اعتراف كامل
إن فترة ما بين الشروع في عمل مرهوب، وبين أول دافعٍ نفساني إليه وباعث وجداني عليه، لأشبه شيء بالحلم المفزع المزعج؛ وإذ ذاك تظل القُوى الفكرية والجسمانية في مؤامرة ومشاورة، ويروح الإنسان، وكأنه دولة مصغرة تكابد من حالة تلك الثورة والفتنة.
لست إنسانًا شريرًا؛ لست إلا إنسانًا عاطفيًّا. فالطموح، والحب، والغيرة، والكراهية، والانتقام … والمشاعر العابرة تجاه شخصٍ ما، هي مشاعر لها أصداء استثنائية معي. هي، بطبيعة الحال، مشاعرُ ساكنة ودفينة، أفَاعٍ ملتفةٌ لا تتحرك حتى تُثيرها؛ لكن حين تثيرها، يصبح انقضاضها مهلكًا وتصرفها قاسيًا. مَن يعرفونني جيدًا لم يعرفوا ذلك عني. أمي نفسها كانت تجهل ذلك. سمعتُها مرارًا تقول: «ليت ترومان مرهف الإحساس! ليت ترومان لم يكن غيرَ مبالٍ بكل شيء! خلاصة القول، ليت ترومان كان يمتلك قوةً أكبر بداخله!»
كان الأمر مماثلًا في المدرسة. لم يفهمني أحد. ظنوا أني شخصٌ وديع؛ فكانوا يُنادونني بصاحب الوجه العجيني. وطيلة ثلاث سنوات ظلُّوا ينادونني بهذا الاسم، حتى انقلبتُ عليهم وهاجمتهم. توجهت إلى زعيمهم، وطرحتُه أرضًا، فأوقعتُه على ظهره، ودستُ عليه بقدمي. كان وسيمًا قبل أن تَهوِيَ قدمي عليه؛ وبعدها … حسنًا، يكفي أنه لم يعد يناديني بصاحب الوجه العجيني. في المتجر الذي عملت به بعد ذلك بمدة قصيرة، لقيت حتى معاملة أقلَّ تقديرًا. ولأني كنت منتظمًا في عملي ودقيقًا في أدائي فيه، ظنوا أني مجرد آلة عمل جيدة لا أكثر من ذلك. أي قلبٍ ونَفْس وشعور يمكن أن يمتلكه رجلٌ لم يسبق له مطلقًا أن مارس رياضة، أو دخَّن، أو ضحك؟ كان بإمكاني أن أحسب الأرقام بطريقة صحيحة، لكن قلما كنتُ بحاجة إلى أن أستحضر قلبي أو عقلي لأُنجز ذلك. بل كان بإمكاني أن أكتب يومًا وراء يوم وشهرًا وراء شهر دون أن أقع في خطأٍ واحد في كتابتي؛ لكن ذلك لم يكن إلا ليؤكد أني لم أكن أكثرَ مما أشاروا إليه، رجل آلي منضبط. تركتهم يظنون ذلك، واثقًا أنهم يومًا ما سيُغيرون رأيهم كما فعل الآخرون. والحقيقة كانت، أنني لم أُحبَّ أحدًا الحبَّ الكافيَ، ولا حتى نفسي، حتى أهتم برأي أي إنسان آخر. كانت حياتي خاوية تقريبًا؛ سهل مستوٍ مجدب كان لا بد من اجتيازه شئت أم أبيت. وكان يمكن لتلك النظرة أن تستمر إلى يومنا هذا لو لم ألتقِ بماري ليفنوورث أبدًا. لكن عندما تركت، منذ ما يقرب من تسعة أشهُر، وظيفتي في مكتب الحسابات لأشغل وظيفتي في مكتبة السيد ليفنوورث، سُلِّط على روحي مصباحٌ وهاجٌ كان بريقه لا يخفت أبدًا، ولن يخفت أبدًا، حتى ينقضيَ أجلي.
كانت في غاية الجمال! عندما تبعتُ، في تلك الليلة الأولى، صاحبَ عملي الجديد إلى غرفة الجلوس، ورأيت هذه المرأةَ تقف أمامي بجمالها المغوي والمفزع بالقدرِ نفسِه، عرَفتُ، في لحظة كومضة برقٍ، كيف سيكون مستقبلي إن بقيت في ذلك المنزل. كانت في حالةٍ من حالاتها المتعجرفة، فأسبغَت عليَّ نظرةً تزيد قليلًا عن كونها نظرةً عابرة. لكن كان للامبالاتها وقعٌ طفيف على نفسي حينها. كان يكفيني أنه كان مسموحًا لي أن أقفَ في حضرتها وأتطلَّع إلى حُسنها من دون تأنيب. من المؤكد أن الأمر كان يبدو وكأنك تُحملق في فوهة بركانٍ ثائر تحيط بها الزهور. الخوف والانبهار كانا يُلازمانني في كل لحظة بقيتُ فيها هناك؛ لكن الخوف والانبهار جعَلا تلك اللحظةَ تبدو كما كانت عليها، ولم يكن بيدي أن أنسحب إن أردتُ ذلك.
وبقي الوضع على هذا الحال دومًا. كنت أنظر إليها بمشاعرَ يمتزج فيها ألمٌ وسعادةٌ يفوقان الوصف. لكن مع كل ذلك لم أتوقف عن تفحصِها ساعةً بساعة ويومًا بيوم؛ ابتساماتها، حركتها، طريقتها وهي تُدير رأسها أو ترفع جفونها. كان لدي غرض من هذا. تمنَّيت لو أحيك جمالَها ببراعة وإحكام في ثنايا نفسي لدرجة تُعجِز أي شيء عن انتزاعها. وذلك لأنه تكشَّف لي حينها بوضوح كما هو الآن أنها، مع دلالها، لن تتدنَّى أبدًا إلى منزلتي. بل العكس، قد أرقد عند قدميها وأسمحُ لها بأن تطأَ بقدمها عليَّ؛ ولن تلتفت حتى لترى ما ذلك الذي وطئته. قد أُمضي أيامًا، وشهورًا، وسنينَ لأتعرف على تفاصيل رغباتها؛ ولم تكن لتشكرني على العناء الذي كلَّفتُ به نفسي أو حتى لترفع رموشها حتى تنظر إليَّ وأنا أمرُّ. كنت لا شيء بالنسبة إليها، ولم يكن من الممكن أن أُمثل أيَّ شيء لها إلا إذا — وهذه الخاطرة تسللت إليَّ — استطعت بطريقةٍ ما أن أصبح سيدها.
في الوقت نفسِه، كنت أكتب ما يُمليه عليَّ السيد ليفنوورث وكان يُسعده أدائي. فكانت طريقتي المنظمة وفقًا لهواه تمامًا. أما فيما يتعلق بعضوة العائلة الأخرى، الآنسة إلينور ليفنوورث، فكانت تُعاملني بالمعاملة التي تتوقعها من شخص بطبيعتها المترفِّعة والمتعاطفة. فلم تكن معاملةً من دون كُلفة، لكنها فيها عطف؛ ليس كالأصدقاء، ولكن بصفتي فردًا من أفراد المنزل تُقابله يوميًّا على مائدة الطعام، وكشخص لم يكن سعيدًا أو متفائلًا بدرجة كبيرة، كما كان بإمكانها أن تلاحظ هي أو أيُّ فردٍ آخر.
مرَّت ستة أشهر. وكنت قد أدركتُ أمرين؛ أولهما: أن ماري ليفنوورث كانت مولعةً بمكانتها بصفتها وريثةً شرعية مستقبلية لثروة ضخمة أكثر من أي شيء آخرَ على وجه الأرض. وثانيهما: أنها كانت تُخفي سرًّا يُهدد تلك المكانة. لم يكن لديَّ أيُّ وسيلة لمعرفة ماهيته. لكن عندما أصبحتُ واثقًا بعد ذلك من أن له صلةً بعلاقة حبٍّ، ازددتُ تفاؤلًا، رغم غرابة ذلك. والسبب في ذلك أني كنتُ قد علمت في ذلك الوقت مزاج السيد ليفنوورث على نحوٍ تام تقريبًا مثلما علمت مزاجَ ابنة أخيه، وعرَفت أنه في مسألة من هذا النوع قد يتشبَّث السيد ليفنوورث برأيه؛ وأن على إثر التضارب بين هاتين الإرادتين قد يحدث شيءٌ يجعلني أسيطر عليها. كان الشيء الوحيد الذي أزعجني هو أني لم أكن أعرفُ اسمَ الرجل الذي كانت شغوفةً به. لكن سرعان ما أنعم عليَّ الحظ في هذه النقطة. في أحد الأيام، منذ شهرٍ من الآن، جلست لأفتح بريد السيد ليفنوورث كالمعتاد. وورَد في خطاب — هل لي أن أنساه؟ — ما يلي:
فندق هوفمان،
١ مارس ١٨٧٦.
إلى السيد هوراشيو ليفنوورث،
السيد المحترم، لديك ابنة أخٍ تحبها وتثق فيها، وتبدو أيضًا إنسانة جديرةً بكل مشاعر الحب والثقة التي يمكن أن تمنحها إياها أنت أو أي رجل آخر؛ فوجهها، وهيئتها، وأسلوبها، وحديثها آيةٌ في الجمال، والجاذبية، والرقة. لكن، يا سيدي العزيز، لكل وردةٍ شوكتها، وهذه الوردة ليست استثناء من هذه القاعدة. فمع ما هي عليه من جمال، وسحر، ورقة، هي قادرة ليس فقط على أن تطأَ على من أودع ثقته فيها، وإنما أيضًا أن تحطم قلب إنسانٍ تَدين له بكلِّ الولاء والشرف والاحترام وتكسر روحه.
إن كنتَ لا تُصدقني، فاسأل وجهها الجميل القاسي مَن هو خادمها وخادمُك المطيع.
لو أنَّ قنبلةً كانت قد انفجرَت عند قدمَيَّ، أو أن الشيطان نفسَه ظهر ما إن استحضرتُه، لمَا صُعقت أكثرَ مما كنت. لم يكن الاسمُ الموقَّع على تلك الكلمات المميزة مجهولًا لي فحسبُ، وإنما الرسالة نفسها كانت من شخصٍ شعر في نفسه أنه سيدها: وهي مكانة، كما تعرف، كنت أطمحُ أن أحتلَّها. ولدقائق معدودة، وقعتُ فريسةً لمشاعرِ غضب ويأس لا يوجد ما هو أشد مرارةً منها؛ ثم ازددتُ هدوءًا، لمَّا أدركت أن بحصولي على هذا الخطاب أصبحتُ حَكمًا فعليًّا على مصيرها. ربما سعى بعضُ الرجال إليها من حينٍ لآخر، وبتهديدها بأن أضعَ هذا الخطاب بين يدَي عمها، كان يمكن أن أفوز بنظرةِ توسلٍ منها، إن لم يكن أكثر من ذلك؛ لكنني … حسنًا، أخذَت خُططي منحنًى أعمقَ من ذلك. كنت أعرف أنها كانت لا بد أن تصل إلى حافة الهاوية قبل أن يكون بوسعي أن آمُل أن أفوز بها. لا بد أن تشعر بأنها تنزلق من شَفا جُرفٍ قبل أن تتشبث بأول شيءٍ يُقدم لها يدَ العون. فقررتُ أن أدعَ الخطاب يمرُّ بين يدَي ربِّ عملي. لكنه كان قد فُتِح! كيف يُمكنني أن أعطيَه له في هذه الحالة دون أن أُثير شكوكه؟ لم أعرف سوى طريقةٍ واحدة؛ أن أدعَه يراني أفتحه حتى يظن أنه يُفتح للمرة الأولى. ولهذا، انتظرت حتى دخل الغرفة، واقتربت منه بالخطاب، وقطعت طرَف الظرف وأنا أتَّجه إليه. بعدما فتحته، ألقيت نظرة خاطفة على محتوياته ووضعته على المنضدة أمامه.
قلتُ: «يبدو أنه ذو طابَع خاص؛ مع أنه لا توجد أي علامة على ذلك على الظرف.»
التقطَه وأنا واقفٌ هناك. انتفض عند الكلمة الأولى، ونظر إليَّ، وبدا راضيًا من تعبير وجهي الذي كان يدل على أنني لم أستزد في قراءة الخطاب حتى يتبينَ لي طبيعة محتواه، ثم، استدار على مهلٍ في مقعده، وقرأ بنهمٍ باقيَ الخطاب ملتزمًا الصمت. انتظرتُ برهةً، ثم انسحبت إلى مكتبي. مرَّت دقيقة واحدة ثم دقيقتان في صمت؛ كان واضحًا أنه يُعيد قراءة الخطاب؛ ثم نهض بتعجُّل وغادر الغرفة. بينما كان يمرُّ أمامي لمحتُ وجهه في المرآة. لم يكن التعبير الذي رأيته هناك ينحو إلى تقليل الأمل الذي كان يزداد في صدري.
عندما تتبعتُه على الفور تقريبًا إلى الأعلى تأكدتُ من أنه اتجه مباشرةً إلى غرفة ماري، وعندما اجتمعَت الأسرة كلها بعد بِضع ساعات حول مائدة الطعام، أدركت، تقريبًا دون أن أكادَ أرفعُ بصري، أنَّ حاجزًا منيعًا مهيبًا قد أُقيم بينه وبين ابنة أخيه المفضلة.
مر يومان؛ يومان شعرت بأنهما كانا طويلَين ولا يخلوانِ من قلقٍ مرهِق. هل رد السيد ليفنوورث على ذلك الخطاب؟ هل سينتهي كلُّ شيءٍ كما بدأ، دون ظهور السيد كلافرينج الغامض في المشهد؟ لم يكن بإمكاني أن أُخمِّن.
في تلك الأثناء استمرَّ عملي الروتيني، ساحقًا قلبي تحت تروسه القاسية. كنتُ أكتب، وأكتب، وأكتب، حتى بات الأمر وكأنَّ دمي ينزف مع كل قطرة حبرٍ أستخدمها. كنت يقظًا طوالَ الوقت ومرهفَ السمع، لكني لم أجرُؤ على أن أرفعَ رأسي أو ألتفتَ بعيني لأي صوتٍ غير مألوف؛ خشيةَ أن أبدو مراقبًا للأحداث. في الليلة الثالثة رأيتُ حُلمًا؛ رويتُه بالفعل للسيد ريموند؛ ولذلك لن أُكرِّره ثانيةً هنا. ومع ذلك، ثَمة تصحيحٌ أرغب في إضافته في هذا الشأن. في إفادتي إليه أوضحت أن وجه الرجل الذي رأيتُه تمتدُّ يده إلى السيد ليفنوورث كان وجهَ السيد كلافرينج. وقد كذبت لمَّا قلت ذلك. فالوجه الذي رأيته في الحلم كان وجهي. كانت تلك الحقيقة هي ما أفزعني. رأيت نفسي في الجسد الرابض الذي كان يتسلَّل بحذرٍ لأسفل وكأني أنظر إلى مِرآة. بخلاف هذه النقطة كانت روايتي صحيحة.
كان وقعُ هذه الرؤيا عظيمًا على نفسي. أكان ذلك هاجسًا؟ أكان ذلك إنذارًا بالسبيل الذي عليَّ أن أتخذَه حتى أفوز بهذه الإنسانة التي اشتهيتُها لنفسي؟ أكان موتُ عمها هو الجسر الذي قد يربط بين الهوَّة التي تفصلُ بيننا؟ بدأتُ أظن أنه ربما يكون كذلك؛ وبدأت أُفكر في الاحتمالات التي سيُفضي إليها هذا السبيلُ الوحيد إلى النعيم؛ بل تجاوز الأمرُ ذلك حتى تخيَّلت وجهَها البهيَّ وهو يميلُ في امتنانٍ ناحيتي على أثرِ إنقاذها فجأةً من المأزق الذي كانَت فيه. شيءٌ واحد كان مؤكدًا؛ وهو إن كان ذلك هو السبيلَ الذي لا بد أن أسلكه، كان لا بد أن أعرف على أقلِّ تقديرٍ كيف أخطو فيه؛ وطوال ذلك اليوم المرهِق والمشوش الذي أعقبه، رأيت، بينما كنت جالسًا لأنجز عملي، خيالاتٍ متكررةً لذلك الوجه المتسلِّل، والعاقد العزم، يتسلَّل نزولًا على درجات السلم ويدخل شاهرًا مسدسه في وجود ربِّ عملي. بل إنني وجدتُ نفسي عشرات المرات أُدير عينيَّ ناحيةَ الباب الذي كان سيدخل منه، متسائلًا كم سأنتظر من الوقت قبل أن يتوقَّف جسدي عند ذلك المكان. ولم أتصوَّر أن تلك اللحظة باتَت مُتاحة. حتى عندما تركته تلك الليلةَ بعد أن شربت معه كأس الشيري الذي أشرتُ إليه في الاستجواب، لم يكن لديَّ أيُّ فكرةٍ عن أن ساعة التنفيذ كانت قريبةً إلى هذا الحد. لكن، عندما سمعت، بعد أقلَّ من ثلاث دقائق من صعودي إلى الطابق العلوي، صوتَ ثوب سيدةٍ يُصدِر صوتًا عبر الردهة، أنصَتُّ، وسمعتُ ماري ليفنوورث تمر ببابي في طريقها إلى المكتبة، أدركتُ أن الساعة المحتومة قد حانت؛ وأن شيئًا سيُقال أو سيحدث في تلك الغرفة قد يجعل هذه الفعلة ضرورية. ماذا فعلتُ؟ قررتُ أن أتحقَّق من الأمر. بحثت في عقلي عن حيلةٍ لأفعل هذا، وتذكرت أن مجرى التهوية يمتدُّ بطول المنزل بحيث تبدأ فتحته أولًا في الممر الواصل بين غرفة نوم السيد ليفنوورث والمكتبة، ثم ثانيًا، في الخِزانة في الغرفة الإضافية الكبيرة الملاصقة لغرفتي. أسرعتُ بفتح الباب الموصل بين الغرفتَين، وأخذت موضعي في الخزانة. وفي الحال سمعت الأصوات تصل إلى أذنيَّ؛ كل شيء كان مسموعًا في الأسفل، وبوقوفي هناك، كنت مُصغيًا لما كان يدور بين ماري وعمِّها وكأني أقف في المكتبة نفسِها. ماذا سمعت؟ سمعت ما يكفي ليؤكِّد لي صحة شكوكي، وأنها كانت لحظةً ذات أهميةٍ فاصلةٍ لها؛ وأن السيد ليفنوورث، عملًا بتهديدٍ أنذرَ به منذ مدةٍ بما لا يدعُ مجالًا للشك، كان مُقبلًا على أخذ خطواتٍ لتغيير وصيته، وأنها قد جاءَتْ إليه لتطلب منه أن يُسامحها على ذنبها وتستعيدَ استحسانه. لكن لم أعرف أي ذنبٍ هذا. لم يُذكر السيد كلافرينج بصفته زوجَها. لم أسمع سوى إقرارها بأن ما فعلَتْه كان نتيجةَ نزوة، أكثر من كونه بدافع الحب؛ وأنها ندمت على ما فعلته، ولا ترغب في شيءٍ غير أن تتحررَ من جميع القيود التي تربطها بشخصٍ سيُسعدها أن تنساه، وأن تعود إلى عمها كما كانت قبل أن ترى هذا الرجل. حسبتُ، بحماقتي، أن ما كانت تشير إليه كان مجردَ ارتباط، وتعلقت من تلك الكلمات بأملٍ بالغِ الحمق؛ وعندما سمعت، بعد لحظةٍ، ردَّ عمها، بنبرته الصارمة إلى أقصى حدٍّ، أنها قد خسرَت حقَّها في أن تنال احترامه واستحسانه دون رجعة، لم أحتجْ إلى صرختها القصيرة والممتعضة لتُعلن بها عن شعورها بالخزيِ وخيبة الأمل، أو أنينها الخافت لتستنجدَ بأحد، كان يكفيني أن صوت ناقوس موته قد دقَّ في قلبي. زحفتُ عائدًا إلى غرفتي، وانتظرت حتى سمعتها تصعد مرةً أخرى، ثم تسلَّلتُ خارجًا. هادئًا كما لم أكن من قبلُ في حياتي، نزلت السلَّم تمامًا مثلما كنت قد رأيتُ نفسي أفعل في الحلم، وطرَقتُ بنقرةٍ خفيفةٍ على باب المكتبة، ثم دخلت. كان السيد ليفنوورث جالسًا في المكان الذي اعتادَ أن يكتب فيه.
قلتُ بينما كان يرفع بصره لأعلى: «معذرةً، أضَعتُ مفكرتي، وأظن أن من الممكن أنها وقعَت مني في الممر عندما ذهبت لأُحضر النبيذ.» أومأ برأسه، وأسرعتُ مارًّا به إلى الخِزانة. بمجرد أن وصلتُ إلى هناك، مضيت سريعًا إلى الغرفة في آخر الممر، وأحضرت المسدس، ورجعت، وقبل أن أُدرك تقريبًا ما كنتُ أفعله، كنت قد اتخذت موضعي وراءه، وصوَّبت المسدس، وأطلقتُ النار. كانت النتيجة ما تعرفها. من دون أنينٍ، سقط رأسُه إلى الأمام على يدَيه، وكانت ماري ليفنوورث هي المالكَ الفعليَّ لآلاف الدولارات التي اشتهَتْها نفسُها.
أول خاطرةٍ بدرَت في ذهني هي أن أُحضر الخطاب الذي كان يكتبه. فدنَوتُ من المنضدة، وسحبت الخطاب أسفل يدَيه، ونظرتُ فيه، فرأيت أنه، كما توقَّعت، كان استدعاءً لمحاميه، فدسَستُه في جيبي، مع خطاب السيد كلافرينج، الذي رأيته ملطخًا بالدم على المنضدة أمامي. لم أُفكِّر في نفسي، ولا تذكرتُ الصَّدى، الذي لا بد أن الدوي القصير الحاد قد أحدثَه في المنزل، إلا بعد أن أتممت هذا. أسقطت المسدس بجانب القتيل، ووقفتُ متأهبًا لأصرخ في وجه أي أحدٍ يدخل بأن السيد ليفنوورث قد قتل نفسَه. لكني نجوتُ من تنفيذ مثلِ هذا الفعل الأحمق. لم يُسمع دويُّ إطلاق النار، أو إن كان مسموعًا، فمن الواضح أنه لم ينجح في لفتِ انتباه أحدٍ. لم يأتِ أحد، وتُرِكتُ لأتأملَ فعلتي دون إزعاج من أحد وأُقرر أفضلَ إجراء يمكن اتخاذُه للحيلولة دون اكتشاف أمري. لحظةٌ من تفحُّص الجُرح الذي أحدثَته الرصاصة في رأسه أقنعَتْني بأنه من المستحيل أن تمرَّ الواقعة على أنها حادثة انتحار، أو أن مَن ارتكبها لصٌّ. سيتبيَّن بوضوحٍ لأي شخصٍ ضليع في تلك الأمور أن ما حدث هو حادثُ قتل، بل ومتعمَّد. كان أملي الوحيد، حينها، يكمن في أن أجعله حادثًا غامضًا بقدرِ ما كان متعمَّدًا، وذلك بإفساد جميعِ الأدلة على الدافع مِن هذه الجريمة وطريقة وقوعها. أمسكت بالمسدس، وحمَلتُه إلى الغرفة الأخرى بدافع تنظيفه، لكن إذ لم أجد شيئًا هناك لأُنظفه به، رجعتُ لأبحث عن المنديل الذي رأيته مُلقًى على الأرض عند قدمَي السيد ليفنوورث. كان منديلَ الآنسة إلينور، لكني لم أعرف إلا بعدَ أن استخدمتُه لتنظيف ماسورة المسدس؛ عندئذٍ صُدمت من رؤية الأحرف الأولى من اسمها على أحد أطراف المنديل، لدرجة أنني نسيتُ أن أنظِّف الأسطوانة، وكان شاغلي الوحيدُ حينها هو كيفيةَ التخلص من هذا الدليل المتمثِّل في منديلها بعد استخدامه في غرضٍ مثير للرِّيبة. لم أجرؤ على الخروج به من الغرفة، فبحثت عن وسيلةٍ للتخلص منه؛ لكني لم أجد شيئًا، فتوصلتُ إلى حلٍّ وسطٍ بدسِّه عميقًا وراء وسادة أحد المقاعد، على أملِ أن أتمكن من استعادته وحرقه في اليوم التالي. بعد أن أتممتُ هذا، أعدتُ حشو المسدس، وأغلقتُ عليه، وتهيَّأت لمغادرة الغرفة. لكن عندئذٍ أصابني الفزعُ الذي عادةً ما يعقب جريمةً كهذه، نزل عليَّ كالصاعقة وجعلني لأول مرة غيرَ متيقِّن من تصرفي. أوصدتُ الباب عند خروجي، وهو شيء لم يكن ينبغي مطلقًا أن أفعلَه. لم أُدرك حماقتي إلا عندما وصلتُ إلى أعلى السلم؛ وكان هذا متأخرًا للغاية؛ إذ هناك أمامي كانت تقف هانا، إحدى الخدم، تنظر نحوي، ممسكةً بشمعة في يدها، والدهشة مرتسمةٌ على ملامح وجهها بالكامل.
صاحت، لكن من الغريب القولُ إنها صاحت بصوتٍ خافت: «يا إلهي، سيدي، أين كنت؟ تبدو وكأنك رأيتَ شبحًا.» فالتفتَت عينُها في رِيبةٍ إلى المفتاح الذي كنتُ أحمله في يدي.
شعرتُ كأنَّ شخصًا قد أطبقَ بيديه حول حلقي. دسستُ المفتاح في جيبي، وخطوتُ خطوةً ناحيتها. هَمَستُ: «سأُخبركِ بما رأيته إذا نزلتِ معي لأسفل؛ ستنزعج السيدتان إن تحدَّثنا هنا»، أرخيتُ حاجبيَّ قدر المستطاع، ومدَدتُ يدي وجذبتُها ناحيتي. لم أعرف ما غرضي من ذلك؛ ربما كان التصرفُ عفويًّا؛ لكن لمَّا رأيت النظرة التي ظهرَت على وجهها عندما لمستُها، والحماس الذي استعدَّت به أن تتبعَني، تشجَّعتُ، متذكرًا الإشارةَ أو الإشارتَين السابقتَين على القابلية غير المنطقية لدى هذه الفتاة لتأثيري عليها؛ وهي قابليةٌ شعرتُ حينها أنه يمكن استغلالها وتسخيرها لتحقيق غرضي.
أخذتُها لأسفل إلى طابَقِ غرفة الجلوس، وسحَبتُها إلى أعماق غرفة الاستقبال المهيبة، وهناك أخبرتها بأقل طريقةٍ مقلقةٍ ممكنةٍ ما حدث مع السيد ليفنوورث. كانت بالطبع مضطربةً بشدة، لكنها لم تصرخ … كان واضحًا أن حداثة موقفها كانت تذهلها … ثم، هدأَتْ كثيرًا، فواصلتُ حديثي بأنني لا أعرف مَن ارتكب هذه الفعلة، لكن قد يُقرُّ الناس بأني أنا مَن فعلتها إذا علموا بأنكِ قد رأيتِني على السلَّم ومفتاح المكتبة في يدي. قالت بهمسٍ، وهي ترتجفُ بشدة في فزعٍ ولهفةٍ: «لكني لن أخبر أحدًا. سأحتفظُ بذلك لنفسي. سأقول إنني لم أرَ أي أحد.» لكني سرعان ما أقنعتُها بأنه لن يكون بوُسعها مطلقًا أن تُبقي الأمرَ سرًّا بمجرد أن تبدأ الشرطة في استجوابها، ومستتبعًا حجتي بقليلٍ من المداهَنة، نجحتُ بعد مدةٍ طويلة أن أظفرَ بموافقتها على الانصراف من المنزل حتى تهدأَ العاصفة. لكن بعد أن حصلتُ على مُوافَقتها، استغرق الأمرُ وقتًا قليلًا قبل أن أتمكنَ من إفهامها أنها لا بد أن تُغادر في الحال من دون أن تعود من أجل متعلَّقاتها. ولم تبدأ في إدراك الموقف، وتُظهِرْ أيَّ أمارةٍ على الفِطنة الطبيعية الحقيقية التي كان من الواضح أنها تمتلكُها، إلا بعد أن حسَّنْتُ مِزاجها بوعدٍ بالزواج منها يومًا ما؛ فقط إذا أطاعتْني الآن. قالت: «ستستقبلني السيدة بيلدن إن تمكنتُ من الذَّهاب إلى بلدة «ر…»؛ فهي تستقبل أيَّ شخصٍ يطلب ذلك؛ وقد تُبقيني، أيضًا، إذا أخبرتُها أن الآنسة ماري أرسلتني. لكني لا أستطيع الذَّهاب إلى هناك الليلة.»
في الحال شرَعتُ في محاولة إقناعها أنَّ بإمكانها ذلك. فقطارُ منتصف الليل لم يكن سيُغادر المدينةَ إلا بعد نصف الساعة، والمسافة إلى محطة القطار يمكن بسهولة أن تقطعَها سيرًا على الأقدام في خمسَ عشْرةَ دقيقة. لكن لم يكن معها نقود! فأعطيتها بكلِّ أريحية. وكانت خائفةً من ألَّا تتمكَّن من معرفة الطريق إلى هناك! فبدأت أوضحُ لها الاتجاهات بأدق التفاصيل. كانت لا تزال متردِّدة، لكنها أخيرًا وافقَت على أن تُغادر، وبفهمٍ أعمقَ للطريقة التي كان عليَّ أن أستخدمَها في التعامل معها، مضَينا إلى الطابق السفلي. وهناك وجدنا قبَّعةَ الطاهية ووشاحها فألبستُها إياهما، وبعد لحظةٍ كُنا في ساحة انتظار العرَبات. همَستُ لها وأنا أوصيها وصيةَ الرحيل وهي تنصرفُ لتتركني: «تذكري، لا تقولي شيئًا عما حدث، مهما حدث.» فتمتمَت ردًّا على ذلك، وهي تُعانق رقبتي بذِراعَيها: «تذكر، ستأتي وتتزوجُني يومًا ما.» كانت الحركة مفاجئة، وكانت تلك على الأرجح هي اللحظةَ التي أوقعَت فيها الشمعة التي كانت تتشبَّث بها لا شعوريًّا حتى تلك اللحظة. وعدتُها، ثم تسللَت خارجةً من البوابة.
من هول الفزع الذي أعقب اختفاءَ هذه الفتاة لا يمكنني أن أُعطيَ صورة أفضل من قولي إنني لم أرتكب خطأً إضافيًّا بإيصادِ باب المنزل لدى دخولي مرة أخرى فحسبُ، بل سهوت عن التخلص من المفتاح الذي كان في جيبي بإلقائه في الشارع أو بإسقاطه في الممرِّ بين الغرف أثناء صعودي لأعلى. الحقيقة أنني كنت مستغرقًا في التفكير في الخطر الذي واجهتُه بسبب هذه الفتاة، ونسيتُ كل ما عداه. لم يُفارق مخيلتي طوالَ الوقت وجهُ هانا الشاحب، ونظرةُ هانا الفزعة، وهي تستدير من جانبي وتفرُّ مسرعةً إلى الشارع. لم أستطع الإفلات منهما؛ كانت هيئة الجثمان الراقدِ في الأسفل أقلَّ وضوحًا. كان الأمر وكأنني كنت مقيدًا في خيالاتي بهذه المرأة الصاحبةِ الوجه الأبيض التي تفر مسرعةً في الشوارع في منتصف الليل. وكان أشبهَ بكابوس ينتابُني أنها ستُخفق في شيء … ستعود أو سيُحضرونها إلى هنا … أنني سأجدها تقف شاحبةً ومذعورةً على الدرجات الأمامية عند نزولي في الصباح. بدأتُ في التفكير في أنه لا توجد نتيجة أخرى ممكنة؛ وأنها أبدًا لن تصل أو تتمكن من الوصول إلى ذلك البيت الصغير في قريةٍ بعيدة دون عقَبات؛ وأنني لم أفعل شيئًا سوى أنني أرسلتُ إلى العالم رايةَ خطر يمكن اقتفاؤها مع هذه الفتاة البائسة … خطر سيعود إليَّ مع أول انفلاجٍ لنور الصباح!
ولكن حتى تلك الأفكار تلاشَت بعد مدةٍ قبل أن أدرك الخطرَ الذي كنت فيه ما دام المفتاحُ والخطابان في حوزتي. كيف لي أن أتخلصَ منها؟! لم أجرؤ على أن أغادر غرفتي مرة أخرى، أو أن أفتحَ نافذتي. فربما يراني أحدٌ أو يتذكَّر ذلك. كنت أشعر بالخوف حقًّا من الحركة في غرفتي. فربما يسمعني السيد ليفنوورث. نعم، رهبتي المميتة كانت قد وصلَت إلى ذلك الحد … كنتُ خائفًا من شخصٍ كنت قد أغلقتُ أذنَيه إلى الأبد، فتخيَّلتُه راقدًا في فراشه في الأسفل وواعيًا لأقل صوت.
لكنَّ ضرورة فعلِ شيء في تلك الأدلة على الجُرم تغلبَت أخيرًا على هذا القلق المميت، وأخرجتُ الخطابَين من جيبي — لم أكن قد خلعت ملابسي بعد — واخترتُ أخطرَهما، الذي كتبه السيد ليفنوورث نفسُه، ثم، مضَغتُه حتى صار مجردَ عجينة، وألقيتُه في أحد أركان الغرفة، لكن الخطاب الآخر كان ملطَّخًا بالدماء، فلا شيء، ولا حتى الرجاء في النجاة، كان يمكن أن يستحثَّني على أن أضعه بين شفتَي. كنت مضطرًّا إلى أن أستلقيَ وأنا قابضٌ عليه في يدي، وصورة هانا أثناء الهرب أمام عينَي، إلى أن تنفَّس الصباح رويدًا. كنت قد سمعتُ أنه يُقال إن سنةً في الجنة بيومٍ مما نعدُّ؛ يمكنني أن أُصدق هذا بسهولة. أعرف أنَّ ساعةً في الجحيم تبدو حياةً أبديةً لا نهاية لها!
لكن مع ضوء النهار جاء الأمل. ليس بوُسعي أن أُقرر إن كان ذلك لأن ضوء الشمس الذي كان يلمع على الحائط هو ما جعلَني أُفكر في ماري وفي كل ما كنتُ مستعدًّا أن أفعله من أجلها، أو لمجرد استعادة وقاري الفِطري في ظل وجود حاجةٍ ماسة إليه. كل ما أعرفه هو أنني نهَضتُ هادئًا ومتحكِّمًا في نفسي. أيضًا كانت مشكلةُ الخطاب والمفتاح قد حُلَّت من تلقاء نفسها. هل أُخفيهما؟ لن أُحاول أن أفعلَ ذلك! بدلًا من ذلك سأضعُهما في مكانٍ ظاهرٍ للعيان، متكلًا في ذلك على حقيقة أنهما لن يُلاحَظا. بعدما حوَّلتُ الخطاب إلى شرائح طولية، حملتُها إلى غرفة مَبيت الضيوف ووضعتها في مزهرية. ثم، آخِذًا المِفتاحَ في يدي، نزلتُ إلى الطابق السفلي، عاقدًا العزمَ على إدخاله في قفل باب المكتبة عند مروري بها. لكن نزول الآنسة إلينور في اللحظة نفسِها تقريبًا ورائي جعلَ هذا مستحيلًا. مع ذلك، نجحتُ في أن أُلقيه، دون علمها، بين الزخارف المفرَّغة لموصِّل الغاز في الردهة الثانية؛ ومن ثَم شعرت براحةٍ، ونزلت إلى غرفة الإفطار كرجلٍ متزنٍ يجتاز عتَبة الغرفة كالمعتاد. كانت ماري هناك، تبدو شاحبةً ومنكسرةً للغاية، وعندما التقت عيني بعينها، التي من العجيب أنها التفتَت لي بينما كنت أدخل الغرفة، كِدتُ أن أضحك، مفكرًا في طوق النجاة الذي مُنِحَت إياه، وفي الوقت الذي سأعلن فيه عن نفسي بصفتي الرجلَ الذي أنجز ذلك.
أما عن حالة الاستنفار التي أعقبَت ذلك سريعًا، وتصرفي في ذلك الوقت وبعدَه، فلا أحتاج إلى التكلم بتفصيلٍ عنها. تصرفتُ تمامًا كما كنت سأتصرفُ لو لم يكن لي يدٌ في جريمة القتل. حتى إنني امتنعتُ عن أن ألمس المفتاح أو أن أذهبَ إلى غرفة مَبيت الضيوف، أو أتحرك أيَّ حركةٍ لم أكن راغبًا في أن يراها كلُّ العالم. لأنه كما كان الوضع، لم يكن يوجد أيُّ أثرٍ على دليلٍ يؤخَذ ضدي في المنزل؛ ولا حتى كنتُ أنا، بصفتي سكرتيرًا مخلصًا لعمله وغيرَ متذمِّر، لم يكن شغَفُه بإحدى ابنتَي أخوَي صاحب العمل مشكوكًا في أمره من السيدة نفسها، شخصًا يُرتاب في ارتكابه الجريمة مما يجعله في موقفٍ مُرضٍ. لذلك، أدَّيت كل الواجبات التي يُمليها عليَّ موقعي، فاستدعيتُ الشرطة، وذهبتُ إلى السيد فيلي، تمامًا كما كنتُ سأفعل لو كانت تلك الساعات الفاصلة بين تَركي للسيد ليفنوورث في المرة الأولى ونزولي لتناول الإفطار في الصباح قد مُحيَت من وعيي.
وكان هذا هو الأساس الذي اعتمدتُ عليه في تصرفي أثناءَ التحقيق. مستبعِدًا نصفَ الساعةِ تلك وما وقع فيها من أحداث، عزَمتُ على الإجابة عن تلك الأسئلة الموجَّهة لي بصدق ما استطعتُ ذلك؛ فالخطأ الفادح الذي يقع فيه الرجالُ في مثل موقفي هو أنهم يُبالغون في الكذبِ عادةً؛ ومن ثَم يُلزِمون أنفسهم بأمورٍ غيرِ جوهرية. لكن للأسف، في تخطيطي للنجاة بنفسي، أغفلتُ شيئًا واحدًا، وهو الموقف الخطير الذي يفترض أني وضعتُ ماري ليفنوورث فيه بصفتها المنتفعةَ من وقوع الجريمة. ولم أُدرك المنفذَ الذي كنتُ قد فتحته للشكِّ فيها بإقراري أنني كنت قد سمعتُ صوتَ خشخشةٍ على السلم بعد دقائقَ معدودةٍ من صعودي، إلا بعد أن خَلَص أحدُ أعضاء هيئة المحلَّفين إلى استنتاجه، مستندًا إلى كمية النبيذ التي عُثر عليها في كأس السيد ليفنوورث في الصباح، مستدلًّا بذلك على أنه قد تُوفِّي بعد مدةٍ قصيرة من تركي له. لم يكن اقتناعُ جميع الحاضرين بأنَّ مرتكبة الجريمة هي إلينور أمرًا أثلجَ صدري. فلم يكن لها أيُّ صلةٍ نهائيًّا بالجريمة ولم أستطع أن أتخيَّل لحظةً أنه يمكن أن يَرْقى إليها الشك. لكن ماري … لو أنَّ سِتارًا نزل أمامي، عليه مشاهدُ المستقبل كما تجلَّت منذئذٍ، ما كنتُ أرى بوضوحٍ أكبرَ الحالَ الذي سيكون عليه موقفُها، إذا وُجِّه الانتباه ناحيتها. ولهذا، في محاولة فاشلة للتغطية على خطئي الفادح، بدأتُ أكذب. مضطرًّا إلى الاعتراف أنه كان ثَمة خلافٌ اتضح مؤخرًا بين السيد ليفنوورث وإحدى ابنتَي أخوَيه، ألقيتُ عِبئه على كاهل إلينور؛ لأنها أفضلُ مَن بمقدورها تحمُّلُه. كانت العواقب أخطرَ مما توقعت. صار الاتجاه يسير ناحيةَ الاشتباه وبدا أن كلَّ دليلٍ إضافي كان يظهر حينها كان يُوطِّد هذا الاشتباهَ على نحوٍ كارثيٍّ غريب. فلم تقتصر المسألةُ على ثبوت أن مسدس السيد ليفنوورث الشخصيَّ كان قد استُخدم في الاغتيال، وإنما أيضًا بواسطة شخصٍ كان حينئذٍ في المنزل، لكني دُفِعت إلى الإقرار بأن إلينور كانت قد تعلمَت مني، قبل ذلك بوقتٍ قصير، كيف تحشو هذا المسدسَ تحديدًا، وتُصوبه، وتُطلق النارَ منه … وهي مصادَفة مؤذية بما يكفي لأن ترقى إلى أن تكونَ من تدبير الشيطان نفسِه.
بعدما رأيتُ كل هذا، تعاظمَ كثيرًا خوفي من أن تعترف السيدتان عند استجوابهما. بفرضِ إقرارهما ببراءةٍ أنه، عند صعودي، كانت ماري قد ذهبَت إلى غرفة عمِّها بغرض أن تُقنعه ألَّا يُنفِّذ الإجراءَ الذي عقدَ العزمَ عليه، والعواقب التي قد تتبعه! كنتُ في حالةٍ من الذعر. لكن الأحداث التي لم أكن في ذلك الوقت على علمٍ بها كانت قد أثَّرت عليهما. فإلينور، ببعض المنطق الظاهر، كما يبدو، لم تشتبهْ في ارتكاب ابنةِ عمها للجريمة فحسب، بل كانت قد اتهمتها صراحة، وإذ طغى الخوفُ على ماري عندما اكتشفَت أنه كان يوجد دليلٌ ظرفي بشكلٍ أو بآخرَ يدعم هذا الاشتباهَ، قرَّرَت أن تُنكر أي شيء يُقال ضدها، واثقةً في كرم أخلاق إلينور في ألا تُعارضها. ولم تكن ثقتُها في غير محلِّها. رغم ذلك، وبالطريق الذي لجأت إليه، اضطُرَّت إلينور أن تُعمِّق الإحساسَ بالتحامل الذي كان بالفعل سائدًا ضدها؛ إذ لم تمتنع عن أن تُناقض شهادةَ ابنة عمها فحسب، وإنما عندما كان الإدلاء بإجابةٍ صادقة قد يَضيرها، كانت في الواقع تمتنعُ عن الإجابة عن أيٍّ من تلك الأسئلة، كون الكذب شيئًا يستحيلُ عليها أن تنطق به، حتى ولو لإنقاذ شخص عزيزٍ عليها.
كان لمَسْلكها هذا تأثيرٌ واحد على نفسي. لقد أثار إعجابي ومنحَني شعورًا بأنَّ ثمة امرأةً تستحقُّ أن أُساعدها إذا أمكنَ تقديمُ المساعدة من دون أن أُعرِّض نفسي للخطر. ومع ذلك أشكُّ أن تعاطفي كان سيدفعني إلى فعل أيِّ شيء، لو لم أُدرك، بسبب التركيز على بعض الأمور المعروفة، أنه كان ثمة خطرٌ حقيقي يحوم حولنا جميعًا ما دام الخطابُ والمفتاح في المنزل. حتى قبل إخراج المنديل، كان عقلي قد استقرَّ على أن أُحاول التخلصَ منه؛ لكن عندما عُثر على المنديل وقُدِّم، أصابني قلقٌ شديد، فنهضتُ في الحال، وسلكت طريقي إلى الطابق العلوي بحُجةٍ أو بأخرى، وأخرجتُ المفتاح من موصِّل الغاز، وشرائح الورق من المزهرية، وأسرعتُ بها عبر الردهة إلى غرفةِ ماري ليفنوورث، ودخلت متوقعًا أن أجد نارًا هناك أتخلصُ فيها مما معي. لكن، لخيبةِ أملي الشديدة لم يكن يوجد سوى بعضِ الرماد الذي كان يحترقُ في بطءٍ داخل موقد المدفأة، وبعد أن أُحبِطَت خُطتي، وقفتُ مترددًا بشأن ما ينبغي فعله، عندما سمعت شخصًا قادمًا إلى أعلى. مدركًا عواقبَ العثور عليَّ في تلك الغرفة وفي ذلك التوقيت، ألقيتُ شرائح الورق في شبكة المدفأة، واتجهت ناحيةَ الباب. لكن أثناء حركتي المسرِعة، سقط المفتاح من يدي وانزلق أسفلَ أحد الكراسي. مذعورًا من سوء حظِّي، توقفت، لكن صوت الخطوات القادمة بات في ازدياد، ففقدتُ كل سيطرةٍ على نفسي وفررتُ هاربًا من الغرفة. لم يكن لديَّ أيُّ وقتٍ حقًّا لأُضيعه. كنتُ بالكاد قد وصلتُ إلى باب غرفتي عندما ظهرَت إلينور ليفنوورث، تتبعُها خادمتان، عند مقدمة السلم ثم اتجهوا ناحية الغرفة التي كنت قد غادرتُها توًّا. بثَّ هذا المشهدُ الطمأنينةَ في نفسي؛ فستُلاحظ هي المفتاح، وتتصرَّف لتتخلصَ منه؛ وبالفعل كنتُ أفترض طَوال الوقت أنها قد فعلَت ذلك؛ لأنه لم يبلغ مسامعي أيُّ كلمة أخرى عن المفتاح أو الخطاب. ربما يُفسر هذا السببَ في أن موضع الشكِّ الذي سرعان ما وجدَت إلينور نفسَها فيه لم يُثِر في نفسي قلقًا أكبر. ظننت أن شكوك الشرطة لم تستند إلى أي شيء أوضحَ من غرابة أسلوبها أثناء الاستجواب واكتشافِ مِنديلها في مسرح الجريمة. لم أكن أعرف أنه كان لديهم ما يُمكن أن يُطْلَق عليه دليلٌ حاسم على صِلتها بالجريمة. لكن لو كنت عرَفت، فأشكُّ أن مساري كان سيختلف. كان الخطر الذي قد يحوم بماري هو الشيءَ الوحيد الذي لديه القدرةُ على التأثير فيَّ، ولم يبدُ أنها في خطر. بل على النقيض، بدا أن الجميع، بإجماعٍ عام، تجاهَلوا جميع القرائن التي تُثبت الجُرم عليها. لو أن السيد جرايس، الذي سرعان ما أصبحتُ أخشاه، كان قد أعطى علامةً واحدةً على الاشتباه فيها، أو السيد ريموند، الذي سرعان ما عدَدتُه أكثرَ أعدائي إصرارًا رغم كونه عديمَ الشعور، قد أظهر أدنى شكٍّ فيها، كنتُ أخذت حذري. لكنهما لم يفعَلا، وأعطيا بأسلوبهما إحساسًا كاذبًا بالأمان، وتركتُ الأيام تمرُّ دون أن أُقاسي أيَّ مخاوف بشأنها. ولكن ليس مِن دون أن أُعانيَ من الكثير من القلق على نفسي. فوُجود هانا حرَمني شخصيًّا من أي إحساسٍ بالأمان. ولمَّا علمتُ إصرارَ الشرطة على العثور عليها، كنتُ باستمرار على شَفا قلقٍ مرعب.
في الوقت نفسِه، كانت ثَمة حقيقةٌ مؤسفة تفرض نفسَها عليَّ بأني قد فقدتُ زِمام ماري ليفنوورث، بدلًا من أن أفوزَ به. فهي لم تكتفِ بإظهار أقصى درجات الذعر من الفعلة التي جعلَتها المتحكِّمةَ في ثروة عمها، لكن، بسبب تأثير السيد ريموند، حسبما اعتقدتُ، ما لبثَت أن قدمَت دليلًا على أنها كانت تفقد، بدرجةٍ ما، السِّماتِ المميزةَ لعقلها وقلبها التي كانت قد جعلَتني متعلقًا بأملِ الفوز بها بارتكابي لجريمة القتل هذه. هذه المفاجأة غيرُ المتوقعة كادت تدفعني دفعًا إلى الجنون. تحت الضغط المرهِق الذي فُرض عليَّ، سِرتُ في جولتي المنهِكة للبدَن في حالةٍ ذهنية تقتربُ من الجنون. توقفتُ أثناء عملي مرارًا وتَكرارًا، فكنتُ أُجفِّف قلمي وأضعُه وفي داخلي هاجسٌ أني لا أستطيع أن أكبحَ جِماح نفسي لحظةً أخرى، لكني كنتُ دائمًا أُمسك بقلمي مرةً أخرى وأُعاود العمل على مهمَّتي. أظهر السيد ريموند تعجُّبَه أحيانًا من جلوسي على كرسيِّ ربِّ عملي المتوفَّى. يا إلهي! كان ذلك هو طوقَ النجاة الوحيدَ لي. بإبقاء حادثِ القتل ماثلًا في ذهني دومًا، كان بإمكاني أن أمنعَ نفسي من أي فعلٍ طائش.
أخيرًا حان الوقتُ الذي لم يَعُد ممكنًا لآلامي فيه أن تُكبَت أكثرَ من ذلك. نزلتُ ذات ليلةٍ لأسفل مع السيد ريموند، ورأيتُ رجلًا غريبًا يقف في غرفة الاستقبال، ناظرًا إلى ماري ليفنوورث بطريقةٍ كانت ستجعل الدمَ يغلي في عروقي، حتى لو لم أكن قد سمعتُه يهمس بهذه الكلمات: «لكنَّكِ زوجتي، وأنتِ تعلمين ذلك، مهما تقولين أو تفعلين!»
كانت هذه هي أكبرَ صاعقةٍ في حياتي. بعد ما فعلتُه حتى أجعلَها لي، كان أن أسمع رجلًا آخرَ يدَّعي أنها بالفعل له، أمرًا صاعقًا، ومثيرًا للغضب! أجبرَني هذا على أن يظهر عليَّ تغيُّر مفاجئ. كان عليَّ إما أن أصرخ في فورةِ غضبي وإما أن أُسدد ضربةً قاضية لذلك الرجل في الأسفل تنفيسًا عن كراهيتي له. لم أجرُؤ على الصراخ؛ ومِن ثَمَّ سدَّدتُ ضربةً له. طلبتُ أن أعرف اسمه من السيد ريموند، ولمَّا نبأني بأنه كان، كما توقعت، كلافرينج، ضربتُ بالحيطة، والعقل، والمنطق عُرضَ الحائط، وفي لحظةِ غضبٍ، أدَنتُه بأنه قاتل السيد ليفنوورث.
في اللحظة التالية كنتُ مستعدًّا لفعل أي شيءٍ كي أسحب كلماتي. فلم أكن قد فعلتُ شيئًا غيرَ أني جذبتُ الانتباه إلى نفسي باتهامي لرجلٍ لا يمكن إثباتُ أيِّ شيءٍ عليه بكل تأكيد! لكن كان مستحيلًا أن أتذكر ذلك حينها. لهذا، بعد أن قضيتُ ليلةً في التفكير، اتخذتُ أفضل خطوةٍ ممكنةٍ بعد ما حدث: أعطيتُ سببًا خرافيًّا ليُبرِّر تصرُّفي، وبهذا استعدتُ وضعي السابقَ من دونِ أن أمحوَ من عقل السيد ريموند ذلك الشكَّ المبهَم في الرجل الذي كانَت تتوقَّفُ عليه سلامتي الشخصية. لكن لم أحمل أيَّ نية في أن أخطوَ خطواتٍ أخرى، ولا كنت لأفعلَ ذلك لو لم ألاحظْ أن السيد ريموند لسببٍ ما كان مستعدًّا للشكِّ في السيد كلافرينج. لكن حالما لاحظتُ ذلك، تملَّكَتني الرغبة في الانتقام، وسألتُ نفسي إن كان عبءُ هذه الجريمة يمكن أن يُلقى على كاهل هذا الرجل. ما زلتُ لا أُصدِّق أن أيَّ نتائج مؤثرة كانت ستأتي بعد سؤالي لنفسي لو لم أسمع بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ حوارًا هامسًا بين اثنين من الخدم، عرَفت منه أن السيد كلافرينج قد شُوهد دخوله المنزل في ليلة وقوع القتل، ولكنه لم يُلحَظ انصرافه من المنزل. هذا جعَلني مُصرًّا. باستخدام هذه الحقيقة كنقطة بداية، ما الذي لا أطمحُ في الوصول إليه؟ كانت هانا وحدها هي مَن تقف في طريقي. وما دامت باقيةً على قيد الحياة فلا أرى أيَّ شيءٍ أمامي سِوى الهلاك. فقرَّرت أن أتخلصَ منها وأُشبع كراهيتي للسيد كلافرينج بضربةٍ واحدة. ولكن كيف؟ بأي وسيلةٍ يُمكنني أن أصلَ إليها من دون أن أترك عملي، أو أن أتخلصَ منها من دون إثارة شكوكٍ جديدة؟ كانت المشكلة تبدو كأنها بلا حلٍّ؛ لكن ترومان هارويل لم يلعب دورَ الآلة طويلًا جدًّا دون نتيجة. قبل أن يمرَّ يومٌ كاملٌ على دراستي للمسألة، التمعَت فكرةٌ في ذهني، ورأيتُ أن السبيل الوحيد لتنفيذ مخططاتي أن أستدرجها لتُزهِق روحها بنفسها.
ما إن نضجَت الفكرة في عقلي حتى سارعت بتنفيذها. مدركًا الخطرَ الجسيم الذي كنت بصدده، اتخذتُ كلَّ احتياطٍ ممكن. أغلقتُ الغرفة على نفسي، وكتبتُ خطابًا بحروفٍ متفرقةٍ — فقد أخبرَتْني صراحةً أنها لا تستطيع القراءةَ والكتابة — اعتمدتُ فيه على جهلها، وولَعِها الأخرق، ومعتقَداتها الأيرلندية في الخرافات، بإخبارِها أنني كنتُ أحلم بها كلَّ ليلةٍ وتعجبتُ أنها لم تحلم بي؛ ولخشيتي من أنها لم تحلم بي، أرفقتُ لها تميمةً صغيرة، إذا استخدمَتْها حسبَ التعليمات، فستمنحها القدرةَ على رؤية أحلامٍ لم ترَ أجملَ منها. وكانت تلك التعليمات هي أولًا: أن تتخلَّص من خطابي بإحراقه، وثانيًا أن تأخذ في يدها الطردَ الذي حرَصتُ على إرفاقه، وثالثًا: أن تبتلعَ المسحوق الذي بداخله، ثم تذهبَ إلى السرير. كان المسحوق جرعةً مميتةً من سمٍّ وكان الطرد، كما تعرف، اعترافًا مزوَّرًا يُدين زورًا هنري كلافرينج. وضعتُ كل هذه الأشياء في ظرفٍ ميَّزت أحدَ أطرافه بعلامة صليب، ثم كتبتُ أن المرسَل إليه، حسب الاتفاق، هو السيدة بيلدن، وأرسلتُه.
أعقبَ ذلك أعظمُ مدةِ قلق تحمَّلتُها حتى الآن. مع أنني كنتُ قد امتنعتُ قصدًا عن أن أضعَ اسمي على الخطاب، شعرتُ بأن احتمالاتِ اكتشاف أمر الخطاب كانت كبيرةً للغاية. إذا خالفَت أقلَّ تفصيلة وانحرفَت عن المسار الذي كنتُ قد رسمتُه لها، فلا بد أن يستتبع ذلك نتائجُ مدمِّرة. إذا فتحت الطرد المرفق، أو شكَّت في المسحوق، أو عهدَت إلى السيدة بيلدن بسرِّها، أو حتى فشلت في إحراقِ خطابي، فسيذهب كلُّ شيء سُدًى. لم يكن بإمكاني أن أكون متيقنًا منها أو أعرفَ نتيجة مخطَّطي إلا من خلالِ الصحف. هل تظن أنني ظللتُ أُراقب الوجوهَ حولي؟ أو أقرأ الأخبارَ التلغرافية بنهَم، أو أنتفض ذُعرًا عندما يدقُّ الجرس؟ وعندما قرأت، بعد بضعةِ أيام، تلك الفِقرةَ القصيرة في الصحيفة التي طمأنتْني إلى أن جهودي كانت قد تسبَّبت على الأقلِّ في موت المرأة التي كنتُ أخشاها، فهل تعتقد أني كنتُ أنعمُ بأي إحساسٍ بالراحة؟
لكن ما داعي الحديث عن ذلك؟ في غضون ستِّ ساعات كان قد جاء الاستدعاءُ من السيد جرايس و… سأدعُ جدران هذا السجن، وهذا الاعتراف نفسَه، يروي البقية. لم أعُد أقوى على الكلام أو الفعل.