مقدمة
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يختصُّ فرعٌ بعينه من فروع الكيمياء الرئيسية الثلاثة بالمركبات الكربونية وحدَها. تتمثل إحدى الإجابات في حقيقة أن المُركبات الكربونية ضرورية لكيمياء الحياة. صِيغَ مصطلح «الكيمياء العضوية» للمرة الأولى في القرن الثامن عشر من قِبل كيميائي سويدي يُدعى توربرن برجمان، وكان ذلك من أجل تعريف كيمياء المركبات التي تعود في أصول تكوينها إلى كائناتٍ حية. كان العملاء في تلك الحقبة يعتقدون أن المواد الكيميائية التي تُنتجها الكائنات الحية (المواد البيوكيميائية أو الكيميائية الحيوية) تختلف عن تلك التي تُنتَج في المعمل؛ ذلك لأنها تحتوي على خاصية مميزة يمكن للكائنات الحية وحدَها أن توفرها.


منذ ذلك الحين، أصبحَت الكيمياء العضوية معروفةً بأنها كيمياء المركبات الكربونية، سواء نشأت عن كائناتٍ حية أم لا. ولكن هذا لا يمنع أن كيمياء المركبات الكربونية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكيمياء الحياة، وتعكس عبارة «أشكال الحياة الكربونية» هذه الحقيقة. سنتعرَّف مدى أهمية الكيمياء العضوية للأنظمة الحية في الفصل الرابع، وهو فرع العِلم المعروف حاليًّا بالكيمياء الحيوية.
على مدار ما يزيد على مائة عام، كانت لعلماء الكيمياء العضوية إسهاماتٌ كبيرة في طريقة فهمنا للحياة على المستوى الجزيئي، وإنتاج مُركباتٍ جديدة أحدثت ثورة في المجتمع الحديث. تظهر نتائج هذه الأبحاث في الملابس التي نرتديها، والمنازل التي نعيش فيها، والطعام الذي نأكله. تضمُّ قائمة المُنتجات المعتمدة على الكيمياء العضوية: اللدائن، والمنسوجات الصناعية، والعطور، والألوان، والمُحلِّيات، والمطاط الصناعي، وغيرها من منتجاتٍ كثيرة نستخدِمها يوميًّا. كما كان للكيمياء العضوية الفضلُ في صناعة المبيدات الحشرية، ومبيدات الحشائش، ومبيدات الفطريات التي تساعد المُزارعين في إنتاج ما يكفي من الطعام لإطعام سكَّان الأرض الذين تتزايد أعدادهم باستمرار، بالإضافة إلى العقاقير التي تُعالج الأمراض وتُطيل متوسط الأعمار.
لا شكَّ أن الفوائد هائلة، ولكن من المُهم أيضًا عدم تجاهُل السلبيات. قد تتسبَّب الاكتشافات الجديدة في ظهور مشكلاتٍ من شأنها أن تؤثِّر على الصحة والبيئة ما لم تُستخدَم بحذَر ومسئولية. وللأسف، قد تؤدي هذه المشكلات إلى فقدان الثقة في التقنيات الحديثة بوجهٍ عامٍّ والمواد الكيميائية بوجهٍ خاص، وهو التوجُّه المُسمَّى بالخوف غير المُبرَّر من المواد الكيميائية (الكيموفوبيا). يعتبر البعضُ أن كلمة «كيميائي» مرادِفة لكلمة «مركب سام أو مُلوِّث تمَّ تخليقُه صناعيًّا بواسطة الصناعات الكيميائية». ولكن الحقيقة أن كلمة «كيميائي» مصطلحٌ عام يشمل المركبات الطبيعية والمركبات المخلَّقة على حدٍّ سواء. هناك اعتقاد لا أساسَ له من الصحة بأن المركبات المخلَّقة صناعيًّا هي مركبات خطرة بطبيعتها، بينما المواد الكيميائية الطبيعية أكثر أمانًا بكثير. ولكن هذا بعيدٌ كل البُعد عن الحقيقة. إن بعضًا من أخطر السموم التي يعرفها العِلم، وأكثرها فتكًا على الإطلاق، تأتي من مصادر طبيعية، في حين أن الكثير من المُركبات المخلَّقة آمِنة تمامًا. كما أن الناس لا يُدركون أنه عند تخليق مركب طبيعي المنشأ في المعمل، فإنه يُماثل تمامًا هذا المركب نفسه حال استخراجه من مصادره الطبيعية.
في الواقع، الكثير من المركبات الجديدة التي ابتُكرت لمصلحة المجتمع تسبَّبت في مشكلاتٍ طويلة المدى، ولكن هذا لا يَعني أن يُدير المجتمع ظهره لجميع العقاقير والمبيدات الحشرية والإضافات الغذائية والبوليمرات التي تقوم عليها. بدلًا من ذلك، يكمُن التحدِّي في تصميم مركباتٍ أفضل ذات خصائص مُحسَّنة. وهنا، تقع على عاتق علماء الكيمياء العضوية مسئولية التعلُّم من أخطاء الماضي ومواصلة السعي نحو اكتشافاتٍ من شأنها أن تُفيدَ البشر جميعًا. يستعرض هذا الكتاب الكثير من الفوائد الهائلة التي أسفرت عنها أبحاثُ الكيمياء العضوية، بالإضافة إلى بعض المشكلات التي نشأت عن ابتكاراتٍ سابقة. كما يستعرض جهود الباحِثين حاليًّا نحو التوصُّل إلى جيلٍ جديد من المركبات يتَّسِم بقدْر أكبر من الأمان والفاعلية.