الفصل الثالث
تخليق المُركبات العضوية وتحليلها
يعتمِد التصميم الحديث للعقاقير أو المبيدات الحشرية
أو العطور أو مكسبات الطعم أو البوليمرات بصفةٍ أساسية
على علماء الكيمياء الحيوية. ويرجع ذلك إلى كونهم خبراء
في استكشاف العالَم الجزيئي، وإلى تدرُّبهم على فَهم
تركيب الجزيئات العضوية وخصائصها وتفاعلاتها. علاوةً
على ذلك، يمتلك علماء الكيمياء العضوية المهارات
العملية اللازمة لتخليق بُنًى وتراكيب جديدة، الأمر
الذي يجعل الأبحاث التي تُجرى داخل معامل التخليق
العضوي صعبةً وملهمة في الوقت نفسه. لم تكن أبحاث
التخليق الصناعي أبدًا عملًا روتينيًّا، وكلُّ يومٍ
يمكن أن يُمثل رحلةً استكشافية جديدة. كما أنه ليس
بالمجال القابل للتوقُّع؛ إذ يمكن لتفاعُلٍ معيَّن أن
يعطيَ ناتجًا مختلفًا عن الناتج المتوقَّع أو المُخطَّط
له. وقد يكون ذلك مثارًا للإحباط أحيانًا، ولكنه يُقدم
أيضًا فرصًا جديدة للبحث والاستكشاف إذا اتضح أن هذا
الناتج غير المُتوقَّع له خصائص مفيدة.
تتَّسم الأبحاث في مجال الكيمياء العضوية بأنها
إبداعية وعَملية في آنٍ واحد. والإبداع مطلوب من أجل
تصميم جزيئاتٍ جديدة من المتوقَّع أن تتَّسم بخصائص
مفيدة. كما أنه مطلوب عند وضع مسارٍ لتخليق مُركَّب
مُعين، وهو أمر أشبه بشطرنج كيميائي. ولتحقيق هذَين
الهدفَين، لا بد أن يكون لدى الباحث فهم نظري عميق
للكيمياء العضوية، وكذلك قدرة على تطبيق هذه المعرفة
بطريقة مُبتكَرة على كلِّ ما يطرأ من مشكلاتٍ جديدة.
ولكن، يحتاج الباحثون الكيميائيون أيضًا إلى مهاراتٍ
عملية دقيقة إذا كانوا بصدد تنفيذ إجراءاتٍ تخليقية في
المعمل. يجب أن تتوفر لدى عالِم الكيمياء «أنامل خضراء»
تُضاهي أنامل البستاني. وفيما يبدو، يتمتع بعض علماء
الكيمياء العضوية بلمسةٍ سحرية، ولديهم القدرة على
تنفيذ التفاعُلات بأسلوبٍ أنجح من غيرهم. كما يجب أن
تتوفر لدى عالِم الكيمياء العضوية مهاراتٌ تحليلية جيدة
ليتمكَّن من إثبات أن الناتج المُتحقق في التفاعل هو
الناتج المطلوب. وإذا كان الناتج خلاف ذلك، فإن الباحث
الكيميائي يتقمَّص شخصيةَ المُحقِّق لتحديد هُويَّة
المركَّب الناتج والتوصُّل إلى آلية تكوُّنه.
الإعداد لعملية التخليق
عند تخليق
أي مُركب عضوي، يتعيَّن التأكد من وجود كل ذرة في
موضعها الصحيح داخل الجزيء. والأمر هنا يُشبه عملية
تأسيس مبنًى، حيث يجب أن يثبَّت كل حجَرٍ في موضعه
الصحيح بدقة. ولكن هذا التشبيه غير دقيق. فالمبنى
يُبنى حجرًا بحجر، ولكن من المستحيل بناء الجزيئات
ذرةً بذرة. وما يحدث بدلًا من ذلك أن الجزيئات
المُستهدَف بناؤها تُبنى عن طريق ربط جزيئاتٍ أصغر
معًا. ويجب أن تكون هذه الجزيئات الأصغر (المواد
الأولية) مُتوفرةً تجاريًّا، كما أنها يجب أن
تتشابه جزئيًّا مع الجزيء المُستهدَف. على سبيل
المثال، «الميبيفاكيين» هو مُخدر موضعي يمكن تخليقه
بسهولةٍ من جزيئَين متوفرَين تجاريًّا، كل منهما
يُمثل نصف بنية المركب (شكل
٣-١). لربط الجزيئَين معًا، يُجرى تفاعل بين مجموعةٍ
وظيفية في أحد الجزيئَين مع مجموعة وظيفية في
الجزيء الآخر. في هذا المثال، يحتوي أحد الجزيئَين
على مركَّب الأمين، بينما يحتوي الآخر على مركَّب
الإستر. ينتج عن التفاعل بين مركَبي الأمين والإستر
تكوُّن مركَّب الآميد المطلوب في الجزيء
المُستهدَف.
يجب أن يكون لدى عالِم الكيمياء العضوية فهم جيد
للتفاعلات المُحتمَل حدوثها بين مختلف المجموعات
الوظيفية عند اختيار المكونات الجزيئية الأساسية
المُستخدَمة في عملية التخليق. كما أنه من المُهم
أيضًا أن يعرف متى لا يكون التفاعل محتمَلَ الحدوث.
يمكن توضيح ذلك مع عملية تخليق البروبرانولول،
حاصِر بيتا المُستخدَم في علاج ضغط الدم المرتفع
(شكل
٣-٢).
إنها عملية تخليق من خطوتَين تتضمَّن ثلاثة
جزيئاتٍ أساسية. تتمثَّل الخطوة الأولى في تفاعُل
١-نافثول مع جزيء يحتوي على مجموعتَين وظيفيتَين
هما الإيبوكسيد وكلوريد الألكيل. في الظروف
القاعدية، تتفاعل مجموعة الفينول في مركب ١-نافثول
مع كلوريد الألكيل وتطرد الكلور. يربط هذا التفاعل
الجزيئَين معًا عبر رابطة جديدة بين الأكسجين
والكربون لتكوين ناتج يحتوي على إيثر وإيبوكسيد.
لاحظ أن الفينول يتفاعل مع كلوريد الألكيل ولا
يتفاعل مع الإيبوكسيد. يُعَدُّ هذا مثالًا على
الانتقائية الكيميائية، التي يُظهر فيها تفاعل ما
ميلًا إلى انتقاء مجموعة وظيفية (هاليد الألكيل)
دون غيرها (الإيبوكسيد).
يتفاعل ناتج هذا التفاعل مع المكوِّن الأساسي
الثالث الذي يحتوي على مجموعة أمين (شكل
٣-٢ وشكل
٣-٣). يُعَدُّ هذا تفاعلًا آخر ذا انتقائيةٍ
كيميائية، تتفاعل فيه مجموعة الأمين مع الإيبوكسيد
بدلًا من الإيثر. ونتيجة لذلك، تنفتح حلقة
الإيبوكسيد المكوَّنة من ثلاث ذرات لتكوين مجموعة
كحول وجزيئَين مرتبطَين بتكوُّن رابطةٍ جديدة بين
النيتروجين والكربون. تنطوي الخطوة الثانية على
نوعٍ إضافي من الانتقائية الكيميائية، حيث تتفاعل
مجموعة الأمين مع ذرة الكربون الأقل استبدالًا في
حلقة الإيبوكسيد (الموضع أ). يُسمَّى هذا النوع من
الانتقائية بالانتقائية الموضعية.
يمكن وصف التفاعلات في الأشكال من
٣-١ إلى
٣-٣
بأنها تفاعلات ازدواج؛ لأنها تتضمَّن ارتباط
الجزيئات الأساسية المختلفة واقترانها معًا، ولكن
ليست جميع التفاعلات التي تتمُّ في مسار التخليق
لها الطبيعة نفسها. ولا شك في أن أعدادها أقلَّ
مقارنةً بالتفاعُلات التي يُطلَق عليها تحوُّلات
المجموعات الوظيفية. وكما يشير الاسم، تتضمَّن هذه
التفاعُلات تحوُّل مجموعة وظيفية ما إلى مجموعة
وظيفية أخرى. توجد عدة أسبابٍ تُفسِّر أهمية
تحوُّلات المجموعات الوظيفية وضرورة حدوثها. على
سبيل المثال، قد لا يمكن الحصول على الجزيئات
الأساسية التي تتضمَّن المجموعة الوظيفية المطلوبة
لارتباط جزيئَين معًا. يمكن توضيح ذلك في عملية
تخليقِ مضاد فطرياتٍ اسمه ديمازول (شكل
٣-٤).
يحتوي الجزيء الأساسي الأول في عملية التخليق هذه
على مجموعةٍ وظيفية هي الإيثر. ولكن هذه المجموعة
الوظيفية خاملة إلى حدٍّ ما، ومن ثَمَّ لا يمكن أن
يحدُث تفاعل ازدواج. ولذا، تتم عملية التخليق هنا
على مرحلتَين من التفاعُل، في المرحلة الأولى
تتحوَّل مجموعة الإيثر الوظيفية الخاملة إلى مجموعة
فينول أكثر تفاعلًا عن طريق معالجتها ببروميد
الهيدروجين (HBr).
وفي المرحلة الثانية، يحدث تفاعل الازدواج حيث
تتفاعل مجموعة الفينول مع كلوريد الألكيل في الجزيء
الأساسي الثاني.
يفيد تحوُّل المجموعات الوظيفية أيضًا في تخليق
البروكايين (مُخدِّر موضعي) (شكل
٣-٥). وفي هذه الحالة، تُمثل
تحوُّلات المجموعات الوظيفية المرحلة الأخيرة من
عملية التخليق وتتضمَّن تحوُّل مجموعة نيترو إلى
مجموعة أمين. مجموعة الأمين تفاعلية وقد تتداخل مع
تفاعُلَي الازدواج الأوَّلين، مما يؤدي إلى نواتج
ثانوية غير مرغوب فيها. ولهذا السبب، «تتنكَّر» في
صورة مجموعة النيترو الأقل تفاعلًا خلال هذين
التفاعُلَين.
توجد عدة أسباب أخرى لتنفيذ تحوُّلات المجموعات
الوظيفية، لا سيَّما عند تخليق جزيئات معقدة. على
سبيل المثال، قد تفتقر المادة الأولية أو وسيط
التخليق إلى وجود مجموعةٍ وظيفية في موضع رئيسي من
التركيب الجزيئي. ومن ثَمَّ، قد يستلزم الأمر حدوث
العديد من التفاعلات من أجل الحصول على هذه
المجموعة الوظيفية.
في حالاتٍ أخرى، قد تُضاف المجموعة الوظيفية إلى
موضعٍ معيَّن ثم تُزال في مرحلة لاحقة. ويرجع أحد
أسباب إضافة هذه المجموعة الوظيفية إلى منع حدوث
تفاعل غير مرغوب فيه عند هذا الموضع من
الجزيء.
ثمة حالة شائعة أخرى تُحوَّل فيها مجموعة وظيفية
تفاعلية إلى مجموعة وظيفية أقل تفاعلًا حتى لا
تتداخل مع تفاعُل لاحق. وفيما بعد، تُعاد المجموعة
الوظيفية الأصلية إلى حالتها الأولى عن طريق
تفاعُلٍ آخر من تحولات المجموعات الوظيفية. وتُعرف
هذه العملية باسم استراتيجية الحماية/إزالة
الحماية.
كلما زاد تعقيد الجزيء المُستهدَف، زادت صعوبة
عملية التخليق. يرتبط التعقيد بعدد الحلقات
والمجموعات الوظيفية والمجموعات البديلة والمراكز
الكيرالية داخل الجزيء. على سبيل المثال، تركيب
مُخدر البنزوكايين الموضعي أبسط من تركيب مُسَكِّن
المورفين (شكل
٣-٦). يمكن
تخليق البنزوكايين من تفاعلٍ واحد باستخدام جزيئَين
أساسيين فحسب، بينما تطلبت عملية التخليق الأولى
للمورفين ٢٩ تفاعلًا في الإجمال. كلما زاد عدد
التفاعلات في عملية التخليق، قلَّت الحصيلة
الإجمالية. على سبيل المثال، تمَّت عملية تخليق
المورفين المكوَّنة من ٢٩ مرحلة بحصيلة إجمالية
قدرها ٠٫٠٠١٤٪ فحسب. كما أن الناتج النهائي كان
خليطًا راسميًّا. بعبارة أخرى، فإنه كان يحتوي على
خليط من كِلا الأيزومرين الضوئيين (صورتا المرآة)
للجزيء الكيرالي. وهذا يعني أن نصف الناتج فقط
يحتوي على الأيزومر الضوئي الذي ينتج طبيعيًّا.
بسبب هذه الحصيلة الإجمالية الضئيلة، فمِن الأفضل
اقتصاديًّا استخلاص المورفين من نبات الخشخاش بدلًا
من تخليقه بالكامل.
يتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من المهارات والإبداع
عند تصميم عمليات تخليق متعددة المراحل للجزيئات
المعقدة وتنفيذها بنجاح، ويجب أن تكون لدى علماء
الكيمياء القائمين على هذه العمليات معرفةٌ دقيقة
بالتفاعلات المحتمَلة لمختلف المجموعات الوظيفية.
ولذلك، حصل عدد من علماء الكيمياء العضوية على
جائزة نوبل في الكيمياء نظير جهودهم في الإعداد
لتخليق منتجاتٍ طبيعية معقدة من مواد أولية بسيطة.
على سبيل المثال، فاز السير روبرت روبنسون، وهو
عالِم كيمياء عضوية بريطاني، بجائزة نوبل عام ١٩٤٧
نظير تخليقه العديد من أشباه القلويات، بينما
كُرِّم عالِم الكيمياء الأمريكي روبرت وودوارد عام
١٩٦٥ نظير تخليقه منتجاتٍ طبيعيةً معقدة مثل
الكينين والكوليسترول والإستركنين والكلوروفيل. كما
فاز إلياس جيمس كوري، وهو عالِم كيمياء أمريكي
شهير، بجائزة نوبل عام ١٩٩٠ نظير تخليقه جزيئاتٍ
معقدة وابتكاره أساليبَ تخليق جديدة.
أحد أكبر التحديات الحالية التي تواجه علماء
الكيمياء هو تخليق المايتوتوكسين، وهو سُم عصبي
متعدِّد الحلقات ذو كتلة جزيئية ضخمة، يُنتِجه نوع
من العوالق البحرية في المحيط الهادئ. ويُعزى
الكثير من حالات التسمُّم الغذائي إلى تناول أسماك
تغذَّت على هذه العوالق. لا تُعَدُّ عملية تخليق
هذا الجزيء المُعقَّد بكل مراحلها مشروعًا مُجديًا
من الناحية الاقتصادية، إلا أن تخليقَ أجزاءٍ أبسط
من الجزيء يمكن أن يؤدي إلى اكتشاف عقاقير جديدة
يمكن استخدامها في علاج أمراض الانتكاس العصبي. قد
يبدو هذا التصوُّر غريبًا. إذا كان المايتوتوكسين
سامًّا، فقد تكون الأجزاء الأبسط في تركيبه سامَّة
أيضًا. ولكن لا تنفي سُمِّية المركب احتمالية
استخدامه طبيًّا ودوائيًّا. وتوجَد بالفعل أمثلة
كثيرة على سموم أثبتت فاعليتها كعقاقير. على سبيل
المثال، سُم التوبوكورارين المُستخدَم في السهام،
الذي كانت قبائل أمريكا الجنوبية تستخدِمه قديمًا
في صيد الطرائد، أصبح يُستخدَم الآن كحاصِر عصبي
عضلي في العمليات الجراحية. والواقع أنه طبقًا
لمبادئ الطب الأساسية، فإن جرعة العقار هي التي
تُحدِّد إن كان تأثيره سيكون سامًّا أم علاجيًّا.
يُعَدُّ المورفين، الذي استُخدِم كمُسكِّن خلال
الحرب الأهلية الأمريكية، من أقدم الأمثلة على ذلك.
إذا استُخدِم المورفين بجرعته الصحيحة، فسيكون
فعالًا، ولكن إذا زيدت الجرعة عشرة أضعاف، فقد ثبت
أن تأثيره يكون مُميتًا.
ليس الهدف في جميع أبحاث التخليق هو تصميم وتخليق
جزيئات عضوية لها فوائد معينة. ففي بعض الأحيان،
تُجرى الأبحاث بدافع ما تمثله من تحدياتٍ أمام
العلماء. على سبيل المثال، تستكشف بعض الفِرق
البحثية إمكانية تخليق الجزيئات ذات الأشكال غير
المألوفة بسهولة (شكل
٣-٧).
وتفرض فِرق بحثية أخرى على نفسها تحدِّي تخليق
جزيئاتٍ ذات مظهر جمالي. على سبيل المثال، يرى بعض
علماء الكيمياء أن التركيب الجزيئي لكرة باكي ينطوي
على جانبٍ جمالي (الفصل التاسع)، بينما ينجذب آخرون
إلى تحدي تخليق جزيئاتٍ متشابكة تُسمى الروتاكسان
(الفصل التاسع). عادةً ما يكون هذا النوع من
الأبحاث مُستوحًى من دافع الفضول العلمي وليس
الدافع التجاري. ولكن من المؤكَّد أنَّ هناك
تطبيقاتٍ واستخداماتٍ مُحتمَلة لكرات باكي
والروتاكسان.
التخليق العكسي
حين صِيغ المصطلح الإنجليزي لعملية التخليق
العكسي
retrosynthesis،
بدا المصطلح خادعًا إلى حدٍّ ما؛ إذ تعني البادئة
retro- في
الإنجليزية «رَجعي» أو «مُصمَّم على الطراز
القديم»، ومن ثَمَّ قد يظن المرء للوهلة الأولى أنه
يُشير إلى تنفيذ التخليق بأسلوبٍ رَجعي قديم. ولكن
الواقع أن التخليق العكسي استراتيجيةٌ يستخدمها
علماءُ الكيمياء العضوية في تصميم عملية التخليق
قبل البدء في تنفيذها عمليًّا. وسُمِّيَت هذه
الاستراتيجية بالتخليق العكسي؛ لأن عملية التصميم
تتضمَّن دراسة البِنية المستهدَفة والعمل في «مسار
عكسي» لتحديد الآلية التي يمكن من خلالها تخليق هذا
الجزيء من موادَّ أولية أبسط. وبناءً عليه، توجد
مرحلة رئيسية في عملية التخليق العكسي، وهي تحديد
رابطة يمكن «كسرها» لتكوين هذه الجزيئات الأبسط.
لاحظ أن عملية كسر الرابطة ليست تفاعلًا حقيقيًّا،
بل مجرد استراتيجية تخطيط.
يوجد الكثير من الإرشادات التي من شأنها مساعدة
الكيميائي في تحديد الروابط المناسبة التي يمكن
كسرها، ولكن ثمة مبدأ رئيسي وهو أن الجزيئات
المحددة من كسر الروابط يجب أن تكون حقيقية. كما
أنه لا بد من وجود تفاعل معروف يسمح لهذه الجزيئات
بالارتباط معًا في عملية تخليق حقيقية لتكوين هذه
الرابطة نفسها. ولهذا السبب، تشمل الروابط التي من
المفضَّل كسرها رابطة الكربون والأكسجين، ورابطة
الكربون والنيتروجين؛ لأن هذه الروابط يمكن إنشاؤها
بأعداد كبيرة باستخدام تفاعلاتٍ معروفة
جيدًا.
مثالًا على ذلك، انظر البنية الموضحة في شكل
٣-٨. يُشار بخط متعرِّج
إلى إحدى عمليات كسر الترابط المناسبة، والتي تتمثل
هنا في كسر رابطة الكربون والنيتروجين. يُستخدَم
سهم خاص في عملية كسر الترابط للإشارة إلى أن هذه
عملية تخليق عكسي وليست تفاعلًا حقيقيًّا. يُطلَق
على البِنيَتَين الناتجتَين عن عملية كسر الرابطة
هذه «وحدتا التخليق» وتُعيَّن لهما شحنتان
متضادَّتان. من غير المرجَّح أن تكون وحدات التخليق
بُنًى حقيقية؛ لأنها في هذه الحالة ستكون ذات
تفاعلية كيميائية فائقة. ومن ثَمَّ، تتمثل الخطوة
التالية في تحديد الجزيئات الحقيقية التي قد
تُمثلها، وتحديد إذا ما كانت هذه الجزيئات ستتفاعل
معًا لإعطاء الناتج المطلوب. في هذه الحالة، سيكون
بروميد البنزيل والأيزوبروبيلامين مواد أولية
مناسبة، ويمكن ربطهما معًا كما هو موضَّح في شكل
٣-٩.
إذا كان الجزيئان المُحددان من كسر رابطة ما
متوفرين تجاريًّا، فيمكن حينئذٍ شراء هذَين
الجزيئَين وإجراء التفاعل. وإذا لم يكن الجزيئان
متوفرَين تجاريًّا، يُجرى تحليل آخر لعملية التخليق
العكسي حتى تتحدَّد المواد الأولية المتوفرة. وإذا
كانت البِنى المستهدَفة معقدة، فسيتضمن مخطط
التخليق العكسي العديد من الخطوات، بما يعادل عدد
الخطوات المطلوبة خلال عملية التخليق نفسها.
إجراء تفاعل ومراقبته
يُعَدُّ إجراء التفاعلات عملية بسيطة للغاية في
جوهرها. يُمزج المركب (أ) مع المركب (ب)، ويكون ذلك
عادةً باستخدام مُذيب يذوب فيه كلا المركبَين.
ويُعَدُّ الماء مذيبًا مثاليًّا؛ نظرًا إلى ما
يوفره من حيث انخفاض التكلفة، وارتفاع مستوى
الأمان، والتأثير الضئيل على البيئة. ولكن، للأسف،
أغلب المُركبات العضوية لا تذوب في الماء، ومن
ثَمَّ يكون استخدام المذيبات العضوية أكثر شيوعًا.
تشمل المذيبات الشائعة الاستخدام الإيثانول، وثنائي
كلورو الميثان، ورباعي الهيدروفوران، وخلات الإيثيل
(أسيتات الإيثيل)، والبروبانون (الأسيتون)،
والتولوين، وثنائي ميثيل السلفوكسيد، وثنائي ميثيل
الفورماميد. لكلٍّ من هذه المُذيبات مميزاته
وعيوبه، ويكون اختيار المُذيب الأنسب لتفاعلٍ مُعين
بناءً على التجارب السابقة الناجحة.
من المهم مراقبة سير التفاعل بعد مزج مكوناته
المختلفة معًا. إن الصورة الشائعة عن التفاعلات
الكيميائية هي التغيرات اللونية الفورية، وكمية
الفوران والأبخرة الكثيرة، والانفجارات في بعض
الأحيان. ولكن الواقع أن عددًا ضئيلًا جدًّا من
التفاعلات هو الذي تنتج عنه تأثيراتٌ بصرية وسمعية
لافتة يمكن رؤيتها في التجارب الكيميائية. في
الغالب الأعم، تتضمَّن التفاعلات مزجَ محلولَين
عديمَي اللون لإنتاج محلول آخر عديم اللون. وتكون
التغيرات التي تحدُث في درجة الحرارة ذات دلالة
كبيرة. إذا تولَّدت حرارة عن التفاعل (تفاعل طارد
للحرارة)، فهذا يعني أن محلول التفاعل يزيد درجة
الحرارة. ولكن لا تُولِّد جميع التفاعلات حرارة،
كما أن مراقبة درجة الحرارة ليست أسلوبًا موثوقًا
لمعرفة إذا ما كان التفاعل قد اكتملَ أم لا. ثمة
أسلوب أفضل لمعرفة ذلك، وهو أخذ عيناتٍ صغيرة من
محلول التفاعُل في أوقاتٍ مختلفة واختبارها
باستخدام أسلوب الاستشراب أو التحليل
الطيفي.
توجد عدة طرق لمراقبة التفاعل باستخدام أسلوب
الاستشراب. وأبسط هذه الطرق طريقةٌ تُسمى استشراب
الطبقة الرقيقة، ويتضمَّن استخدام لوحٍ زجاجي أو
بلاستيكي مُغطى بطبقة رقيقة من السيليكا (شكل
٣-١٠). تُوضَع عينة من محلول
التفاعل على طبقة السيليكا بالقرب من قاع اللوح،
بالإضافة إلى عينتَين من كلتا المادتَين الأوليين.
يُترك المذيب ليتبخَّر مُخلِّفًا المركبَين على
هيئة بُقعتَين جافتَين على اللوح. يُوضَع اللوح بعد
ذلك في خزان استشراب يحتوي على مذيبٍ آخر.
يرتفع المذيب إلى أعلى اللوح بفِعل الخاصية
الشعرية ويسحب المُركَبَين معه. يختلف المدى الذي
تصل إليه المركبات أعلى اللوح من مركَب لآخر حسب
قطبية المركب نفسه. فكلما زادت قطبية المركب، قصرت
المسافة التي يتحرَّكها على اللوح. يرجع ذلك إلى أن
السيليكا مادة قطبية، وهو ما يعني أن المُركبات
القطبية «تلتصق» بها بقوة أكبر من المُركبات غير
القطبية. بمجرد اقتراب المذيب من قمة اللوح، يُزال
اللوح من خزان الاستشراب ويترك المذيب ليتبخَّر.
يمكن رؤية البُقع على لوح استشراب الطبقة الرقيقة
بسهولة إذا كانت المركبات المتضمَّنة ذات لون
بطبيعتها. ولكن، للأسف، أغلب المركبات عديمة اللون،
ومن ثَمَّ يُلون اللوح من أجل الكشف عن أماكن
البقع. ثمة طريقة أخرى وهي معالجة لوح استشراب
الطبقة الرقيقة بأبخرة اليود. يتفاعل اليود مع أي
مركباتٍ موجودة ويُظهرها على هيئة بقع بُنيَّة
اللون.
يفيد استشراب الطبقة الرقيقة في مراقبة التفاعل
مع الوقت. في مراحل التفاعل المبكرة، يحدث الكثير
من النشاط التفاعلي، وفي هذه الحالة تحتوي العينة
(ﺟ) المأخوذة من خليط التفاعل في معظمها على
المادتَين الأوليين (أ) و(ب) (شكل
٣-١١). ومع تقدُّم التفاعل، تظهر
بقعة جديدة تُمثِّل الناتج وتزداد كثافتها، بينما
تقلُّ كثافة البُقعتَين اللتين تمثلان المركبَين
(أ) و(ب). يُحكم على التفاعل بأنه اكتملَ عندما
تختفي مواد التفاعل الأولية تمامًا، أو عندما
تتوقَّف أي تغيُّرات مصاحبة للتفاعل. وجدير بالذكر
أنه ليس بالضرورة أن تصل جميع التفاعلات إلى مرحلة
الاكتمال.
من الطرق
الأخرى لمراقبة التفاعل أخذُ عيناتٍ من خليط
التفاعل واختبارها باستخدام التحليل الطيفي للأشعة
تحت الحمراء. يتضمَّن ذلك تعريض الجزيئات للأشعة
تحت الحمراء، ثم قياس أي مقدارٍ ربما تكون قد
امتصته من الأشعة. تتفاعل الأشعة تحت الحمراء مع
الروابط الموجودة في الجزيء وتجعلها تهتز بتردداتٍ
معينة. وعندما يحدث ذلك، تُمتَص طاقة. بعض أنواع
المجموعات الوظيفية الموجودة تمتص تردداتٍ مُعينة
من الأشعة تحت الحمراء. على سبيل المثال، تمتصُّ
مجموعة الكربونيل
(
C=O) ترددًا
مختلفًا من الأشعة تحت الحمراء مقارنةً بالمجموعة
الوظيفية للكحول
(
O–H). ولذا،
إذا حدث تفاعل يُختزَل فيه الكيتون إلى كحول (شكل
٣-١٢)، فيمكن مراقبة
التفاعل عن طريق متابعة المعدل الذي ينخفض به
امتصاص الكربونيل ويرتفع به امتصاص الهيدروكسيل.
على سبيل المثال، عند اختزال ٢-بوتانون إلى
٢-بوتانول، ينخفض معدل امتصاص الكربونيل في
٢-بوتانون عند ١٧١٥
سم
−١ تدريجيًّا،
بينما يرتفع معدل امتصاص الهيدروكسيل في ٢-بوتانول
عند ٣٣٥٠ سم
−١
تدريجيًّا (شكل
٣-١٣).
تغيير ظروف التفاعل
إذا كان التفاعل يحدث ببطءٍ شديد، فيمكن تجربة
ظروف تفاعل مختلفة لتسريعه. قد يتضمَّن ذلك رفع
درجة حرارة التفاعل، أو إجراء التفاعل تحت ضغط، أو
تقليب محتويات التفاعل بقوة، أو التأكد من إجراء
التفاعل في جوٍّ جاف، أو استخدام مُذيب مختلف، أو
استخدام عامل حفَّاز، أو استخدام أحد الكواشف
بوفرة.
من جانب آخر، قد يكون التفاعل نشطًا للغاية وقد
ينتُج عنه ظهور شوائب ونواتج ثانوية غير مرغوب
فيها. في بعض التفاعلات، قد يتكوَّن الناتج المطلوب
ولكنه ينحلُّ أو يدخل في تفاعلاتٍ أخرى. ومرةً
أخرى، قد يتحسَّن الوضع بتغيير ظروف التفاعل. على
سبيل المثال، يُمكن أن يُجرى التفاعل في درجة حرارة
أقل، أو في وجود النيتروجين.
هناك عدد كبير من المُتغيرات التي يمكنها التأثير
في كفاءة حدوث التفاعل، وعادةً ما يتمثل دور علماء
الكيمياء العضوية في مجال الصناعة في تهيئة الظروف
المِثالية لتفاعُلٍ بعينه. ويُسمى هذا المجال في
الكيمياء العضوية ﺑ «التطوير الكيميائي».
عزل ناتج التفاعل وتنقيته
بمجرد أن يحدُث التفاعل، يصبح من الضروري عزل
ناتج التفاعل وتنقيته. غالبًا ما تستغرق هذه
العملية وقتًا أطول يفوق الوقت المستغرَق في إجراء
التفاعل نفسه. الطريقة النموذجية لفعل ذلك هي إزالة
المذيب المُستخدَم في التفاعل بحيث لا يبقى سوى
ناتج التفاعل. ولكن قد لا يكون ذلك ممكنًا في أغلب
التفاعلات، فمِن المحتمَل وجود مركبات أخرى في خليط
التفاعل. على سبيل المثال، قد لا يكون التفاعل قد
قطع المسار كاملًا حتى اكتماله، ومن ثَمَّ ستظلُّ
كميات ضئيلة من مواد التفاعل الأولية والكواشف
موجودة. يحدُث ذلك تحديدًا عندما تُضاف كمية أكبر
من إحدى المواد الأولية بغرَض الحصول على كمية جيدة
من الناتج. ويمكن أيضًا أن تتكوَّن أملاح غير عضوية
بناءً على نوع الكواشف المُستخدَمة. وفي نهاية
التفاعل، قد تظهر شوائب ناتجة عن تفاعلاتٍ ثانوية،
حيث تشارك المواد الأولية في تفاعُلٍ آخر بخلاف
التفاعل الأصلي. ولهذا السبب، من الضروري عادةً فصل
ناتج التفاعل المطلوب وعزله عن هذه المركبات
الأخرى. تُعرف هذه العملية باسم تنقية التفاعل أو
معالجته.
تبدأ تنقية التفاعل عادةً بمجموعةٍ متنوعة من
عمليات الاستخلاص. إذا أُجري التفاعل في مذيب عضوي
لا يمتزج بالماء، يمكن إجراء عملية الاستخلاص على
الفور. من أمثلة هذه المُذيبات ثنائي كلورو
الميثان، وأسيتات الإيثيل، وثنائي إيثيل الإيثر.
أما إذا أُجري التفاعل في مذيب «يمتزج» بالماء،
فيجب إزالة المذيب عن طريق عملية التبخر. وبعدها،
يُذاب ناتج التفاعل الخام في مذيبٍ عضوي مناسب لا
يمتزج بالماء.
بمجرد أن يذوب خليط التفاعل الخام في مذيبٍ
مناسب، يمكن إجراء عملية الاستخلاص (شكل
٣-١٤). على سبيل التوضيح، لنفترض
أن خليط التفاعل الخام يحتوي على أربعة مركبات
عضوية مختلفة (نشير إليها بالأحرف من (أ) إلى (د)).
المركب (د) هو الناتج المرغوب، والمركبان (أ) و(ﺟ)
هما مادتا التفاعل الأُولَيَين قبل بدء التفاعل،
حيث المركب (أ) هو مجموعة أمين والمركب (ﺟ) هو حمض
كربوكسيل. أما المركب (ب)، فهو شائب تكوَّن خلال
التفاعل نتيجة تفاعل ثانوي.
بادئ ذي بدء، نصبُّ المحلول في قُمع من أقماع
الفَصْل. ونُضيف بعد ذلك محلولًا مائيًّا من
هيدروكسيد الصوديوم للحصول على طَوْرَين أو طبقتَين
غير قابلتَين للامتزاج. نَسدُّ قمع الفَصْل بسدادة
ونرجُّه لمزج الطَّوْرَين معًا، ثم نسمح للطورَين
بالانفصال مجددًا. وبذلك، يُؤيِّن محلولُ هيدروكسيد
الصوديوم أيَّ حمض كربوكسيل (المركب ج) مُتبقٍّ في
الخليط لإنتاج أيون كاربوكسيلات قابل للذوبان في
الماء (شكل
٢-١٧). ينتقل الأيون
إلى طبقة الماء. ومن ثَمَّ، ينفصل الطوران، وينتهي
المطاف بالمركَّب (ﺟ) في طبقة المحلول
المائي.
تُعاد طبقة المركب العضوي إلى قمع الفَصْل
ويُرَجُّ مع محلول حمض الهيدروكلوريك
(
HCl) الذي
سيؤيِّن أيَّ أمينات مُتبقية (شكل
٢-١٧). ومرةً أخرى، يُترك الطوران
ليستقرَّا مجددًا، ثم يُفصلان. ويكون الأمين
المؤيَّن قابلًا للذوبان في الماء وينتهي به المطاف
في محلول حمض الهيدروكلوريك.
وبذلك، تحتوي طبقة المركب العضوي حاليًّا على
الشائب (ب) وناتج التفاعل (د). ويعني عدم اختزال
الشائب إلى محلولٍ قاعدي أو حمضي أنه لا يحتوي على
مجموعةٍ وظيفية حامضية أو قاعدية.
المرحلة التالية هي تجفيف طبقة المُركب العضوي
لإزالة أيِّ آثار للماء. يتم ذلك بإضافة ملح
لامائي، مثل كبريتات المغنيسيوم، الذي يمتص الماء
دون أن يؤدي إلى انحلال المذيب العضوي. يمكن إزالة
الملح عن طريق الترشيح، ثم إزالة المذيب العضوي عن
طريق التقطير لإعطاء الناتج الخام (د)، متضمِّنًا
الشائب (ب).
من الضروري عند هذه المرحلة تنقية الناتج الخام
لإزالة الشائب (ب). وإحدى الطرق الممكنة لذلك إجراء
عملية البلورة. تتضمَّن هذه العملية إذابة الناتج
الخام في مُذيبٍ يمكن أن يذوب فيه الناتج (د) ولكن
بمقدارٍ محدود. وهذا يعني ضرورة التسخين من أجل
إذابة الناتج. وبعدها يُترك المحلول الساخن حتى
يبرد. وفي تلك الأثناء، يتبلور الناتج (د) منفصلًا
عن المحلول. وعلى افتراض أن الشائب موجود ولكن
بكمياتٍ ضئيلة للغاية، فإن إمكانية تبلوُره تكون
أقل ومن ثَمَّ يظلُّ موجودًا في المحلول. وعندئذٍ،
يمكن ترشيح بلورات الناتج النقي من المحلول.
للأسف، الكثير من المركبات العضوية غير قابلة
للتبلور جيدًا، ولا يمكن الحصول عليها في صورة
زيوت. في هاتَين الحالتَين، يُعَدُّ الاستشراب إحدى
الطرق الشائعة في فَصْل الناتج عن الشوائب. تَستخدم
هذه الطريقة مبدأ استشراب الطبقة الرقيقة نفسه (شكل
٣-١٠)، ولكنها تُنفَّذ على
نطاقٍ أوسع باستخدام سيليكا مُعبأة في أعمدة
زجاجية. يُضاف بعد ذلك محلول من الخليط الخام إلى
قمة العمود وتهبط نواتج مختلفة عبر السيليكا
بسرعاتٍ متباينة أثناء مرور المذيب إلى أسفل
العمود. وبمجرد أن تتخلل جميع المركبات السيليكا،
تُجمَع عند قاعدة العمود ويُقطر المذيب للحصول على
المركب النقي.
التحليل البنيوي
بافتراض إتمام التفاعل بنجاح وفَصْل الناتج
وتنقيته، يصبح من الضروري تحديد تركيب هذا الناتج.
لا يمكن التنبؤ بنتيجة أي تفاعل يقينًا، وتظل
دائمًا احتمالية أن يعطي التفاعل ناتجًا آخر بخلاف
الناتج المقصود قائمة. التخليق العضوي ليس مشروعًا
للهندسة المدنية حيث تُربَط عوارض معًا بطريقة
متوقَّعة. تتفاعل الجزيئات بطرُق مفاجئة وغير
متوقَّعة.
في الظروف المثالية، سيكون من الجيد أن نتمكَّن
من فحص الجزيء عبر المجهر وإلقاء نظرة مباشرة عليه.
ولكن هذا ليس مُمكنًا للأسف. إن أقرب طريقة تُمكِّن
المرء من تخيُّل البنية المباشرة لجزيءٍ ما تكون من
خلال الحصول على بلورة للناتج وإخضاعها لتقنية
تُسمى تصوير البلورات بالأشعة السينية. يمكن لهذه
الطريقة تحديد الذرات الموجودة في الجزيء وتقديم
تمثيل مرئي لكيفية ارتباط هذه الذرات معًا، وهذا
أقرب ما يمكن أن يحصل عليه المرء للتصوير الجزيئي.
ولكن يستغرق تصوير البلورات بالأشعة السينية وقتًا
طويلًا. علاوة على ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من
المركبات العضوية المخلَّقة في المعمل عبارة عن
زيوتٍ وموائع، أو لا يمكن أن تُعطينا بلورات
نُخضِعها للدراسة. ومن هنا، ظهرت الحاجة إلى ابتكار
طرق أخرى غير مباشرة لتحديد بِنية هذه المركبات
وتركيبها.
ثمة عدد من الأدوات التحليلية التي يمكن
استخدامها لتحديد بِنية المركبات. على سبيل المثال،
يمكن تحديد العناصر الموجودة في المركبات، ونِسَب
وجودها باستخدام إجراء يُسمَّى تحليل العناصر. كما
يمكن تحديد الكتلة الجزيئية باستخدام طريقة قياس
الطَّيف الكتلي. تقدم هاتان الطريقتان التحليليتان
معًا الصيغة الجزيئية للمركب. ولكنهما لا تكشفان عن
طريقة ارتباط الذرات المختلفة معًا. وكما رأينا من
قبل (شكل
٣-١٣)، يمكن استخدام
التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء لتحديد وجود
مجموعاتٍ وظيفية بعينِها في الجزيء من عدمِه، ولكن
لا يمكن للطيف تقديم أي معلوماتٍ عن الهيكل
الكربوني للجزيء.
على مدار سنواتٍ عديدة، لم تكن هناك طريقة معروفة
لتحديد تركيب جزيءٍ ما باستثناء تصوير البلورات
بالأشعة السينية، ومن ثَمَّ استغرق تحديدُ التركيب
الجزيئي للعديد من المركبات عدة سنوات. منذ ستينيات
القرن العشرين، تغيَّر كل ذلك مع ظهور تقنيةٍ تُسمى
مطيافية الرنين المغناطيسي النووي. تَستخدم هذه
التقنية الإشعاع الكهرومغناطيسي في اكتشاف نوى
عناصر أو نظائر بعينِها. أكثر أنواع هذه التقنية
شيوعًا هو مطيافية الرنين المغناطيسي النووي
للهيدروجين
١
(
1H)
أو مطيافية الرنين المغناطيسي النووي للبروتون،
الذي يكشف عن نوى جميع ذرات الهيدروجين الموجودة في
تركيب الجزيء. ثمة نوع شائع آخر من هذه التقنية،
وهو مطيافية الرنين المغناطيسي النووي للكربون،
الذي يكشف عن جميع نوى الكربون في التركيب الجزيئي.
في طيف الرنين المغناطيسي النووي، يجري الكشف عن كل
ذرة على صورة إشارة، ويدل موضع هذه الإشارة على
البيئة الجزيئية للذرة. يساعد ذلك في تحديد موضع
كلِّ ذرةٍ في الجزيء. تعرض مطيافية الرنين
المغناطيسي النووي للكربون لمركب ٢-بوتانون ومركب
٢-بوتانول (شكل
٣-١٥) أربعَ
إشاراتٍ لذرات الكربون الأربع الموجودة في كل
تركيبٍ منهما. وأكبر تبايُن بين الطيفَين هو
الإشارة الخاصة بالكربون-ب.
تُعَدُّ مطيافية الرنين المغناطيسي النووي
للبروتون أكثر تعقيدًا؛ لأن بعض الإشارات تنقسم إلى
عدة قِمم. يُسمَّى هذا نمط الاقتران. على سبيل
المثال، يحتوي طيف البروتون لمركب ٢-بوتانون (شكل
٣-١٦) على ثلاث إشاراتٍ
تُمثل ذرات الهيدروجين المرتبطة بذرات الكربون (أ)
و(ﺟ) و(د). تظهر الإشارة (أ) على هيئة قمة واحدة
(أحادية) لذرات الهيدروجين الثلاث المرتبطة بذرة
الكربون (أ). وتكون للإشارة (ﺟ) أربع قِمَم
(رباعية) تدل على البروتونَين المرتبطَين بذرة
الكربون (ﺟ)، وللإشارة (د) ثلاث قمم (ثلاثية) تدل
على البروتونات الثلاثة المرتبطة بذرة الكربون (د).
لا تُوجَد إشارة (ب) لعدم وجود ذرات هيدروجين
مرتبطة بذرة الكربون هذه.
قد تتسبَّب أنماط الاقتران للإشارتَين (ﺟ) و(د)
في تعقيد الطيف، ولكنها تقدم معلومات مهمة للغاية
عن التركيب الجزيئي أو البنية الجزيئية نفسها. يرجع
ذلك إلى أن أعداد القمم في كل إشارة تُشير إلى
البروتونات الموجودة في ذرة الكربون المجاورة. ولكي
نكون أكثر تحديدًا، فإن عدد القمم الملاحظة في
إشارةٍ ما يكون أكبر من عدد البروتونات الموجودة في
ذرة كربون مجاورة. على سبيل المثال، تحتوي الإشارة
(ﺟ) (مجموعة
CH2)
على أربع قِمم، وهو ما يُشير إلى وجود ثلاثة
بروتونات في ذرة الكربون المجاورة (مجموعة الميثيل
عند الموضع (د)). وبالمثل، تكون للإشارة (د)
(مجموعة
CH3)
ثلاث قِمم، وهو ما يُشير إلى وجود بروتونَين اثنَين
في ذرة كربون مجاورة (مجموعة
CH2
عند الموضع (ﺟ)). تبرهن هذه الإشارات مُجتمعةً على
وجود مجموعة إيثيل في التركيب الجزيئي
(CH2CH3).
يتيح تحليلُ مطيافية الرنين المغناطيسي النووي على
هذا النحو لعلماء الكيمياء التعرُّف على كيفية
ارتباط الذرات معًا في التركيب الجزيئي
بالكامل.
آليات التفاعل
ثمة جانب مُهم في الكيمياء العضوية، وهو فهم
كيفية أو آلية حدوث التفاعلات. تتضمن التفاعلات
تكوين روابط تساهمية وكسر روابط تساهمية أخرى. ومن
خلال آلية التفاعُل، تتحدَّد الإلكترونات المشاركة
فيه. بعبارة أخرى، في حال تكوين رابطة جديدة،
يتحدَّد من أين يأتي إلكترونا هذه الرابطة. وفي حال
كسر رابطة ما، يتحدَّد إلى أين يذهب إلكترونا هذه
الرابطة.
لتوضيح ذلك، تأمَّل التفاعُل الموضح في شكل
٣-١٧. يتضمَّن ذلك تفاعل
١-بروموبروبان مع هيدروكسيد الصوديوم لتكوين
١-بروبانول. يتضمن التفاعل كسر الرابطة بين الكربون
والبرومين، وتكوين رابطة بين الكربون وذرة الأكسجين
الموجودة في مجموعة الهيدروكسيد
(
OH).
آلية هذا التفاعُل موضَّحة في شكل
٣-١٨. تُشير الأسهم المموَّجة إلى
مسار الحركة الذي تسلكه الإلكترونات من أجل تكوين
الروابط وكسرها. على سبيل المثال، السهم المموَّج
في الجزء العلوي من الشكل يُشير إلى أن
الإلكترونَين في رابطة الكربون والبرومين ينتقلان
إلى البرومين. ونتيجةً لذلك، تنكسِر الرابطة بين
الكربون والبرومين ويصبح الإلكترونان الناتجان عنها
موجودَين في أيون البروميد على هيئة زوج إلكتروناتٍ
وحيدٍ رابع. ونتيجة لذلك أيضًا، يحصل أيون البروميد
على شحنة سالبة.
يشير السهم المموج في الجزء السفلي من الشكل إلى
أن زوج الإلكترونات الوحيد على ذرة الأكسجين في
أيون الهيدروكسيد قد استُخدِما لتكوين رابطة جديدة
بين الأكسجين والكربون. ونتيجة لذلك، أصبحت ذرة
الأكسجين الموجودة في الناتج لديها حاليًّا زوجان
وحيدان من الإلكترونات بدلًا من ثلاثة. كما أنها
تفقد شحنتها السالبة.
هذه الآلية بسيطة نسبيًّا، ولكنها توضح المبدأ
الذي استخدمنا على أساسه الأسهم المموجة. يجب أن
يبدأ السهم المموج عند زوج من الإلكترونات، وهو ما
يعني أن السهم يبدأ عند زوج إلكتروناتٍ وحيد في
ذرةٍ ما، أو عند رابطة تساهمية بين ذرتَين. ويتَّجه
السهم بعد ذلك إلى حيث يصل الإلكترونان في نهاية
المطاف. وهذا بدَوره قد يكون رابطة تساهمية جديدة
بين ذرتَين أو زوجًا وحيدًا جديدًا من الإلكترونات
في ذرةٍ ما.