الفصل السادس والعشرون

السيد جرايس يوضح موقفه

هل تهبُّ الرياح في ذلك الاتجاه؟

مسرحية «جعجعة بلا طحن»

لا أنوي أن أخوضَ في وصف المشاعر المختَلطة التي ثارَت في داخلي بفعلِ هذا التصريح. مثلَما يُقال إن الغريق يعيش في لحظةٍ واحدةٍ مرعبةٍ أحداثَ حياته كلها، كذلك مرَّت كلُّ كلمةٍ ألقتها ماري على مسامعي، بدايةً من تقديم نفسها لي في غرفتها، صباح يوم التحقيق، وحتى الحوار الأخير بيننا ليلة زيارة السيد كلافرينج، في عقلي على هيئة مَشاهد جامحةٍ تتغير باستمرارٍ، تركَتْني مشدوهًا من المغزى الذي بدا أن مسلكها كلَّه قد اكتسبه نتيجةَ الضوء المتوهج الذي سُلِّط عليه الآن.

صاح رفيقي وهو في قمة هدوئه: «أرى أنني قد اجتَررتُ للتو إلى أذنَيك سيلًا من الشكوك. ألم تفكر بنفسك في هذا الاحتمال أبدًا؟»

«لا تسألْني فيمَ فكَّرت. أعرف فقط أنني لن أصدق أبدًا أن شكوكك صحيحة. وأنه، مع مقدار النفع الكبير الذي يمكن أن تكون ماري قد جنَتْه من وفاة عمها، لم يكن لها يدٌ أبدًا في الأمر؛ أقصد، مشاركة فعلية.»

«وما الذي يجعلك متأكدًا جدًّا من هذا؟»

«وما الذي يجعلك متأكدًا جدًّا من العكس؟ عليك أنت أن تُثبت إدانتها، وليس من شأني أنا أن أُثبت براءتها.»

قال السيد جرايس بأسلوبه المتأني، الساخر: «حسنًا، هل تتذكر هذا المبدأَ من القانون؟ إن كنت أتذكره على نحوٍ صحيح، فأنت لم تكن دقيقًا دومًا في مراعاته، أو لم تكن دومًا راغبًا في مراعاته، عندما كانت المسألة تتعلَّق بما إذا كان السيد كلافرينج هو القاتلَ أو لا.»

«لكنه رجل. لا يبدو أمرًا بشعًا أن تتهمَ رجلًا بارتكاب جريمة. لكن أن تتهم امرأة! وهذه المرأة بالذات! فهو ما لا أُطيق سماعه؛ إنه أمرٌ بشع. لا شيء سوى اعترافٍ صريح من جانبها سيجعلني أُصدق أن ماري ليفنوورث، أو أي امرأة أخرى، ارتكبت هذه الفعلة. لقد كانت الجريمة بالغةَ الوحشية، ومدروسةً بتأنٍّ شديد، و…»

قاطعني السيد جرايس قائلًا: «طالِع السجلات الجنائية.»

لكني كنتُ متعنتًا. فقلت: «لا تُهمني السجلات الجنائية. كل السجلات الجنائية في العالم لن تجعلَني أُصدق أن إلينور ارتكبت هذه الجريمة، ولن أكون أقلَّ سماحةً مع ابنة عمها. إن ماري امرأة بها عيوب، لكنها ليست مجرمة.»

«يبدو أن حكمك عليها أكثر تساهلًا مما كان عليه حكم ابنة عمها.»

تمتمتُ، مستشعرًا بضوء جديد يقتحمني لكنه أشدُّ تخويفًا: «لا أفهم ما تعنيه.»

«عجبًا! هل نسيت، وسط تسارع هذه الأحداث الأخيرة، جملةَ الاتهام التي استمعنا إليها مصادفةً وهي يُنطَق بها بين هاتَين السيدتَين صباح يوم التحقيق؟»

«لا، ولكن …»

«هل اعتقدتَ أن من نطقت به كانت ماري مخاطِبةً إلينور؟»

«بالتأكيد، ألم يكن ذلك ما اعتقدتَه؟»

يا للابتسامة العابرة التي ارتسمت على وجه السيد جرايس! قال: «لا بالتأكيد. تركتُ لك هذا المسار السهل البسيط. ظننت أنه كان يكفي أن يتتبع شخصٌ واحد ذلك المسار.»

ها هو الضوء، الضوء الذي كان يقتحمني! قلت: «وهل تقصد أن تقول إن إلينور هي التي كانت تتحدث عندئذٍ؟ وأنني كنتُ أعمل كل تلك الأسابيع مستندًا إلى خطأ فادح، وأنه كان بوسعك أن تُصحح لي ذلك بكلمة واحدة، ولم تفعل؟»

«حسنًا، في ذلك الشأن، كان لديَّ هدفٌ من أن أدعَك تتبعُ الاتجاه الذي سلكتَه لمدةٍ. في المقام الأول، لم أكن متأكدًا من أيهما كانت تتحدث؛ مع أنه لم يُساورني إلا قليلٌ من الشك حول الأمر. فالصوتان، كما لا بد أنك لاحظتَ، كانا متشابهَين جدًّا، بينما كان المسلكان اللذان وجدناهما عليهما عند دخولنا كانا يقبلان التفسيرَ على الوجهَين، بافتراض أن ماري كانت في موقف توجيه اتهام، أو في دفع اتهام. ولذلك، بينما لم أتردَّد في تبيُّن التفسير الحقيقي للمشهد أمامي، سرَّني أنْ وجدتُك تَقبل تفسيرًا معاكسًا؛ لأنه بهذه الطريقة أُتيحت الفرصة لاختبار صحة الفرضيَّتَين؛ وهو ما كان تصرفًا صائبًا في قضية غامضة إلى هذا الحد. وبالتبعية، توليتَ أنت القضية بِناءً على فكرة اتخذتَها نقطةَ انطلاقٍ لك، وفعلتُ أنا من منطلق فكرةٍ أخرى. رأيتَ أنت جميع الحقائق وهي تتطورُ من خلال اعتقاد ماري في أن إلينور مذنبة، وأنا من خلال العكس. وماذا كانت النتيجة؟ في حالتك، ظهر شك، وتناقض، وتشويشٌ دائم، واستعانة غير مبرَّرة بمصادر غريبةٍ من أجل التوفيق بين الظواهر وقناعاتك؛ أما في حالتي، فكان ثمة تيقنٌ متزايد، واعتقاد لم يَزِده تطورُ الأحداث إلا قوةً وجعله أرجح.»

ومن جديدٍ مرَّت أمامي تلك المشاهدُ الجامحة المعبرة عن الأحداث، والنظرات، والكلمات. تأكيدات ماري المتكررة ببراءة ابنة عمها، وموقف إلينور المتسم بصمتٍ نبيل بشأن أمور معينة ربما اعتبرتها بمثابة إشارةٍ إلى القاتل.

وأخيرًا أقررت: «لا بد أن فرضيَّتك هي الصحيحة؛ كانت إلينور هي مَن تحدثت بلا شك. فلديها قناعة بأن ماري مذنبة، وأنا كنتُ أعمى، حقًّا، إذ لم أرَ ذلك منذ البداية.»

«إذا كانت إلينور تعتقد أن ابنة عمها هي مَن ارتكبت هذه الجريمة، فلا بد أن لديها بعضَ الأسباب المقنعة لتفعل ذلك.»

لم أجد مَفرًّا من أن أُقر بصحة ذلك أيضًا. «إنها لم تخف في صدرها ذلك المفتاح الذي كان بمثابة دليل — والذي لا يعرف أحدٌ أين عُثِر عليه؟ — ثم تُتلفه، أو تسعى إلى إتلافه، هو والخطاب الذي قدَّم ابنة عمها إلى العامة باعتبارها بلا مبادئ ومعكرةً لصفو رجلٍ وثق بها، دون أسباب.»

«لا، لا.»

«ومع ذلك تأتي أنت، رجل غريب، وشاب لم يكن قد رأى ماري ليفنوورث مطلقًا في أي ضوء آخر إلا ذلك الضوء الذي سعت فيه طبيعتها المتدلِّلة إلى أن تظهر نفسها، تتجرَّأ على أن تقول إنها بريئة، في مواجهة المسلك الذي اعتصمَت به ابنة عمها من البداية!»

قلت، في إعراضٍ شديد عن أن أقبلَ استنتاجاته: «لكن، إلينور ليفنوورث ليست إلا بشرًا. ربما تكون قد أخطأَتْ في الاستدلالات التي توصلَت إليها. لم تُصرح مطلقًا إلى أي شيء يستند شكُّها؛ ولا يمكننا أن نعرف على أيِّ أساسٍ تتمسكُ بموقفها الذي تحدَّثتَ عنه. من المرجح أن يكون كلافرينج هو القاتلَ مثل ماري، مع كل ما نعرفه، وربما من أجل كل ما تعرفه هي.»

«يبدو أنك موهومٌ باعتقادك بأن كلافرينج هو القاتل.»

تراجعت إلى الوراء. أكنتُ كذلك؟ أمن الممكن أن تكون إدانةُ السيد هارويل المبنيةُ على خيالٍ بخصوص هذا الرجل قد أثرَت عليَّ بأي طريقة على حساب تقديري الجيد للأمور؟

أردفَ السيد جرايس قائلًا: «وقد تكون محقًّا. أنا لا أدَّعي أني متشبثٌ بأفكاري. فربما تنجح تحقيقاتٌ مستقبلية في أن تُثبت شيئًا عليه؛ رغم أني أستبعد ذلك الاحتمال. فسلوكه بصفته زوجًا في السر لسيدةٍ تمتلك من الدوافع ما يحثها على ارتكاب جريمة كان متوافقًا جدًّا من البداية إلى النهاية.»

«كله باستثناء تركه لها.»

«ليس استثناءً على الإطلاق؛ لأنه لم يتركها.»

«ماذا تعني؟»

«أعني أن السيد كلافرينج، بدلًا من أن يُغادر البلد، تظاهر بذلك فحسب. وأنه، بدلًا من أن ينسحب إلى أوروبا بِناءً على طلبها، اكتفى بأن يُغيِّر مكان إقامته، ويمكن الآن العثور عليه، ليس في المنزل المقابل لمنزلها فحسب، بل في نافذة ذلك المنزل، حيث يجلس يومًا بعد يوم يُراقب مَن يدخل ومن يخرج من الباب الأمامي لمنزلها.»

تذكَّرتُ نصيحته لي عند رحيله، في تلك المقابلة التي لا تُنسى التي جرت بيننا في مكتبي، ووجدت نفسي مرغمًا على أن أضع افتراضًا جديدًا على أساسها.

«لكني تأكدتُ في فندق هوفمان من أنه كان قد أبحر إلى أوروبا، ورأيتُ بنفسي الرجل الذي أقر بتوصيله إلى الباخرة.»

«بالضبط.»

«هل عاد السيد كلافرينج إلى المدينة بعد ذلك؟»

«في عرَبة أخرى، وإلى منزل آخر.»

«وتقول لي إن هذا الرجل لا غبار عليه؟»

«لا؛ أقول فحسبُ إنه لا يوجد أدنى دليل ضده على أنه الشخص الذي أردى السيد ليفنوورث قتيلًا.»

وقفت، وأخذتُ أجول في الغرفة جَيئةً وذَهابًا، ولدقائق قليلة ساد الصمتُ بيننا. لكن الساعة، بدقات عقاربها، ذكرتني بما يستلزم إنجازُه في ذلك الوقت؛ ولهذا، استدرتُ، وسألت السيد جرايس عما ينوي فعله الآن.

قال: «لا يوجد سوى أمرٍ واحد يمكنني فعله.»

«وما هو؟»

«أن أَمضي وفقًا لهذه الأدلة التي بحوزتي، وأطلب إلقاء القبض على الآنسة ليفنوورث.»

كنتُ في ذلك الوقت قد روَّضتُ نفسي على التحمُّل، وكان بمقدوري أن أسمع هذا من دون أن أُظهر أي تعجُّب. لكنني لم أستطع أن أدعَ تلك المسألة تمرُّ من دون أن أبذل أي جهد لأتصدَّى لما يعتزم فعله.

قلتُ: «لكن، لا أرى أيَّ دليل لديك، قاطع بما يكفي، ليسمحَ باتخاذ إجراءاتٍ صارمةٍ كهذه. أنت نفسُك أشرتَ إلى أن وجود دافعٍ ليس دليلًا كافيًا، حتى وإن اقترن بحقيقة أن الطرف المشتبه به كان في المنزل وقتَ وقوع جريمة القتل؛ فماذا تملك إلى جانب ذلك لديك لتُوصيَ بالقبض على الآنسة ليفنوورث؟»

«معذرة. قلت «الآنسة ليفنوورث»؛ كان لا بد أن أقول «إلينور ليفنوورث».»

«إلينور؟ ماذا! مع أنك أنت والجميع اجتمعتم على التفكير في أنها الوحيدة، من الأطراف المشتبَه في ارتكابها الجريمة، البريئة تمامًا من أي ذنب؟»

«ومع ذلك هي الوحيدة التي يمكن أن تُقَدَّم ضدها شهادةٌ قاطعة من أي نوع.»

لم يكن بوسعي سوى الإقرارِ بذلك.

علَّق بجدية شديدة: «سيد ريموند، لقد تعالَتْ أصواتُ الرأي العام؛ ولا بد من اتخاذ خطوةٍ ما لإرضائه، حتى ولو مؤقتًا. لقد جعلَت إلينور نفسها عُرضةً لاشتباه الشرطة فيها، ولا بد أن تتحمَّل عواقب تصرُّفها. أنا آسف؛ إنها إنسانة نبيلة، وأنا معجب بها، ولكن إقامة العدل أولى، ورغم أنني أظن أنها بريئة، سأكون مجبرًا على إلقاء القبض عليها، إلا إذا …»

«ولكن لا يمكنني تقبُّل هذا. إنه يُلحِق ضررًا يتعذَّر إصلاحه بامرأةٍ ذنبُها الوحيد هو تفانيها المُغالى فيه وفي غير محله تجاه ابنة عمٍّ لا تستحق. إذا كانت ماري هي …»

واصل السيد جرايس حديثه، وكأنني لم أقُل شيئًا: «إلا إذا حدث شيءٌ بين تلك اللحظة وصباحِ الغد.»

«صباح الغد؟»

«أجل.»

حاولتُ أن أستوعب كلامه؛ وحاولت أن أُواجه حقيقةَ أن كل جهودي قد ذهبت هباءً، وباءت بالفشل.

سألتُه في يأس: «ألَا يمكنك أن تمنحَني يومًا آخر؟»

«لتفعل ماذا؟»

للأسف، لم أكن أعرف. «لأواجه السيد كلافرينج، وأنتزع منه الحقيقة.»

تذمَّر السيد جرايس قائلًا: «لتفسد القضية بأكملها!» وتابع: «لا، يا سيدي؛ سبق السيفُ العذَل. إلينور ليفنوورث تعرف النقطة الوحيدة التي تُثبت هذه الجريمة على ابنة عمها، ولا بد أن تخبرنا بها أو تتحمَّلَ عواقب امتناعها عن الكلام.»

بذلتُ محاولةً أخرى.

«لكن لماذا غدًا؟ لقد استنزفنا بالفعل وقتًا كثيرًا في تحرياتنا، فلماذا لا نأخذ المزيدَ من الوقت؛ لا سيما وأن الأثر الذي نقتفيه يزداد إثارةً؟ المزيد من التتبع …»

صاح السيد جرايس، فاقدًا السيطرةَ على أعصابه: «المزيد من الهراء الإضافي!» وأردف: «لا، سيدي؛ قد ولَّى وقتُ التتبع؛ ولا بد من اتخاذ إجراءٍ حاسم الآن؛ ومع ذلك، بالتأكيد، لو استطعت أن أعثر على الحَلْقة المفقودة التي أريدها …»

«الحَلْقة المفقودة؟ ماذا تقصد؟»

صاح فجأةً: «الدافع المباشر لارتكاب الجريمة؛ فمِن شأن دليلٍ من قريبٍ أو من بعيدٍ على أن السيد ليفنوورث توعَّد ابنة أخيه بالغضب منها، أو السيد كلافرينج بالانتقام منه، أن يضعَني في زاويةٍ أرى منها القضية بوضوح في الحال؛ من دون القبض على إلينور عندئذٍ! لا، يا سيدتي! سأدخل إلى غرفة جلوسك المبهرة بلونها الذهبي، وعندما تسألينني إن كنتُ قد عثرت على القاتل حتى تلك اللحظة، سأقول «أجل»، وأُريكِ ورقةً ستُفاجئكِ! ولكن ليس من السهل العثورُ على الحلقات المفقودة. لقد وظفنا جواسيسَ — كما تحب أن تطلق على منظومة التحريات لدينا — لتحري الأمر مِرارًا وتَكرارًا، ولكن لم نصل إلى أي نتيجة على الإطلاق. لن نحصل على ما نريد إلا عن طريق اعترافٍ من أحد هذه الأطراف العديدة في الجريمة.» صاح فجأة: «سأخبرك بما سأفعله.» وتابع: «كانت الآنسة ماري قد أرادت أن أُوافيَها بالأحداث؛ فهي، كما تعرف، متلهفة إلى اكتشاف القاتل، وتعرض مكافأة سخية من أجل ذلك. حسنًا، سأُلبي رغبتها. إن ما لديَّ من شكوك، إلى جانب أسبابها، ستُفضي إلى كشفٍ مثير للاهتمام. ولن أتعجَّب كثيرًا إن أفْضَت إلى اعترافٍ مثيرٍ للاهتمام بالمثل.»

لم يسَعْني إلا أن أهبَّ واقفًا في فزع.

«في جميع الأحوال، أنوي المحاولة. إلينور تستحق تلك المجازفة الكبيرة على أي حال.»

قال: «لن يُجديَ هذا نفعًا.» وتابع: «إن كانت ماري مذنبة، فلن تعترف بذلك أبدًا. وإن لم تكن …»

«فستُخبرنا بهُوية الجاني.»

«لن تفعل إن كان الجاني هو كلافرينج، زوجها.»

«بل ستفعل؛ حتى وإن كان الجاني هو كلافرينج، زوجها. فهي ليست متفانيةً مثل إلينور.»

لم يسَعْني سوى الإقرارِ بذلك. فهي لن تُخفي مفاتيح لكي تحميَ شخصًا آخر: لا، إذا وُجِّه اتهام لماري، فستتكلم. بدا المستقبل أمامنا قاتمًا بما يكفي. ومع ذلك عندما، بعد مدةٍ قصيرةٍ من ذلك، وجدتُ نفسي وحيدًا في الشارع المزدحم، طغَتْ فكرة أن إلينور كانت حرةً على جميع الأفكار الأخرى، وملأت كِياني ودفعتني حتى سرتُ عائدًا إلى بيتي تحت المطر، لدرجة أن ذلك اليوم صار ذكرى مميزةً في حياتي. فقط مع حلول الظلام بدأتُ أدرك الموقف البالغَ الحرجِ الذي كانت تقف فيه ماري لو أن فرضية السيد جرايس كانت صحيحة. لكن، عندما استولت عليَّ هذه الفكرة، لم يكن يمكن لأي شيءٍ أن يُبعدها عن ذهني. ومع أنني أجفلت منها، ظلت أمامي دومًا، تُطاردني بأكثر الهواجس المرعبة. ومع أنني أويتُ إلى السرير مبكرًا، لم أنجح في أن أنال قسطًا من النوم أو الراحة. ظللتُ أتقلَّب طَوالَ الليل على وسادتي، قائلًا لنفسي في تَكرارٍ كئيب: «يجب أن يحدث شيءٌ ما، سيحدث شيءٌ ما، ليمنع السيد جرايس من الإقدام على هذا الأمر المروِّع.» ثم كنت أنهض فجأة وأسأل عمَّا يمكن أن يحدث؛ ويقلب عقلي الاحتمالات المختلفة؛ مثل احتمال أن يعترف السيد كلافرينج، أو أن هانا قد تعود، أو أن ماري قد تنتبه إلى موقفها وتنطق بالكلمة التي كنتُ قد رأيتها أكثرَ من مرة تختلجُ على شفتَيْها. لكن بعد المزيد من التفكير اتضح لي كم هو مستبعدٌ أن يحدث أيٌّ من تلك الاحتمالات، ثم أصبح عقلي مستنزفًا بشدة حتى إني استغرقت في النوم في الساعات الأولى من الفجر، فحلمت بأنني أرى ماري واقفة فوق السيد جرايس ممسكةً بمسدس في يدها. استيقظتُ من هذه الرؤيا السارة على صوت طرقةٍ قوية على الباب. نهضت مسرعًا، وسألت من الطارق. جاء الردُّ في هيئة ظرفٍ دُفِع من تحت الباب. التقطته، فوجدتُ أنه رسالةٌ قصيرة. كانت من السيد جرايس، وكان نصها كما يلي:

«احضر فورًا؛ عُثر على هانا تشيستر.»

«عُثر على هانا؟»

«لدينا سببٌ يدعونا إلى أن نظن ذلك.»

«متى؟ أين؟ من وجدها؟»

«اجلس، وسأخبرك.»

سحبتُ كرسيًّا في فورةٍ من الخوف والرجاء، وجلست بجوار السيد جرايس.

«ليست مختبئةً في الخِزانة»، أكَّد لي ذلك الشخصُ بنبرةٍ جافة، ملاحظًا دون شكٍّ أن عينَيَّ أخذتا تجولان في الغرفة في توترٍ وانعدام صبر. «لسنا على يقينٍ تام من مكان وجودها. لكننا علمنا أن وجه فتاة يُعتقد بأنه وجه هانا قد شوهد في النافذة العلوية لمنزلٍ بعينه في … لا تنتفض في «ر…» التي كانت منذ عامٍ مضى معتادةً على زيارتها بينما كانت مع الآنستَين ليفنوورث. والآن، بما أنه قد تقرَّر بالفعل مغادرتها نيويورك ليلة وقوع جريمة القتل، مستقلةً خط … للسكك الحديدية، على الرغم من أننا لم نتمكَّن من التأكد من وجهتها، نرى أن المسألة تستحق التحريَ عنها.»

«لكن …»

واصل السيد جرايس: «إذا كانَت هناك، فهي مُخبَّأةٌ؛ وأُبقيَتْ في تكتُّمٍ شديد. لم يرَها أحدٌ سوى المخبر، ولم تظهر أيُّ شكوكٍ بين الجيران عن وجودها في البلدة.»

«أخُبِّئت هانا في منزلٍ بعينه في «ر…»؟ منزل مَن؟»

تفضل عليَّ السيدُ جرايس بواحدةٍ من ابتساماته الأكثرِ تجهُّمًا. وقال: «اسم السيدة التي تُقيم معها موضحٌ في المراسلة وهو بيلدن؛ السيدة إيمي بيلدن.»

«إيمي بيلدن! الاسم الذي وجدته خادمة السيد كلافرينج في لندن مكتوبًا على ظرف ممزق؟»

«أجل.»

لم أُحاول أن أخفيَ سعادتي. وقلت: «إذن نحن على شفا اكتشافٍ ما؛ لقد تدخَّلَت العناية الإلهية، وستُنقذ إلينور! لكن متى وصَلَتْك هذه المعلومات؟»

«الليلة الماضية، أو بالأحرى صباح اليوم؛ أحضرها لي «كيو».»

«أكانت رسالة، إذن، إلى «كيو»؟»

«نعم؛ نتيجة تجسُّسه وهو في «ر…» حسب ظني.»

«من وَقَّعَها؟»

«سمكري محترم يقطن في المنزل المجاور للسيدة بيلدن»

«وهل هذه المرة الأولى التي تعلم فيها بشأن المدعوَّة إيمي بيلدن المقيمة في «ر…»؟»

«أجل.»

«أهي أرملةٌ أم متزوجة؟»

«لا أعرف؛ لا أعرف عنها أي شيء عدا اسمها.»

«لكنك أرسلت «كيو» بالفعل ليُجريَ تحرياتٍ عن الأمر؟»

«لا؛ المسألة أكثر تعقيدًا بقليلٍ من أن يتولَّاها بمفرده. فهو ليس على قدر المناسبات العظيمة، وربما يفشل لمجرد غياب عقلٍ مدبِّر يوجِّهه.»

«باختصار …»

«أودُّ أن تذهب إلى هناك. نظرًا إلى أنني لا أستطيع أن أكون هناك بنفسي، لا أعرف أحدًا آخرَ على درايةٍ كافيةٍ بالقضية ليتعامل مع الموقف بنجاح. كما ترى، لا يكفي أن نعثر على الفتاة ونتعرَّف عليها. فالحالة الراهنة للأمور تتطلَّب إبقاء مسألة إلقاء القبض على شاهدةٍ بهذه الأهمية طيَّ الكتمان. والآن، لكي يتمكَّن رجلٌ من أن يدخل منزلًا غريبًا في قريةٍ بعيدة، ويعثر على فتاةٍ مختبئةٍ هناك، ويُخيفها، أو يُداهنها، أو يجبرها، حسب ما يقتضيه الموقف، ويأتي بها من مخبئها إلى مكتب محقِّقٍ في نيويورك، وكل هذا دون علم الجار الملاصق لها، إن أمكن، فهذا يتطلَّب تقديرًا سديدًا للموقف، وقدراتٍ ذهنية، وذكاءً شديدًا. ثم تأتي مسألة المرأة التي تُخفيها! فلا بد أنَّ لديها من الأسباب ما يحملها على فعلِ ذلك؛ ويجب معرفةُ تلك الأسباب. بالنظر إلى الأمور من جميع الوجوه، المسألة حسَّاسة. هل تظن أن بإمكانك أن تنجح فيها؟»

«أود أن أحاول على الأقل.»

جلس السيد جرايس على الأريكة. ثم قال بتذمر، وهو يحدق بتأنيبٍ إلى أطرافه التي لا حول لها ولا قوة: «ليتك تُدرك المتعة التي تضيع مني بسببك!» وأردف: «لكن للضرورة أحكام. متى يمكنك أن تبدأ؟»

«فورًا.»

«جيد! سيغادر قطار المحطة في الساعة ١٢:١٥. استقلَّ ذلك القطار. بمجرد أن تصل إلى «ر…» سيكون أمر تحديد وسيلة التعرف على السيدة إيمي بيلدن دون إثارةِ شكوكها راجعًا إليك. «كيو»، الذي سيتبعك، سيكون على أُهْبة الاستعداد ليُقدِّم لك أي مساعدةٍ قد تحتاج إليها. لكن عليك أن تفهمَ النقطةَ التالية: نظرًا إلى أنه سيكون بلا شكٍّ متنكرًا، فلن يكون بوسعك أن تتعرَّف عليه، فضلًا عن أن تتدخَّل فيما يفعله ومخططاتِه، إلى أن يُعطيَك الإذن بأن تفعل ذلك، بإشارةٍ متفَقٍ عليها مسبقًا. عليك أن تعمل بأسلوبك، وهو بأسلوبه، إلى أن تستدعيَ الظروف تبادُلَ الدعم والمساعدة. ليس باستطاعتي حتى أن أجزم إن كنت ستراه أم لا؛ فربما يجد أن من الضروري أن يبقى بعيدًا عن الأنظار، لكن يمكنك أن تثقَ في شيءٍ واحد، وهو أنه سيعرف مكانَك، وأن بإظهار، حسنًا، لنقل منديل أحمر من الحرير، … هل لديك شيء من هذا القبيل؟»

«سأشتري واحدًا.»

«سيعتبره إشارةً إلى أنك ترغب في حضوره أو مساعدته، سواءٌ كان ذلك المنديل ظاهرًا عليك شخصيًّا أو على نافذة غرفتك.»

قلت، لَمَّا توقَّف عن الحديث: «أهذه كل التعليمات التي بإمكانك أن تُقدِّمها لي؟»

«أجل، لا أعرف أي تعليمات أخرى. يجب أن تعتمد بقدرٍ كبير على تقديرك الشخصي للأمور، ومقتضيات اللحظة. لا يُمكنني أن أخبرك الآن ما عليك فعله. فِطنتُك ستكون خيرَ مرشدٍ لك. فقط، إن أمكن، دعني أعرف الأخبار منك أو أرَك غدًا في نفس التوقيت.»

ثم سلَّمني نظام تشفيرٍ في حالة أنني رغبت في أن أبعث إليه ببرقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤