ورق محترق
ما أصعب فراقك عليَّ.
لا أظن أنني استغثتُ على الفور. فالصدمة المريعة لهذا الاكتشاف التي جاءت في اللحظة نفسِها التي كانت فيها الحياةُ والأمل أقوى ما يكون بداخلي؛ والانهيار المفاجئ الذي تسبَّب فيه لجميع الخطط المعتمِدة على الشهادة المرتقبة لهذه السيدة؛ والأسوأ على الإطلاق، التصادف المخيف بين هذا الموت المفاجئ والمأزق الذي من المفترض أن الطرف الجانيَ — أيًّا كان — كان واقعًا فيه في تلك الساعة، كان كل ذلك مريعًا جدًّا بالنسبة لي لدرجةٍ جعلتني لم أتخذ إجراءً فوريًّا. لم أقوَ إلا على أن أقف وأُحدق في هذا الوجه الساكن أمامي، المبتسم في رقدته المطمئنَّة كما لو أن الموت كان ألطفَ مما نظن، وأتعجب من التدبير الإلهي الذي كان قد ابتلانا بخوفٍ متجدد بدلًا من السكينة، وبالتعقيد بدلًا من الاستنارة، وبخيبة الأمل بدلًا من الفهم. لأنه مع بلاغة الموت، حتى على وجوه مَن لا نعرفهم ولا نحبهم، كانت الأسباب والعواقب لهذا الموت أهمَّ بكثير من أن تُتيح للعقل أن يُسهب في التفكير في المشاعر الشجيَّة التي كان يُثيرها المشهد نفسُه. هانا الفتاة فُقِدَت في غمار التفكير في هانا الشاهدة.
لكن تدريجيًّا، وأنا أُحدق فيها، جذبتني نظرةُ التوقُّع التي آنستُها تحوم حول الفمِ الحزين والجفنَين نصف المفتوحَين، فانكفأتُ عليها باهتمامٍ شخصيٍّ أكثر، سائلًا نفسي عمَّا إن كانَت قد انقطعَت صلتُها بالحياة تمامًا، وإن كان للتدخل الطبي أيُّ جدوى. لكن كلما أمعنتُ النظر أكثر، ازداد يقيني بأنها قد فارقت الحياة منذ بضع ساعات؛ وروعني الفزعُ الناجم عن هذه الفكرة، الذي صاحبه الندم الذي لا بد أنني سأشعرُ به ما حييت، والنابع من أنني لم أَتَّبِع المسارَ الجريء الليلة الماضية، وباقتحام مخبأ هذه الفتاة المسكينة، أعطل، إن لم أمنع، ملاقاتها لمصيرها، وجعلني أُدرك موقفي الحاليَّ؛ وبعدما انصرفتُ من جانبها، ذهبت إلى الغرفة المجاورة، وفتحت النافذة، وربطتُ في شيشها منديلًا أحمرَ كنت قد جلبتُه معي على سبيل الاحتياط.
في الحال ظهر من منزل السمكري شابٌّ، سرَّني اعتقادي أنه «كيو»، رغم أنه لم يكن يحمل أدنى شبه، سواءٌ في ملبسه أو تعابير وجهه، يدلُّ على أنه ذلك الشاب الذي قد رأيته، ثم قصد المنزل التي كنت فيه.
لاحظته يُلقي نظرة خاطفة في اتجاهي، فخرجتُ من الغرفة، ووقفت في انتظاره عند مقدمة السلم.
همس، عند دخوله المنزل وملاقاة نظرتي من الأسفل: «حسنًا؟ هل رأيتَها؟»
أجبتُ بمرارة: «أجل، لقد رأيتها.»
صعد في عُجالة إلى جانبي. قال: «وهل اعترفت؟»
«لا؛ لم أتحدَّث معها.» ثم، إذ أحسست أنه يزداد قلقًا بسبب نبرة صوتي وأسلوبي، جذبته إلى غرفة السيدة بيلدن وسألته في عجالة: «ما الذي كنت تقصده صباح اليوم عندما أخبرتني بأنك قد رأيتَ هذه الفتاة؟ وأنها في غرفة بعينها قد أجدها فيها؟»
«ما قلتُه.»
«أذَهبتَ إلى غرفتها إذن؟»
«لا؛ لم أكن إلا خارج الغرفة. ما إن رأيت ضوءًا، حتى تسلَّلتُ إلى حافة السطح المائل في الليلة الماضية أثناء وجودك أنتَ والسيدة بيلدن في الخارج، ناظرًا عبر النافذة، ورأيتها تجول في الغرفة جيئةً وذهابًا.» لا بد أنه لاحظ تغيرًا في وجهي؛ لأنه توقَّف عن الحديث. وصاح: «فيمَ يُفيد ذلك؟»
لم يعد بإمكاني كبحُ جماح نفسي أكثر من ذلك. فقلت: «تعال، وانظر بنفسك!» ثم، بعد أن قُدته إلى الغرفة الصغيرة التي كنت قد غادرتها للتو، أشرتُ إلى الجسد الساكن الراقد بالداخل. وقلت: «قلتَ لي إنني سأجد هانا هنا؛ لكنك لم تقل لي إنني سأجدها في هذه الحالة.»
صاح منتفضًا: «يا إلهي! هل ماتَت؟»
قلت: «أجل، ماتت.»
بدا وكأنه لم يستوعب الأمر. أجاب: «لكن هذا مستحيل!» وأردف: «لا بد أنها في سُباتٍ عميق، أو أنها تناولت مخدرًا …»
قلت: «هذا ليس نومًا، أو إن كان نومًا، فلن تُفيق منه أبدًا. انظر!» ثم أمسكتُ بيدها مرة أخرى، وتركتها تسقط بكامل ثقلها على السرير.
بدا أن المشهد أقنعه. بعد أن هدأ، ظل يُحدِّق فيها وعلى وجهه تعبيرٌ شديدُ الغرابة. فجأةً تحرَّك وبدأ يُقَلِّب في الملابس التي كانت على الأرض.
سألته: «ماذا تفعل؟ عمَّ تبحث؟»
«أبحث عن قطعة الورق التي رأيتها تأخذ منها ما ظننتُه جرعةَ دواء الليلة الماضية. يا إلهي، ها هي!» صاح، وهو يرفع قصاصة ورق، كانت على الأرض أسفل حافة السرير، فلم يكن قد انتبهَ إليها إلا الآن.
قلت مضطربًا: «أرني إياها.»
أعطاني الورقة، وعلى سطحها الداخلي لاحظتُ بصعوبة آثارًا لمسحوق أبيض غير محسوس.
قلت، وأنا أطوي هذه الورقة بحذر: «هذا مهم.» وأردفت: «إن كانت توجد كميةٌ كافيةٌ متبقيةٌ من هذا المسحوق تؤكد أن ما بداخل هذه الورقة كان مادةً سامة، فهذا قد يُفسِّر الأسلوب والطريقة التي ماتَتْ بها الفتاة، وسيتضح أنه حالة انتحار متعمَّد.»
ردَّ قائلًا: «لست واثقًا من ذلك.» وتابع: «إن كان لديَّ أيُّ قدرةٍ على الحكم على الوجوه، وأزعم أنني كذلك، فإن هذه الفتاةَ لم تكن تُدرك أنها كانت تتناول سمًّا أكثرَ مني. لم تكن تبدو سعيدةً فقط، بل كانت أساريرها متهللة؛ وعندما رَفَعَت الورقة لأعلى، ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ تنمُّ عن انتصارٍ ساذجٍ في الأغلب. إن كانت السيدة بيلدن قد أعطتها تلك الجرعة لتتناولها، وأخبرتها بأنها دواء …»
«ذلك أمرٌ ما زال يتعين التأكُّد منه؛ وكذلك ما إذا كانت الجرعة، كما تدعوها، سامةً أم لا. فربما تكون قد ماتت بمرضٍ في القلب.»
اكتفى بهزِّ كتفيه، وأشار أولًا إلى صحن الفطور الذي تُرِك على الكرسي، ثم أشار ثانيًا إلى الباب المكسور.
قلت، ردًّا على نظرته: «أجل، السيدة بيلدن كانت هنا صباحَ اليوم، والسيدة بيلدن هي من أغلقت الباب لمَّا خرجت؛ لكن ذلك لا يُثبت شيئًا سوى اعتقادها بأن الفتاة كانت تعاني من مرضٍ في قلبها.»
«اعتقاد لم يبدُ أن هذا الوجه الأبيض الشاحب على وسادته المتداعية قد زعزعه؟»
«ربما لكونها في عجَلة من أمرها لم تنظر إلى الفتاة، وإنما وضعَت الأطباق دون أن تلقي أكثر من نظرة عابرة نحوها؟»
«لا أريد أن أرتاب في وقوع أي خطب، ولكن يا لها من مصادفة!»
لمس ردُّه هذا نقطةً حساسة لديَّ، فتراجعتُ إلى الخلف. وقلت: «حسنًا، لا جدوى من أن نقف هنا ونشغل أنفسنا بافتراضات. ثَمة الكثير الذي يتعيَّن علينا فعله. هيَّا!» واتجهت مسرعًا نحو الباب.
سألني: «ماذا ستفعل؟» وأردف: «أنسيت أن هذه ليست إلا حلْقةً من هذا اللغز الكبير الذي أُرْسِلنا لفك طلاسمه؟ إن كانت هذه الفتاة قد لقيت حتفها جراء حادثٍ مدبَّر، فمن واجبنا أن نكتشفه.»
«ذلك يجب أن يُترَك لمحقق الوفيات. لقد خرج الأمر الآن من أيدينا.»
«أعرف؛ ولكن يمكننا على الأقل أن نُحيط علمًا على نحو وافٍ بالغرفة وبكل ما فيها قبل أن نلقي بالمسألة إلى أيدٍ غريبة عنَّا. فالسيد جرايس سيتوقع منَّا ذلك القدر، وأنا واثق من ذلك.»
«لقد ألقيتُ نظرةً على الغرفة. وقد انطبع في ذهني كل شيء. ما أخشاه هو ألا أستطيع أن أنساها أبدًا.»
«والجثة؟ هل لاحظت وضعها؟ ووضع أغطية السرير حولها؟ وغياب أي علامات على المقاومة أو الخوف؟ وسكون وجهها؟ وسقوط يدَيها بارتخاء؟»
«أجل، أجل؛ لا تجعلني أنظر إليها مرةً أخرى.»
«ثم ماذا عن الملابس المعلَّقة على الحائط؟» وهو يُشير سريعًا إلى كل شيء وهو يتحدث. «أترى؟ فستان مصنوع من قماش الكاليكو؛ وشاح، ليس ذاك الذي يُعتَقَد أنها هرَبَت به، بل وشاح أسود قديم، على الأرجح يخص السيدة بيلدن. ثم هذا الصندوق» فاتحًا إياه «الذي يحتوي على بعض الملابس الداخلية المميزة، … لنرَ … عليها اسم سيدة المنزل، لكن أصغر من أي شيءٍ ارتدَتْه قبل ذلك؛ صُنِعَت من أجل هانا، كما تلاحظ، وموسومة باسم سيدة المنزل درءًا للشبهات. ثم هذه الملابس الملقاة على الأرض، كلها جديدة، وكلها موسومة بالطريقة نفسها.» ثم صاح فجأة: «ثم هذا … هلم! انظر هنا!»
اتجهتُ حيثما كان يقف وانحنيت، وعندئذٍ وقعت عينايَ على طَستِ اغتسالٍ مملوء حتى نصفه بورقٍ محترق.
«رأيتها تنحني على شيءٍ في هذا الركن، لكني لم أستطع أن أفكِّر في ماهيته. هل من الممكن أن تكون قد انتحرَتْ في نهاية الأمر؟ من الواضح أنها تخلصَت هنا من شيء ما هنا لم ترغب أن يراه أي أحد.»
قلتُ: «لا أدري.» وأردفت: «ولكني أكاد آمُل ذلك.»
«لم تتبقَّ قطعة ورق صغيرة، ولا قصاصة تدل على ماهيته؛ يا للحظِّ السيئ!»
صِحت قائلًا: «لا بد أن تحل السيدة بيلدن خيوط هذا اللغز.»
ردَّ: «لا بد أن تحل السيدة بيلدن خيوط اللغز بأكمله؛ فسرُّ مقتل السيد ليفنوورث متوقفٌ عليه.» ثم، مطيلًا النظرَ ناحية ذلك الورق المحترق، أضاف: «من يدري؛ لعله كان اعترافًا؟»
بدا التخمين محتملًا للغاية.
قلت: «أيًّا كانَت ماهيته، فقد صار رمادًا الآن، وعلينا أن نتقبَّل الواقع ونستفيدَ منه على أحسن وجه.»
قال بتنهيدةٍ عميقةٍ: «نعم؛ هذا صحيح؛ لكن السيد جرايس لن يُسامحَني أبدًا على ذلك، أبدًا. سوف يقول إنه كان يجب عليَّ أن أُدرك أن تناوُلَها لجرعة دواء كان ظرفًا مُريبًا في نفس لحظة اكتشافي لذلك وأنا واقفٌ خلفها.»
«لكنَّها لم تكن تعرف ذلك؛ ولم ترَك.»
«لا نعرف ماذا رَأَت، ولا ما رَأَته السيدة بيلدن. النساء لُغز؛ ورغم إشادتي بنفسي بأن ذكائي عادةً يُضاهي أكثرَ النساء ذكاءً على وجه الأرض، لا بد أن أقرَّ أنه في هذه القضية أشعر أنني هُزمتُ هزيمةً ساحقةً ومخزية.»
قلت: «حسنًا، حسنًا، النهاية لم تأتِ بعد؛ مَن يدري ما الذي سيكشفه حديثٌ مع السيدة بيلدن؟ وعلى أي حال، ستعود إلى المنزل عمَّا قليل، وعليَّ أن أتأهَّب لمقابلتها. فكل شيءٍ سيعتمد على أن أكتشف، إن استطعت، إن كانت على درايةٍ بهذه الكارثة أم لا. فمن الممكن أنها لا تعرف أي شيءٍ عنها.»
ومستعجلًا إياه للخروج من الغرفة، أغلقتُ الباب ورائي، وتقدَّمته إلى الأسفل.
قلت: «والآن، ثمة أمرٌ واحدٌ عليك أن تتولَّى تنفيذه في الحال. لا بد من إرسال برقيةٍ إلى السيد جرايس لإطلاعِه على هذا الحدث غير المتوقَّع.»
«وهو كذلك، يا سيدي»، وتوجَّه «كيو» نحو الباب.
قلت: «انتظر لحظة.» وأردفت: «ربما لن تسنحَ لي فرصةٌ أخرى لأذكر هذا. تسلَّمَت السيدة بيلدن خِطابَين من مدير مكتب البريد أمس؛ أحدهما في ظرفٍ كبير، والآخر في ظرفٍ صغير، إن كان بإمكانك أن تعرف الخَتْم البريديَّ الذي خُتِما به …»
وضع «كيو» يده في جيبه. وقال: «أظن أني لن أكون مضطرًّا إلى أن أذهب بعيدًا لأكتشف من أين أتى أحدهما. يا إلهي، لقد فَقَدتُه!» وقبل أن ألاحظ، كان قد عاود صعود درجات السلم.
وفي تلك اللحظة سمعت صوت طقطقة البوابة.