الفصل الحادي والثلاثون

«كيو»

ولهذا حكاية.

مسرحية «ترويض النمرة»

«الأمر برمَّته كان خدعة؛ لم يكن أحدٌ مريضًا؛ لقد استُغْلِلت، بكل حقارة، استُغْلِلت!» ودخلت السيدة بيلدن الغرفة التي كنتُ فيها، بوجهٍ متوهجٍ وأنفاسٍ لاهثة، وشرَعَتْ في خلع قبعتها؛ لكن بينما كانت تفعل ذلك توقفت، وصاحت فجأة: «ما الأمر؟ يا لها من نظرةٍ تلك التي تحدجني بها! هل حدث شيء؟»

أجبتُها: «شيء جِدُّ خطير قد حدث؛ لم تغيبي إلا مدةً قليلة، ولكن في تلك المدة اكتُشِف أمرٌ ما …» توقفتُ هنا عن قصدٍ على أملِ أن يُظْهِر الترقُّب ما يُفتَضَح به أمرها؛ لكن، على الرغم من الشحوب الذي استحال إليه وجهها، أظهرَت انفعالًا أقلَّ مما توقَّعت، فتابَعْت: «من المرجح أن يترتبَ عليه عواقبُ بالغة الأهمية.»

فوجئتُ أنها انفجرت في البكاء بحرقةٍ. فتمتمَت: «كنت أعرف، كنت أعرف!» وأردفَت: «قلتُ دومًا إنه سيكون من المستحيل أن يبقى الأمرُ سرًّا إذا سمحتُ لأحدٍ بدخول المنزل؛ إنها في غاية القلق.» ثم قالت فجأةً، وعلى وجهها نظرةٌ فزعة: «لكنك لم تُخبرني بماهية الاكتشاف. ربما ليس ما ظننت؛ ربما …»

لم أتردَّد في مقاطعتها. فقلت: «سيدة بيلدن، لن أحاول أن أخفِّف الصدمة. إن امرأةً، إزاء النداء الأكثر إلحاحًا من القانون والعدالة، بوُسعها أن تستقبل وتُئوي في بيتها شاهدةً بهذا القدر من الأهمية مثل هانا، لا يمكن أن تظلَّ في حاجةٍ إلى أي تمهيد لسماع أن جهودها قد حققت ناجحًا باهرًا، وأنها حققت غايتها المتمثلة في حَجْب شهادةٍ مهمة، وأنها أثارت غضبَ القانون والعدالة، وأن المرأة البريئة التي كان من الممكن أن تُنقذها شهادةُ هذه الفتاة تقف ملوثةَ السمعة إلى الأبد في أعين العالم، إن لم يكن في أعين رجال القانون.»

بفزعٍ ومَضَت عيناها اللتان ظلَّتا مسلطتَين على وجهي طوال هذا الحديث.

صاحت: «ماذا تقصد؟» وأردفت: «لم أقصد أن أرتكبَ أي جُرم؛ لم أكن أسعى إلا لإنقاذ الناس. أنا … أنا … لكن مَن أنت؟ ما شأنك بكل هذا؟ ماذا يعني لك ما أفعله أو ما لا أفعله؟ قلتَ إنك محامٍ. هل يمكن أن تكون قد أتيت من طرف ماري ليفنوورث لترى كيف أفي بأوامرها، و…»

قلت: «سيدة بيلدن، إن هُويتي والغرض من وجودي هنا أمرٌ قليلُ الأهمية الآن. لكن حتى يكون لكلماتي وقعٌ أكبر، سأقول، إنني على الرغم من أني لم أخدَعْكِ، سواءٌ فيما يتعلَّق باسمي أو منصبي، فصحيحٌ أنني صديق للآنستَين ليفنوورث، وأن أيَّ شيءٍ من المحتمل أن يؤثر عليهما ذو أهميةٍ لي. ومن ثَمَّ، عندما أقول إن إلينور ليفنوورث تضرَّرَت ضررًا غيرَ قابلٍ للإصلاح بموت هذه الفتاة …»

«موت؟ ماذا تقصد؟ موت!»

كان انفعالها تلقائيًّا للغاية، وكانت نبرةُ صوتها مذعورةً إلى أقصى درجة، فلم أشكَّ ولو للحظةٍ أخرى في جهل هذه المرأة بالوَضْع الحقيقي للأمور.

أعدتُ على مسامعها: «أجل، إن الفتاة التي كنتِ تتستَّرين عليها مدةً طويلة جدًّا وبطريقةٍ جيدةٍ جدًّا لم تعد الآن تحتَ سيطرتك. لم يبق سوى جثتها، يا سيدة بيلدن.»

لن تنسى أذناي ما حييتُ الصرخة التي أطلقتها، ولا انفعالَها الجامحَ وهي تقول: «لا أصدق! لا أصدق!» وهي تندفع خارجةً من الغرفة وتُهرَع صعودًا على درجات السلم.

ولن أنسى ذلك المشهد التالي، عندما وقفَت، في حضرة المتوفَّاة، تعتصرُ يديها وتُنكر، وسط نشيج يعكس حزنًا وذعرًا لا يوجد ما هو أصدقُ منه، إنها كانت تعرف شيئًا عما حدث؛ وتقول إنها كانت قد تركَت الفتاة بمعنويات مرتفعة الليلةَ الماضية؛ وإنه صحيح أنها كانت قد أوصدت عليها الباب، لكنَّها كانت تفعل هذا دومًا عندما يكون أي شخصٍ في المنزل؛ وإنها إن ماتت إثر أيِّ نوبةٍ مفاجئة، فلا بد أن هذا حدث في هدوءٍ؛ لأنها لم تسمع أي حركةٍ طوال الليل، رغم أنها كانت قد أخذت تُنصت أكثر، كونها كانت بطبيعة الحال قلقة خوفًا من أن تُحدث الفتاة أي إزعاجٍ من شأنه أن يوقظني.

قلت: «لكنكِ كنتِ هنا صباح اليوم؟»

«أجل، لكني لم أنتبه لذلك. كنت في عجلةٍ من أمري، وظننتها نائمة؛ لهذا وضعتُ الصحون في مكان يسهل عليها أخذها منه وخرجتُ على الفور، وأوصدت الباب كالمعتاد.»

«من الغريب أنها ماتت هذه الليلة وليس في أي ليلة أخرى. هل كانت متوعكةً أمس؟»

«لا، سيدي؛ بل كانت أكثر تألقًا عن المعتاد؛ وأكثر حيوية. لم أظنَّ مطلقًا أنها كانت مريضة حينها أو قبل ذلك. لو كنت …»

عندئذٍ قاطعها صوتٌ: «لم تظني أبدًا أنها كانت مريضة؟» وأردف: «لماذا، إذن، كلفتِ نفسكِ عناء إعطائها جرعةَ دواء الليلة الماضية؟» ودخل «كيو» من الغرفة في الخلف.

أنكرَت، إذ من الواضح أنها افترضت أنني أنا مَن تحدث، قائلة: «لم أفعل! أفعلت أنا ذلك يا هانا، أفعلتُ أنا ذلك، أيتها الفتاة المسكينة؟» وهي تربت على اليد التي كانت بين يديها بحزنٍ وأسفٍ بدا أنهما صادقان.

«كيف تحصَّلَت عليها إذن؟ من أين حصلتْ عليها إن لم تكوني أنتِ مَن أعطيتِها إياها؟»

هذه المرةَ بدا أنها أدركت أن شخصًا ما بجانبي هو مَن كان يُخاطبها؛ وذلك لأنها أسرعَت بالوقوف، ونظرت إلى الرجل نظرةً متسائلة، قبل أن ترد.

«لا أدري من أنت يا سيدي؛ لكن ما بوسعي أن أخبرك به هو أن الفتاة لم يكن معها دواء، ولم تأخذ أي جرعة؛ لم تكن مريضة الليلة الماضية حسب علمي.»

«لكنني رأيتها تبتلعُ مسحوقًا.»

«رأيتها! … العالم أصابه الجنون، أو أنا من … رأيتَها وهي تبتلعُ مسحوقًا! كيف استطعت أن تراها تفعل ذلك أو أي شيء آخر؟ ألم تكن محبوسة في هذه الغرفة طوال الأربع والعشرين ساعةً؟»

«بلى، لكن ومع وجود نافذةٍ كتلك التي في السطح، لا يصعب كثيرًا أن أتطلَّع من خلالها إلى الغرفة، يا سيدتي.»

صاحت، وهي تتراجع خوفًا: «يا إلهي، في بيتي جاسوس، أصحيحٌ هذا؟ لكني أستحق ذلك؛ أبقيتها حبيسة بين أربعة جدران، ولم آتِ لأُلقي عليها نظرةً ولو لمرة واحدة طوال الليل. لا أقصد الشكوى، لكن ما الذي قلتَ إنك رأيتَها تتناوله؟ دواءً؟ سمًّا؟»

«لم أقل سمًّا.»

«لكنك كنتَ تقصد ذلك. تظن أنها سمَّمَت نفسها، وأنني ضالعةٌ في الأمر!»

أسرعتُ معلقًا: «لا، هو لا يظن أنكِ ضالعةٌ في الأمر. يقول إنه رأى الفتاة نفسها تبتلع شيئًا يعتقد أنه كان السببَ في وفاتها، وسؤاله لكِ الآن فحسب هو: من أين حصلَتْ عليه؟»

«كيف يمكنني أن أعرف؟ لم أعطها أي شيء؛ ولم أعرف أنه كان لديها أي شيء.»

بطريقةٍ ما، كنت أُصدِّقها، ولهذا شعرت بعدم رغبةٍ في إطالة الحوار الدائر أكثرَ من ذلك، لا سيما وأن كل لحظةٍ كانت تُعطِّل الإجراء الذي شعرتُ بأنَّ لِزامًا علينا أن نتخذه. ولهذا، أشرتُ إلى «كيو» أن ينصرف ليُباشر مهمته، وأخذت السيدة بيلدن من يديها وحاولت إخراجَها من الغرفة. لكنها قاومت، وجلست بجانب السرير وعلى وجهِها تعبيرٌ مفاده «لن أتركها وحدها مرة أخرى؛ لا تطلب مني ذلك؛ مكاني هنا، وسأظل هنا»، بينما وقف «كيو»، بعنادٍ لأول مرة، يحدِّق بتجهُّمٍ في كِلَينا، ولم يتزحزح، رغم إلحاحي عليه مرةً أخرى أن يُسرع، موضحًا له أن الصباح كان آخذًا في الانقضاء، وأنه لا بد من إرسال البرقية إلى السيد جرايس.

«لن أغادر الغرفة حتى تُغادرها تلك المرأة؛ ولن أترك المنزل إلا إذا وعدتَني بأن تحلَّ مكاني في حراستها.»

تركتُها مذهولًا، وذهبت إليه.

فهمستُ له قائلًا: «إنك تُفرط في شكوكك، وأرى أن تصرُّفك شديدُ الوقاحة. أنا واثقٌ من أننا لم نرَ شيئًا يُبرِّر أن نتخذ أي إجراءٍ من هذا القبيل؛ إلى جانب أنها لن تتسبَّب في أي ضررٍ هنا؛ ومع ذلك، فيما يتعلَّق بمراقبتها، أعدك أن أفعل ذلك إن كان هذا سيُريح بالك.»

«لا أريد أن تظلَّ تحت المراقبة هنا؛ خُذْها لأسفل. لا يمكنني أن أنصرفَ وهي هنا.»

«ألَا تُباشر قليلًا دورَ الرئيس؟»

«ربما؛ لا أدري. إن كنت أفعل، فلأن بحوزتي شيئًا يُبرِّر تصرُّفي.»

«ما ذلك الشيء؟ الخطاب؟»

«نعم.»

انفعلتُ بدوري الآن، ومددتُ يدي. وقلت: «دعني أطَّلعْ عليه.»

«كلا، ما دامت تلك المرأة موجودةً في الغرفة.»

رأيتُه عنيدًا لا يَلين، فرجعت إلى السيدة بيلدن.

قلت: «لا مفرَّ من أن ألتمس منكِ أن تأتي معي.» وأردفتُ: «هذه ليست وفاةً عادية؛ وسنُضطرُّ إلى استدعاء محقق الوفَيات وأشخاصٍ آخَرين إلى هنا. من الأفضل لكِ مغادرة الغرفة والنزول لأسفل.»

«لا أُبالي إن جاء محقق الوفيات؛ فهو جاري؛ ومجيئه إلى هنا لن يمنعَني عن حراسة هذه الفتاة المسكينة حتى يصل.»

قلت: «سيدة بيلدن، إن وَضْعكِ بصفتكِ الشخص الوحيد الذي يعرف بوجود هذه الفتاة في المنزل يفرض عليكِ ألَّا تُثيري الشكوك حولكِ بالبقاء أكثرَ ممَّا ينبغي في الغرفة المسجَّى فيها جثة المتوفاة.»

«الأمر يبدو كما لو أن تجاهلي لها الآن هو أفضل إثباتٍ لنواياي الحسَنة تجاهها في السابق!»

«لن يكون تجاهلًا منكِ أن تنزلي معي بناءً على التماسٍ جادٍّ إلى أقصى حدٍّ مني. بقاؤكِ هنا لن يُجديَ أي نفع؛ بل، في الحقيقة، سيُؤدِّي إلى ضرر. لهذا اسمعي ما أقوله وإلا فسأضطر إلى أن أتركَكِ في عُهدةِ هذا الرجل وأذهب بنفسي إلى السلطات المختصَّة.»

بدا واضحًا أن هذه الحجة الأخيرة أثَّرَت فيها؛ لأنها بنظرة اشمئزازٍ مرتعدٍ واحدةٍ إلى «كيو» نهضَت، قائلةً: «أنا تحت تصرُّفك»، ثم، دون أن تنطق بكلمةٍ أخرى، ألقَتْ منديلَها على وجه الفتاة وغادرَت الغرفة. وفي غضون دقيقتَين أُخريَين كان في يدي الخطابُ الذي تحدَّث عنه «كيو».

قال: «هذا هو الخطاب الوحيد الذي تمكَّنتُ من العثور عليه، يا سيدي. كان في جيب ثوب السيدة بيلدن الذي كانت ترتديه الليلةَ الماضية. لا بد أن الآخر موضوعٌ في مكانٍ ما حولنا، ولكن لم يُتَح لي وقتٌ للعثور عليه. ومع ذلك، أظن أن هذا سيفي بالغرض. لن تطلب الآخر.»

دون أن أُلاحظ عندئذٍ المغزى العميق في حديثه، فتحتُ الخطاب. كان الخطاب الأصغر من الخطابَين اللذَين كنت قد رأيتُها تُخفيهما تحت وشاحها في اليوم السابق عند مكتب البريد، وكان نصه كالتالي:

صديقتي العزيزة للغاية،

أنا في ورطةٍ مريعة. وأنتِ يا من تحبينني لا بد أنكِ تعرفينها. يستعصي عليَّ أن أوضِّحها، لكن ليس لديَّ سوى رجاءٍ واحد. تخلَّصي مما لديك، اليوم، في الحال، دون سؤالٍ أو تردُّد. موافقة أي شخص آخر لا علاقة لها بالأمر. لا بد أن تُذعِني. سأضيع إن رفَضتِ. نفِّذي ما أطلبه، وأنقذي

«شخصًا يحبكِ».

كان موجَّهًا إلى السيدة بيلدن؛ ولم يكن يوجد أيُّ توقيعٍ أو تاريخ، فقط طابَعُ بريد من نيويورك؛ لكني عرَفتُ الخط. كان خط ماري ليفنوورث.

«خطاب لعين!» جاء هذا القول بنبرات حادة بدا أن «كيو» ظن أن من المناسب استخدامَها في هذا الموقف. وأضاف: «ويا له من دليل ضد من كتبته، وضد من تسلَّمته!»

قلت: «دليل مريع حقًّا، لو لم يتصادف أنني أعرف أن هذا الخطابَ يُشير إلى التخلص من شيء يختلف كليًّا عما تشكُّ فيه. فهو يشير إلى بعض الأوراق في عهدة السيد بيلدن؛ ولا شيء آخر.»

«هل أنت واثق، يا سيدي؟»

«تمامَ الثقة؛ ولكن سنتحدث عن هذا الأمر فيما بعد. حان الوقت لأن تبعثَ برقيتك، وتذهب إلى محقق الوفيات.»

«وهو كذلك، يا سيدي.» وعندئذٍ تفرقنا؛ هو ليؤديَ دوره، وأنا لأؤدِّي دوري.

وجدتُ السيدة بيلدن تجول جيئةً وذَهابًا في الأسفل، وهي تندب حالها، وتنطق بعبارات غريبة تتعلق بما سيقوله الجيرانُ عنها؛ وبما سيظنُّه القس؛ وما ستفعله كلارا، أيًّا كانت من هي، وكم كانت تتمنى أن تُفارق الحياة قبل أن تتدخَّل في هذا الأمر.

نجحتُ في تهدئتها بعد مدة، وأقنعتُها بالجلوس والإنصات لما سأقوله. قلتُ معلقًا: «إن إظهاركِ لمشاعركِ هكذا لن يضرَّ أحدًا سواكِ، إلى جانب أنه سيجعلكِ غيرَ مؤهلةٍ لما سيُطلب منكِ أن تخضعي له عمَّا قريب.» ومفسِّرًا كلامي حتى أهوِّن على هذه السيدة التعيسة، أوضحتُ أولًا ما تقتضيه الحالة، ثم سألتها إن كان لها أيُّ صديقةٍ يمكنُها استدعاؤها في مثل هذا الظرف الطارئ.

أذهلني أنها أجابَت بالنفي؛ وأنه رغم أن لها جيرانًا أفاضلَ وأصدقاءَ أوفياء، لم يكن ثمة أحدٌ يمكنها أن تطلب منه الحضورَ في موقفٍ كهذا، سواءٌ للمساعدة أو المواساة، وأنها، إن لم أرْأفْ بحالها، سيتعيَّن عليها أن تُواجه هذا الموقف بمفردها، قائلةً: «مثلما واجهتُ كل شيء، من موت السيد بيلدن وحتى خَسارة أغلب مدَّخراتي الزهيدة في الحريق الذي نشب في البلدة العام الماضي.»

تأثرتُ بهذا، بأن تشعر هذه المرأة بأي افتقارٍ إلى الأصدقاء، وهي التي، بغضِّ النظر عن ضعفها وشخصيتها المتناقضة، كانت تمتلك على الأقل ميزةً واحدة؛ هي التعاطف مع أقرانها. دون تردُّد، عرضتُ عليها أن أفعل ما في وسعي من أجلها، بشرط أن تتحدثَ معي بالصراحة التامَّة التي كان يقتضيها الوضع. وما بعث راحةً في نفسي أنها لم تُعرِب عن استعدادها فحسبُ، بل عن رغبتها القوية في أن تُدليَ بكل ما كانَت تعرفه. قالَت: «لقد كان لديَّ ما يكفي من الأسرار طيلة حياتي.» ولديَّ حقًّا قناعةٌ بأن فَرائصها كانت ترتعد خوفًا، وأنه لو أتى ضابط شرطة إلى المنزل وطلب منها أن تكشفَ أسرارًا قد تُضِر بسمعةِ ابنها، كانت ستفعل ذلك دون اعتراض أو جدال. همسَت قائلةً: «أشعر وكأني أريد أن أقفَ في الحديقة العامة، وأمام العالم بأسره، وأُعلن ما فعلتُه من أجل ماري ليفنوورث. لكن أولًا، أخبرني، بحق الرب، بوضعِ هاتَين الفتاتَين. لم أجرؤ أن أسأل عنهما أو أن أكتب إليهما. فالصحف تقول الكثير عن إلينور، لكن لا شيء عن ماري؛ ومع ذلك فإن ماري لا تكتب إلا عمَّا ترتقبه هي وحدها من مَصائب، وعن الأخطار التي ستتعرَّض لها إن عُرفت حقائقُ بعينها. ما الحقيقة؟ لا أرغب في أن أضرَّهما، وإنما فقط في أن أهتم بحالي.»

قلت: «يا سيدة بيلدن، إلينور تورَّطَت في أزمتها الحاليَّة بامتناعها عن الإدلاء بما طُلب منها. أما ماري ليفنوورث … ولكن لا يمكنني أن أتحدَّث عنها حتى أعرف ما ستكشفين عنه. فوضعُها، وكذلك وضع ابنة عمها، غريب للغاية حتى إنه يصعب عليكِ وعليَّ أن نُناقشه. ما نريد أن نعرفَه منكِ هو: كيف أصبح لكِ صلةٌ بهذه القضية، وما الذي كانت هانا تعرفه وجعلها تترك نيويورك وتلتجئُ إلى هنا؟»

ولكن السيدة بيلدن، التي أخذت تشبِّك يدَيْها وتحلهما، قابلَت نظرتي لها بنظرةٍ مفعمةٍ بالريبة والتخوُّف. صاحَت: «لن تُصدِّقني مطلقًا؛ لكني لا أعرف ما الذي كانت هانا تعرفه. أجهلُ تمامًا ما رأَتْه أو سمعَتْه في تلك الليلة المشئومة؛ لم تُخبرني مطلقًا، ولم أسألها قطُّ. لقد قالَت فقط إن الآنسة ليفنوورث تُريد مني أن أُخفيَها مدةً قصيرة؛ وأنا، لأنني أحببتُ ماري وأُعجبت بها أكثرَ من أي شخصٍ رأيته في حياتي، وافقتُ بضعف، و…»

قاطعتُ حديثها: «هل تقصدين أنه بعد معرفتكِ بواقعة القتل، لمجرد النزول على رغبةِ الآنسة ليفنوورث، استمرَرتِ في إخفاء هذه الفتاة دون أن تُوجِّهي إليها أي أسئلةٍ أو تطلبي أي توضيحات؟»

أجابت: «أجل، سيدي؛ لن تصدقني أبدًا، لكن هذه هي الحقيقة. ظننت أنه، بما أنَّ ماري أرسلتها إلى هنا، فلا بد أن لديها أسبابَها التي دَعَتْها إلى ذلك؛ و… و… لا يُمكنني أن أوضِّح ذلك الآن؛ كل شيءٍ يبدو مختلفًا اختلافًا كبيرًا، لكنني فعلت ما قلتُه.»

قلت: «لكن ذلك كان تصرفًا غريبًا جدًّا. لا بد أنه كان لديكِ سببٌ قوي دفعَكِ للانصياع إلى طلب ماري بطاعةٍ عمياء.»

قالت بأنفاسٍ لاهثة: «آهٍ، يا سيدي، ظننتُ أني فهمت الأمر كله؛ وأن ماري، تلك الإنسانة الشابَّة البهيَّة التي نزلَت من مكانتها الرفيعة لتلجأ إليَّ وتُحبني، كانت لها صلةٌ بشكلٍ أو بآخَر بالجاني، وأنه كان من الأفضل لي أن أظلَّ جاهلةً بالحقيقة، وأن أُنفِّذ ما طُلِب مني، وأن أثقَ في أن كل شيءٍ سيئول إلى خير. لم أُفكِّر في الأمر بعقلانية، اكتفيتُ بأن اتبعت إحساسي الداخلي. لم يكن بوُسعي أن أفعل غير ذلك؛ هذه ليسَت طبيعتي. فعندما يُطلَب مني أن أفعل أيَّ شيءٍ من أجل شخصٍ أُحبه، لا يمكنني أن أرفض.»

«أتُحبِّين ماري ليفنوورث؛ وهي امرأة يبدو أنكِ أنتِ نفسكِ تعتبرينها قادرةً على ارتكاب جريمةٍ بشعة؟»

«يا إلهي، لم أقل ذلك؛ لا أعرف لماذا كنت أظن ذلك. ربما يكون لها علاقةٌ بطريقةٍ أو بأخرى بالجريمة، ولكن دون أن تكون هي المرتكبَ الفعلي لها. لا يمكن أن تكون هكذا أبدًا؛ إنها إنسانة في منتهى اللطف.»

قلت: «سيدة بيلدن، ما الذي تعرفينه عن ماري ليفنوورث ويجعلُ حتى ذلك الافتراضَ ممكنًا؟»

تورد الوجهُ الأبيض للمرأة الواقفة أمامي. وصاحت: «لا أعرف بماذا أُجيب.» وأردفت: «إنها قصة طويلة، و…»

قاطعتها: «لا داعي للقصة الطويلة.» وتابعت: «دعيني أسمع السبب الجوهري الوحيد.»

قالت: «حسنًا، سأخبرك به؛ إن ماري كانت في ظرف استثنائي لم يكن سيُخلصها منه سوى موتِ عمها.»

«أه، وكيف ذلك؟»

لكن عند تلك النقطة قاطعَنا صوتُ وقعِ أقدام عند مدخل المنزل، فتطلَّعت إلى الخارج، ورأيت «كيو» يدخل المنزل وحده. تركت السيدة بيلدن حيثما كانت، ودخلت الردهة.

قلت: «حسنًا، ما الأمر؟ ألم تجد محقق الوفَيَات؟ أليس في المنزل؟»

«نعم، فقد غادر؛ استقل عربةً ليتولى أمرَ رجلٍ عُثِر عليه على مسافة نحو عشَرة أميال من هنا، مطروحًا في مصرفٍ بجانب نير ثيران.» ثم، إذ لاحظ نظرةَ ارتياحٍ على وجهي؛ لأنني كنتُ سعيدًا بهذا التأخير المؤقت، قال، بغمزةٍ معبِّرة: «قد يستغرق الرجلُ وقتًا طويلًا حتى يصل إليه … وإن لم يكن في عجَلةٍ من أمره … قد يستغرق ساعات، حسب ظني.»

أجبتُه، مبتهجًا بطريقته: «فعلًا!» وأردفت: «طريق وعر، أليس كذلك؟»

«جدًّا؛ ولا يوجد حِصان يمكن أن يقطع هذه المسافة أسرعَ من السير.»

قلت: «حسنًا، هذا أفضلُ بكثيرٍ لنا؛ فالسيدة بيلدن لديها قصة طويلة لتحكيَها، و…»

«لا ترغب في أن يُقاطعها أحدٌ. أتفهَّم هذا.»

أومأتُ برأسي واتجه هو ناحية الباب.

سألته: «هل أرسلت برقية إلى السيد جرايس؟»

«نعم، يا سيدي.»

«أتظن أنه سيأتي؟»

«أجل، سيدي؛ حتى ولو اضطُر إلى أن يتَّكئ على عكازَيه.»

«متى تنتظر قدومه؟»

««أنت» الذي ستنتظره مبكرًا في الساعة الثالثة. سأكون بين الجبال، أتطلَّع بحزن إلى فريقي المفكك.» ثم ارتدى قبعته في سعادةٍ وسار بعيدًا في الشارع كمن كان أمامه اليوم بطوله ولا يعرف فيمَ يستغلُّه.

ومِن ثمَّ، أُتيحت الفرصة لكي تقصَّ السيدة بيلدن حكايتها، وفي الحال تمالكَت نفسها استعدادًا للمهمة، لتُثمر عن النتيجة التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤