تجميع الحقائق والربط بينها
وهلمَّ الآن فقدِّموا لنا خطبةً نتبين منها براعتكم.
- (١)
أن السيد كلافرينج لم يكن فحسب في هذا البلد أثناء المدة المحددة، بل أقام مدةً وجيزة في منتجعٍ بولاية نيويورك.
- (٢)
أن هذا المنتجع يجب أن يكون هو نفسُه الذي كانت الآنسة إلينور ليفنوورث تُقيم فيه خلال المدةِ نفسِها.
- (٣)
أنه شوهد أثناء وجودهما أنه كان ثَمة تواصلٌ بينهما بشكلٍ أو بآخر.
- (٤)
أن كِلَيهما كان غائبًا عن المدينة، في الوقت نفسِه، مدةً طويلة بما يكفي لإتمام مراسم الزواج عند نقطة تبعد مسافة عشرين ميلًا أو نحو ذلك.
- (٥)
أن قسًّا ميثوديًّا، تُوفِّي بعد ذلك الحين، عاش في تلك المدة على مسافة عشرين ميلًا من ذلك الفندق.
كان السؤال التالي الذي طرحته على نفسي هو: كيف يتسنَّى لي أن أتأكد من هذه الحقائق؟ فلم أعرف عن حياة السيد كلافرينج حتى هذه اللحظة إلا القليلَ الذي قد يُساعدني؛ ولهذا، تركت هذا الأمر جانبًا في الوقت الحالي، وبدأتُ أتتبع خيط الأحداث الماضية لإلينور، فوجدت أن في المدة التي وُضِّحت لي كانت في منتجع «ر…» وهو منتجع عصري في هذه الولاية. والآن، إذا كان ما وضَّحه هارويل حقيقيًّا، وكانت فرضيتي صحيحة، فلا بد أنه كان هناك أيضًا. وحتى أُثبت هذه الحقيقة، أصبحَتْ، بالتبعية، تلك هي مهمتي الأولى. فعزمت على التوجه إلى منتجع «ر…» يوم غدٍ.
لكن قبل الشروع في مهمة بهذا القدر من الأهمية، رأيت أنَّ من المفيد أن أُجريَ مثلَ هذه التحريات وأجمعَ حقائق بقدرِ ما تسمح لي الساعاتُ القليلة المتبقية لي لأعمل فيها. فذهبت أولًا إلى منزل السيد جرايس.
وجدته مستلقيًا على أريكةٍ صلبة، في غرفة الجلوس الخالية من الأثاث التي أشرتُ إليها من قبل، ويُعاني من نوبةٍ حادَّةٍ من الروماتيزم. كانت يداه معصوبتَين بضمادات، وكانت قدماه مغطَّاتَين بعدة لفاتٍ من وشاحٍ أحمر رثٍّ بدا من مظهره كأنه كان يُخاضُ به حروب. حيَّاني بإيماءةٍ قصيرةٍ كانَتْ تحمل ترحيبًا واعتذارًا، وبكلماتٍ قليلةٍ فسَّر وَضْعه غير المعتاد؛ وبعد ذلك، ومن دون أي تمهيداتٍ أخرى، أسرع في الدخول إلى الموضوع الذي كان أكثر ما يَشغل ذِهنَينا سائلًا، بأسلوبٍ ساخرٍ قليلًا، إن كنتُ تفاجأت كثيرًا بمعرفة أن عصفوري قد طار عندما رجعت إلى فندق هوفمان في عصر ذلك اليوم.
فأجبته: «أذهلني أنك سمحت له بالهروب. من منطلق الأسلوب الذي طلبتَ به مني أن أتعرف عليه، ظننتُك تعدُّه شخصيةً مهمةً في الفاجعة التي وقعت.»
«وما الذي يحملك على أن تظن أنني لا أعدُّه كذلك؟ آه، لأنني سمحتُ له بالفرار بهذه السهولة؟ هذا ليس إثباتًا. أنا لا أعبث بالمكابح مطلقًا حتى تبدأ العربة في الانحدار إلى أسفل التل. لكن دعنا نتجاوز هذا الأمر الآن؛ ألم يوضِّح السيد كلافرينج الأمورَ، حينها، قبل أن يرحل؟»
«ذلك سؤالٌ أرى أنه من الصعب للغاية الإجابةُ عنه. ولأن الظروف تُقيدني، يصعب عليَّ الآن أن أتحدث بالصراحة التي هي حقك عليَّ، لكن ما يمكنني أن أبوح به، سأقوله. لعلمك، إذن، أن السيد كلافرينج في رأيي قد أوضح أمورًا في مقابلةٍ جرَتْ معي صباح هذا اليوم. لكنه فعل هذا بطريقةٍ مستترةٍ جدًّا، وسيكون من الضروري أن أُجريَ تحرياتٍ قليلةً قبل أن أشعر بالثقة الكافية فيما أستندُ إليه حتى أُطلعك على ما في جعبتي من معلومات. لقد منحني طرفَ خيطٍ محتملًا …»
قال السيد جرايس: «مهلًا؛ أهو يدرك هذا؟ هل فعل هذا بقصدٍ وبدافعٍ خبيث، أم دون وعيٍ منه وبنيَّةٍ حسنةٍ تمامًا؟»
«بنيَّةٍ حسنة، حسب ظني.»
ظل السيد جرايس صامتًا لبرهةٍ. ثم قال أخيرًا: «من المؤسف للغاية أنك لا تستطيع أن تُوضِّح بطريقةٍ أكثرَ تحديدًا. أشد ما أخشى أن أتَّكِل عليك في إجراء التحريات، كما تُسميها، بنفسك. أنت لم تعتدْ على هذا العمل، وستضيع وقتًا، فضلًا عن الانجرار وراء طرقٍ غير سديدة، مستنفدًا بذلك قوَّتَك على تفاصيل لا يُرجى منها نفع.»
«كان عليك أن تفكِّر في ذلك عندما قبلت بي لأُصبح شريكًا لك.»
«أتُصر إصرارًا تامًّا على أن تعمل في مهمة البحث هذه بمفردك؟»
«سيد جرايس، المسألة هي ما يلي. السيد كلافرينج، رغم كل ما أعرفه، رجلٌ محترمٌ يتمتَّع بسمعةٍ لا تشوبها شائبة. أنا حتى لا أدري لأي غرضٍ جعلتَني أتتبَّع أثره. كل ما أعرفه أنه بتتبُّع هذا الطريق توصلتُ إلى حقائق معينةٍ يبدو أنها تستحق التوسُّع في التحري عنها.»
«حسنًا، حسنًا؛ أنت أدرى. لكن الأيام تمر سريعًا. لا بد من إنجاز شيء، وفي أسرع وقت. الناس ضجُّوا من الحديث.»
«أعرف ذلك، ولهذا السبب جئت إليك طلبًا لمساعدةٍ بوسعك أن تمنحَني إياها في هذه المرحلة من سير المهمة. لديك بعض الحقائق بخصوص هذا الرجل التي يُهمني أن أعرفها، وإلا فإن توجهك تجاه هذا الرجل كان عشوائيًّا. والآن بصراحة، هلَّا أطلعتَني على تلك الحقائق: خلاصة القول، هلَّا أخبرتني بكل ما تعرفه عن السيد كلافرينج، من دون أن تطلب أن أُطلعك على ما لديَّ من أسرارٍ في الحال؟»
«هذا بمثابة طلب معروف جلَلٍ من محقق محترف.»
«أعي ذلك؛ وتحت ظروفٍ أخرى كنت سأتردَّد طويلًا قبل أن أتقدمَ بمثل هذا الطلب؛ لكن بالوضع الذي عليه الأمور، لا أعرف كيف لي أن أمضيَ في الأمر من دون امتيازٍ كهذا من جانبك. وفي جميع الأحوال …»
«انتظر لحظة! أليس السيد كلافرينج عشيقًا لإحدى السيدتَينِ الشابَّتَينِ؟»
مع حرصي على أن أتكتم على السر الذي يُثير اهتمامي بشأن ذلك الرجل، لم أستطع أن أمنع تفشيًا لاحمرارٍ على وجهي من أثر المفاجأة التي أَحْدَثها هذا السؤال.
أكمل حديثه: «هذا ما ظننته. لأنه لم يكن واحدًا من الأقارب أو صديقًا معروفًا، اعتبرت أنه من المفروغ منه أنه حتمًا يَشغَل مكانةً مثل تلك في العائلة.»
قلتُ، حريصًا على أن أحدِّد مقدارَ ما يعرف من معلوماتٍ عنه: «لا أرى سببًا يدعوك إلى أن تتوصَّل لمثلِ هذا الاستنتاج. فالسيد كلافرينج غريبٌ في المدينة؛ ولم يُقِم في هذا البلد مدةً طويلة؛ ولم يكن لديه بالتأكيد وقتٌ لتكوين أي علاقةٍ من قبيل ما تشير إليه.»
«هذه ليست المرة الأولى التي يأتي فيها السيد كلافرينج إلى نيويورك. كان هنا منذ عامٍ على حد معلوماتي.»
«أتعرف ذلك؟»
«أجل.»
«ما قدرُ ما تعرفه من معلوماتٍ أخرى عنه؟ هل من المحتمل أنني أتلمَّس بطريقةٍ عشوائيةٍ بحثًا عن الحقائق التي في جعبتك بالفعل؟ أرجوك أن تستجيبَ لالتماسي، يا سيد جرايس، وتُطلعني في الحال على ما أريد أن أعرفه. لن تندم على ذلك. لا أحمل في نفسي أي دافعٍ شخصيٍّ في هذه القضية. إذا نجحتُ، فالنصر كله سيكون لك؛ وإن فشلت، فعار الهزيمة سيكون لي وحدي.»
تمتم: «هذا منصف. وماذا عن المكافأة؟»
«مكافأتي ستكون أن أُحرر هذه السيدة البريئة من عار الجريمة الذي يتربَّص بها.»
بدا أن هذا التعهُّد أرضاه. فتبدَّلَت نبرةُ صوته وهيئته؛ ولوهلةٍ بدا هادئًا تمامًا. فقال: «حسنًا، حسنًا، وما الذي تريد أن تعرفه؟»
«أود أولًا أن أعرف كيف توصَّلت إلى الاشتباه فيه أصلًا. ما السبب الذي حملك على أن تظنَّ أن رجلًا محترمًا بمكانته ومنزلته له علاقةٌ بأي شكلٍ من الأشكال بهذه القضية؟»
أجاب: «ذلك سؤال كان يجب ألَّا تُضطرَّ إلى طَرْحه.»
«وكيف ذلك؟»
«ببساطة لأن فرصة الإجابة عنه كانَتْ بين يدَيك قبل أن تُصبح بين يدَيَّ.»
«ماذا تقصد؟»
«ألَا تتذكَّر الخطابَ الذي أرسلَتْه الآنسة ماري ليفنوورث في حضورك أثناء اصطحابك لها من منزلها إلى منزل صديقتها في شارع ثيرتي سيفنث؟»
«عصر يوم التحقيق؟»
«أجل.»
«بالطبع، ولكن …»
«لم يخطر ببالك مطلقًا أن تُلقيَ نظرةً على العنوان المكتوب خارجه قبل أن تضعَه في صندوق البريد.»
«لم تسنح لي الفرصةُ ولم يكن يحقُّ لي أن أفعل ذلك.»
«ألم يُكتب في حضورك؟»
«بلى.»
«ولم تنظر للأمر مطلقًا على أنه يستحق انتباهَك؟»
«أيًّا كانَت الطريقة التي نظرت بها إلى الأمر، لم أعرف كيف لي أن أمنعَ الآنسة ليفنوورث من وَضْع خطابٍ في صندوقٍ إنِ اختارَت أن تفعل ذلك.»
تمتم باندهاش: «ذلك لأنك سيدٌ نبيل. حسنًا، هذا أمرٌ له مَساويه.»
قلت: «لكن، كيف لك أن تعرفَ أي شيءٍ عن هذا الخطاب؟ آه، فهمت»، متذكِّرًا أن العربة التي كنَّا نستقلُّها حينها كان هو مَن أحضرها إلينا. «الرجل عند صندوق البريد كان يعمل لحسابك، وأبلغك بالأمر، كما تطلق عليه.»
غمز السيد جرايس لأصابع قدميه المعصوبة بطريقةٍ غامضةٍ. ثم قال: «ذلك ليس بيتَ القصيد. يكفي أنني سمعتُ أن خطابًا، ربما تتبيَّن منطقيًّا أهميتُه لي، قد أُلقي في مثل هذه الساعة داخلَ صندوق البريد عند ناصية شارعٍ بعينه. ولذلك، توافقًا مع رأي المخبر التابع لي، بعثت برقيةً إلى المركز التابع له هذا الصندوق لأدوِّن عنوان الخطاب المشتبه في أمره الذي كان على وشك أن يخرجَ من بين أيديهم في طريقِه إلى مكتب البريد العمومي، ومتابعًا البرقيةَ شخصيًّا، وجدتُ أن رسالةً غامضة مكتوبة بقلم رصاص وعليها طابع بريدي، كانت قد وصلت للتو، وسُمِح لي أن أطَّلِع على العنوان …»
«وماذا كان؟»
«هنري آر كلافرينج، فندق هوفمان، نيويورك.»
أخذتُ نفسًا عميقًا. وقلت: «وبهذه الطريقة لفت هذا الرجل انتباهك لأول مرة؟»
«أجل.»
«غريب. لكن أكمل، ماذا بعد؟»
«عجبًا، بعد ذلك تتبعتُ طرف الخيط، فذهبتُ إلى فندق هوفمان وأجريت تحرياتٍ. علمت أن السيد كلافرينج كان نزيلًا معتادًا في الفندق. وأنه كان قد أتى إلى هناك، مباشرة من باخرة ليفربول، منذ قرابة ثلاثة أشهر، ومسجلًا اسمه السيد الموقَّر هنري آر كلافرينج، لندن، كان يُقيم في غرفةٍ من الدرجة الأولى وظل نزيلًا فيها منذ ذلك الحين. وأنه، على الرغم من عدم معرفة معلوماتٍ مؤكدة بخصوصه، كان يُرى مع مختلف الشخصيات المرموقة، من بلده ومن بلدنا، وكان يُعامَل من قِبَلِهم جميعًا بتقديرٍ واحترام. وأخيرًا، أنه على الرغم من أنه غيرُ مِعطاءٍ، قد أظهر أدلةً كثيرة تدل على أنه رجلٌ موسر. وبعد أن علمت هذا القدر، دخلت المكتب، وانتظرت مجيئه، آملًا أن تسنح لي فرصة ملاحظة تصرفه عندما يُسلمه الموظف تلك الرسالة الغريبةَ الشكل المرسَلة من ماري ليفنوورث.»
«وهل وُفِّقت في ذلك؟»
«لا؛ حال بيننا رجلٌ غريب أبلهُ في تلك اللحظة الحرجة تحديدًا، وحجب الرؤيةَ عني. لكنني سمعت ما يكفي ذلك المساء من الموظف والخدم، عن الاضطراب الذي بدا عليه عند تسلُّم الرسالة؛ لأن يُقنعني بأنني أقتفي أثرًا جديرًا باقتفائه. بناءً على ذلك كلَّفت رجالي بمراقبته، ولمدة يومَين كان السيد كلافرينج تحت أقصى رقابةٍ مشددةٍ قد يتحرك رجلٌ تحتها. لكن هذا لم يُجدِ نفعًا؛ إذ إن اهتمامه بجريمة القتل، إن وُجد من الأساس، كان اهتمامًا خفيًّا؛ ورغم سيرِه في الشوارع، ومطالعتِه للصحف، وتردُّدِه ناحية المنزل في شارع فيفث أفنيو، لم يكتفِ بأن يمتنعَ في الواقع عن الاقتراب منه، بل لم يُجر أي محاولةٍ للتواصل مع أيٍّ من أفراد العائلة. في أثناء ذلك، ظهرت أنت أمامي، وإصرارك حفَّزني على المحاولة من جديد. من منطلق اقتناعي بموقف السيد كلافرينج، ومن القيل والقال الذي توارد إليَّ عندما كنت أجمع معلومات بخصوصه، وأنْ لا أحد باستثناء سيدٍ محترم أو صديق يمكن أن ينجح في معرفة صلته بهذه العائلة، أوكلتُ أمره إليك، و…»
«وجدتَني زميلًا صعب المراس.»
ابتسم السيد جرايس ابتسامة عريضة وكأن ثمرةَ برقوق لاذعة قد وُضِعَت في فمه، لكنه لم يُجِب؛ وتلا ذلك صمتٌ مؤقَّت.
سألته أخيرًا: «هل فكرت في أن تسأل إن كان أي أحد على علمٍ بالمكان الذي قضى فيه السيد كلافرينج ليلة واقعة القتل؟»
«أجل، لكن لم أتحصَّل على أي نتيجةٍ مفيدة. لكن كان ثَمة إجماعٌ على أنه كان بالخارج أثناء تلك الليلة؛ وكذلك أنه كان في فراشه في الصباح عندما دخل الخادم ليُشعل له نار المدفأة؛ لكن لم يبدُ أن أحدًا كان على اطلاعٍ على أكثر من ذلك.»
«وهكذا، في حقيقة الأمر، لم يتضح لك أي شيء قد يربط هذا الرجلَ بشكلٍ أو بآخر بالجريمة عدا اهتمامه الواضح والمحيِّر بها، وكذلك حقيقة أن ابنة أخي القتيل كانت قد كتبت إليه خطابًا، أليس كذلك؟»
«هذا كل شيء.»
«سؤالٌ آخر؛ هل نما إلى علمك الطريقة التي أحضر بها الجريدة في ذلك المساء وتوقيت ذلك؟»
«لا، لم أعلم سوى أنه شوهد، من أكثرَ من شخص، يُسرع إلى خارج غرفة الطعام حاملًا صحيفة «ذا بوست» في يده، وعلى الفور توجَّه إلى غرفته دون أن يَمَس عشاءه.»
«همم! ذلك لا يبدو …»
«إن كان السيد كلافرينج على علمٍ آثم بالجريمة، كان سيطلب العَشاء قبل أن يفتح الجريدة، أو، بعدما طلبه، كان سيتناوله.»
«ومن ثَمَّ أنت لا تعتقد، من منطلق ما علمته، أن السيد كلافرينج هو الجاني؟»
تزحزح السيد جرايس بصعوبة، ورمق الأوراق البارزة من جيب مِعطفي وصاح: «أنا مستعد لأن تُقنعني أنه كذلك.»
تلك الجملة ذكرتني بالمهمة قيد التحضير. ومن دون أن يبدوَ أنني لاحظتُ نظرته، رجعت إلى أسئلتي.
«كيف نما إلى علمك أن السيد كلافرينج كان في هذه المدينة الصيفَ الماضي؟ هل علمت ذلك، أيضًا، في فندق هوفمان؟»
«لا؛ تأكدت من ذلك بطريقة أخرى تمامًا. باختصار، تلقَّيت إشعارًا من لندن بخصوص هذا الأمر.»
«من لندن؟»
«أجل؛ لديَّ صديق هناك يعمل في نفس مجالي، ويساعدني أحيانًا ببعض المعلومات، عند طلبها.»
«لكن كيف؟ لم يكن لديك وقت لتكتب إلى لندن، وتتسلَّم ردًّا منذ وقوع الجريمة.»
«ليس من الضروري أن أكتب رسالةً. يكفي أن أرسل إليه برقيةً باسم شخص، ليفهم أني أريد معرفة كل شيءٍ يمكن أن يجمعه عن ذلك الشخص في مدةٍ زمنية معقولة.»
«وأرسلت إليه اسم السيد كلافرينج؟»
«أجل، مشفرًا.»
«وتلقيتَ ردًّا منه؟»
«صباح اليوم.»
نظرتُ نحو مكتبه.
فقال: «ليس هنا؛ إذا تكرمت وتحسست جيبي الأمامي، فستجد خطابًا …»
كان في يدي قبل أن يكمل جملته. فقلت: «اعذرني على حماسي. فهذا النوع من المهام جديدٌ عليَّ، كما تعرف.»
ابتسم بتساهلٍ إلى صورة قديمة جدًّا وباهتة كانت معلَّقةً على الحائط أمامه. وقال: «الحماس ليس رذيلة؛ وإنما إظهاره. لكن اقرأ بصوتٍ عالٍ المكتوبَ لديك في الورقة. دعنا نسمعْ ما يُخبرنا به صديقي براون عن السيد هنري ريتشي كلافرينج، من بورتلاند بليس، لندن.»
أخذتُ الورقة ناحية الضوء وقرأت ما يلي:
هنري ريتشي كلافرينج، سيد نبيل، يبلغ من العمر ٤٣ عامًا. وُلِد في …، هيرتفوردشير، إنجلترا. والده تشارلز كلافرينج، عمل مدةً قصيرة في الجيش. والدته هيلين ريتشي، من دامفريشير، اسكتلندا؛ ولا تزال على قيد الحياة. وتسكن مع هنري، في بورتلاند بليس، لندن. هنري أعزب، طوله ٦ أقدام، ذو بِنْية مربعة، وزنه حوالي ١٢ ستونًا. له بشَرةٌ داكنة، وملامح عادية. لون عينَيه بنيٌّ داكن؛ وأنفه مستقيم. يُعتبَر رجلًا وسيمًا؛ يسير معتدلًا وبخُطًى سريعة. في المجتمع يُعتبَر شخصًا صالحًا؛ وبالأحرى محبوبًا، لا سيما مع السيدات. مِعطاء، غير مبذر؛ ورد أن دخله ٥٠٠٠ جنيهٍ في السنة، ومظهره خير دليلٍ على هذه الإفادة. ممتلكاته تتألَّف من ضَيعةٍ صغيرة في هيرتفوردشير، وبعض الأموال السائلة، التي غير معلوم قيمتها. بعد كتابة هذا القدر، بعث مندوب ما يلي عن تاريخه. في عام ١٨٤٦ انتقل من منزل عمه إلى إيتون. ثم من إيتون إلى أكسفورد، وتخرج عام ١٨٥٦. تحصيله الدراسي جيد. في عام ١٨٥٥ تُوفِّيَ عمه، وآلت ممتلكاتُه إلى والده. تُوفِّي الوالد في عام ١٨٥٧ إثر سقوطه من فوق حصانه أو في حادثٍ مشابه. في غضون مدةٍ قصيرة جدًّا أخذ هنري والدتَه إلى لندن، إلى مقرِّ الإقامة المشار إليه، حيث عاشا فيه حتى الوقت الحاضر.
سافر كثيرًا في عام ١٨٦٠؛ بعض الوقت كان مع … من ميونخ؛ وأيضًا برفقة عائلة فاندرفورت من نيويورك؛ ومضى شرقًا إلى القاهرة. ذهب إلى أمريكا بمفرده عام ١٨٧٥، لكن بعد مُضي ثلاثة شهور عاد بسبب مرض والدته. لا يُعرف شيءٌ عن تحرُّكاته أثناء وجوده في أمريكا.
علمتُ من الخدم أنه كان محبوبًا دومًا منذ كان صبيًّا. ومؤخرًا صار قليلَ الكلام إلى حدٍّ ما. قُرب نهاية إقامته كان يترقب المراسلات البريدية في حرصٍ، على الأخص القادمة من الخارج. نادرًا ما كان يتلقى أي شيء عدا الصحف. كتب رسائل موجهة إلى ميونخ. لوحظ، من سلَّة نُفايات الورق، ظرفٌ ممزق موجَّه إلى إيمي بيلدن، بدون عنوان. مراسلات أمريكية أغلبها إلى بوسطن؛ واثنتان في نيويورك. الأسماء غير معروفة، لكن يُفترض أن أغلبها إلى مصرفيِّين. جلب إلى المنزل حقائب ضخمة، وجهَّز قسمًا من المنزل، لاستقبال سيدة. أغلق هذا القِسم بعدها بمدةٍ قصيرة. غادر إلى أمريكا منذ شهرين. كان، حسَب فهمي، مسافرًا إلى الجنوب. أرسل برقيَّتَين إلى بورتلاند بليس. لا يتلقَّى أصدقاؤه أخبارًا منه إلا فيما ندر. الخطابات المستلمة مؤخرًا، كانت مرسَلَة من نيويورك. أحدها من الباخرة الأخيرة في «ﻓ…»، … نيويورك.
أعماله هنا يتولاها …. في البلد، … من … هو المسئول عن ممتلكاته.
سقطَت الوثيقة من بين يَدَيَّ.
«ﻓ…»، نيويورك، هي بلدة صغيرة بالقرب من منتجع «ر…»
أفصحتُ قائلًا: «صديقك ورقة رابحة. أخبرني بما أردت معرفته أكثرَ من أي شيءٍ آخر.» ومخرجًا مفكرتي، دوَّنت مذكرات بأكثرِ الحقائق التي أذهلتني أثناء قراءة المراسلة الماثلة أمامي. وأردفتُ: «بمساعدة ما أخبرَني به، سأتوصل إلى لغز هنري كلافرينج خلال أسبوع؛ ولتكن شاهدًا إن لم أفعل ذلك.»
سأل السيد جرايس: «ومتى أتوقع أن يُسمح لي بالمشاركة في هذه اللعبة؟»
«بمجرد أن أتأكد بدرجة مقبولة من أنني على المسار الصحيح.»
«وكم ستستغرق حتى تتأكد من ذلك؟»
«ليس كثيرًا؛ ما إن تُحسَم نقطة معينة، ثم …»
قال: «مهلًا؛ من يدري ما بوسعي أن أفعل من أجلك في ذلك الشأن؟» ثم، نظر السيد جرايس ناحية المكتب الذي كان في الزاوية، وطلب مني أن أفتح الدرج العلوي وأُحضر له ما سأجده هناك من قصاصات ورق محترقة جزئيًّا.
أذعنتُ لطلبه مسرعًا، وأحضرتُ ثلاث أو أربع قصاصات من ورقٍ ممزقٍ، ووضعتها على المنضدة بجانبه.
أوضح السيد جرايس فجأةً: «نتيجة أخرى أثمرَت عنها عمليات البحث تحت الفحم التي أجراها فابز في اليوم الأول من التحقيق.» وأردف: «أظننت أن المفتاح هو كل ما عثر عليه؟ حسنًا، لم يكن المفتاح وحده. بعد أن قلَّب الفحم للمرة الثانية أخرجَ هذه القصاصات، وهي تبدو مثيرةً للاهتمام، أيضًا.»
على الفور انحنيتُ بتلهُّفٍ شديدٍ على قصاصات الورق الممزَّق الذي تغيَّر لونه. كان عددها أربع قصاصات، وبدا لأول وهلةٍ أنها مجرد بقايا صفحةٍ من ورقة كتابةٍ عادية، مُزقت بالطول إلى شرائح، وبُرِمَت ليُلقى بها في النار؛ لكن، عندما تفحصتها عن كثب، ظهر عليها آثارُ كتابةٍ على جانبٍ واحد، ولكن كان الأهمُّ من ذلك وجودَ نقطة دمٍ واحدة أو أكثر. هذا الاكتشاف الأخير كان مرعبًا لي، وسيطر عليَّ للغاية لوهلة أن أترك تلك القصاصات، وملتفتًا ناحيةَ السيد جرايس، سألته:
«ما الذي تستنتجه منها؟»
«ذلك تحديدًا هو السؤال الذي كنت سأوجهه لك.»
كاظمًا تأفُّفي، أمسكتها مرةً أخرى. وقلت: «تبدو مثل بقايا خطابٍ قديم.»
وافق السيد جرايس متجهمًا: «تبدو كذلك.»
«خطاب، يتبيَّن من نقطة الدمِ الواضحة على الجانب المكتوب فيه، أنه لا بد أنه كان موضوعًا على منضدة السيد ليفنوورث وقتَ وقوع جريمة القتل …»
«بالضبط.»
«ويتَّضح من عدم اتساق عرض كلِّ قطعة من هذا الورق، وكذلك ميلها إلى الالتواء لأعلى عند تركها، أنه لا بد أنها مُزِّقت أولًا إلى شرائحَ متساوية، ثم طُويَت عدة مرات، قبل أن تُلقى في موقد المدفأة حيث عُثر عليها فيما بعد.»
قال السيد جرايس: «كل ذلك جيد؛ أكمل.»
«الخط، الذي يمكن تبيُّنه إلى حدٍّ كبير، هو خط رجل مثقف. إنه ليس خطَّ السيد ليفنوورث؛ فقد اطلعت على خطِّه كثيرًا في الآونة الأخيرة ولكن ليس بما يكفي لأن أتعرفَ عليه بنظرةٍ واحدة؛ لكن ربما يكون … انتظر!» صحت فجأةً قائلًا: «ألديك أيُّ صمغٍ هنا؟ أظن، إن تمكنت من لصق هذه الشرائح على قطعة ورق، بحيث تظل مستوية، سيكون في مقدوري أن أُخبرك برأيي فيها بسهولةٍ أكبر كثيرًا.»
أشار السيد جرايس: «يوجد صمغ على المكتب.»
بعدما أحضرته، بدأت أنظر بتمعُّن إلى القصاصات مرةً أخرى بحثًا عن دليلٍ يُرشدني إلى ترتيبها. فكانت تلك القصاصات أوضحَ مما توقعت؛ فالشريحة الأطول والأكثر احتفاظًا بحالتها، والمكتوب أعلاها «السيد هور …»، كانت تدلُّ من الوهلة الأولى على أنها على الهامش الأيسر من الخطاب، بينما الحافة التالية من حيث الطولُ المقطوعةُ بالماكينة كانت تعرض رموزًا تدل قطْعًا على أنها الهامش الأيمن من الخطاب نفسه. بعدما انتقيتُ هاتَين الشريحتَين، لصقتهما على قطعة ورق مُراعيًا المسافةَ نفسَها التي قد تشغلها إذا كانت الورقة التي مزقت منها بحجم المفكرة العادية المتداولة تِجاريًّا. في الحال بدا واضحًا أن أولًا، ثَمة حاجة إلى شريحتَين أُخريَين بالعرض نفسِه لشغلِ المساحة الفارغة بينهما؛ وثانيًا، أن الكتابة لم تنتهِ عند آخر الصفحة، وإنما أُكملت في صفحةٍ أخرى.
بعدما أخذتُ الشريحة الثالثة، نظرت إلى حافتها؛ كانت مقطوعةً بالماكينة من الأعلى، واتضح من ترتيب كلماتها أنها كانت شريحة هامش الورقة الثانية. لصقتها على حدة، ثم تفحَّصتُ الرابعة، فوجدت أنها مقطوعةٌ أيضًا بالماكينة من الأعلى ولكن ليس من الجانب، وحاولتُ جاهدًا مواءمتَها مع القطعة التي أُلصقت بالفعل، لكن الكلمات لم تبدُ متوافقة. فحرَّكتها إلى الموضع الذي قد تشغله إن كانت هي الشريحة الثالثة، وثبتُّها؛ فظهرت الورقة مكتملة، بعد الانتهاء من لصق الشريحة الأخيرة.
صاح السيد جرايس قائلًا: «أحسنت! هذا هو العمل كما ينبغي.» ثم، وأنا أحمل الورقة لأعلى أمام عينَيه، قال: «ولكن لا تُريني إياها. ادرسها بنفسك، ثم أخبرني بما تظنُّ بشأنها.»
قلت: «حسنًا، الأمر المؤكَّد حتى الآن هو أن هذا الخطاب موجَّهٌ إلى السيد ليفنوورث من فندقٍ ما، ومؤرَّخ … دعنا نرَ؛ هذا حرف «س»، أليس كذلك؟» وأشرت إلى الحرف الوحيد الذي يُمكن تبيُّنُه على السطر الذي يلي كلمة فندق.
«أظن ذلك؛ لكن لا تسألني.»
«لا بد أنه «س». العام هو ١٨٧٥، وهذا الحرف ليس نهايةَ كلمتَي يناير أو فبراير. فهو مؤرخ، إذن، في الأول من مارس، ١٨٧٦، وموقع …»
أخذ السيد جرايس يُقلب عينَيه في نشوةٍ استباقيَّةٍ ناحية السقف.
أعلنتُ دون تردُّد: «من هنري كلافرينج.»
عادت عينا السيد جرايس إلى أطراف أصابعه المعصوبة. وقال: «همم! كيف عرَفتَ ذلك؟»
«انتظر لحظةً، وسأُريك»؛ وأخرجت من جيبي البطاقة التي أعطاني إياها السيد كلافرينج ليُقدم نفسه في مقابلتنا الأخيرة، ووضعتها أسفل السطر الأخير للكتابة في الصفحة الثانية. نظرة واحدة كانت كافية. هنري ريتشي كلافرينج على البطاقة؛ ﻫ… تشي … بنفس خط اليد الموجود في الخطاب.
قال: «هو كلافرينج.» لكني لاحظت أنه غير متفاجئ.
واصلت: «والآن، لنتبيَّن فحواه والمغزى العامَّ منه.» ثم، بدأت من بداية الخطاب، وقرأت الكلمات كما كانت بصوتٍ عالٍ، متخللًا إياها بلحظات توقُّف عند الكلمات المتقطِّعة، فكانت شيئًا كالآتي: «السيد هور… المحترم … ابنة أخٍ … وتب… أيضًا الحب والثق… أي رجل آخر؛ فوجهها … حديثها … الجما… والجاذبية والرق… لكل وردةٍ …ها…و…رد … ليست استثناءً … ما هي عليه من جمال … رقة، ﻫ … ادرة … أن تط… من أودع … قلب … تد… الولاء …
إن … تصدقني … وجه … القاسي من هو خاد… وخادمك …مطي…
ﻫ…تشي …»
قلت: «تبدو وكأنها شكوى من واحدةٍ من ابنتَي شقيقَي السيد ليفنوورث»، وارتجفت من وقع كلماتي.
صاح السيد جرايس: «ماذا؟ ما الأمر؟»
قلت: «عجبًا، الحقيقة أنني سمعت كلامًا عن هذا الخطاب تحديدًا. إنه شكوى من واحدةٍ من ابنتَي شقيقَيِ السيد ليفنوورث، وكتبه كلافرينج.» ثم أخبرته عن تواصلي مع السيد هارويل بشأن هذا الأمر.
«آه! إذن فالسيد هارويل كان يتحدَّث، صحيح؟ أظن أنه قد أدلى تحت القسَم بأخبار كاذبة.»
أجبت: «كنتُ أنا والسيد هارويل نتقابل يوميًّا تقريبًا على مدار الأسبوعَين الماضيَين. وكان سيبدو من الغريب إن لم يكن لديه أي شيءٍ ليُخبرني به.»
«ويقول إنه قرأ خطابًا موجهًا إلى السيد ليفنوورث من كلافرينج؟»
«أجل؛ لكن غاب عن ذهنه حاليًّا فحوى الخطاب تحديدًا.»
«هذه الكلمات هنا قد تساعده في تذكر البقية.»
«أُفضل ألا أُفصح له عن علمي بوجود هذا الدليل. لا أعتقد أنه ينبغي أن نأتمنَ أيَّ شخص، ممن يمكن أن نقصيهم عمدًا، على سر.»
رد السيد جرايس بنبرة جافة: «أرى أنك لا تفعل.»
دون أن يبدوَ أنني انتبهت إلى السخرية التي حملَتها هذه الكلمات، أمسكت بالخطاب مرة أخرى، وبدأت أشير إلى أنصاف الكلمات في الخطاب التي ظننت أنه يمكننا أن نُقْدِم على إكمالها، مثل هور… تب… الجم… الرق … تط… …ادرة، خاد…
بعد أن انتهيتُ من هذا، اقترحت بعد ذلك إدخال كلماتٍ أخرى بدَت ضروريةً لاكتمال السياق، مثل «ليفنوورث» بعد كلمة «هوراشيو»؛ «السيد» قبل كلمة «المحترم»؛ «لديك» قبل كلمتي «ابنة أخٍ»؛ كلمة «شوكة» قبل الضمير «ها» في عبارة «كل وردة لها»؛ «على» بعد الفعل «تطأ»؛ «ين» بعد «تد»؛ «لم» بعد «إن»؛ «اسأل» بعد «تصدقني»؛ «الجميل» قبل «القاسي».
بين أعمدة الكلمات المكتملة أدخلتُ عبارةً أو عبارتين، هنا وهناك، فأصبح محتوى الخطاب عند اكتماله كالآتي:
«فندق …» الأول من مارس، ١٨٧٦.
السيد هوراشيو ليفنوورث؛ السيد
المحترم:
لديك ابنةُ أخٍ تحبها وتثق فيها، وتبدو أيضًا جديرة بالحب والثقة … أي رجلٍ آخر؛ فوجهُها وحديثها آيةٌ في الجمال، والجاذبية، والرقة. لكن … لكل وردةٍ شوكتها، و(هذه) الوردة ليست استثناءً … فمع ما هي عليه من جمال، … ورقة، هي قادرة ليس فقط على أن تطأ على من أودعَ ثقته قلب … تدين له بالولاء …
إن كنتَ لا تُصدقني، فاسأل وجهها الجميل القاسيَ من هو خادمها وخادمك المطيع.
قال السيد جرايس: «أظن أن هذا يفي بالغرض. فمغزاه العامُّ واضح، وذلك كل ما نحتاج إليه في هذا الوقت.»
علَّقت قائلًا: «إن لهجة الخطاب بأكمله تحتمل أي شيء غيرَ أن يكون إطراءً للفتاة التي أشار إليها. فلا بد أنه كان لديه، أو تخيل أنه كان لديه، ضيم بعث في نفسه يأسًا، حتى يستفزَّه لاستخدام لهجةٍ بهذا الوضوح بشأن امرأةٍ لا يزال بإمكانه أن يصفها بأوصافٍ مثل رقيقة، وجذابة، وجميلة.»
«الضيم قد يكون السرَّ الكامنَ وراء ارتكاب جرائمَ غامضة.»
قلت: «أظن أنني أعرف هذا السر؛ ولكن» ووجدتُه ينظر لأعلى «لا بد أن أرفض إخبارَك بشكوكي في الوقت الحالي. فرضيتي لا تزال ثابتة، وبدرجةٍ ما مؤكَّدة؛ وذلك كل ما يمكنني قوله.»
«إذن هذا الخطاب لا يمنحك حلقة الوصل التي أردتها؟»
«لا؛ إنه دليلٌ مفيد؛ لكنه ليس حلقة الوصل التي أبحث عنها الآن.»
«ومع ذلك لا بد أنه طرفُ خيطٍ مهم، وإلا فما كانت إلينور ليفنوورث لتكلِّفَ نفسها هذا العناء؛ أولًا بأن تأخذه بالطريقة التي أخذَته بها من منضدة عمها، وثانيًا …»
«مهلًا! ما الذي يحملك على أن تظن أن هذه هي الورقة التي أخذَتْها، أو التي اعتُقِد أنها أخذتها، من منضدة السيد ليفنوورث في ذلك الصباح المشئوم؟»
«عجيب! لأنها عُثِر عليها مع المفتاح، الذي نعرف أنها ألقَتْه في موقد المدفأة، ولوجود قطرات دماء عليها.»
هززتُ رأسي تعبيرًا عن رفضي.
سأل السيد جرايس: «لمَ تهز رأسك؟»
«لأنني غير مقتنعٍ بالسبب الذي تسوقه للاعتقاد بأن هذه هي الورقة التي أخذتها من منضدة السيد ليفنوورث.»
«ولماذا؟»
«حسنًا، أولًا، لأن فابز لم يقُل إنه رأى أيَّ ورقةٍ في يدها، عندما مالت على المدفأة؛ مما يدفعُنا إلى استنتاج أنَّ قطع الورق هذه كانت في سَطْل الفحم الذي ألقته في المدفأة؛ وهو بالتأكيد لا بد أن تُقرَّ بأنه مكان غريب حتى تضع فيه ورقةً كلَّفَت نفسها عناءَ أن تستحوذ عليها؛ وثانيًا، لأن هذه القصاصات كانت ملتوية وكأنها كانت تُستخدم كورق لتجعيد الشعر، أو شيء من هذا القبيل؛ وهي حقيقة من الصعب أن يُفسرها افتراضك.»
اختلسَت عينُ المحقق نظرةً ناحية رابطة عنقي، التي كانت أقربَ نقطة اقترب فيها نظره على الإطلاق من أي وجه. قال: «أنت ذكي؛ ذكي جدًّا. أنا معجب بك جدًّا، يا سيد ريموند.»
فوجئتُ قليلًا، ولم يُسعدني بتاتًا هذا الإطراء غيرُ المتوقَّع، ونظرت إليه في ريبةٍ لبرهة ثم سألته:
«ما رأيك في الأمر؟»
«حسنًا، كما تعرف لا رأي لديَّ. تنازلت عن كل شيءٍ من ذلك القبيل عندما وضعت القضية بين يدَيك.»
«ومع ذلك …»
«ومع ذلك فكون الخطاب الذي تبقَّت منه هذه القصاصات كان على منضدة السيد ليفنوورث وقتَ وقوع جريمة القتل هو أمر ممكنٌ تصديقُه. وأنه عندما نُقل الجثمان، أخذَت السيدة إلينور ليفنوورث الورقةَ من المنضدة، هو أيضًا أمرٌ ممكنٌ تصديقُه. وأنها، عندما وجدت أن تصرفها أصبح ملحوظًا، وأن الاهتمام أصبح موجَّهًا إلى هذه الورقة والمفتاح، لجأت إلى هذه الحيلة حتى تُفلت من الرقابة التي فُرِضَت عليها، ونجحَتْ جزئيًّا في مسعاها، وألْقَت بالمفتاح في المدفأة التي استُعيدَت منها نفس هذه القصاصات فيما بعد، هذا أيضًا أمرٌ معروف. سأترك الاستنتاج لحُكمك.»
قلت، وأنا أنهض: «عظيم، إذن؛ سندعُ الاستنتاجات جانبًا الآن. لا بد أن يقتنعَ عقلي بصحة أو بطلان فرضيةٍ معينة لديَّ، حتى يُصبح حكمي ذا حيثيةٍ بخصوص هذه المسألة أو أي مسألةٍ أخرى متعلقة بالقضية.»
ثم، بعدما انتظرت فقط لأحصل على عنوان مرءوسه بي في حالة احتياجي إلى مساعدةٍ في تحرِّياتي، غادرت منزل السيد جرايس، وتوجَّهت فورًا إلى منزل السيد فيلي.