمس يدَيه الاثنتين في شعره، ونظر في كآبة شديدة إلى رأس العصا التي كنت أحملها في يدي. وأردف: «لكنَّ الأمر نفسَه ينطبق تقريبًا علينا جميعًا. عندما يُعوِزُنا سيدٌ نبيل ليعمل لصالحنا، يتعين علينا أن نلجأ إلى شخصٍ من خارج نطاق عملنا.»
بدأت أفهم ما كان يقصده؛ لكني التزمتُ الصمت، مدركًا على نحوٍ مبهَم أنه على الأرجح سيتبيَّن في نهاية المطاف احتياجه إليَّ.
عندئذٍ قال، على نحوٍ مفاجئ تقريبًا: «سيد ريموند، هل تعرف سيدًا نبيلًا يُدعى كلافرينج يقيم حاليًّا في فندق هوفمان؟»
«لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.»
«إنه رجلٌ مهذب جدًّا؛ هل تُمانع أن تتعرف عليه؟»
اتبعت نهج السيد جرايس، وحدقت في المدخنة. وأخيرًا أجبت: «لا يمكنني أن أجيب حتى أفهم الأمور بصورةٍ أوضح قليلًا.»
«ليس ثمة الكثيرُ لتفهمه. السيد هنري كلافرينج، سيد نبيل ومحنَّك، يُقيم في فندق هوفمان. إنه رجل غريب عن المدينة، ولا يتصرف كالغرباء؛ يقود عربته، ويتجوَّل في الشوارع، ويُدخن، لكنه لا يزور أحدًا أبدًا؛ ينظر إلى السيدات، لكن لم يرَه أحد مطلقًا وهو ينحني لإحداهن. بإيجاز، شخص من المحبب التعرف عليه؛ ولكن كونه رجلًا معتدًّا بنفسه، ولديه قدرٌ من تحامل العالم القديم تجاه تحرُّر الأمريكيِّين وجُرأتهم، لا يمكنني أن أتقرَّب إليه بقصد التعارف معه إلا بالقدر الذي يمكنني فعلُه مع إمبراطور النمسا.»
«وترغب في …»
«من شأنه أن يكون رفيقًا مناسبًا جدًّا لمحامٍ شاب صاعد من أسرة طيبة، ويتمتع بالاحترام بكل تأكيد. لا شك لديَّ، أنك إذا بادرت بمصادقته، ستجده شخصًا يستحق العناء.»
«ولكن …»
«قد ترغب حتى في استدراجه إلى علاقات ودية؛ تأتمنُه على أسرارك، و…»
قاطعته بسرعة: «سيد جرايس؛ لا يمكن أبدًا أن أوافق على أن أُخطط لإقامة صداقة مع أي رجل من أجل أن أفضح سرَّه للشرطة.»
ردَّ بنبرةٍ جافَّة: «من الجوهري لمخططاتك أن تتعرف على السيد كلافرينج.»
أجبت، وقد خطر لي أمرٌ فجأة: «يا إلهي! هل له صلةٌ ما بهذه القضية إذن؟»
أخذ السيد جرايس يُملِّس على كُمِّ معطفه بتأمُّل. «لا أعلم حيث إنه سيكون من الضروري أن تُفشي سرَّه. هل تُمانع أن يُقدِّمك أحدٌ إليه؟»
«لا.»
«وأن تتحدث معه، حتى إن وجدته لطيفًا؟»
«لا.»
«وحتى إذا صادفتَ، في سياق الحديث، شيئًا قد يُفيد كقرينة في جهودك لإنقاذ إلينور ليفنوورث؟»
كلمة «لا» التي تفوَّهت بها هذه المرةَ كانت بثقةٍ أقل؛ فدور الجاسوس كان آخِرَ دورٍ أرغب في أن أؤديَه في الأحداث المثيرة القادمة.
أردف، متجاهلًا النبرةَ المتشككة التي أعطيتُ بها موافقتي: «حسنًا، إذن، أنصحك بأن تنزل على الفور بفندق هوفمان.»
قلت: «أشك في أن ذلك سيكون كافيًا. إن لم أكن مخطئًا، فإني قد رأيت هذا السيد النبيل وتحدثتُ إليه.»
«أين؟»
«صِفه لي أولًا.»
«حسنًا، إنه رجلٌ طويلٌ، ذو قوامٍ حسَن، وقامة مستقيمة جدًّا، ووجه أسمر وسيم، وشعر بُني يتخلَّله الشيب، وعين ثاقبة، ودماثة في الخطاب. أؤكد لك أنه ذو شخصية مهيبة.»
أجبته: «لديَّ من الأسباب ما يجعلني أظن أنني رأيته»؛ وبكلمات قليلة أخبرتُه متى وأين قابلته.
قال في النهاية: «همم! من الواضح أنه يهتمُّ بأمرك بقدر ما نهتم بأمره.»
أضاف بعد لحظةٍ من التفكير: «كيف ذلك؟ أظن أنني فهمت. من المؤسف أنك تحدثت إليه؛ ربما أعطيته انطباعًا سلبيًّا؛ فكل شيء يعتمد على مقابلتك له من دون أي سوء ظن.»
ثم نهض وأخذ يذرع الغرفة جَيئة وذهابًا.
«حسنًا، علينا أن نتحرك بتأنٍّ، هذا كل ما في الأمر. امنَحْه فرصة أن يراك في ظروفٍ أخرى أفضل. اذهب إلى غرفة القراءة في فندق هوفمان. تحدث مع أفضل رجل تُقابله وأنت هناك؛ لكن لا تُفرط في الحديث، ولا تكن عشوائيًّا بدرجة مبالَغ فيها. فالسيد كلافرينج رجلٌ صعب الإرضاء، ولن يشعر بالفخر من اهتمام شخصٍ وَدود أكثرَ من اللازم مع الجميع. أظهِر نفسَك على طبيعتك، واترك كل المبادرات عليه؛ سيتَّخذها هو.»
«ماذا لو أننا مخطئان، وأن الرجل الذي قابلته عند ناصية شارع ثيرتي سيفنث لم يكن السيد كلافرينج؟»
«سأُفاجأ بشدة، بكل بساطة.»
لم أعرف أيَّ اعتراض آخرَ يُمكنني أن أُبديَه، فبقيت صامتًا.
تابع بمرح: «وسيتعيَّن على رأسي هذا أن يخوض في كثير من التفكير.»
قلت حينها، وأنا متلهفٌ لإظهار أن كل هذا الحديث عن شخص مجهول لم يؤدِّ إلى إبعاد مخططاتي عن ذهني: «سيد جرايس، ثَمة شخصٌ واحد لم نتحدَّث عنه.»
قال متعجبًا بنعومة، وهو يستدير حتى أصبحَ ظهره العريض مواجهًا لي: «حقًّا؟ ومَن يكون ذاك الشخص؟»
«عجبًا، مَن غير السيد …» لم أتمكن من مواصلة الحديث. بأيِّ حق أذكر اسم أي رجلٍ في هذا الصدد، من دون أن يكون لديَّ دليلٌ كافٍ ضده حتى يكون ذكر اسمه مبرَّرًا؟ فقُلت: «أستميحك عذرًا؛ لكني أظن أنني سأتمسَّك برغبتي الأولى، ولن أذكر أي أسماء.»
قال فجأةً ببساطة: «هارويل؟»
كان التورُّد السريع الذي بدا على وجهي بمنزلة موافقة تلقائية.
تابع قائلًا: «لا أرى سببًا يمنعنا من الحديث عنه؛ أعني، إن كان ثَمة أيُّ شيءٍ نجنيه من ذلك.»
«أتظنُّ أن شهادتَه في التحقيق كانَت صادقة؟»
«لم يثبت بُطلانها.»
«إنه رجلٌ غريب الأطوار.»
«وأنا كذلك.»
شعرت بأني مشوَّشٌ قليلًا، وإذ أدركتُ أني في وضعٍ سيئ؛ أخذتُ قبَّعتي من المنضدة وتهيَّأْتُ للانصراف، ولكن إذ خطرَت هانا ببالي فجأة، استدرتُ وسألته إن كانت توجد أيُّ أخبار عنها.
بدا أنه كان يُشاور نفسه، وظل مترددًا مدةً طويلة حتى إنني بدأت أشك في أن هذا الرجل سيُفضي إليَّ بسرٍّ، في نهاية الأمر، عندما أنزل يدَيه أمامه فجأةً وصاح بعنفٍ:
«الشيطان نفسه مشتركٌ في هذا الأمر! لو كانت الأرض قد انشقَّت وابتلعَت هذه الفتاة، لما كان من الممكن أن تختفيَ تمامًا هكذا.»
شعرت وكأن قلبي يسقط بين أضلعي. فقد سبق أن قالت إلينور: «لا يمكن لهانا أن تفعل شيئًا من أجلي.» هل من الممكن أن هذه الفتاة قد هربت بالفعل، وبلا رجعة؟
«يعمل تحت إمرتي عددٌ لا يُحصى من العملاء، هذا بخلاف عامة الناس، ومع ذلك لم يصلني حتى إشاعةٌ عن مكان إقامتها أو وَضْعها. أخشى فقط من أننا قد نجدُ جثَّتَها طافيةً في النهر في صباح يومٍ ما، دون أن نعثر على اعترافٍ في جيبها.»
قلت: «كل شيءٍ رهن شهادة تلك الفتاة.»
أصدر نخرةً قصيرة. وقال: «ماذا تقول الآنسة ليفنوورث عن هذا؟»
«إن الفتاة لا يمكن أن تساعدها.»
ظننت أنه بدا متفاجئًا قليلًا من هذا، لكنه أخفى ذلك بإيماءةٍ وصيحة. قال: «لا بد أن يُعثَر عليها رغم كل ذلك، وسيحدث ذلك، حتى وإن تعين عليَّ أن أبعث «كيو».»
«كيو؟»
الوصية! لقد نسيت أمر الوصية.