تحامل
لوهلةٍ وَقَعتُ فريسةَ رعبٍ متَّسم بالإيمان بالخرافات؛ ثم، إذ أخذ شكي الفطريُّ يفرض نفسه، رفعتُ ناظرَيَّ وعلَّقت:
«تقول إن كل هذا حدث في الليلة التي سبَقَت الواقعةَ الفعلية، صحيح؟»
أحنى رأسه. وأوضح: «كان بمثابة تحذير.»
«لكن لم يبدُ أنك أخذته على هذا المحمل، صحيح؟»
«لا؛ أنا أعاني من رؤية أحلامٍ مفزعة. فكرت قليلًا في الأمر بطريقة تنطوي على أنه خرافة حتى نظرتُ في اليوم التالي إلى جثمان السيد ليفنوورث.»
«لا أتعجب من أنك تصرفت بغرابة أثناء التحقيق.»
أجاب، بابتسامة متأنية، وحزينة: «صحيح، يا سيدي؛ لا أحد يعرف ما عانيته في محاولاتي لئلَّا أُدليَ بأكثرَ مما عرَفته في الحقيقة، عن هذه الجريمة وطريقة ارتكابها، بصرف النظر عن حلمي.»
«أتعتقد، إذن، أن حلمك تنبَّأ بطريقة ارتكاب الجريمة كما حدثَت في الحقيقة؟»
«نعم، أعتقد ذلك.»
«إذن فمن المؤسف أنه لم يمضِ أبعدَ من ذلك ليخبرنا كيف هرب القاتل من المنزل، أو ربما كيف دخل منزلًا أُقفلت منافذه بإحكام.»
احمرَّ وجهه غضبًا. وقال: «كان ذلك سيغدو نافعًا. وأيضًا، لو كنتُ قد أُطلِعتُ على مكان هانا، والسبب الذي قد يدفع هذا السيدَ الغريب والنبيل إلى الانحطاط بمنزلته ليرتكب مثل هذه الجريمة.»
لما رأيته حانقًا، تخليتُ عن حسِّ الفكاهة الذي بدر مني. فسألته: «ولماذا تقول إنه غريب؟ هل أنت على اطلاع بجميع مَن يأتون لزيارة ذلك المنزل حتى تقول مَن غريب ومن ليس بغريب عن العائلة؟»
«أنا على اطلاعٍ جيد بوجوه أصدقائهم، وهنري كلافرينج لم يكن من بين هذه الوجوه؛ ولكن …»
قاطعته: «هل سبق لك أن كنت برفقة السيد ليفنوورث عندما كان يغيب عن المنزل؛ في الريف، على سبيل المثال، أو في أسفاره؟»
«لا.» لكن النفي جاء مشوبًا ببعض الارتباك.
«ومع ذلك أظن أنه كان معتادًا على الغياب عن المنزل، أليس كذلك؟»
«بالتأكيد.»
«هل لك أن تخبرني أين كان في شهر يوليو الماضي، هو والسيدتان؟»
«أجل، يا سيدي، ذهبوا إلى «ر…»، المنتجع المشهور، كما تعرف.» وصاح، لما رأى تغيُّرًا قد طرأ على وجهي: «آه، أتظن أنه يمكن أن يكون قد قابلهم هناك؟»
نظرت إليه لوهلة، ثم، نهضت بدوري، ووقفت في مواجهته، وقلت:
«أنت تُخفي شيئًا، يا سيد هارويل؛ لديك معلومات عن هذا الرجل أكثر مما أوضحتَ لي. ما هي؟»
بدا مذهولًا من نفاذ بصيرتي، لكنه أجاب: «لا أعرف عن هذا الرجل أكثرَ مما أخبرتُك به بالفعل؛ ولكن» وسرَتْ في وجهه حُمرة متَّقدة «إذا كنت مُصرًّا على متابعة هذا الأمر …» ثم توقَّف، وعلى وجهه نظرةٌ فاحصة.
فكانَت إجابتي الحاسمة: «أنا عازمٌ على أن أعرف كل ما في وسعي أن أصل إليه عن هنري كلافرينج.»
فقال: «إذن، يمكنني أن أخبرك هذا القَدْر. قبل أيامٍ قليلة من جريمة القتل كتب هنري كلافرينج إلى السيد ليفنوورث خطابًا، ولديَّ قناعة أنه لسببٍ ما أحدث تأثيرًا واضحًا على أفراد المنزل.» ثم، عاقدًا ذراعيه، وقف السكرتير منتظرًا في هدوءٍ سؤالي التالي.
فسألت: «كيف عرَفت؟»
«فتحتُه بالخطأ. كنت معتادًا على قراءة خطابات العمل الموجَّهة إلى السيد ليفنوورث، ولأن هذا الخطاب كان مُرسلًا من شخصٍ لم يعتدْ على مراسلته، لم يكن عليه العلامة التي تميِّز غالبًا الخطاباتِ التي تحمل طبيعةً خاصة.»
«وهل رأيت اسم كلافرينج؟»
«نعم، هنري ريتشي كلافرينج.»
«وهل قرأتَ الخطاب؟» كنتُ أرتجف في تلك اللحظة.
لم يتفوَّه السكرتير بردٍّ.
فأعدتُ عليه كلامي: «سيد هارويل، ليس هذا الوقت وقتَ حرجٍ مفتعَل. هل قرأتَ ذلك الخطاب؟»
«أجل؛ لكن في عجالة، وبضمير مضطرب.»
«هل بإمكانك، مع ذلك، أن تتذكر سياقه العام؟»
«كان بخصوص شكوى من المعاملة التي تلقَّاها من إحدى ابنتَي أخوَي السيد ليفنوورث. لا أتذكر أكثر من ذلك.»
«أي واحدة منهما؟»
«لم تكن ثمة إشارةٌ إلى أي أسماء.»
«لكنك استنتجت …»
«لا، يا سيدي؛ ذلك تحديدًا ما لم أفعله. أجبرت نفسي على أن أنسى الأمر برمته.»
«ومع ذلك تقول إن هذا الخطاب كان له وقعٌ على العائلة، صحيح؟»
«بإمكاني الآن أن ألاحظ وقعه عليهم. لم يَبدُ أيٌّ منهم على حاله مثلما كانوا من قبل.»
واصلتُ بحدةٍ: «سيد هارويل، عند استجوابك بخصوص تسلُّم السيد ليفنوورث أي خطابٍ، ربما يبدو بأي حالٍ ذا صلة بهذه الفاجعة، أنكرتَ أنك رأيت أي شيء من هذا القبيل؛ كيف كان ذلك؟»
«سيد ريموند، أنت سيد نبيل؛ وتهتم بأمر السيدتين بدافع المروءة؛ هل تعتقد أنه كان بإمكانك أن تحمِل نفسك (حتى لو رأيت في أعماق قلبك أن نتيجةً كهذه ممكنةٌ، وهو ما لستُ مستعدًّا أن أجزم أنني فعلته) على أن تذكر، في مثل ذلك التوقيت، تسلُّمَ خطابٍ فيه شكوى من المعاملة التي بدرت من إحدى ابنتي شقيقَيه، بوصفه تفصيلةً مريبة جديرة بأن تؤخَذ في حسبان هيئة المحلَّفين التابعة لمحقق الوفَيَات؟»
هزَزتُ رأسي نفيًا. لم يكن بوسعي سوى أن أُقرَّ باستحالة ذلك.
«ما السبب الذي كان لديَّ ليحملني على أن أظن أن الخطاب مهم؟ لم أعرف أيَّ شيء عن هنري ريتشي كلافرينج.»
«ومع ذلك بدا أنك كنت تراه كذلك. أتَذَكَّر أنك ترددتَ قبل أن تُجيب.»
«هذا صحيح؛ لكن ليس كما ينبغي أن أتردد الآن، لو وُجِّه إليَّ السؤال مرة أخرى.»
أعقب هذه الكلماتِ صمتٌ، ذرَعتُ في أثنائه الغرفةَ جيئةً وذهابًا مرتين أو ثلاثًا.
علقت، ضاحكًا في محاولةٍ عبثية للتخلُّص من الذعر المتطير الذي أثارته كلماته في نفسي: «هذا كلُّه من نسج الخيال.»
أحنى برأسه موافقًا. وقال: «أعرف هذا. أنا نفسي رجلٌ عمليٌّ في وضَح النهار، وأدرك، بوضوحٍ تامٍّ مثلك، مدى ضعفِ اتهامٍ مبنيٍّ على حلمٍ رآه سكرتير فقير، ومكافح. ولهذا السبب كنت أرغب في أن أتحاشى الحديثَ عنه تمامًا؛ لكن، يا سيد ريموند» ووقعَت يده الطويلة النحيلة على ذراعي بانفعالٍ شديدٍ لدرجةٍ أوحَتْ لي تقريبًا بإحساس صعقة كهربائية «إذا أُمسِك بقاتل السيد ليفنوورث في أي وقتٍ للاعتراف بجريمته، تذكَّر كلامي، سيَثبُت أنه الرجل الذي رأيته في حلمي.»
أخذتُ نفَسًا طويلًا. فلِوَهْلةٍ كان اعتقاده هو اعتقادي نفسَه؛ واجتاحني شعورٌ مختلِطٌ بالراحة وبألمٍ موجع إذ فكرتُ في احتمالية أن تُبرَّأ إلينور من هذه الجريمة وبعدها على الفور يُزجُّ بها في خزيٍ جديد وهوةٍ أعمق من المعاناة والألم.
أكمل السكرتير، وكأنه يتحدث إلى نفسه: «إنه يجول طليقًا في الشوارع الآن؛ بل يجرؤ أيضًا على دخول المنزل الذي انتهكَ حُرمته بكل بشاعة؛ لكن العدل هو العدل، وعاجلًا أم آجلًا، سيتضح شيءٌ سيُثبت لك أن حَدْسًا غريبًا للغاية مثلَ الذي تلقيته كان له مغزاه؛ وأن الصوت الذي كان ينادي «ترومان، ترومان، ترومان» كان شيئًا يفوق مجردَ كلماتٍ فارغةٍ نابعةٍ من عقلٍ مستثار؛ كان ذلك صوت العدل نفسه، يَلفت الانتباهَ إلى المجرم.»
نظرتُ إليه في تعجُّب. هل كان يدري أن ضباط العدالة كانوا بالفعل قد بدَءوا في تعقب كلافرينج نفسه؟ خمَّنت أنه لم يفعل استنتاجًا من مظهره، ولكنني شعرت برغبةٍ في أن أبذل جهدًا وأرى النتيجة.
قلت: «تتحدث باقتناعٍ غريب؛ ولكن على الأرجح أنت سيكون مصيرك أن يخيب أملُك. فبقدر ما نعرف، السيد كلافرينج رجلٌ محترم.»
رفع قبعته من فوق المنضدة. وقال: «لا أنوي أن أتهمه؛ ولا أنوي حتى أن أنطقَ اسمه مرةً أخرى. لستُ أحمقَ، يا سيد ريموند. لم أتحدث معك بهذه الصراحة إلا لأُوضِّح أكثرَ سرٍّ مؤسف أفشيتُه الليلة الماضية؛ وبينما أثق في أنك ستعتبر ما أخبرتك به سرًّا، أتمنى أيضًا أن تُقدِّر تصرفي، إجمالًا، الذي كان متوقعًا في ظل هذه الظروف.» ثم مدَّ يده نحوي ليُصافحني.
أجبتُه وأنا أصافحه: «بالطبع.» ثم، برغبةٍ مفاجئةٍ في أن أختبرَ مدى صحة قصته، سألتُ إن كان لديه أي وسيلة لإثبات إفادته عن رؤية هذا الحلم في المدة المشار إليها: أي قبل وقوع جريمة القتل وليس بعدها.
«لا، سيدي؛ أعرف أنني رأيته في الليلة السابقة لمقتل السيد ليفنوورث؛ لكن ليس بإمكاني أن أُثبت هذه الحقيقة.»
«ألم تتحدَّث عنه مع أي شخص في صباح اليوم التالي؟»
«لا، يا سيدي؛ لم أكن في حالةٍ تسمح بفعل ذلك.»
«ومع ذلك لا بد أنه أثَّر عليك بشدة، حتى أصبحتَ غيرَ مؤهلٍ لإنجاز عملك …»
فكان رده الحاد: «لا شيءَ يجعلني غير مؤهَّلٍ للعمل.»
أجبتُه، متذكرًا حرصه على المواظبة على العمل في الأيام القليلة الماضية: «أصدقك. لكن لا بد على الأقل أنه بدر منك بعضُ الدلائل التي تعكس أنك أمضيت ليلةً غير مريحة. ألا تتذكر أي شخصٍ تحدث إليك عن مظهرك في صباح اليوم التالي؟»
«ربما يكون السيد ليفنوورث قد فعل ذلك؛ لا أحد سواه كان من المحتمل أن يُلاحظ.» كان ثمة مسحةٌ من الحزن في نبرة صوته، ولانت نبرةُ صوتي وأنا أقول:
«لن أحضر إلى المنزل الليلة، يا سيد هارويل؛ ولا أعرف متى سأعود إلى هناك. تمنعني اعتباراتٌ شخصية من الحضور في وجود الآنسة ماري ليفنوورث لفترةٍ، وأتطلَّع إلى أن تستمرَّ في العمل الذي اضطلعنا به دون مساعدتي، إلا إذا كان بإمكانك أن تُحضره إلى هنا …»
«بإمكاني أن أفعل ذلك.»
«سأنتظرك، إذن، غدًا في المساء.»
«حسنًا، يا سيدي»؛ وبينما كان يهمُّ بالانصراف، بدا أن فكرةً مفاجئة باغتَتْه. فقال: «سيدي، حيث إننا لا نرغب في العودة إلى هذا الموضوع مجددًا، ولأنَّ بداخلي فضولًا طبيعيًّا بخصوص هذا الرجل، هل تُمانع أن تُخبرني بما تعرفه عنه؟ هل تعتقد أنه رجل محترم؛ هل تعرفه، يا سيد ريموند؟»
«أعرف اسمه، ومكان إقامته.»
«وأين يُقيم؟»
«في لندن؛ فهو إنجليزي.»
تمتم، بنبرةٍ غريبة: «حقًّا!»
«لماذا تقول ذلك؟»
عضَّ شفته، ونظر لأسفل، ثم لأعلى، وأخيرًا ثبَّت عينَيه فيَّ، وأجاب، بتشديدٍ واضح: «قلت ذلك من قبيل التعجُّب، يا سيدي، لأنني دَهِشت.»
«دَهِشت؟»
«أجل؛ تقول إنه إنجليزيٌّ. والسيد ليفنوورث لم يكن ينفر من أحدٍ أكثر من الإنجليز. كانت هذه إحدى خصاله المميزة. لم يكن من الممكن أن يُقدِم على التعرف على أحدٍ منهم إن أمكن له ذلك.»
جاء دوري لأن أبدوَ متمعنًا في التفكير.
أردف السكرتير قائلًا: «تعرف أن السيد ليفنوورث كان رجلًا يُبالغ في آرائه المتحاملة على الأشخاص. كان يحمل كرهًا تجاه العِرق الإنجليزي يصل إلى حد الهوس. إذا كان يعلم أن الخطاب الذي أشرتُ إليه كان من رجلٍ إنجليزي، أشك في أنه كان سيقرؤه. كان يقول إنه أهون عليه أن يرى ابنته جثةً هامدةً أمامه عن أن تتزوج من رجل إنجليزي.»
أسرعت بالالتفات جانبًا حتى أُخفي أثر ما قاله عليَّ.
قال: «تظن أنني أبالغ. اسأل السيد فيلي.»
أجبتُه: «لا، ليس لديَّ سببٌ لأظنَّ ذلك.»
أكمل السكرتير حديثه: «بلا شكٍّ كان لديه سببٌ لا نعرفه لكراهيته للإنجليز. لقد أمضى فترةً من شبابه في ليفربول، وبالطبع، توفرت أمامه فرصٌ كثيرة لدراسة سلوكياتهم وطباعهم.» ثم صدر من السكرتير حركةٌ أخرى، وكأنه سينصرف.
لكن جاء دوري الآن لأَستبقيَه. فقلت: «سيد هارويل، لا بد أن تعذرني. كنتَ على صلةٍ وَدُودةٍ بالسيد ليفنوورث مدةً طويلة. هل تظن أنه، في حالة أن إحدى ابنتَي أخوَيه، فرضًا، كانت ترغب في الزواج من سيدٍ نبيلٍ يحمل هذه الجنسية، هل كان تحامله كافيًا لأن يجعله يمنعُ هذه الزيجة منعًا قاطعًا؟»
«أجل، أظن ذلك.»
تراجعت. كنت قد عرَفتُ ما رغبت في معرفته، ولم أرَ مبررًا لإطالة الحديث.