تجربة غريبة
هذه أكبر عملية سلب يمكن أن تتم.
كان أول شيء فعلته هو أن أتفقدَ في حرصٍ شديد الغرفةَ التي كنت أجلس فيها.
كانت غرفة مبهجة، كما سبق أن أشرت؛ كانت مربَّعة، ومشمسة، ومؤثَّثة بأثاثٍ جيد. على الأرض كانت توجد سجادة قرمزية، وعلى الجدران العديد من الصور، وعلى النوافذ، ستائر مبهجة بيضاء اللون، منقوشة نقشًا أنيقًا بالسراخس وأوراق الشجر الخريفية؛ وفي إحدى الزوايا ميلوديون عتيق، وفي وسط الغرفة منضدة مغطَّاة بمفرش بلونٍ زاهٍ، وعليها تحف متنوعة صغيرة، لم تكن فخمة أو غالية الثمن، إلا أنها كانت جميلة وأضْفَت طابَعًا تجميليًّا بدرجةٍ ما. لكن لم تكن هذه الأشياء، التي كنت قد رأيتها مِرارًا في الكثير من المنازل الأخرى، هي ما لفت انتباهي بوجهٍ خاص، أو جذبني لأخطوَ الخطواتِ المتمهلةَ التي كنت أخطوها الآن في أرجاء الغرفة. لقد كان الشيء الكامن في كل هذه الأشياء؛ الأدلة التي عثرت عليها، أو التي سعيت للعثور عليها، ليس فقط في الغرفة بوجهٍ عام، بل في كل غرض تافهٍ وجدته، على شخصية وميول وماضي المرأة التي كان عليَّ أن أتعامل معها في ذلك الحين. ولهذا السبب تفحصتُ الصور الداجيريَّة على رفِّ المدفأة، والكتب على الرف، والأسطوانات الموسيقية على الحامل؛ لهذا الغرض ولغرضٍ آخر هو ملاحظة إن كان ثمة أيُّ دلائل يمكن العثور عليها على وجود أي شخص في المنزل مثل هانا.
لذلك اتجهتُ أولًا إلى المكتبة الصغيرة، التي سرَّني أن أراها تشغل إحدى زوايا الغرفة. كانت تتألف من بضعة كتب مختارةٍ بعناية، في الشعر، والتاريخ، والأدب، وكانت في حد ذاتها كفيلةً بأن تُبرر دلائلَ حسِّ الثقافة الخفي الذي يمكن ملاحظتُه في حديث السيدة بيلدن. أخرجت نسخة مهترئة من كتاب لبايرون، وفتحتها. كانت فيه فِقرات كثيرة مؤشَّرة، وبعد أن أرجعت الكتاب معلقًا في ذهني على تأثرها الواضح بالمشاعر الرقيقة المرهَفة، اتجهت ناحية الميلوديون المواجه لي في الحائط الآخر. كان مغلقًا، لكنه فوق الجزء العلوي منه المغطَّى بأناقة كان يوجد كتابٌ أو اثنان من كتب التراتيل، وسلة من التفاح الخمري اللون، وقطعة أشغال حياكة أُنجز نصفها.
التقطتُ تلك القطعة، لكني اضطُررت إلى إعادتها إلى مكانها مرةً أخرى دون أي فكرةٍ عن الهدف الذي حِيكَت لأجله. واصلت السير، وتوقفت بعد ذلك أمام نافذة تُطل على باحة صغيرة كانت تُحيط بالمنزل، وتفصله عن المنزل المجاور له. لم يجذب المشهدُ بالخارج اهتمامي، لكن النافذة نفسَها استرعت انتباهي؛ وذلك لأنني رأيتُ مكتوبًا بشيء ذي رأسٍ ماسي على أحد الألواح الزجاجية صفًّا من الحروف التي، بقدر ما استطعت أن أتبيَّن، كان المراد بها كلمةً أو كلمات، لكنها لم تُجْدِ بتاتًا في إيصال معنًى أو صلةٍ واضحة. وبعدما اعتبرتها من فعل فتاة في مدرسة، نظرت لأسفل إلى سلَّة أشغال الحياكة الموضوعة على المنضدة بجانبي. كانت مليئةً بشتى أنواع أشغال الحياكة، التي لمحت بينها زوجَين من الجوارب كانا أصغر بكثيرٍ من أن يخصَّا السيدة بيلدن، كما كانا في حالة سيئة للغاية بحيث لا يمكن أن يخصَّاها؛ فأخرجتُهما بحذرٍ، وتفحصتهما لأتبين أي اسم عليهما. لا تفزع عندما أقول إنني رأيتُ حرف «ﻫ» بارزًا بوضوح عليهما. بعدما ألقيتهما معيدًا إياهما إلى مكانهما، وأخذت نفَسَ ارتياحٍ عميقًا، محدقًا، وأنا أفعل ذلك، عبر النافذة، عاودَت هذه الحروفُ اجتذاب انتباهي.
ما الذي يمكن أن تعنيَه هذه الحروف؟ أخذت أقرؤها على مهلٍ بالمقلوب، وعندئذٍ … ولكن حاول بنفسك، أيها القارئ، واحكم أنت على دهشتي! منتشيًا بالاكتشاف الذي توصلتُ إليه، جلست لأكتب خطاباتي. كنت بالكاد قد انتهيت منها، عندما دخلَت السيدة بيلدن لتخبرني بأن العشاء جاهز. قالت: «أما عن غرفتك، فقد أعددتُ غرفتي حتى تستخدمها، ظنًّا مني أنك تُفضِّل البقاء في الطابق الأول.» وفتحَت بابًا بجانبي على مصراعيه، وأرتني غرفةً صغيرة، ولكن مريحة، بالكاد رأيت فيها سريرًا، ومكتبًا ضخمًا، ومِرآةً غَبْشاء ذات إطارٍ قاتمٍ عتيق الطراز.
واصلَت كلامها، وهي تقودني إلى غرفة الطعام: «إنني أعيش بطريقةٍ بدائيةٍ للغاية؛ لكنني أهدف إلى أن أشعرَ بالراحة وأُشعِرَ الآخَرين بها أيضًا.»
أجبتُ، بنظرة إعجاب إلى المائدة التي أحسنَت إعدادها: «ينبغي أن أقول إنكِ نجحتِ بجدارةٍ في ذلك.»
ابتسمَتْ، فشعرتُ أنني قد مهَّدت الطريق لألقى قَبولًا عندها بطريقةٍ تصب في صالحي.
لن أنسى ذلك العشاء ما حييت! مَذاقه الشهي، ورفع الكُلفة المبهج، وأجواؤه الخيالية الساحرة والطاغية، والشعور المستمرُّ بالخزي، مع كل طبق شهي تُلح عليَّ بتناوله، من التهام طعام هذه المرأة وفي قلبي مثلُ هذا الإحساس بالشك! لن أنسى ما حييتُ الإحساسَ الذي شعرت به عندما أدركتُ لأول مرة أن ثمة شيئًا يجول في عقلها، وترغب بشدةٍ في أن تبوح به لكنها كانت لا تزال مترددة! أو كيف جفلَت عندما قفزت قطةٌ من سطح المطبخ المائل على الرقعة المزروعة بالعشب خلف المنزل؛ أو كيف خفق قلبي عندما سمعت، أو ظننتُ أني سمعت، طقطقةَ ألواحٍ فوق رأسي! كنَّا في غرفة طويلة وضيقة، من المستغرب أنه بدا أنها تقطع المنزل بالعرض، ويُفضي أحد جانبيها إلى غرفة الجلوس، والآخرُ إلى غرفة نوم صغيرة، كانت تلك هي الغرفة التي خُصِّصَت لي.
سألتُ، بينما كانت السيدة بيلدن تضع على عكس رغبتي قطعةً أخرى من الدجاج البارد في طبقي: «أتعيشين في هذا المنزل وحدَكِ، ولا تخافين؟» وتابعت: «أليس لديكم لصوصٌ في هذه البلدة؛ ألا يوجد متشردون من المنطقي أن تخشاهم امرأةٌ وحيدة مثلك؟»
قالت: «لن يؤذيني أحد؛ ولم يأتِ إلى هنا أحدٌ أبدًا طلبًا لطعام أو مأوًى إلا ونال ما يبغي.»
«من الأحرى أن أتصوَّر، إذن، أنه، في حياتكِ التي تعيشينها، على طريق سكة حديدية، قد يتردَّد عليكِ بصفةٍ مستمرة أشخاصٌ وَضيعون شغلهم الشاغل أن يأخذوا كلَّ ما في وسعهم الحصولُ عليه دون أن يُقدموا شيئًا في المقابل.»
«لا يمكنني أن أردَّهم خائبين. إنها الرفاهية الوحيدة التي أملكها: أن أُطعم الفقراء.»
«لكنَّ الأشخاص العاطلين، المضطربين، الذين لا يعملون، ولا يتركون الآخرين ليعملوا …»
«لا يزالون فقراء.»
عَلَّقتُ في ذهني قائلًا إنه تجلس ها هنا سيدة تتستَّر على فتاة بائسة أصبحت بطريقة أو بأخرى عالقةً في شِباك جريمة شنيعة، ثم انسحبت من المائدة. وبينما كنت أفعل ذلك، خطر ببالي أنها، في حال وجود أي شخص في المنزل كهانا مثلًا، ستنتهز الفرصة لتصعد لأعلى ومعها شيء لتقدمه له كطعام؛ وحتى لا تشعر بأنَّ وجودي يعوقها، خرجت إلى الشرفة ومعي سيجاري.
بينما كنت أُدخن، نظرت حولي بحثًا عن «كيو». شعرت بأن أقلَّ دلالة على وجوده في البلدة قد تشجعني في هذا الوقت. لكن يبدو أنه لم يكن من الممكن أن أتحصَّل على ذلك الرضا البسيط. إذا كان «كيو» في أي مكان قريب، فإنه كان متواريًا تمامًا عن الأنظار.
حالما عدتُ لأجلس مع السيدة بيلدن (التي أعرف أنها نزلت ومعها طبق فارغ؛ إذ عندما دخلت إلى المطبخ كي أشرب، أدركتها في اللحظة التي كانت تضعه فيها على المائدة)، وقرَّرت أن أنتظر مدةً معقولة من الوقت حتى تُدلي بما لديها؛ ثم إذا لم تتكلَّم، فسأحاول من جانبي أن أباغتها بكشف سرها.
لكن اعترافها كان هو أسرعَ وكان ذا طبيعةٍ مغايرةٍ لما كنتُ أتوقَّعه، واجتر معه سلسلة من النتائج.
بدأَت حديثها، وقد أمسكت بقطعة الحياكة، متصنِّعةً المثابرة: «أعتقد أنك محامٍ.»
قلت: «أجل؛ تلك هي مهنتي.»
ظلَّت صامتةً لبرهةٍ، مُحْدِثةً فوضى عارمة في عملها في الحياكة وأنا واثقٌ من ذلك، من نظرة الاندهاش والاستياء التي أبدَتْها. ثم، بنبرةٍ مترددة، علقت قائلةً:
«لعلك توافق، إذن، أن تُسدِيَ لي بعض النصائح. ففي حقيقة الأمر، أنا واقعةٌ في ورطةٍ غريبةٍ؛ لا أعرف كيف أهرب منها، وفي الوقت نفسِه تتطلَّب اتخاذ إجراء فوري. أود أن أخبرك عنها، هل تسمح لي بذلك؟»
«بالتأكيد؛ سيُسعدني كثيرًا أن أسدي لكِ أي نصيحة في استطاعتي.»
تنفَّسَت الصعداء بنوعٍ من الارتياح المبهم، مع أن جبينها ظل مقطبًا.
«الأمر كله يمكن أن يقال بكلماتٍ قليلة. بحوزتي مجموعة أوراقٍ ائتمنَتني عليها سيدتان، على أساس أنني يجب ألا أُعيد هذه الأوراق ولا أتخلَّص منها دون معرفة تامة ورغبةٍ صريحة من الطرفين، سواءٌ بشخصهما أو بالكتابة. ويجب أن تظلَّ تلك الأوراق في حيازتي حتى ذلك الحين، وأنه لا ينبغي لأي شيءٍ أو أي شخصٍ أن يسلبها مني.»
قلت؛ إذ توقفَت عن الحديث: «ذلك أمر يسهل فَهمُه.»
«لكن، أتاني خبرٌ من واحدةٍ من السيدتَين، تلك المعنية أكثر بهذه المسألة، مفاده أنه، لأسبابٍ معينة، يجب التخلُّص فورًا من تلك الأوراق من أجل أَمْنها وسلامتها.»
«وتريدين أن تعرفي ما يجب عليكِ فعلُه في هذه الحالة؟»
أجابت مرتجفةً: «أجل.»
نَهَضتُ واقفًا. لم أستطع أن أتمالك نفسي: انهال عليَّ وابلٌ من الافتراضات.
«نصيحتي هي أن تتمسَّكي بالأوراق بكل ما أُوتيتِ من قوةٍ حتى تخرجَ من عُهدتكِ برغبةٍ مشتركة من كلا الطرفين.»
«هل هذا هو رأيك بصفتك محاميًا؟»
«أجل، وبصفتي رجلًا. ما دمتِ قد تعهدتِ بهذا، فليس أمامكِ خيارٌ آخر. ستُعدُّ خيانة للأمانة إذا انصعتِ لطلب أحد الطرفين دون الآخر. إن الحزن أو الخسارة التي قد يستتبعها احتفاظكِ بهذه الأوراق لا يُعفيكِ من تعهدك. أنتِ لا تملكين أن تفعلي أي شيءٍ في هذا الشأن؛ علاوةً على أنكِ لستِ واثقةً على الإطلاق من أن مزاعم ذلك الطرف المهتمِّ بالأمر حقيقية. ربما ترتكبين جُرمًا أعظم، بأن تُتلفي بهذه الطريقة، ما يبدو جليًّا أنه ذو قيمةٍ كبيرةٍ للطرفَين، من إبقائكِ على هذه الأوراق سليمة، حسب الاتفاق.»
«ولكن ماذا عن الظروف؟ فالظروف تُغير الحال؛ وباختصار، يبدو لي أن رغبة الطرف المعني أكثر بالأمر يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار، لا سيما وأن ثَمة جفوةً بين السيدتَين قد تحول دون الحصول على موافقة الطرف الآخر بأي شكلٍ من الأشكال.»
قلت: «لا؛ فالخطأ لا يمكن أبدًا أن يُعالَج بخطأٍ آخر؛ ولا نملك حرية إقامة العدل بارتكاب ظلم. لا بد من الاحتفاظ بالأوراق، يا سيدة بيلدن.»
أخفضَت رأسَها في خيبة أملٍ شديدة؛ كان واضحًا أنها كانت ترغب في إرضاء الطرف المهتم بالأمر. قالت: «القانون قاسٍ جدًّا. قاسٍ جدًّا.»
قلت: «هذا ليس ما يُمليه القانون وحده، بل محض الواجب.» وأردفتُ: «فلتنظري إلى المسألة من زاويةٍ مختلفة؛ لنفترض أن شرف وسعادة الطرف الآخر كانت تعتمد على الاحتفاظ بالأوراق؛ فماذا سيكون واجبكِ حينها؟»
«ولكن …»
قلت: «العقد شريعةُ المتعاقدين، ولا يمكن التلاعب به. ما دمتِ قد قبلتِ الأمانة وأعطيتِ كلمتكِ، فأنتِ ملزمةٌ بالوفاء به، بحذافيره، وبكل شروطه. وستكون خيانة للأمانة إن أعدتِ أو أتلفتِ الأوراق من دون موافقةٍ مشتركةٍ من الطرفَين.»
استقرَّ ببطءٍ شعورٌ بحزنٍ شديدٍ على ملامح وجهها. وقالَت: «أظنك على حق»، ثم صمتَتْ.
بينما كنت أُراقبها، قلت لنفسي: «لو أنني كنتُ مكان السيد جرايس، أو حتى «كيو»، ما كنت سأبرح هذا المقعد حتى أسبُرَ غورَ هذا الأمر، وأعرفَ اسمَيِ الطرفَين المعنيَّين بالأمر، والمكان الذي أُخفِيَتْ فيه تلك الأوراق الثمينة، التي أقرَّت بأنها في غاية الأهمية.» ولكن إذ لم أكن أيًّا منهما، لم يسَعني إلا أن أجعلها تتحدَّث عن الموضوع حتى تُفلت منها كلمةٌ ما ربما تنفع كدليلٍ لتوضيح المسألة أمامي؛ ولذلك استدرت، وفي نيتي أن أسألَها بعض الأسئلة، فلفت انتباهي هيئةُ امرأةٍ خارجةٍ من الباب الخلفي للمنزل المجاور؛ إذ كان مظهرُها العام الواهن ووقفتها الخرقاء نموذجًا حرفيًّا لهيئة المتشردين الذين كنَّا نتحدَّث عنهم على مائدة العشاء. قَضَمَتْ جزءًا من كِسرة خبز ورمتها بعيدًا عند بلوغها الشارع، ومشت بتثاقلٍ على الطريق، وثوبها الرث، المثير للشفقة كونه كان باليًا ومتسخًا، يُرفرف في رياح فصل الربيع الشديدة، ليكشف عن حذاءٍ أحمر بالٍ متَّسخ بوحل الطريق.
قلت: «ثمة زَبونة قد تثير اهتمامكِ.»
بدا أن السيدة بيلدن قد أفاقت من شرودها. فوقفت على مهل، وألقت نظرة إلى الخارج، وبنظرة سرعان ما ازدادت لينًا تفحصَت هذه المرأة البائسة أمامها.
تمتمت قائلة: «يا لها من مسكينة! ولكن ليس بيدي أن أُقدم لها الكثير الليلة. كل ما بوسعي أن أقدمه لها هو عشاء جيد.»
ثم، تَوَجَّهَت إلى الباب الأمامي، وطلبَت منها أن تدور حول المنزل إلى المطبخ، وهناك، بعد لحظة أخرى، سمعت صوت المرأة الخشن في نغمة طويلة يقول: «فليُبارككِ الرب!» والذي لم يكن ليخرج بهذه النبرة إلا نتيجةً لما وُضِع أمامها من أشياء طيبة بدا أن خِزانة مؤن السيدة بيلدن كانت تزخر بها.
لكن العشاء لم يكن هو كلَّ ما كانت تحتاج إليه. بعد مدةٍ طويلة، قضتها في المضغ حسب ظني، سمعت صوتها مرةً أخرى يعلو بالتوسل طلبًا لمأوًى.
«الحظيرة يا سيدتي، أو مخزن الحطب. أي مكان يمكنني أن أحتميَ فيه من الرياح.» ثم بدأت في سرد قصة طويلة عن العَوَز والمرض، كانت مثيرةً للشفقة لدرجة أني لم أُفاجَأ مطلقًا عندما أخبرتني السيدة بيلدن، عند عودتها، أنها قد وافقت — رغم عزمها السابق — على أن تسمح لهذه المرأة بأن تضطجع أمام مِدفأة المطبخ هذه الليلة.
قالت: «إن لها عينَين صادقتَين؛ وعمل الخير هو الرفاهية الوحيدة التي أمتلكها.»
كانت المقاطعة التي تسببَ فيها هذا الموقف قد قطعت حديثنا تمامًا. صعدت السيدة بيلدن لأعلى، وبقيتُ وحدي بعض الوقت لأتمعنَ فيما قد سمعته، ولِأُقرر الإجراء الذي سأتخذه مستقبلًا. كنت قد توصَّلت للتو إلى استنتاجٍ مفاده أنه قد يستوي لديها احتمالُ أن تنجرف وراء مشاعرها لتُتلف الورق الذي في عُهدتها، وأن تتحكَّم فيها مبادئُ الإنصاف التي كنت قد أوضحتها لها، حين سمعتُها تنزل السلم خلسةً وتخرج من الباب الأمامي. مرتابًا في نواياها، أخذتُ قبعتي وأسرعت بملاحقتها. كانت تسير في طريقها في الشارع الرئيسي، وكانت أول فكرة راودتني أنها كانت تقصد منزل أحد الجيران أو ربما الفندق نفسه؛ لكنَّ التمايل المستقرَّ الذي سرعان ما تحول إليه إيقاعُ خطواتها المضطربة أقنعني بأنه كان لديها مقصدٌ بعيد مزمَع؛ ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجدتُ نفسي أجتاز الفندق والأبنية الملحقة به، وحتى مبنى المدرسة الصغير، الذي كان آخر مبنًى في هذا الطرف من القرية، وأدخل إلى قرية أخرى بعدها. ما الذي يمكن أن يعنيَه هذا؟
ولكن ظل جسدها المضطرب المسرع في مشيته، والهيئة الخارجية لجسمها، بوشاحها الذي تتدثر فيه وقبعتها الأنيقة، يختفي أكثرَ فأكثر في الظلمة التي كانت قد حلَّت في ذلك الوقت من إحدى ليالي شهر أبريل؛ وظللت أقتفي خطواتها، سائرًا على منطقةٍ عشبيةٍ على جانب الطريق خشية أن تسمع وَقْع أقدامي فتتلفتَ حولها. وأخيرًا وصلنا إلى جسر. كان بوسعي أن أسمعها تمر فوقه، ثم سكنَت جميع الأصوات. كانت قد توقَّفَت، ومن الواضح أنها كانت تُنصت. لم يكن من المناسب أن أتوقَّف أنا أيضًا؛ لذا استجمعتُ نفسي في شكلٍ غريبٍ قدر الإمكان، ومشيت على مهل مارًّا بها، لكن ما إن وصلتُ عند نقطة معينة، توقفتُ، وبدأت أعود أدراجي في ترقب شديد لجسدها الآخذِ في التقدم، حتى وصلتُ مرة أخرى عند الجسر. ولم تكن هناك.
ترسَّخَت لديَّ قناعةٌ حينها أنها قد اكتشفت الدافع وراء إقامتي في منزلها، وباقتيادي إلى خارجه، كانت قد أخذت على عاتقها أن تمنحَ هانا فرصةً للهرب، وكنت على وشك أن أسرع بالعودة إلى المهمَّة التي تركتها في غفلةٍ مني، عندما سمعت صوتًا غريبًا على يساري استوقفني. جاء هذا الصوت من ضفاف جدولٍ مائي متواضع يجري أسفل الجسر، وكان يُشبه صرير بابٍ قديم له مفصلات متهالكة.
قفزتُ من السور، وشققتُ طريقي بأقصى ما في وسعي إلى أسفل الحقل المنحدر في الاتجاه الذي أتى الصوت منه. كان الظلام حالكًا، وكانت خطواتي بطيئة؛ لدرجة أنني بدأت أخشى من أنني أُجازف بإضاعة الوقت في مطاردة لا طائل منها، لولا أن سطع شعاعُ ضوء غير متوقع في السماء، وعلى وهجه رأيت أمامي ما تراءى لي، في اللحظة الخاطفة التي أتيحت لي، أنه حظيرة قديمة. ومن اندفاع المياه بالقرب مني، قدَّرت أنه في مكانٍ ما على حافة الجدول المائي؛ ولهذا تردَّدتُ في المضي قدمًا، عندما سمعت صوتَ أنفاسٍ متثاقلة بالقرب مني، أعقبها حركةٌ وكأنَّ شخصًا كان يتحسَّس طريقه فوق كومةٍ من ألواحٍ سائبة؛ وبعد قليل، بينما كنت واقفًا هناك، سطع وميضُ ضوءٍ أزرق خافت من داخل الحظيرة، فرأيت، من خلال الباب المتهالك المقابل لي، السيدة بيلدن واقفة وفي يدها عود ثقاب مشتعل، تحدِّق حولها في الجدران الأربعة التي تحيط بها. لم أجرؤ على التنفس، خشيةَ أن أَلفت انتباهها، وأخذت أراقبها وهي تستدير وتُدقِّق النظر في السقف أعلاها، الذي كان قديمًا لدرجة أن أكثر مِن نصفه كان مفتوحًا إلى السماء، ثم إلى الأرض من تحتها، التي كانت متداعيةً بالقدر نفسِه، وأخيرًا إلى صندوقٍ صغيرٍ من القصدير أخرجَتْه من تحت وشاحها ووضعَته على الأرض عند قدمَيْها. أوصلني مَرْأى ذلك الصندوق في الحال إلى قناعةٍ فيما يتعلَّق بطبيعة مهمتِها. كانت ستُخفي ما لم تجرؤ على إتلافه؛ وإذ شعرت بالارتياح لهذه النقطة، كنت على وشك أن أخطوَ خطوةً إلى الأمام عندما انطفأ عود الثقاب الذي كان في يدها. بينما كانت منشغلةً بإشعال عود ثقاب آخر، ظننت أنه ربما من الأفضل لي ألَّا أُثير ذعرها بأن أقترب منها في هذا التوقيت، وأعرِّض نجاح مخطَّطي الرئيسي للخطر؛ وأن عليَّ أن أنتظر حتى تنصرف، قبل أن أحاول الحصول على الصندوق. وهكذا تقدمتُ خطوةً خطوة حتى وصلت إلى جانب الحظيرة وانتظرت حتى تُغادرها، مدركًا أنني إن حاولت أن أحدِّق عبر الباب، سأصبح عرضةً لأن تراني، بسبب خطوط البرق المتكررة، التي كانت تومض حولنا من كل جانب. مرَّت دقيقةٌ تلو أخرى، شهدَت تقلباتٍ غريبة بين ظلامٍ حالك وبريقٍ مفاجئ؛ وكانت ما زالت لم تخرج بعد. وأخيرًا، في اللحظة التي أوشكتُ فيها على أن أتحرَّك من مَخبئي وقد نَفِد صبري، عاودَت الظهور، وبَدَأَتْ في التراجع بخطواتٍ متعثرةٍ ناحية الجسر. لمَّا ظننت أنها بعيدةٌ تمامًا عن أن تسمَعني، تسللتُ من مخبئي ودخلت الحظيرة. كانت مظلمةً جدًّا بالطبع، لكن لأنني مدخِّن كنت أنا أيضًا أحملُ أعواد ثقاب مثلها، فأشعلت واحدًا، ورفعته لأعلى؛ لكنَّ ضوءَه كان واهنًا جدًّا، وإذ لم أكن أعرف تحديدًا أين أبحث، انطفأ دون أن أقتنص سوى لمحةٍ خاطفةٍ عن البقعة التي كنت أقف فيها. ومن ثَمَّ أشعلتُ عودًا آخر؛ ولكن رغم أني حصرت تركيزي في موضعٍ واحد، وتحديدًا، الأرض تحت قدَمَيَّ، انطفأ أيضًا قبل أن أتمكَّن من التخمين مستدلًّا بأي علامةٍ على المكان الذي كانت قد أخفَت فيه الصندوق. وحينئذٍ ولأول مرة أدركتُ الصعوبة التي كنت أُجابهها. ربما كانت قد قرَّرَت، قبل أن تُغادر المنزل، في أي جزءٍ تحديدًا من تلك الحظيرة ستُخفي كنزها؛ لكن لم يكن يوجد أي شيء يدلني عليه: لم يكن بوسعي إلا أن أُهدر أعواد الثقاب. وقد أهدرتها بالفعل. أشعلت عشرات الأعواد وانطفأت قبل أن أتأكدَ من أن الصندوق لم يكن تحت كومة ركام متجمعة في أحد الأركان، وكنت قد أمسكت بآخر عودٍ في يدي قبل أن أُلاحظ أن أحد الألواح المكسورة في الأرضية كان قد زُحْزِحَ قليلًا بعيدًا عن مكانِه الصحيح. لقد تبقَّى لدي عود ثقاب واحد! وكان يجب أن أرفع ذلك اللوحَ، وأفتِّش تحته، وأُخرج الصندوق سليمًا، إن وُجد هناك. توصلتُ إلى أن عليَّ ألا أُهدر ما تبقَّى لي من موارد؛ لهذا جثوتُ على ركبتي في الظلام، وتحسست اللوح، وفحصته، فوجدته مفكوكًا. انتزعته بكل ما أُوتيتُ من قوة، فكسرته وألقيته جانبًا؛ ثم ما إن أشعلت عود الثقاب حتى نظرتُ في الفجوة التي صنعتها. وقعت عيناي على شيء، لم أستطع أن أعرف إن كان حجرًا أم صندوقًا، لكن لمَّا مددتُ يدي نحوه، طار عود الثقاب من يدي. كنت مستاءً من إهمالي، لكنني عزمتُ على أحصل على ما رأيته مهما كانت المخاطر، فأدخلت يدي عميقًا داخل الحفرة، وفي غضون لحظةٍ أخرى أصبح في يدي الشيء الذي أثار فضولي. كان الصندوق!
راضيًا بهذه النتيجة التي أثمرَت عنها محاولاتي، هممتُ بالانصراف، وكانت أمنيتي الوحيدة في تلك اللحظة هي أن أصل إلى المنزل قبل السيدة بيلدن. هل كان هذا ممكنًا؟ فقد سبقتني بدقائق عدة؛ وكان عليَّ أن أمرَّ بها في الطريق، وبذلك ربما تتعرف عليَّ. فهل كانت الغاية تستحق المخاطرة؟ قرَّرت أنها تستحق.
عدتُ إلى الطريق الرئيسي، وأخذت أسير بخطواتٍ مسرعة. ولمسافة قليلة نوعًا ما التزمتُ السير بالسرعة نفسِها، ولم أكن قد تخطيت أو قابلت أيَّ شخص. لكن على حينِ غِرة، عند منعطف الطريق، صادفتُ السيدة بيلدن على نحوٍ غير متوقَّع، واقفة في منتصف الطريق، تنظر خلفها. مرتبكًا إلى حدٍّ ما، أسرعتُ الخطى مارًّا بها بسرعة كبيرة، متوقعًا أن تبذل بعض الجهد لإيقافي. لكنها تركَتني أمرُّ من دون أن تتفوه بكلمة. في الواقع، أشك الآن في أنها رأتني أو سمعتني. تعجبت من تصرفها، وازداد اندهاشي من أنها لم تحاول أن تتبعني، ونظرت إلى الوراء، وعندئذٍ رأيت ما جعلها مكبَّلة في مكانها، وغافلة تمامًا عن وجودي. كانت الحظيرة وراءنا تحترق!
على الفور أدركتُ ما صنعَته يداي؛ كنت قد أوقعتُ عودَ ثقاب لم يكن قد انطفأ كليًّا، فسقط على مادة قابلة للاشتعال.
مشدوهًا لما أرى، توقفتُ بدوري، ووقفت أحدق. تصاعدت ألسنةُ اللهب أعلى فأعلى، واحتدمَت أكثر فأكثر حتى أضاءت السحب من فوقها، والجدول أسفل منها؛ ومن فرط ذهولي مما أرى، نسيت السيدة بيلدن. لكن بعد مدةٍ وجيزة، سرعان ما كانت الأنفاس اللاهثة بالقرب مني سببًا في أن يستحضرَ ذهني وجودها، فاقتربتُ أكثر منها، وسمعتها تصيح مثل شخص يتكلم وهو يحلم: «حسنًا، لم أكن أقصد أن أفعل هذا»؛ ثم أضافت بصوتٍ أكثر انخفاضًا، وفي نبرة صوتها شيءٌ من الرضا، «لكن لا بأس، على أي حال؛ سيصبح هذا الشيء مفقودًا إلى الأبد، وستكون ماري راضيةً دون أن يُلْقَى باللوم على أي شخص.»
لم أتباطأ لأسمع المزيد؛ إن كانت هذه هي النتيجة التي توصَّلَت إليها، فلن تنتظر هناك مدةً طويلة، لا سيما أن صوت الصيحات القادمة من بعيد والأقدام الراكضة أظهرَ أن حشدًا من صِبْية القرية كان في طريقه إلى مكان الحريق.
أول ما فعلته، عند وصولي المنزل، كان أن أطمئنَّ على أنه لم يكن ثمة أيُّ عواقب شريرة استتبعَت تَركي للمنزل بتهور تحت رحمة المتشردة التي كانت قد استضافتها؛ أما الأمر التالي فكان أن أعود إلى غرفتي، وأُلقي نظرة سريعة على الصندوق. وجدتُ أنه صندوق أنيق من القصدير، مغلقٌ بقُفل. مقتنعًا من وزنه أنه لم يكن بداخله شيء أثقلُ من الأوراق التي تحدثَت عنها السيدة بيلدن، أخفيتُه تحت السرير وعدتُ إلى غرفة الجلوس. كنت بالكاد قد جلست وأخذت كتابًا عندما دخلت السيدة بيلدن.
صاحت، وهي تخلع قبعتها وتكشف عن وجهٍ متورد من أثر الحركة، لكن تعبيراته كانت تشي بارتياحٍ كبير: «حسنًا! يا لها من ليلة! البرق يُنير سماءها، وثمة حريقٌ في مكانٍ ما في آخر الشارع، والمنظر في الخارج يَشيب له الوِلدَان. آمُل أنك لم تشعر بالوحدة»، وواصلت حديثها، حريصةً على تفحص وجهي الذي جعلتُه يبدو مضجرًا قدرَ استطاعتي. أردفت: «كانت لديَّ مهمة لا بد من تأديتها، ولكني لم أتوقَّع أنها ستستغرقُ وقتًا طويلًا هكذا.»
أجبتُها بردٍّ لا مُبالٍ، وأسرَعَتْ بالخروج من الغرفة لتُغلق المنزل.
انتظرتُ، لكنها لم تعد؛ خوفًا، ربما، من أن تفضحَ نفسها، كانت قد أوَت إلى غرفتها، وتركتني لأتولَّى أموري بنفسي بأفضلِ ما بوسعي. أُقر بأنني شعرتُ بارتياحٍ نوعًا ما لهذا. حقيقة الأمر أنني لم أكن أَقْوى على مواجهة أيِّ حدث مثير أكثرَ من ذلك في تلك الليلة، وكنتُ سعيدًا بإرجاء أي إجراء آخر حتى اليوم التالي. ولذلك، بمجرد انقضاء العاصفة، ذهبتُ إلى السرير، وبعد عدة محاولات فاشلة، تمكنتُ من النوم.