دليل ظرفي
أوه، ظلام، ظلام، ظلام!
والآن إذ بلغ الاهتمامُ ذِروتَه، وإذ بدا أن السِّتار الذي كان يُواري هذه الكارثةَ المفجعة على وشك أن يُرفَع، إن لم يكن سيُزاح تمامًا، شعرتُ برغبة في الهروب من المشهد، في مغادرة المكان، في ألَّا أعرف المزيد. لم يكن ذلك لأني كنت أشعر بأيِّ خوفٍ من أن تفضح هذه المرأة نفسَها. فالثبات البارد لملامح وجهها التي كانت حينئذٍ مستقرةً وجامدة كان ضمانةً كافية في حدِّ ذاتها في مواجهة احتمال وقوعِ مثل هذه الكارثة. ولكن، إذا صح بالفعل أن شكوكَ ابنة عمها لم تكن نِتاج كرهٍ فحسب، وإنما نِتاج معلومات لديها؛ وإن لم يكن ذلك الوجهُ الجميل في حقيقة الأمر سوى قِناع، وأن حقيقة إلينور ليفنوورث كانت على نحو ما يبدو أن كلمات ابنة عمها توحي به، ويوحي به تصرُّفها بعد ذلك، كيف لي أن أُطيق الجلوس وأرى أفعى الخداع والخطيئة المخيفة تخرج من قلب هذه الزَّهرة البيضاء؟! ولكن، في ظل هذا التشويق النابع من عدم التيقُّن، ورغم أني رأيتُ شيئًا من أحاسيسي منعكسًا على وجوه كثيرينَ حولي، لم يُظهِر رجلٌ واحد في ذلك الجمع أيَّ ميل إلى المغادرة، وكنت أنا أقلَّهم ميلًا إلى ذلك.
كان مُحقق الوفَيات، الذي كان حُسن ماري الأشقرُ قد أثَّر عليه إلى حدِّ الإضرار الواضح بإلينور، الشخصَ الوحيدَ بالغرفة الذي أظهر عدم تأثره في تلك اللحظة. التفتَ ناحية الشاهدةِ بنظرةٍ، مع ما كانت تحمله من توقير، كانت تشوبُها لمسةُ قسوة، وبدأ حديثه:
«قيل لي، يا آنسة ليفنوورث، إنكِ كنتِ مقرَّبةً من أسرة السيد ليفنوورث منذ الطفولة، صحيح؟»
أجابت بنبرةٍ هادئة: «منذ كان عمري عشر سنوات.»
كانت تلك هي المرةَ الأولى التي أسمعُ فيها صوتها، وأدهشَني ذلك؛ فصوتها كان يُشبه بدرجةٍ كبيرة صوتَ ابنة عمها، ولا يُشبهه في الوقت نفسِه. فمع أنه كان يُشبهه في نبرة الصوت، كان يفتقر إلى قدرته على التعبير، إن جاز أن أقول ذلك؛ كان يَصدُر دون أن يُسمَع له طنينٌ في الأذن، ويتوقف دون أن يترك صدًى.
«قيل لي إنه منذ ذلك الوقت وأنت تُعامَلين مثلَ ابنةٍ له، صحيح؟»
«أجل، سيدي، مثل ابنته، حقًّا؛ كان أكثر من مجرد أب لكِلتَينا.»
«أعتقد أنكِ والآنسة ماري ليفنوورث ابنتا عم. متى دَخَلَت في الأسرة؟»
«في الوقت نفسِه الذي دخلتُ فيه. راح أبَوانا ضحية الكارثة نفسِها. ولولا عمُّنا، لَصرنا مشردتَين في هذا العالم ونحن طفلتان كما كنَّا.» وهنا توقَّفت عن الكلام، وسرَت في شفتَيْها المطبقتَين رجفةٌ خفيفةٌ ثم أضافَت: «لكنه، بطيبةِ قلبه، تبنَّى كِلتَينا لنُصبح جزءًا من أسرته، وأعطانا ما كانَت كِلتانا قد فقدَته؛ الأبوَّة والمأوى.»
«تقولين إنه كان بمنزلة الأبِ لكِ وكذلك لابنة عمكِ؛ لأنه تبنَّى كلتَيكما. هل تعنين بذلك أنه لم يكتفِ بأن يُحيطَكِ بحياةٍ منعَّمة، بل جعلكِ تفهمين أن الوضع نفسَه سيكون مكفولًا لكِ بعد مماتِه؛ بإيجاز، أنه كان ينوي أن يتركَ لكِ أي جزءٍ من ممتلكاته؟»
«لا، يا سيدي؛ فهمتُ من البداية أن ممتلكاته ستورَّث بموجب وصيةٍ إلى ابنة عمي.»
«لم تكن صلةُ القرابة بين ابنة عمِّكِ وبينه أقربَ له منكِ، يا آنسة إلينور؛ ألم يمنَحْكِ أبدًا أيَّ سببٍ لهذا التحيُّز الواضح؟»
«لا سبب سوى رغبتِه، يا سيدي.»
كانت إجابتها على هذه النقطة صريحةً وشافية حتى بدا أن ثقةً تدريجيَّةً أخذَت تحلُّ محلَّ الشكوك المزعجة التي أخذَت تحوم من البداية حول اسم هذه السيدة وشخصها. لكن بهذا الإقرار، الذي قيل بصوتٍ هادئ غيرِ مضطرب، لم تشعر هيئةُ المحلَّفين وحدها، ولكن أنا نفسي الذي كان لديَّ مبررٌ أكثر واقعيَّة لفقد الثقة فيها، أن مسألة الاشتباه الفعليِّ في أمرها لا بد أن تهتزَّ كثيرًا أمام الغياب المطلَق للدافع الذي دلَّت عليه إجابتُها بوضوح.
في تلك الأثناء تابَعَ المحققُ: «إذا كان عمُّكِ محسنًا إليكِ كما تقولين، فلا بد أن علاقتكِ به أصبحَت وطيدةً بدرجةٍ كبيرة، صحيح؟»
اتخذ فمُها هيئة انحناءةٍ حازمة مفاجئة، وقالت: «أجل، سيدي.»
«إذن، لا بد أن موته كان صدمةً قوية لكِ؟»
«قوية جدًّا جدًّا.»
«أكان ذلك في حدِّ ذاته كافيًا لأن يُغشى عليكِ، كما أخبروني، عندما لمحتِ جُثمانه لأول مرة؟»
«كافيًا، تمامًا.»
«ومع ذلك بدَوتِ مستعدةً للأمر، صحيح؟»
«مستعدة؟»
«يقول الخدم إنكِ كنتِ مضطربةً بشدةٍ عندما وجدتِ أن عمكِ لم يحضر إلى مائدة الإفطار.»
«الخدم!» بدا أن لسانها التصقَ بسقف حلقها؛ فلم تستطع أن تتكلَّم.
«وإنكِ عندما رجعتِ من غرفته، كنتِ شاحبةً جدًّا.»
هل كانت بدأَت تُدرك أن بعض الشك، إن لم يكن اشتباهًا فعليًّا، كان يجول في ذهنِ الرجل الذي كان بوسعه أن ينهالَ عليها بأسئلةٍ من هذه النوعية؟ لم أرَها من قبلُ مضطربةً بشدة هكذا منذ تلك اللحظة المشهودة في غرفتها بالأعلى. لكن ارتيابها، إن كانت قد شعرَت بأي ارتياب، لم ينفضح مدةً طويلة. هدَّأت نفسها بجهدٍ بالغ، وأجابَت بإيماءةٍ هادئة:
«ذلك ليس غريبًا جدًّا. كان عمي رجلًا منظمًا جدًّا؛ من المرجَّح أن من شأن أقلِّ تغييرٍ في عاداته أن يُثير تخوفاتنا.»
«أكنتِ قلقةً، إذن؟»
«كنت قلقةً إلى حدٍّ ما.»
«آنسة ليفنوورث، مَن الذي كان من عادته أن يباشر تنظيمَ الغرف الخاصة بالسيد ليفنوورث؟»
«أنا، يا سيدي.»
«إذن، أنتِ بلا شكٍّ على علمٍ بخِزانةٍ بعينها في غرفته تحتوي على درجٍ؟»
«أجل، يا سيدي.»
«كم مضى من الوقت منذ أُتيحَت لكِ فرصة الذَّهاب إلى هذا الدرج؟»
قالَت وهي ترتجف بوضوحٍ عند إقرارها: «أمسِ.»
«في أي ساعة؟»
«قُرب الظهيرة، حسب ظني.»
«هل كان المسدس الذي اعتاد أن يحتفظَ به هناك في مكانه في ذلك الوقت؟»
«أظن ذلك؛ لم ألاحظ.»
«هل أدَرتِ المفتاح عند غلق الدرج؟»
«فعلتُ.»
«هل أخرَجتِه؟»
«لا، يا سيدي.»
«آنسة إلينور، ذلك المسدس، كما لعلكِ لاحظتِ، موضوعٌ على المائدة أمامكِ. هل لكِ أن تُلقيَ نظرةً عليه؟» ورفَعه إلى مستوى النظر، وحمله ناحيتها.
إن كان يقصد أن يُباغتها بهذا التصرُّف المفاجئ، فقد نجَح في ذلك ببراعة. عندما وقع نظرُها أول مرة على السلاح القاتل، تراجعَت إلى الوراء، وانطلقت من شفتَيها صرخةٌ مفزوعة، لكنها سرعان ما كُبِتَت. أطلقت أنينًا، ملوحةً بيدَيْها أمامها: «يا إلهي، لا، لا!»
واصل المحققُ حديثه: «يتوجَّب عليَّ أن أُصرَّ على أن تُلقيَ نظرةً عليه، يا آنسة ليفنوورث. عندما عُثر عليه للتو، كانت جميع الحجيراتُ محشوةً بالرصاص.»
في الحال اختفَت من وجهها تلك النظرةُ المتألِّمة. قالت: «أوه، إذن …» ولم تُكمل كلامها، لكنها مدَّت يدها نحو السلاح.
لكن المحقِّق، الذي ظل يُحملق فيها بثباتٍ، تابع: «لقد أُطلِقَت منه رَصاصة مؤخرًا، مع ذلك. اليد التي نظَّفَت الماسورة، أغفلت غرفة الخرطوش، يا آنسة ليفنوورث.»
لم تصرخ مرةً أخرى، لكنَّ نظرةً يائسة وبائسة علَت وجهَها في بطءٍ، وبدَت على وشك أن تَهويَ أرضًا؛ لكنَّ ردَّ فِعْلها جاء كومضةٍ خاطفة، وبعدما رفعت رأسها في ثباتٍ ووقار لم أرَ لهما مثيلًا، صاحت: «عظيم، إذن ماذا؟»
وضع المحققُ المسدَّس على المنضدة؛ أخذ الرجال والسيدات ينظر بعضُهم إلى بعض؛ وبدا كلُّ فردٍ متردِّدًا في المتابعة. سَمِعتُ تنهيدةً مرتجفةً بجانبي، فالتفتُّ، ورأيت ماري ليفنوورث شاخصةً ببصرها نحو ابنة عمِّها وقد سرى في وجنتَيْها تورُّدُ ذهول، وكأنها بدأت تُدرك أن الحضور، وهي أيضًا، لاحظوا في هذه المرأة شيئًا يستدعي التفسير.
أخيرًا استجمع المحققُ شجاعته ليُتابع.
«أتسألينني، يا آنسة ليفنوورث، عن الدليل أمامك، قائلةً إذن ماذا؟ سؤالكِ يُلزمني أن أقول إنه لم يكن يمكنُ لسارقٍ ولا قاتل مأجور، أن يستخدم هذا المسدسَ بغرض القتل، ثم يُكلِّفَ نفسه عناء، ليس تنظيف المسدس فحسب، بل إعادة تعبئته، وإعادته مرةً ثانية في الدرج الذي كان قد أخذه منه وإغلاقه بالمفتاح.»
لم تُجِب عمَّا قيل هذا؛ لكنني رأيتُ السيد جرايس يُدوِّن ملاحظةً عن هذه النقطة بإيماءة موافقة مميِّزة لشخصه.
تابع حديثه بجِدِّية أكبر قائلًا: «ولم يكن من الممكن لأي شخصٍ لم يعتَدْ على الدخول والخروج من غرفة السيد ليفنوورث طَوال الوقت، أن يدخل غرفته في ساعةٍ متأخِّرة من الليل، ويُحضِر هذا المسدس من مخبئِه، ويقطع غرفته سيرًا، ثم يتقدَّم مقتربًا منه كما أظهرَت الوقائعُ أنه كان ضروريًّا، دون أن يجعله على الأقل يلتفتُ برأسه إلى أحد الجانبين؛ وهو الأمر الذي لا يُمكننا، أخذًا في الاعتبار شهادةَ الطبيب، أن نُصدق أنه فعَله.»
كان هذا تلميحًا مُخيفًا، وتوجَّهنا ببصرنا لنرى إلينور ليفنوورث تنكص. لكنَّ التعبير الدالَّ على الشعور بالغضب ظهر على وجه ابنة عمها. انتفضَت ماري غضبًا من مقعدها، وألقَت نظرة سريعة على مَن حولها، ثم فتحت شفتَيها لتهمَّ بالحديث؛ لكن إلينور، بعد أن التفتَت قليلًا، أشارت إليها بأن تتحلَّى بالصبر، وأجابت بنبرةٍ فاترةٍ وحذرة: «أنت لستَ على يقين، يا سيدي، بأنَّ هذا حدث. إذا كان عمي، لغرضٍ شخصي، قد أطلقَ رصاصةً من مسدسه، لنقُل مثلًا، أمسِ — وهو أمر واردٌ بالتأكيد، إن لم يكن مرجَّحًا — فقد تُرصَد نتائجُ مماثلة، ويمكن التوصلُ إلى الاستنتاجات نفسِها.»
تابع المحقق: «آنسة ليفنوورث، الرصاصة استُخرِجت من رأس عمكِ!»
«آه!»
«وتتطابق مع تلك التي في الخراطيش التي عُثِر عليها في درج خِزانته، وتحمل الرقمَ المستخدم مع هذا المسدس.»
هوَت رأسها بين يدَيها؛ وأخذت تنظر بعينَيها في الأرض؛ كان مسلكُها بأكمله يُعبر عن الإحباط. وإذ لاحظَ المحققُ هذا، واصل في تصعيد حدته.
قال: «آنسة ليفنوورث، لديَّ الآن بعضُ الأسئلة التي يتعيَّن أن أطرحَها عليكِ بشأن الليلة الماضية. أين قضيتِ تلك الليلة؟»
«بمفردي، في غرفتي الخاصة.»
«ولكن، هل رأيتِ عمَّكِ أو ابنة عمكِ أثناءها؟»
أجابت، بعد لحظة توقُّف: «لا، يا سيدي؛ لم أرَ أحدًا بعدما غادرتُ مائدة العشاء … باستثناء توماس.»
«وكيف رأيتِه؟»
«جاء ليُعطيَني بطاقة رجل جاء لزيارة المنزل.»
«هل لي أن أسأل عن اسمه؟»
«الاسم على البطاقة كان السيد لي روي روبنز.»
بدا الأمرُ تافهًا؛ لكنَّ الاختلاجةَ المفاجئة التي صدرت من السيدة التي كانت بجانبي جعلَتني أتذكَّره.
«آنسة ليفنوورث، عندما تجلسين في غرفتكِ، هل من عادتكِ أن تتركي بابَ غرفتكِ مفتوحًا؟»
عندئذٍ بدَت على وجهها نظرةُ ذهول، سرعان ما كبَتَتها. وردت: «ليس من عادتي ذلك؛ لا، يا سيدي.»
«لماذا تركتِهِ مفتوحًا الليلة الماضية؟»
«كنت أشعر بالحر.»
«ألا يوجد سببٌ آخر؟»
«ليس لديَّ سبب آخر.»
«متى أغلقتِ الباب؟»
«عندما كنتُ على وشك أن أخلد إلى النوم.»
«هل كان ذلك قبل أن يصعد الخدمُ لأعلى أم بعده؟»
«بعده.»
«هل سمعتِ السيد هارويل وهو يُغادر المكتبة ويصعد إلى غرفته؟»
«أجل، سمعته، يا سيدي.»
«ما المدة التي ترَكتِ فيها بابَكِ مفتوحًا بعد ذلك؟»
أضافت بسرعة: «أنا … أنا … بعد دقائق قليلة … لا يمكنني أن أجزم.»
«لا يُمكنكِ أن تجزمي؟ لماذا؟ هل نسيتِ؟»
«نسيتُ فقط كم من الوقت مرَّ قبل أن أُغلق الباب بعد صعود السيد هارويل.»
«هل كان أكثرَ من عشر دقائق؟»
«أجل.»
«أكثر من عشرين دقيقة؟»
«ربما.» كم كان وجهها شاحبًا، وكم كان جسدها يرتجف!
«آنسة ليفنوورث، حسَب الأدلة، فإن عمك لقي حتفَه بعد أن تركه السيد هارويل بمدَّة قصيرة. إذا كان بابُكِ مفتوحًا، فلا بد أن تكوني قد سمعتِ إن كان أحدٌ دخل غرفتَه، أو أي رصاصة أُطلِقَت من مسدس. والآن، هل سمعتِ أي شيء؟»
«لا يا سيدي؛ لم أسمع أيَّ جلبة.»
«هل سمعتِ أي شيء؟»
«ولا صوت أيِّ إطلاق نار من مسدس.»
«آنسة ليفنوورث، سامحيني على إلحاحي، ولكن هل سمعتِ أي شيء؟»
«سمعتُ صوت بابٍ يُغلَق.»
«أي باب؟»
«باب المكتبة.»
«متى؟»
«لا أعرف.» شبَّكت يديها بطريقة هيستيرية. وأضافت: «لا يمكنني أن أجزم. لمَ تسألني كلَّ هذه الأسئلة؟»
هببتُ واقفًا على قدمي؛ كانت تترنَّح، وكاد يُغشى عليها. لكن قبل أن أتمكنَ من الوصول إليها، كانت قد شدَّت قامتها من جديد، واستعادَت هيئتها السابقة. قالت: «عفوًا؛ لست في حالتي الطبيعية منذ صباح هذا اليوم. أرجو أن تلتمسوا لي العذر»، واستدارت في ثبات لتُواجه المحقق. «ماذا كان سؤالك؟»
قال: «سألتُكِ»، وازداد رفعُ صوتِه وارتفاعه — كان واضحًا أنَّ أسلوبها بدأ يُثير الشك تجاهها — «متى سمعتِ صوتَ باب المكتبة يُغْلَق؟»
«ليس بوسعي تحديدُ وقتٍ معين، لكن كان ذلك بعد أن صعد السيد هارويل لأعلى، وقبل أن أُغلق باب غرفتي.»
«ولم تسمعي صوتَ طلقة من مسدس؟»
«لا، لم أسمع، سيدي.»
ألقى المحققُ نظرةً سريعةً على هيئة المحلَّفين، التي كان كلُّ واحدٍ منهم تقريبًا يُشيح بناظرَيْه جانبًا مثلما فعل هو أيضًا.
«آنسة ليفنوورث، قيل لنا إن هانا، إحدى الخادمات، توجهَت إلى غرفتكِ في ساعةٍ متأخرةٍ من ليلة أمسِ لتطلب دواءً. هل جاءَت إليكِ؟»
«لا، يا سيدي.»
«متى نما إلى علمكِ أمرُ اختفائها الغريب من هذا المنزل أثناء الليل؟»
«هذا الصباح قبل الإفطار. قابلَتْني مولي في الردهة، وسألتْني عن حال هانا. وجدتُ السؤال غريبًا، وبالطبع سألتُها. بعد لحظة من الحوار توصلتُ إلى الاستنتاج الواضح، وهو أن الفتاة غادرَت.»
«ما الذي تبادرَ إلى ذهنكِ عندما تأكدتِ من هذه الحقيقة؟»
«لم أعرف فيمَ أفكر.»
«ألم يخطر ببالكِ أيُّ شك في سلوك إجرامي؟»
«لا، يا سيدي.»
«ألم تربِطي بين هذه الحقيقة وواقعةِ مقتل عمكِ؟»
«لم أكن أعلمُ حينها بواقعة القتل.»
«وبعد أن علمتِ؟»
«أوه، ربما خطرَت ببالي فكرةٌ ما بشأن احتمال أن يكون لديها علمٌ بشيء عنها؛ لا يمكنني أن أجزم.»
«أيمكنكِ أن تُخبرينا بأي شيء عن ماضي هذه الفتاة؟»
«ما يمكنني أن أخبرك به لن يزيدَ في شيء عما أدْلَت به ابنةُ عمي.»
«ألا تعرفين ما الذي كان يُحزنها في الليل؟»
تورَّدَت وجنتاها غضبًا؛ لكني لم أعرف أكان ذلك بسبب نبرته، أم من السؤال نفسه. «لا، يا سيدي! لم تَبُح لي بأسرارها قطُّ.»
«إذن لا يُمكنكِ أن تُخبرينا عن المكان الذي من المحتمل أن تذهب إليه عند مغادرة هذا المنزل؟»
«بالقطع لا.»
«آنسة ليفنوورث، يتعيَّن علينا أن نُوجه إليكِ سؤالًا آخَر. قيل لنا إن جثمان السيد ليفنوورث نُقِل بأمرٍ منكِ من المكان الذي عُثر عليه فيه، إلى الغرفة المجاورة.»
أحنَت رأسها.
«ألم تعلمي أنه من غير القانوني لكِ أو لأي شخصٍ آخرَ أن ينتهكَ حُرمةَ جثةِ شخص عُثِر عليه قتيلًا، إلا في حضور الضابط المختصِّ وتحت سلطته.»
«لم أسترشد بمعرفتي، يا سيدي، فيما يتعلَّق بهذا الموضوع؛ لم أسترشد إلَّا بمشاعري.»
«إذن أفترض أن مشاعركِ هي التي أوعزَت إليكِ بالبقاء واقفةً بجانب المنضدة التي قُتل عندها، بدلًا من أن تتبعي الجثمانَ إلى الداخل وتتأكَّدي من أنه وُضِع كما ينبغي؟» ثم واصل حديثه بسخريةٍ لاذعة، قائلًا: «أو ربما كنتِ مهتمةً للغاية، في هذه اللحظة، بالورقة التي أخذتِها، لدرجةٍ جعلَتكِ لا تُفكرين كثيرًا في قواعد السلوك المتبَعة في هذا الظرف؟»
رفعَت رأسها في حسمٍ وقالت: «ورقة؟ مَن قال إني أخذتُ ورقةً من فوق المنضدة؟»
«أحد الشهود أقسَم بأنه رآكِ وأنتِ تنحَنين على المنضدة التي كان عليها العديدُ من الأوراق المبعثَرة؛ وشاهدٌ آخرُ أفاد بأنه التقى بكِ بعد بِضْع دقائق في الردهة وكنتِ حينها تضَعين ورقةً في جيبكِ. والاستدلال يستتبع ذلك، يا آنسة ليفنوورث.»
كانت هذه طعنةً نَجْلاء، وتطلَّعنا لنرى علامةً ما على الاضطراب، لكن شفتَها الشامخة لم ترتجف قطُّ.
«لقد استنتجتَ استدلالًا، وعليك أن تُثبت صحته.»
كان الردُّ مُفحِمًا في حد ذاته، ولم يُفاجئنا أن نرى أن المحقِّق قد ارتبك قليلًا، لكن، بعدما استعادَ رِباطة جأشِه، قال:
«آنسة ليفنوورث، يتوجَّب عليَّ أن أسألَكِ مرةً أخرى، هل أخذتِ أم لم تأخُذي شيئًا من فوق تلك المنضدة؟»
عقدَت ذِراعيها. وقالت في هدوء: «أرفض الإجابةَ عن السؤال.»
ردَّ عليها: «معذرةً، من الضروري أن تُجيبي.»
اتخذت شفتُها انحناءةً أكثرَ إصرارًا. «عندما يُعثَر على أي ورقة مشتبَهٍ في أمرها بحوزتي، سيَحينُ الوقت لأن أفسِّر كيف وصلَتْني.»
بدا أن هذا التحديَ أذهل المحققَ إلى حدٍّ بعيد.
«هل تُدركين إلام يُعرضك هذا الرفض؟»
نكَّسَت رأسها. «يُؤسفني أن أقول إنني أدرك ذلك؛ أجل، يا سيدي.»
رفع السيد جرايس يده، وبخفةٍ بَرَمَ هُدبَ ستارة النافذة.
«هل ما زلتِ على إصراركِ؟»
امتنعَت تمامًا عن الرد.
لم يُلِحَّ المحققُ أكثر من ذلك.
كان قد صار واضحًا عندئذٍ للجميع أن إلينور ليفنوورث لم تتخِذ موقفَ الدفاع عن نفسها فحَسْب، بل كانت تُدرك تمامًا موقفها، وكانت مستعدةً لأن تُبقي عليه. حتى ابنة عمها، التي كانت قد ظلت حتى تلك اللحظةِ محتفظةً بشيءٍ من رِباطة الجأش، بدأَت تُظهِر أماراتِ اضطرابٍ شديد وخارج عن السيطرة، وكأنها وجدَت أن توجيهَ اتهامٍ بنفسها أمر، وأن تراه منعكسًا في ملامح الرجال حولها أمرٌ مختلف تمامًا.
واصل المحقِّق حديثه، مغيرًا نَهْجه في الهجوم: «آنسة ليفنوورث، كنتِ تتمتعين دومًا بحرية الدخول إلى جناح عمِّك، أليس كذلك؟»
«بلى، يا سيدي.»
«ربما حتى إلى حدِّ دخول غرفته في ساعةٍ متأخِّرةٍ من الليل، واجتيازها والوقوف بجانبه، دون إزعاجه بالدرجة التي تجعله يُدير رأسه؟»
قالت: «أجل»، وأخذت تعتصرُ يدَيها بألم.
«آنسة ليفنوورث، مِفتاح باب المكتبة مفقود.»
لم تُجِب عن ذلك.
«أحد الشهود شهد بأنكِ، قبل الاكتشاف الفعليِّ لواقعة القتل، وقفتِ عند باب المكتبة وحدَكِ. هل لكِ أن تُخبرينا هل كان المِفتاحُ موجودًا حينئذٍ في قُفل الباب؟»
«لم يكن موجودًا.»
«هل أنتِ متأكدة؟»
«متأكدة.»
«إذن، هل كان ثَمة أيُّ شيءٍ مميز في هذا المفتاح، سواءٌ في حجمِه أو شكله؟»
حاولَت جاهدةً أن تقمعَ الذعر المفاجئ الذي أثاره هذا السؤال، فجالت بناظِرَيها في غيرِ اكتراث في مجموعة الخدم المتمركزين وراءها، وارتجفت. وأخيرًا أقرَّت: «كان مختلفًا قليلًا عن المفاتيح الأخرى.»
«ما وجهُ الاختلاف؟»
«كان مقبضه مكسورًا.»
أكد المحقق، وهو ينظر تجاه المحلَّفين: «آه، أيها السادة، كان المقبض مكسورًا!»
بدا أن السيد جرايس احتفَظ بهذه المعلومة لنفسه؛ إذ أبدى إيماءةً أخرى من إيماءاته السريعة.
«إذن هل يمكن أن تتعرَّفي على هذا المفتاح، يا آنسة ليفنوورث، إذا ما رأيتِه؟»
نظرَت إليه بذهول، وكأنها توقعَت أن تراه في يده؛ لكن بدا أنها استجمعَت شجاعتها عندما وجدَتْ أنه لم يُخرجه، فأجابت بسلاسةٍ تامَّة:
«أظن أنَّ بإمكاني ذلك، يا سيدي.»
بدا على المحقق أنه اكتفى، وكان على وشك أن يأذنَ للشاهدة بالانصراف عندما سار السيد جرايس في هدوءٍ نحوه ولمس ذراعه. قال ذلك الرجل: «لحظة واحدة.» وبعد أن انحنى، همَس في أذن المحقق ببضع كلمات؛ ثم اعتدل، ووقف واضعًا يده اليمنى في جيب صدريته وعيناه على النجفة.
جَرؤتُ بصعوبةٍ على أن أتنفَّس. هل أعاد على المحقق الكلام الذي كان قد سمعه دون قصدٍ في الردهة بالأعلى؟ لكنَّ نظرةً على وجه الأخير بعثَت في نفسي طُمَأنينةً بأنه لم يتسرَّب أمرٌ بتلك الأهمية. لم يبدُ عليه الضجر فحَسْب، بل بدا منزعجًا قليلًا.
قال وهو يلتفت مرةً أخرى تجاهها: «آنسة ليفنوورث، لقد أكدتِ أنكِ لم تزوري غرفةَ عمكِ الليلة الماضية. هل تُكررين التأكيد؟»
«نعم.»
نظر إلى السيد جرايس، الذي أخرج في الحال من جيب صدريته منديلًا متسخًا بغرابة. «من الغريب، إذن، أنه قد عُثِر على منديلك في تلك الغرفة صباحَ هذا اليوم.»
بدرَت صرخةٌ من الفتاة. ثم، في الوقت الذي تيبَّس فيه وجهُ ماري ليبدو محبطًا بشدَّة، زمَّت إلينور شفتَيها وأجابت ببرود: «لا أجدُ الأمر غريبًا إلى هذا الحد. كنتُ في تلك الغرفة في وقتٍ مبكِّر من صباح هذا اليوم.»
«وأوقعتِه عندئذٍ؟»
بدا على وجهها توردُ اضطرابٍ عابر؛ ولم تُعقِّب.
فاستطرد: «متسخًا بهذه الطريقة؟»
«لا أعرف شيئًا عن الاتِّساخ. ما هذا؟ دعني أرَ.»
«بعد لحظة. ما نرغب فيه الآن هو أن نعرف كيف وصل إلى غرفة عمكِ.»
«ثَمة طرقٌ كثيرة. ربما تركتُه هناك منذ أيام. لقد أخبرتك أنني اعتدت على زيارة غرفته. لكن أولًا، دعني أرَ إن كان هذا منديلي.» وبسَطَت يدها.
علَّق، بينما كان السيد جرايس يُناولها إياه: «أظنه كذلك، لأنه قيل لي إن الأحرفَ الأولى من اسمكِ مطرزةٌ في الزاوية.»
لكنها قاطعَته بصوتٍ مذعور. «هذه البقع المتسخة! ما هي؟ إنها تُشبه …»
قال المحقق: «ما تشبهه. إذا نظَّفتِ مسدسًا من قبل، فلا بد أنكِ تعرفين ماهيتها، يا آنسة ليفنوورث.»
بارتجافٍ تركت المنديل يسقط من يديها، ووقفت تُحدق فيه، وهو يستقرُّ أمامها على الأرض. قالت: «لا أعرف شيئًا عنه، أيها السادة. إنه منديلي، ولكن …» لسببٍ ما لم تُكمل جملتها، لكنها كرَّرَت مرةً أخرى: «حقًّا، أيها السادة، لا أعرف شيئًا عنه!»
بهذا انتهت شهادتها.
بعدئذٍ استُدعِيَت كيت، الطاهية، وطُلِب منها أن تذكر متى كانت المرة الأخيرة التي غسلَت فيها المنديل؟
قالت وهي تنظر نظرةَ استهجانٍ إلى سيدتها: «هذا، يا سيدي؛ هذا المنديل؟ أوه، في وقتٍ ما خلال هذا الأسبوع، يا سيدي.»
«في أيِّ يوم؟»
«حسنًا، أتمنى لو كان بوُسعي أن أنسى، يا آنسة إلينور، لكن لا يمكنني. هذا هو المنديل الوحيد بهذا الشكلِ في المنزل. غسلته أولَ أمس.»
«ومتى قمتِ بكيِّه؟»
أجابت، مختنقةً قليلًا والكلماتُ تخرج من فمِها: «صباح يوم أمس.»
«ومتى أخذتِه إلى غُرفتها؟»
ألقت الطاهية مِئزرَها على رأسها. وقالت: «بعد ظهيرة يوم أمس، مع باقي الثياب، قبل موعد العشاء مباشرةً.» وأضافت هامسةً: «حقًّا، لم يكن بوُسعي ألَّا أفعل، يا آنسة إلينور! هذه كانت الحقيقة.»
قطَّبت إلينور ليفنوورث جبينَها. كان هذا الدليل المناقِض إلى حدٍّ ما قد أثَّر عليها تأثيرًا واضحًا جدًّا؛ وبعدما سمح المحقق، بعد لحظةٍ، للشاهدة بالانصراف، استدار ناحيتَها، وسألها إن كان لديها أيُّ شيء آخر تودُّ قوله على سبيل التوضيح أو خلافه، فلوَّحَت بيدها لأعلى على نحوٍ متقطِّع، وهزَّت رأسَها ببطءٍ، ومن دون أيِّ كلمة أو سابقِ إنذار، أُغشي عليها في مقعدها.
أعقبَ ذلك، بالطبع، اضطرابٌ، لاحظتُ خلاله أن ماري لم تُهرَع إلى ابنة عمها، لكنها تركت لمولي وكيت أن يفعلا ما بوُسعِهما أن يفعلا معها لإفاقتها. في لحظاتٍ قليلة تحقق هذا بدرجةٍ كبيرة وتمكَّنَتا من اقتيادها إلى خارج الغرفة. وبينما كانتا تفعلان ذلك، لاحظت أن رجلًا طويلًا قام وتبعها إلى الخارج.
أعقب ذلك صمتٌ مؤقَّت، ما لبث أن كسرته حركةٌ متململة إذ نهض المحلف الضئيل الحجم واقترح أنه ينبغي على هيئة المحلَّفين أن تُرجئ اجتماعها اليوم. وإذ بدا أن هذا جاء موافقًا لرأي محققِ الوفيات، أعلن أن التحقيقَ سيُرجَأ حتى الساعة الثالثة من اليوم التالي، عندما تأكد من أن المحلَّفين سيكونون حاضرين.
تلا ذلك اندفاعٌ من الجميع نحو الخارج، وفي غضون دقائقَ أُخلِيَت الغرفة من جميع الحضور ما عدا الآنسة ماري ليفنوورث، والسيد جرايس، وأنا.