الصناعات الدوائية والكيمياء الصيدلانية
يتمثل أحد أهم تطبيقات الكيمياء العضوية في تصميم المواد الصيدلانية وتخليقها، وذلك فيما يُعرف بالكيمياء الصيدلانية. يُعَدُّ هذا الاختصاص العلمي حديثًا نسبيًّا. قبل ستينيَّات القرن العشرين، كان اكتشاف المواد الصيدلانية مسألة تحتمِل الصواب والخطأ. خُلِّقت آلاف المركبات العضوية في المعامل، أو استُخرجت من مصادر طبيعية على أمَل أن تكون فعالة دوائيًّا. وكان النجاح في هذا الأمر يتعلق بالحظ أكثر منه بالتصميم. فاعتبارًا من ستينيات القرن العشرين وصاعدًا، أصبح هناك فهم أكبر لآلية عمل الأدوية والعقاقير، وللأهداف التي تتفاعل معها. وأتاحت التطوُّرات الحالية في عِلم الأحياء وعلم الوراثة والكيمياء والحوسبة المجالَ لتصميم عقاقير جديدة، بدلًا من الاعتماد على أسلوب التجربة والخطأ. يُعَدُّ علماء الكيمياء الصيدلانية المحرك الرئيسي في مجال الصناعات الدوائية؛ وذلك لكونهم خبراء في تصميم الأدوية وتخليقها. وهاتان المهارتان مُتلازمتان ولا غِنى لإحداهما عن الأخرى. على سبيل المثال، لا فائدة من تصميم دواءٍ لا يمكن تخليقه. وبالمثل، يُعَدُّ إنتاج آلاف المركبات الجديدة ضَربًا من إهدار الموارد لو لم تُوجَد فرصة لاستخدامها كعقاقير فعالة.
سنوات الاستكشاف الأولى
قديمًا، اعتمدت المجتمعات في علاج الأمراض على الأعشاب والمواد المُستخرَجة من مصادر طبيعية. ولا شك أن الأدوية الوهمية لها تأثير قوي في هذا الصدد؛ إذ كانت أغلب طرق العلاج القديمة محدودة التأثير. ولكن، تتَّسم بعض هذه الوصفات الدوائية بأنها فعالة. ومن أمثلة ذلك التأثيرات المُخدِّرة للعديد من مُستحضرات الأفيون، والتأثيرات الجسدية والنفسية الناتجة عن مضغ أوراق نبات الكوكا، وهي عادة لا تزال شائعة في بعض مُجتمعات أمريكا الجنوبية. اشتهرت مستخلصات لحاء شجرة الصفصاف على مدى قرون بقدرتها على تخفيف الحُمَّى والآلام والالتهابات.
خلال القرن التاسع عشر، عزلَ علماءُ الكيمياء مكوناتٍ كيميائية من أعشاب ومستخلَصات معروفة. كان هدفهم هو تحديد المادة الكيميائية المسئولة عن التأثيرات الدوائية للمُستخلصات؛ أي المادة الفعالة. على سبيل المثال، المورفين هو المادة الفعالة المسئولة عن الخصائص المُخدِّرة للأفيون، كما أن الكوكايين هو المادة الفعالة الموجودة في أوراق نبات الكوكا. والمادة الفعالة في لحاء شجرة الصفصاف هي حمض الساليسيليك. ومن بين المواد الفعالة الأخرى التي تمكَّن الكيميائيون من استخراجها خلال القرن التاسع عشر الكينين والكافيين والأتروبين والفيزوستيجمين والثيوفيلين. للكينين أهمية خاصة؛ نظرًا إلى كونه فعالًا في علاج مرض الملاريا. أما الكافيين والثيوفيلين، فإنهما من المُنبِّهات الموجودة في المشروبات. استُخدِم الأتروبين في أدوية أمراض القلب الوعائية وكترياقٍ مضادٍّ للتسمُّم بالمبيدات الحشرية، بينما يُستخدَم الفيزوستيجمين في علاج المياه الزرقاء (الجلوكوما).
لم يمرَّ وقت طويل حتى تمكَّن علماء الكيمياء من تخليق مضاهيات للمواد الفعالة. المضاهيات عبارة عن بُنًى كيميائية معدَّلة إلى حدٍّ ما عن المادة الفعالة الأصلية. ويمكن غالبًا لهذه التعديلات أن تزيد من فاعلية المادة أو أن تُقلل من آثارها الجانبية. أدى هذا إلى ظهور مفهوم المركَّب الاسترشادي، وهو مركب ذو فاعلية دوائية مُفيدة ويمكن أن يُصبح نقطة انطلاق لأبحاث أخرى. كذلك، أُجريت دراساتٌ حول المركبات المُخلَّقة بالكامل بحثًا عن فاعليتها الدوائية، الأمر الذي أدى إلى اكتشاف مواد التخدير الكلي والتخدير المَوضعي والمُهدِّئات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
كان الحدث الأبرز خلال النصف الأول من القرن العشرين هو اكتشاف مضادَّات ميكروبات فعالة. ففي بداية القرن العشرين، طوَّر بول إرليش عقاقير تحتوي على الزرنيخ، ثبتت فاعليتها في مقاومة مرض الزُّهْرِي، بينما اكتُشِفت أُولى المواد المضادة للملاريا في عشرينيات القرن العشرين. اكتُشِفت السلفوناميدات في ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن التطوُّر الأهم تمثَّل في اكتشاف البنسلين في أربعينيات القرن العشرين. كان البنسلين الأصلي يُفصَل من أحد أنواع الفطريات، الأمر الذي شجَّع على البدء في دراسةٍ عالمية واسعة النطاق حول تحليل مزرعة الفطريات خلال السنوات التالية للحرب العالمية، مما أدى إلى اكتشاف الكثير من المضادات الحيوية المُستخدَمة في مجال الطب في عصرنا الحالي. كان منتصف القرن العشرين بمثابة عصرٍ ذهبي لأبحاث مضادات البكتيريا، واعتُبِرَ أحد أهم التطوُّرات التي حدثت في مجال الطب. قبل ثورة المضادات الحيوية، كان من المُمكن أن تُودي أبسط الجروح بحياة المريض، والكثير من العمليات الجراحية التي تُجرى حاليًّا بصورة روتينية كان من المُستحيل إجراؤها قديمًا.
تطوُّر التصميم العقلاني للعقاقير
يمكن النظر إلى ستينيات القرن العشرين بوصفها بداية التصميم العقلاني للعقاقير. خلال هذه الحقبة، حدثت تطورات مهمة في تصميم المواد الفعالة المضادة للقرحة، ومضادات الربو، وحاصرات بيتا المستخدَمة في علاج ضغط الدم المرتفع. كان أغلب هذه التطورات يعتمد على محاولة فهم آلية عمل الأدوية والعقاقير على المستوى الجزيئي، واقتراح نظرياتٍ عن سبب فاعلية بعض المركبات وعدم فاعلية البعض الآخر.
ولكن تطوَّر التصميم العقلاني للعقاقير بصورةٍ كبيرة قُرب نهاية القرن العشرين بسبب تطوراتٍ حدثت في علم الأحياء وعلم الكيمياء. أدى تحديد تسلسُل الجينوم البشري إلى تحديد البروتينات التي لم تكن معروفة سابقًا والتي يمكن أن تعمل بمثابة أهدافٍ محتمَلة للعقاقير. على سبيل المثال، أثبتت إنزيمات الكيناز كونها أهدافًا مهمةً لمضادات السرطان الجديدة خلال الأعوام الأخيرة. تُحفِّز هذه الإنزيمات تفاعلات الفسفرة وتلعب دورًا رئيسيًّا في السيطرة على نمو الخلايا وانقسامها. وبالمِثل، أدى تحديد تسلسل جينومات الفيروسات إلى تحديد البروتينات الموجودة فقط في الفيروسات والتي يمكن أن تعمل بمثابة أهدافٍ للمواد الجديدة المضادة للفيروسات. كذلك سمحت التطوُّرات التي أُدخِلت على إجراءات الاختبار الآلية ذات النطاق المحدود (الفحص الفائق الإنتاجية) بإجراء اختباراتٍ سريعة للعقاقير المُحتمَلة.

في عالم الكيمياء، حدثت تطوُّرات في تصوير البلورات بالأشعة السينية ومطيافية الرنين المغناطيسي النووي، مما أتاح للعلماء دراسة بُنى العقاقير وآليات عملِها. كما تطوَّرت الحزم البرمجية الفعالة للنمذجة الجزيئية، مما مكَّن الباحثين من دراسة كيفية ارتباط العقاقير بمواضع الارتباط في البروتينات. زادت أساليب التخليق الصناعي الجديدة من قدرة الكيميائيين على تخليق مركباتٍ جديدة. كما أن التطوُّر الذي طرأ على أساليب التخليق الصناعي الآلية قد زاد كثيرًا من عدد المركبات التي يمكن تخليقها خلال فترة زمنية محددة. أصبح باستطاعة الشركات حاليًّا إنتاج آلاف المركبات التي يمكن تخزينها واختبار فاعليتها الدوائية. تُسمى هذه المخازن بالمكتبات الكيميائية، وهي تخضع إلى اختباراتٍ دورية لتحديد المركبات التي يُمكنها الارتباط ببروتين مُعين من البروتينات المُستهدَفة. حسَّنت هذه التطورات من الأبحاث في مجال الكيمياء الدوائية على مدار العشرين عامًا الماضية في جميع مجالات الطبِّ بلا استثناء.
كما حدث تغيُّر ملحوظ في طريقة إجراء الأبحاث الصيدلانية. طَوال الفترة الأكبر من القرن العشرين، اعتمدت أبحاث الدواء على اكتشاف مُركب استرشادي ذي فاعلية دوائية. ومن ثَمَّ خُلِّقت آلاف المضاهيات خلال تلك الفترة، في محاولةٍ للعثور على مركب مُحسَّن. وربما يُكتشَف بعد سنواتٍ الجزيء المستهدَف، الأمر الذي سيسمح بفهمٍ أفضل للآليات البيولوجية التي تؤثر عليها هذه المواد. وفي هذا النهج، يتحدَّد مدى التقدُّم بالمركب الاسترشادي الذي يُكتشَف.
تحديد أهداف العقاقير
تتفاعل العقاقير مع أهدافٍ جزيئية في الجسم مثل البروتينات والأحماض النووية. ومع ذلك، تتفاعل معظم العقاقير المُفيدة سريريًّا مع البروتينات، ولا سيَّما المستقبلات والإنزيمات والبروتينات الناقلة (الفصل الرابع).
يمكن تصميم العقاقير بحيث تعمل على تنشيط المستقبِلات بالطريقة نفسها التي تستخدمها النواقل الطبيعية. وفي هذه الحالة، تُسمى بالعقاقير الناهضة. كما يمكن تصميم العقاقير بحيث تحصر المستقبلات دون تنشيطها. وعندئذٍ، تُسمى بالعقاقير المناهضة. من أمثلة العقاقير المناهضة للمستقبلات حاصر بيتا «بروبرانولول»، ومضادا القرحة «سيميتيدين» و«رانيتيدين». ومن أمثلة العقاقير المناهضة للمستقبلات مضاد الربو «سالبوتامول» ومُسكِّن المورفين.
تُعَدُّ الإنزيمات أهدافًا مهمة للعقاقير. العقاقير التي ترتبط بالمواضع النشطة للإنزيمات وتمنعها من العمل كمُحفزات تُسمى مثبطات الإنزيمات. ومن أمثلتها عقار «ساكوينافير» المضاد لفيروس نقص المناعة البشرية، وعقار «كابتوبريل» لعلاج ضغط الدم المُرتفع. وبما أن الإنزيمات موجودة داخل الخلايا، يتعيَّن على مُثبطات الإنزيمات المرور عبر أغشية الخلايا لكي تصِل إليها، وهي سمة مهمة يجب مراعاتها عند تصميم العقاقير. فلا جدوى من تصميم مُثبط إنزيم قوي المفعول ما لم ينجح في النفاذ عبر جدار الخلية.
تُعَدُّ البروتينات الناقلة أهدافًا لعددٍ من العقاقير التي أثبتت أهميتها العلاجية. على سبيل المثال، ثمة مجموعة من مضادات الاكتئاب تُعرف باسم مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية، وهي تحول دون نقل السيروتونين إلى داخل الخلايا العصبية بواسطة البروتينات الناقلة. ونتيجة لذلك، ترتفع مستويات السيروتونين، الأمر الذي ينتج عنه تأثير مضادات الاكتئاب الملحوظ.
اختبار العقاقير ومقايستها حيويًّا
المقايسة الحيوية هي اختبارات تُستخدَم في تحديد إذا ما كان العقار يتفاعل مع البروتين المستهدَف أم لا. تُجرى الاختبارات المعملية على الجزيئات المستهدَفة أو مزارع الخلايا. على سبيل المثال، يمكن اختبار مثبطات الإنزيمات على إنزيم مُنقًّى في أنبوب اختبار لمعرفة إذا ما كانت قادرة على منع الإنزيم من تحفيز تفاعُل مُعين. ويمكن أتمتة هذه الاختبارات المعملية، مما يسمح بإجراء اختباراتٍ سريعة لآلاف المركبات خلال فترة زمنية وجيزة. تُعرَف هذه العملية بالفحص العالي الإنتاجية. تصلح هذه الاختبارات لتحديد إذا ما كانت العقاقير تتفاعل مع الجزيئات المستهدَفة لتحقيق تأثير دوائي مُعين. تُعرف قدرة الدواء على الارتباط بهدفه وتحقيق هذا التأثير باسم الديناميكية الدوائية.
تُجرى الاختبارات الحيوية في نظام المقايسة الحيوية على كائناتٍ حية، وتكون مكملة للاختبارات التي تُجرى داخل المعامل. تثبت الاختبارات الحيوية إذا ما كان للدواء تأثير فسيولوجي، مثل تسكين الآلام أو علاج ضغط الدم المرتفع. كما تُثبت إذا ما كان الدواء يصل إلى هدفه الجزيئي عند إعطائه إلى الكائن الحي. تُعرف مجموعة العوامل التي تؤثر في قدرة الدواء على الوصول إلى هدفه بالحركية الدوائية.
عوامل الحركية الدوائية الرئيسية هي الامتصاص والتوزيع والأيض والإخراج. يتعلق الامتصاص بكمية الدواء التي يمكنها الوصول إلى مجرى الدم بعد تناولها عن طريق الفم ومرورها بإنزيمات الهضم وعبورها لجدار القناة الهضمية. بمجرد وصول الدواء إلى مجرى الدم، يُنقَل إلى الكبد حيث تُؤيَّض نسبة مُعينة منه بواسطة إنزيمات الأيض. يُعرف هذا بتأثير العبور الأول. يُوزَّع «ما تبقى» من الدواء بعد ذلك على جميع أنحاء الجسم عبر إمدادات الدم، ولكنه يوزَّع بطريقة غير متساوية. تحصل الأنسجة والأعضاء التي تحتوي على عددٍ أكبر من الأوعية الدموية على الكمية الأكبر من الدواء. قد «تعلق» بعض الأدوية أو تنحرف عن مسارها. على سبيل المثال، قد تُمتَص الأدوية الدهنية في الأنسجة الدهنية ولا تستطيع الوصول إلى أهدافها. الكليتان هما المسئولتان بصفةٍ أساسية عن إخراج العقاقير ونواتج استقلابها. وتتمتَّعان بكفاءة خاصة في إخراج الجزيئات القطبية.
يمكن للاختبارات الحيوية أحيانًا أن تُحدد أنشطة غير متوقعة لم تكن الاختبارات المعملية لتتمكن من اكتشافها. على سبيل المثال، أثبتت صبغة البرونتوزيل فاعليتها كمضادٍّ بكتيري في الوسط الحيوي، رغم أنها أثبتت عدم فاعليتها معمليًّا. هذا لأن مادة البرونتوزيل نفسها خاملة، ولكنها تُستقلَب إلى سلفوناميد نشط داخل الجسم الحي. يُسمَّى المركب الذي يتصرَّف بهذه الطريقة الدواء الأولي.
في نهاية المطاف، يمكن للاختبارات الحيوية (في الوسط الحيوي) أن تكتشف الأعراض الجانبية التي لا يمكن ملاحظتها بمساعدة الاختبارات المعملية. وقد يكشف ذلك في بعض الأحيان عن استخداماتٍ غير مُتوقعة للدواء. على سبيل المثال، دواء «سيلدينافيل» لعلاج ضعف الانتصاب لدى الرجال كان يُختبر في الأساس كدواءٍ لعلاج ضغط الدم المُرتفع، ولم يظهر تأثيره في علاج ضعف الانتصاب إلا خلال التجارب السريرية المُبكرة.
تحديد المركبات الاسترشادية
المركب الاسترشادي هو بنية كيميائية يمكنها الارتباط مع هدف جزيئي مرغوب. قد لا يتسم المركب الاسترشادي بقوة ارتباط وفاعلية كبيرة، ولكن نظرًا إلى قدرته على الارتباط بهدف مرغوب، فإنه يمكن أن يعمل كنقطة انطلاقٍ لمزيد من الأبحاث. ويمكن بعد ذلك للباحثين في مجال الكيمياء الطبية «التعديل» في هذه البنية بحثًا عن مضاهيات يُمكنها الارتباط مع الهدف بقوة أكبر وتتَّسم بفاعلية أكبر وانتقائية أفضل.
تُخلَّق المركبات الاسترشادية في الطبيعة وفي المعامل على حدٍّ سواء. لطالما كانت الطبيعة مصدرًا ثريًّا للمركبات الاسترشادية الجديدة على مرِّ التاريخ، ولم يتغيَّر هذا الوضع حتى وقتنا هذا. ولكن البحث عن هذه المركبات يتَّسم بالبطء الشديد. ولا توجَد أي ضمانة للنجاح. ومن ثَمَّ، يوجد تركيز أكبر حاليًّا على إنتاج المركبات الاسترشادية عن طريق التخليق الصناعي أو التصميم العقلاني.
حوامل الخصائص الدوائية والعلاقة بين بِنية الدواء وفاعليته
بعد تحديد المُركَّب الاسترشادي، من المُهم تحديد خصائص المركب المهمة لفاعليته. وهذا بدوره قد يُعطي تصورًا أفضل عن كيفية ارتباط المركب مع هدفه الجزيئي.
قد يمتلك المركب الاسترشادي العديد من المجموعات القادرة على تكوين تفاعلاتٍ بين جزيئية، ولكن قد لا تكون جميعها ضرورية. من بين طرق تحديد مجموعات الارتباط المهمة بلورة البروتين المستهدَف مع العقار المرتبط بموضع الارتباط. ثم يُستخدَم تصوير البلورات بالأشعة السينية بعد ذلك لتكوين صورة لهذا المُركب تسمح بتحديد تفاعُلات الارتباط. ولكن، قد لا يكون من الممكن دائمًا بلورة البروتينات المُستهدَفة، وهنا تظهر الحاجة إلى أسلوب مختلف. وهذا قد يتضمن تخليق مضاهياتٍ للمركب الاسترشادي تُعدَّل فيها المجموعات أو تُزال. وبمقارنة فاعلية كل مضاهٍ بفاعلية المُركب الاسترشادي الأصلي، يمكن الفصل في أهمية مجموعة بعينها من عدمها. تُعرف هذه المقارنة بدراسة العلاقة بين البنية والفاعلية.



من المحتمل أن يكون لكثرة الروابط القابلة للتدوير أثرٌ سلبي على فاعلية الدواء. يرجع ذلك إلى أن الجزيئات المرِنة يُمكنها استيعاب عدد كبير من التكوينات، وشكل واحد فقط من هذه الأشكال هو الذي يتوافق مع التكوين النشط. إذا دخل الجزيء موضع الارتباط في تكوين غير نشط، فسيخرج مجددًا دون حدوث ارتباط. وبالطبع، قد يدخل الجزيء موضع الارتباط ويخرج منه عدة مرات قبل أن يأخذ شكل التكوين المناسب للارتباط. وعلى النقيض من ذلك، سترتبط الجزيئات الثابتة بالكامل التي تحتوي على حامل الخاصية الدوائية المطلوب بمجرد دخولها إلى موضع الارتباط للمرة الأولى، الأمر الذي ينتج عنه فاعلية أكبر.
تصميم الأدوية وتحسينها
يتضمَّن تحسين الأدوية والعقاقير تصميم وتخليق مُضاهياتٍ من المُركبات الاسترشادية بحثًا عن البِنى ذات الفاعلية والانتقائية والحركية الدوائية المحسَّنة. ستساعد البنية البلورية للمركب الاسترشادي المرتبط بالبروتين المستهدَف في هذا المسعى بدرجة كبيرة في عملية تُسمى «تصميم الدواء بناءً على البنية»، ولكن لا يمكن دائمًا بلورة البروتين المستهدَف. لحسن الحظ، يوجَد عدد من استراتيجيات التصميم المثبَتة التي يُمكنها أن تساعد اختصاصيي الكيمياء الصيدلانية في تحديد المضاهيات التي يجدُر تخليقها. ذكرنا بالفعل استراتيجية تصميم المضاهيات الثابتة التي تُحاكي التكوينات النشطة للمركب الاسترشادي. ثمة استراتيجية أخرى وهي إضافة مجموعات إضافية إلى بِنية المركب، الأمر الذي سيسمح بحدوث تفاعلات ارتباط إضافية مع أجزاء موضع الارتباط التي لا يشغلها المركب الاسترشادي.
من المُهم أيضًا تحسين خصائص الحركية الدوائية للعقار حتى يتمكَّن من الوصول إلى هدفه في الجسم. تشمل الاستراتيجيات تعديل خصائص العقار المُحبَّة للماء والكارهة للماء من أجل تحسين الامتصاص، وإضافة المجموعات البديلة التي تمنع الاستقلاب في أجزاءٍ مُعينة من الجزيء.
الأدوية المرشَّحة وبراءات الاختراع
تُنتج عملية تحسين الأدوية عددًا كبيرًا من المركبات، والعديد منها يمكن اعتباره مرشحًا للتجارب السريرية وما قبل السريرية. ثمة العديد من العوامل التي يجب وضعها في الاعتبار عند تقرير أيٍّ من هذه الأدوية يستحق الانتقال إلى هذه المرحلة من التجارب. يشترط في الدواء المرشح أن يكون ذا فاعلية وانتقائية كبيرة، بأدنى حدٍّ من الآثار الجانبية. كما يجب أن يتَّسِم بخصائص حركية دوائية جيدة، مع انعدام السُّمية، ويُفضَّل ألا تكون له أي تفاعلاتٍ مع أدوية أخرى من المُحتمَل أن يتناولها المرضى. وأخيرًا، من المُهم أن تكون تكلفة تخليقه منخفضة قدْر الإمكان لتحقيق أقصى معدل من الأرباح. ولذا، إذا كان هناك خيار بين مُركبَين لهما الفاعلية نفسها، فسيتحدَّد الاختيار الأنسب بناءً على تكلفة التخليق الأقل.
بمجرَّد تحديد دواءٍ واعد، يتعيَّن تسجيله للحصول على براءة اختراع به حتى تحوز الشركة حقوقَ تسويقه حصريًّا. ولأن براءة الاختراع تتمُّ في مرحلةٍ مُبكرة نسبيًّا من عملية تطوير العقار، تُهدَر سنوات عديدة من حقوق الملكية بسبب الوقت المُستغرَق في إجراء التجارب السريرية وما قبل السريرية.
قد يؤدي تسجيل براءات اختراع الأدوية إلى مُعضلاتٍ أخلاقية؛ لأن أغلب شعوب الدول النامية لا يُمكنهم تحمُّل تكلفتها. ولحلِّ هذه المعضلة، سمح اتفاق تريبس (الاتفاق المتعلق بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية) التابع لمُنظمة التجارة العالمية لحكومات الدول النامية بأن تُمنَح تراخيص اضطرارية لمُصنِّعي العقاقير التي من المُحتمل أن تنقذ حياة الناس. يُجيز هذا الاتفاق لهذه الدول أن تتخطَّى نُظُم براءات الاختراع، وتبدأ في إنتاج الأدوية المطلوبة بصورة عاجلة لمواطنيها. للأسف، وسَّعت بعض الدول من نطاق تعريف الحالات المُهدِّدة للحياة. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٢، فرضت الهند ترخيصًا إجباريًّا على عقار «سورافينيب» المعالج للسرطان الذي يُعَدُّ من العقاقير المُطيلة للعُمر وليست المُنقِذة للحياة. تسبَّب ذلك في مخاوف من أن شركات الأدوية قد تتوقف عن تطوير العقاقير في مجالاتٍ علاجية مثل السرطان والأمراض الاستوائية.
التطوير الكيميائي وتطوير العمليات
بمجرد تحديد العقار المرشح، يبدأ العمل على تطوير عملية تخليق واسعة النطاق من شأنها أن توفر كمياتٍ كافية من هذا العقار من أجل التجارب السريرية وقبل السريرية. يُعرف هذا بالتطوير الكيميائي. ويتمثَّل دور كيميائي التطوير، في هذه الحالة، في ضرورة إنتاج كمياتٍ كبيرة من العقار في أسرع وقتٍ مُمكن من دون التأثير على جودة كل دفعة من المنتج. وهذا أمر ضروري لأن التجارب قبل السريرية والسريرية يجب أن تُجرى على دفعاتٍ ذات مستوًى ثابت من النقاء. إذا لم يتحقق ذلك، فلن يمكن مقارنة نتائج الاختبارات بعضها ببعض. فعملية التطوير الكيميائي ليست مجرد تحسين لعملية التخليق الأصلية. قد تحتاج التفاعلات إلى تعديل، أو تغيير تام، من أجل زيادة كمية المنتج. ولا شكَّ أن عملية التخليق النهائية في مرحلة الإنتاج قد تختلف تمامًا عن عملية التخليق الأصلية في مرحلة البحث.
التجارب قبل السريرية وتحضير المادة الصيدلانية
تتضمَّن عملية تحضير المادة الصيدلانية صيادلة وعلماء في الكيمياء الصيدلانية يُمكنهم تحديد أفضل طريقةٍ لتخزين العقار وإعطائه للمرضى، في صورة قُرص أو كبسولة على سبيل المثال.
التجارب السريرية والشئون التنظيمية
التجارب السريرية هي مضمار الطبيب أو المعالج السريري. ثمة أربع مراحل من التجارب السريرية. يشارك في المرحلة الأولى مجموعة صغيرة من المتطوِّعين الأصحاء، بينما يُشارك المرضى في المراحل اللاحقة. التجارب السريرية هي أكثر جزءٍ يستهلك المال والوقت في عملية طرح العقار في الأسواق، والكثير من العقاقير لا تجتاز هذه العملية. قد يرجع ذلك إلى أنها لا تكون فعالة بما يكفي، أو أن لها آثارًا جانبية غير مقبولة.
تخضع هذه العملية إلى رقابة هيئاتٍ مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية والوكالة الأوروبية لتقييم المنتجات الدوائية، ويجب أن تمنح هذه الهيئات الرقابية موافقتها على العقاقير قبل توزيعها في الأسواق.
المستقبل
منذ ثمانينيات القرن العشرين، حدث تقدُّم كبير في علاج الأمراض التي كان يُعتقَد في الماضي أنه لا يمكن علاجها. على سبيل المثال، شهِدَ تصميم المضادات الفيروسية الفعالة التي استلهمت من الحاجة إلى علاج لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) تقدمًا ملحوظًا. كما كان هناك تقدم ملحوظ في علاج العديد من أنواع السرطان. وكان لتطوُّر فئةٍ من العقاقير تُسمى مثبطات إنزيم كيناز أهمية كبيرة في هذا الصدد. ولكن ثمة بعض الأمراض التي لا يزال علاجها يُمثل صعوبة. لا يُوجَد علاج لمرض ألزهايمر أو مرض باركنسون، والبحث عن علاج لهذَين المرضَين يطرح تحدياتٍ مُستقبلية كبيرة. أثبتت أغلب العقاقير المرشَّحة لعلاج ألزهايمر فشلها في التجارب السريرية بعدما وصلت إلى هذه المرحلة من الاختبار. خلال الفترة ما بين عامَي ٢٠٠٢ و٢٠١٢، اختُبر ٢٤٤ مركبًا جديدًا في ٤١٤ تجربة سريرية، ولم يُقبَل منها إلا عقار واحد فقط. يعني هذا أن نسبة الفشل ٩٩٫٦٪، في مقابل نسبة فشل ٨١٪ مع عقاقير علاج السرطان.
تُعَدُّ السلالات البكتيرية المقاوِمة للعقاقير أحد التخوُّفات الأخرى. تكتسب العديد من السلالات البكتيرية (على غرار البكتيريا العنقودية الذهبية «ستافيلوكوكس أوريوس») مناعة ضد مضادات البكتيريا بسبب المُعدَّل السريع لحدوث الطفرات في مادتها الوراثية. على سبيل المثال، في ستينيَّات القرن العشرين، تبيَّن أن سلالة «البكتيريا العنقودية الذهبية» قد اكتسبت مناعة ضد أنواع البنسلين الأولى. تخطَّى العلماء هذه الكارثة من خلال تصميم نوعٍ جديد من البنسلين يُسمَّى المِيثيسيلين يمكنه مقاومة هذه السلالات، ولكن تطوَّرت سلالات أخرى واكتسبت مناعة ضد الميثيسيلين (المكوَّرات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين). ومن أنواع البكتيريا الأخرى التي تُسبِّب عدوى من الصعب علاجها السُّل المقاوِم لأدوية متعددة، وبكتيريا المكورات العقدية «إنتيروكوكس فيكاليس». ولهذا السبب، من المُهم مواصلة البحث عن عقاقير جديدة مقاومة للبكتيريا.
تُجرى الآن دراسة العديد من أساليب البحث عن مضادات بكتيرية جديدة. على سبيل المثال، تدرس حاليًّا شركة «جلاكسو سميث كلاين» للصناعات الدوائية مركباتٍ من شأنها أن تثبط إنزيمًا بكتيريًّا يُسمَّى بوليببتيد ديفورميلاز. وظهرت اقتراحاتٌ بضرورة ابتعاد الأبحاث عن البحث عن المضادَّات البكتيرية الواسعة النطاق التي تُعالج مجموعة كبيرة من أنواع العدوى البكتيرية، والحرص على تصميم العقاقير التي تستهدف أنواعًا مُعينة من العدوى. يرجع ذلك إلى أن العقاقير الواسعة النطاق أكثر عرضةً لأن تُقاومها البكتيريا. ومن ثَمَّ، قد يكون أسلوب العلاج، الذي يجمع بين عدة عقاقير «محدودة النطاق» تعمل على أهدافٍ مختلفة، أكثر فاعلية لأنه لا يمكن للبكتيريا في هذه الحالة اكتساب مناعةٍ ضد هذه العقاقير مجتمعة.
للأسف، أصبح التوجُّه خلال الأعوام الأخيرة هو تقليل الأبحاث الخاصة بمضادات البكتيريا نظرًا إلى معدلات نجاحها المحدودة في إيجاد عقاقير جديدة. كما أنه من المُحتمل وضع المواد الجديدة التي تُكتشف في قائمة احتياطية بغرَض الحد من احتمالية حدوث هذه المقاومة. وبناءً على ذلك، تراجعت احتمالية تحقيق عوائد مالية كبيرة في مجال الصناعات الدوائية على الاستثمارات البحثية الضخمة المطلوبة لتصميم الأدوية الجديدة. استوعبت العديد من المنظمات المحلية والعالمية هذه المخاطر وبدأت تحذِّر حاليًّا من ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث. في أبريل ٢٠١٤، أعلنت منظمة الصحة العالمية ضرورة اتخاذ إجراءٍ عاجل ومنسَّق على المستوى العالمي لحماية العالم من الدخول في حقبة ما بعد المُضادَّات الحيوية، حيث ستُصبح العدوى البكتيرية غير قابلة للعلاج مجددًا، ومن ثَمَّ حتى أبسط الجروح ستُصبح مُميتة.
يُنظَر حاليًّا إلى مقاومة مضادات الميكروبات على أنها قنبلة موقوتة ذات أبعاد عالمية، مما يجعلها تُشكِّل تهديدًا خطيرًا على الحضارة والتغير المناخي. وقد يتطلَّب درء هذا التهديد تعاونًا منسَّقًا ومموَّلًا بين الحكومات، وشركات صناعة الأدوية، والمؤسسات الأكاديمية. ولحُسن الحظ، تُدرك الحكومات حاليًّا هذا التهديد، وقد طرحت مبادراتٍ جديدةً لتشجيع الأبحاث التعاونية.
العقاقير البيطرية
تنطبق الاستراتيجيات المُستخدَمة في تصميم الأدوية البشرية على تطوير الأدوية البيطرية. تختلف الأدوية البيطرية عادةً عن الأدوية البشرية؛ لأن الحيوانات تمتلك مُركباتٍ بيوكيميائية وأنظمة أيضٍ مختلفة. قد يكون المركَّب الآمِن للبشر سامًّا في حالة الحيوانات. على سبيل المثال، الثيوبرومين، وهو أحد مكوِّنات الشوكولاتة، سام للكلاب ولكنه آمِن على البشر. ومن ثَمَّ، طرأت الحاجة إلى ابتكار تركيبةٍ خاصة من «شوكولاتة الكلاب» لا تحتوي على الثيوبرومين.
قد يستلزِم الأمر أيضًا استخدام أدوية مختلفة لعلاج المرض نفسه في أنواع مختلفة من الحيوانات. كما تُوجَد تعقيدات أخرى تتعلق بأدوية حيوانات المزرعة، فقد ينتهي المطاف بأن تنتقِل بقايا من هذه الأدوية إلى الطعام الذي يأكله البشر. ولهذا السبب، وُضِعت ضوابط رقابية تحدد الفترة التي يجِب على المزارِعين انتظارها قبل ذبح الحيوانات التي عُولجت بهذه الأدوية أو استحلابها. أثار الكشفُ عن وجود لحوم الأحصنة في بعض مُنتجات اللحوم الأوروبية عام ٢٠١٣ بعض المخاوف؛ لأنه أصبح هناك احتمالية لوجود آثار من الأدوية والعقاقير البيطرية في هذه اللحوم. ونستشهد على ذلك بعقار الفينيلبيوتازون المضاد للالتهابات الذي يُستخدَم مع الخيول، لكنه له آثار ضارة على البشر.
يثير استخدام المضادات البكتيرية في الطب البيطري تخوفًا آخر؛ لأن ذلك قد يزيد من انتشار مقاومة البكتيريا للمضادات البكتيرية. ولهذا السبب، من الأفضل استخدام مواد لا تُستخدَم في الطب البشري. من المُثير للجدل أن المضادات الحيوية مثل البنسلين والسيفالوسبورين بأنواعهما قد استُخدِمت في زيادة نمو الحيوانات، ولكن تُوضَع تشريعاتٌ في العديد من الدول لمنع هذه الممارسات.
جميع العقاقير المُستخدَمة بيطريًّا مُصرَّح باستخدامها مع أنواع بعينِها، مما يعني أن العقاقير المصرَّح باستخدامها مع الكلاب ليس بالضرورة أن يُصرَّح باستخدامها مع القطط. وحتى وقتنا هذا، ثمة ٦٣٤ عقارًا مصرَّحًا باستخدامها مع الكلاب، و٣١٣ عقارًا مصرَّحًا باستخدامها مع القطط. وثمة تعقيداتٌ في علاج الكلاب تتعلَّق باختلاف سلالاتها. فبعض السلالات أكثر عرضة من غيرها للإصابة بأمراض مُعينة، كما يمكن أن يختلف استقلاب العقاقير نفسها من سلالة إلى أخرى. على سبيل المثال، الإيفيرمكتين المضاد للطفيليات مصرَّح باستخدامه مع الكلاب، ولكنه سام مع سلالة كولي. وفيما يتعلق بالماشية، يتوفر ٦٨٨ دواءً للأبقار في الولايات المتحدة الأمريكية، أغلبها يُستخدَم في علاج العدوى البكتيرية أو الالتهابات. وتندرج ضمن الطب البيطري أدوية أخرى حتى لعلاج النحل. يُعتقَد أن عثة الفاروا أحد العوامل المسئولة عن اضطراب انهيار المستعمرة، حيث تختفي النحلات العاملة من الخلية فجأة. يمكن علاج تفشي العثة باستخدام البيريثرويد ومبيدات الآفات التي تحتوي على الفوسفات العضوي (الفصل السادس)، ولكن يمكن علاج حالات التفشِّي البسيطة باستخدام المُضادَّات الحيوية مثل الأوكسيتتراسكلين.
الأدوية المخدِّرة
هناك العديد من العقاقير التي حظيت بالتقدير في الماضي بوصفها إنجازاتٍ باهرةً في مجال الطب، ولكنها أصبحت الآن تُصنف كمخدرات. على سبيل المثال، سُوِّق الهيروين تجاريًّا في نهاية القرن التاسع عشر وكان يُشاد بكونه العقار «الجبَّار» الذي سيقضي على مختلف الآلام. ولكن لم يتوقَّع أحد، للأسف، أنه يُسبب الإدمان. كذلك، أوصى سيجموند فرويد باستخدام الكوكايين بوصفه مضادًّا للاكتئاب حتى اتضحت خصائصه الإدمانية. قُدِّم عقار «ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك» النفساني المفعول كدواءٍ في الأساس، وفي سبعينيات القرن العشرين، أُجريت دراسات على مركب آخر نفساني المفعول يُسمى «مثيلين ديوكسي ميثامفيتامين» كدواء مساعد في العلاج النفسي. ولكن، على ضوء تأثيرات النشوة التي يُحدثها هذا العقار أصبح يُستخدَم حاليًّا ضمن «الأدوية الترويحية». وأصبح اسمُه حاليًّا دواء «إكستاسي».
كان هذان مثالَين على العقاقير التي كانت نوايا تطويرها طيبة في الأساس، ولكن عددًا من الشركات الكيميائية المنعدمة الضمير تتعمَّد حاليًّا تصميم العقاقير المُسبِّبة للإدمان. تشمل هذه العقاقير المُنبهات التي تعمل بنفس طريقة الأمفيتامينات. وبما أنها تركيبات جديدة، فهي ليست مخالفة للقانون ومن غير المحظور بيعها ما دام لم يُعلَن عنها كمواد صالحة للاستهلاك الآدمي. يُعلَن عن هذه المُركبات على أنها أملاح استحمام، أو أسمدة زراعية، أو منظِّفات للنوافذ والواجهات.
يُطلَق على هذه العقاقير المُخدِّرة المصنَّعة اسم «المخدرات القانونية»، وهو ما قد يُضلل المستهلكين ويجعلهم يعتقدون أن من الجائز قانونًا استخدامها وتداولها. ولكن، لم يخضع أيٌّ من هذه العقاقير المخدرة للتجارب السريرية وقبل السريرية اللازمة من أجل التصريح باستخدامها كأدوية. وكلُّ مَنْ يستخدِم هذه العقاقير يقامرُ بصحَّته، إن لم يكن يُقامر بحياته. عندما حظرت الحكومة البريطانية مُخدِّر «السيروتوني»، وهو أحد المخدرات القانونية، كان ذلك بعد أن تسبَّب في ٣٧ حالة وفاة في المملكة المتحدة وحدَها. وحدثت ٤٢ حالة وفاة أخرى بعد تناول دواء مُنبه آخر، اسمه «ميفيدرون».
للأسف، يتطلَّب الأمر بعض الوقت للتحقق من المخدرات القانونية الجديدة، ووقتًا أطول لإثبات عدم مشروعيتها. فعندما يُحظر أي «مُخدر قانوني»، عادةً ما تُغيِّر الشركة التي تُنتجه من بِنيته وتُقدِّمه في صورة منبهٍ جديد. على سبيل المثال، هناك منتج اسمه «آيفوري وَيف» يُباع على أنه ملح استحمام، ولكنه يحتوي على مُركَّب نفساني المفعول يُسمَّى «ميثيلين ديوكسي بيروفاليرون». عندما حُظر هذا المركَّب، استُبدل به مركب آخر مُماثل يُسمى «نافثيل بيروفاليرون». وعندما حُظر هذا المركب أيضًا، أُضيف مركب «ديسوكسي بيبرادول» بدلًا منه. يتَّسِم «ديسوكسي بيبرادول» بأنه أعلى فاعليةً من المُركَّبين السابقين، وتعرَّض الكثيرون من مستخدمي منتج «إيفوري وايف» الدائمين لجرعاتٍ زائدة من هذا المُركَّب.
تفاقمت هذه المشكلة في السنوات الأخيرة. ففي عام ٢٠٠٩، كان هناك ٢٤ «مخدرًا قانونيًّا» تُباع على مستوى القارة الأوروبية، وزاد هذا العدد إلى ٨١ بحلول عام ٢٠١٣. ويُعتقَد أن المعامل الصينية تُنتج أغلب المُخدرات القانونية الموجودة حاليًّا. كما أن هناك زيادة في الكانابينُويدات المُخلَّقة، مثل مُخدر «أنِّيهيليشن» الذي أدى إلى دخول تسعة أشخاص المستشفى في عام ٢٠١٢.
مرَّرت الحكومة البريطانية قانونًا يحظر أيَّ مواد قادرة على إحداث تأثير نفساني، بدلًا من حظر كل مركب بمجرد ظهوره. ولكن، كل ما سيُسفر عنه ذلك هو تحويل التجارة في هذه المواد إلى تجارة غير قانونية. كما يُمكن أن تتعطَّل أبحاث مُهمة على العقاقير ذات التأثير النفساني بسبب الحاجة إلى استصدار تراخيص حكومية بإجرائها. وقد يؤدي ذلك إلى تداعِياتٍ أكبر إذا ما شعر مورِّدو المواد الكيميائية بضرورة التوقُّف عن بيع المواد الكيميائية المُستخدَمة في تخليق المخدرات القانونية؛ إذ قد يؤثر ذلك سلبًا على الكثير من المشروعات البحثية المسموح بها قانونًا.