الفصل السادس

مبيدات الآفات

مبيدات الآفات هي مواد كيميائية عضوية تُنتجها صناعة الكيماويات الزراعية بغرض زيادة المحاصيل الزراعية ومكافحة الأمراض التي تُصيب المحاصيل. تشمل مبيدات الآفات كلًّا من المبيدات الحشرية ومبيدات الفطريات ومبيدات الأعشاب أو الحشائش الضارة التي أثبتت فائدتها في زيادة إنتاج الغذاء لسكَّان العالَم الذين من المُتوقع أن يزيد عددهم بنسبة ٣٣٪ على مدار الأعوام الخمسة والثلاثين القادمة. من دون مبيدات الآفات، لن يمكن الحفاظ على معدلات إنتاج الغذاء إلا من خلال زيادة مساحات الأراضي المُخصَّصة لزراعة المحاصيل، ولكن هذا معناه تدمير مساحاتٍ شاسعة من البراري والغابات والسهول والمروج حول العالَم وتحويلها إلى أراضٍ زراعية، ومن شأن هذه الاستراتجية أن تؤثر سلبًا على التنوع الحيوي وأن تُلحق أضرارًا غير متوقعة بالنظام البيئي.

حفَّزت المخاوف المثارة حول آثار مبيدات الآفات التقليدية الباحثينَ على تصميم مبيدات آفات أكثر أمانًا وحفاظًا على البيئة، وهي مهمة تقع على عاتق علماء الكيمياء العضوية. يستغرق تطوير مبيد آفات جديد نحو عشر سنوات بتكلفة تصِل إلى ١٦٠ مليون جنيه إسترليني، ووحدها الشركات الكبرى هي التي في وسعها أن تتحمَّل عبء مثل هذا الاستثمار الضخم. تعمل العديد من الشركات في إنتاج الكيماويات الزراعية وأبحاثها، وهناك سوق عالمية كبيرة للكيماويات الزراعية. ارتفع حجم المبيعات العالمية بنسبة ٤٧٪ خلال عشر سنواتٍ في الفترة ما بين عامَي ٢٠٠٢ و٢٠١٢، في حين وصل حجم المبيعات الإجمالية في عام ٢٠١٢ إلى ٣١ مليار جنيه إسترليني. وتقع كبرى الأسواق المُختصَّة بهذه المنتجات في البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية واليابان.

ثمة الكثير من أوجه التشابُه بين أبحاث الكيماويات الزراعية والأبحاث الدوائية أو الصيدلانية. تهدف أبحاث الكيماويات الزراعية إلى البحث عن مبيدات آفاتٍ ذات تأثير سامٍّ على «الآفات»، ولكنها في الوقت نفسه لا تُسبب أضرارًا تُذكر للإنسان وأشكال الحياة النافعة. كما أن الاستراتيجيات المُستخدَمة لتحقيق هذا الهدف متشابهة أيضًا. يمكن تحقيق الانتقائية عن طريق تصميم مواد تتفاعل مع الأهداف الجزيئية الموجودة في الآفات وحدَها، دون غيرها من الأنواع الأخرى. ثمة طريقة أخرى وهي استغلال أي ردِّ فعلٍ أيضي تتفرد به الآفات. يمكن تصميم دواء أولي خامل يتحوَّل عند استقلابه في جسم الآفة إلى مُركب سام، ولكنه يظلُّ غير ضار بالأنواع الأخرى. وأخيرًا، يمكن استغلال اختلافات الحركية الدوائية بين الآفات والأنواع الأخرى بحيث يصِل مُبيد الآفات إلى هدفه داخل جسم الآفة بسهولة أكبر.

المبيدات الحشرية

قبل الحرب العالمية الثانية، لم تكن هناك إلا مبيدات حشرية طبيعية المنشأ فحسب. على سبيل المثال، استُخدِم الكبريت في مكافحة الحشرات في اليونان القديمة، ولا يزال يُستخدَم في بعض أنحاء العالم حتى اليوم. في عام ١٦٩٠، ذكرت الأبحاث أن مُستخلَصات التبغ فعالة في مكافحة الحشرات، وفي بداية القرن التاسع عشر، استُخدِمت مُستخلصات نباتية أخرى للاستفادة بخصائصها المكافِحة للحشرات، وتحديدًا البيريثرين المُستخلص من الأقحوان، والروتينون المستخلص من جذور الديريس. في الآونة الأخيرة، تأكدت فاعلية مُستخلصاتٍ من نباتٍ هندي يُسمَّى شجر النيم. حددت الأبحاث المواد المسئولة عن فاعلية هذه النباتات في مكافحة الحشرات، وهي النيكوتين المُستخلص من التبغ، والبيريثرين المُستخلص من الأقحوان، والأزاديراشتين المستخلص من شجرة النيم.

تتَّسم المنتجات الطبيعية بأنها محدودة من حيث وفرتها وانتقائيتها وفاعليتها، ولم تصبح المبيدات الحشرية الفعالة والانتقائية والرخيصة متوفرة على نطاق صناعي كبير إلا بعد ظهور المبيدات الحشرية المخلَّقة صناعيًّا. وكان في مقدمة المبيدات الحشرية المخلَّقة صناعيًّا مُركبات الكلور العضوي، ومركبات الفوسفات العضوي، وكربامات الميثيل، والبيريثرويد. كانت هذه المواد بوجهٍ عام فعالة وأظهرت سُميَّة انتقائية ضد الحشرات وليس الثدييات. ولكن آثارها التراكمية على البيئة وأشكال الحياة الأخرى لم تكن متوقَّعة تمامًا في ذلك الوقت. واستُبدلِت بمجموعة كبيرة منها مبيداتٌ حشرية ذات مستوًى أعلى من الانتقائية والحفاظ على البيئة.

المبيدات الحشرية: مركب الكلور العضوي

جاءت مُركبات الكلور العضوي في مقدمة المبيدات الحشرية المخلَّقة التي وصلت إلى الأسواق، بدايةً بمادة «ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو الإيثان» (دي دي تي) (شكل ٦-١). خُلِّقَت مادة الدي دي تي لأول مرة في عام ١٨٧٤. ولكن لم تُكتشَف خصائصها كمبيدٍ حشري إلا في عام ١٩٣٩، عندما اكتُشِف تأثيرها الفعال ضد البعوض والقراد والجراد. وترتَّب على ذلك استخدامُها من قِبل القوات المسلحة خلال الحرب العالمية الثانية بغرَض مكافحة الملاريا في منطقة جنوب شرق آسيا، والتيفوس في أوروبا الشرقية. وبعد انتهاء الحرب، كان لمادة الدي دي تي دور فعَّال في القضاء على الملاريا القادمة من أوروبا وأمريكا الشمالية، وراود الناسَ الأملُ لوهلةٍ في احتمالية القضاء على الملاريا في جميع أنحاء العالَم. وللأسف، كوَّن الجسم مناعةً ضد هذه المادة الكيميائية في المناطق الأقرب إلى خط الاستواء.
fig58
شكل ٦-١: أمثلة على المبيدات الحشرية المحتوية على مركب الكلور العضوي.

ولكن هذا لم ينفِ الدور الذي لعبته مادة الدي دي تي في إنقاذ حياة الكثيرين من الأمراض التي تنقلها الحشرات، مثل الملاريا والحُمَّى الصفراء ومرض النوم. ويقدَّر عدد الأشخاص الذين أنقذت مادة الدي دي تي حياتهم بنحو ٥٠٠ مليون شخص خلال الفترة ما بين أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. ونتيجة لذلك، حصل بول مولر على جائزة نوبل في الطب عام ١٩٤٨ بفضل اكتشافه الخصائص المكافحة للحشرات في مادة الدي دي تي.

بالإضافة إلى مكافحة الأمراض، استُخدمِت مادة الدي دي تي على نطاق واسع كمبيدٍ حشري في مجال الزراعة، وبلغ متوسط إنتاجه نحو ٤٠ ألف طن كل عام. تتَّسم مادة الدي دي تي بأنها شديدة السُّمية مع الحشرات، ولكنها أقل سُميةً بكثير مع الثدييات. في واقع الأمر، فإن الجرعة القاتلة للإنسان تكافئ كمية الدي دي تي التي تكفي لرشِّ فدان كامل من الأرض الزراعية. وللأسف، على الرغم من الفوائد المؤكَّدة لهذه المادة فيما يتعلق بإنقاذ حياة الأشخاص وزيادة إنتاج المحاصيل، فقد جاءت على حساب أضرارٍ جمَّة ألحقتها بالبيئة. الدي دي تي عبارة عن جزيء مستقر نسبيًّا، ومن ثَمَّ، فإنه يتراكم في البيئة. كما أنه كاره للماء بطبيعته، مما يعني أن قابليته للذوبان في الماء ضعيفة، ولكنه يذوب بسهولةٍ في دهون الجسم لدى العديد من أشكال الحياة البرية. كشفت أبحاث لاحقة أن تركيز مادة الدي دي تي في أجسام الكائنات البرية يزيد كلما كانت مرتبة الكائن أعلى في سلسلة الغذاء، الأمر الذي سيتسبب في كارثة محقَّقة لا سيما في حالة الطيور الجارحة. أُلقي اللوم على الدي دي تي في الانقراض الوشيك الذي بات يهدِّد طيور النسر الأصلع وصقر الشاهين في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ تبيَّن أن هذه المادة تتسبب في ضَعف قشور البيض لدى هذه الطيور. وكان هذا البيض الهشِّ يتعرَّض للكسر قبل أن يفقس، ومن ثَمَّ تموت الأجنة.

حُظر استخدام الدي دي تي لأغراض الزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧٢، وحذت المملكة المتحدة حذوَها في عام ١٩٨٤. كما صدر حظر عالمي لهذه المادة في عام ٢٠٠٤ من خلال اتفاقية ستوكهولم، ولكن لا يزال مسموحًا باستخدامها لأغراض مكافحة الحشرات في الحالات التي يُحتمَل فيها التسبُّب في الإضرار بصحة البشر. على سبيل المثال، لا يزال مسموحًا باستخدام الدي دي تي في أغراض مكافحة الملاريا داخل الهند.

يُعَدُّ الألدرين (شكل ٦-١) مثالًا آخر على المبيدات الحشرية المحتوية على الكلور العضوي. مثلما هو الحال مع الدي دي تي، يحتوي الألدرين على العديد من ذرات الكلور وهو مركب كاره للماء، ولكن هيكله الكربوني مُختلف تمامًا؛ على هيئة نظام مُعقَّد مُتعدد الحلقات.

تستهدف المبيداتُ الحشرية المحتوية على الكلور العضوي القنواتِ الأيونية، مما يؤدي إلى تعطيل انتقال الإشارات العصبية، وحدوث تشنُّجات، وقد يُفضي الأمر إلى الوفاة. تستهدف الدي دي تي قنوات أيونات الصوديوم، بينما يستهدف الألدرين ومضاهياته قنوات أيونات الكلوريد. وبما أنهما يعملان على أنواع مختلفة من القنوات الأيونية، فإن تكوين مناعة ضد الدي دي تي لا ينشأ عنه تكوين مناعة مشتركة ضد الألدرين. تظهر المناعة عندما تحدُث طفرات تُغيِّر الأحماض الأمينية في القنوات الأيونية المُستهدَفة. وهذا بدوره يضعف تفاعلات الارتباط مع المبيدات الحشرية.

المبيدات الحشرية: كربامات الميثيل والفوسفات العضوي

طُوِّر كربامات المِيثيل والفوسفات العضوي بعد الكلور العضوي. اعتمد تصميم كربامات الميثيل على ناتجٍ طبيعي يُسمَّى الفيزوستيجمين (شكل ٦-٢)، وهو سُم اكتُشِف في نبتة فول كالابار. يثبط الفيزوستيجمين إنزيمًا اسمه «الأسيتيل كولين إستيريز»، الذي يُحفِّز تفاعل إماهة ناقلٍ عصبي اسمُه «أسيتيل كولين» (شكل ٦-٣). عندما يُثبط الإنزيم، ترتفع مُستويات الأسيتيل كولين ويزيد تنشيط مُستقبِلات البروتين على نحوٍ مُفرِط في الجهاز العصبي للحشرة مما يؤدي إلى تسمُّمها وموتها. يوجَد إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز لدى البشر أيضًا، ولذا من الضروري أن تكون المبيدات الحشرية المحتوية على كربامات الميثيل سمومًا انتقائية لنسخة الإنزيم الموجودة في الحشرات وليست موجودة في البشر. لا يتَّسِم الفيزوستيجمين نفسه بهذه الانتقائية، ولكنها سِمة موجودة في أحد مضاهياته ويُسمَّى «كارباريل».
fig59
شكل ٦-٢: الفيزوستيجمين ومبيد كارباريل الحشري.
fig60
شكل ٦-٣: تفاعل إماهة الأسيتيل كولين المُحفَّز بواسطة إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز.
يستهدف الفوسفاتُ العضوي أيضًا إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز، ويعمل كمثبِّطٍ لا يمكن عكس تأثيره. بعض المنتجات التي تحتوي على الفوسفات العضوي شديدة السُّمِّيَّة لدرجة أنه لا يمكن استخدامها كمبيداتٍ حشرية. واستُخدِم العديد منها كسمومٍ عصبية في الأسلحة الكيميائية. تشمل هذه السموم السارين، والتابون، والسومان، والديفلوس، وغاز الأعصاب. في جميع هذه الأمثلة، يحتل السُّم الموضع النشط داخل الإنزيم، ثم يتفاعل مع بقايا السيرين. تُنقل مجموعة الفوسفات من المادة المؤثرة على الأعصاب إلى بقايا السيرين و«تسدُّها» حتى لا تتمكَّن من تحفيز تفاعل إماهة الأسيتيل كولين (شكل ٦-٤).
fig61
شكل ٦-٤: تفاعل الديفلوس مع بقايا السيرين داخل الموضع النشط لإنزيم الأسيتيل كولين إستيريز.
نظرًا إلى سُمية المواد المؤثرة على الأعصاب، يبدو أن مهمة تصميم مبيدات حشرية آمنة تحتوي على الفوسفات العضوي صعبة للغاية. في واقع الأمر، تحقَّق ذلك من خلال تصميم أدوية أولية لا تُستقلَب إلى مركباتٍ نشطة إلا داخل أجسام الحشرات. الباراثيون، والمالاثيون، والكلوربيريفوس (شكل ٦-٥) مبيداتٌ حشرية تحتوي على مجموعة الفوسفور والكبريت. ولهذا السبب، لا يكون لها تأثير مُباشر على إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز. ومع ذلك، يوجد لدى الحشرات إنزيم أيضي يُغيِّر مجموعة الفوسفور والكبريت (P=S) إلى مجموعة الفوسفور والأكسجين (P=O). ويمكن للمادة الناتجة المؤثرة على الأعصاب أن تُثبط إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز.
fig62
شكل ٦-٥: الأدوية الأولية المُحتوية على الفوسفات العضوي والمستخدَمة كمبيداتٍ حشرية.

في الثدييات، تُستقلَب هذه المبيدات الحشرية بفِعل إنزيماتٍ مختلفة لتنتُج عنها مركبات خاملة تُطرح بعد ذلك إلى خارج الجسم. ولكن المبيدات الحشرية المحتوية على الفوسفات العضوي ليست آمنةً بشكلٍ كامل، وقد يؤدي التعرُّض لها لفتراتٍ طويلة إلى آثار جانبية خطيرة في حال لم يُتوخَّ الحذر الكافي عند التعامل معها. كما أن لها تأثيرًا سُمِّيًّا تراكميًّا على الحياة البرية، ولذا يُفضَّل حاليًّا استخدام مواد بديلة.

المبيدات الحشرية: البيريثرينات والبيريثرويدات

البيريثروم مُستخلَص نباتي يَنتج عن طحن زهور الأقحوان في الماء، ويحتوي على مزيجٍ من نواتج طبيعية تُسمَّى البيريثرينات. تُستخدَم هذه المُستخلصات كمبيداتٍ حشرية وطارداتٍ للحشرات منذ سنوات عديدة، ويُعتقَد أن الصينيين ربما استخدموها منذ زمنٍ سحيق يرجع إلى سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد. ويُقال إن الجنود الفرنسيين استخدموا الأقحوان في طرد البراغيث والقمل خلال الحروب النابليونية. تُوجَد حتى الآن ستة مركبات من البيريثرين شديدة التماثل (شكل ٦-٦). وعلى غرار مادة الدي دي تي، ترتبط هذه المركبات مع قنوات أيونات الصوديوم في الجهاز العصبي للحشرة، مما يؤدي إلى إصابتها بالشلَل أو موتها. ولكن توجد مشكلة مُحتملة مع البيريثرينات، وهي أنها تعمل على الهدف نفسه الذي تعمل عليه مادة الدي دي تي. يعني هذا أن أيَّ آفاتٍ تكتسب مناعة ضد الدي دي تي ستكون لديها مناعة أيضًا ضد البيريثرينات، ويُعَدُّ هذا أحد أمثلة المناعة المشتركة.
fig63
شكل ٦-٦: تركيب البيريثرينات.
يسمح مزج البيريثرينات مع المواد المضافة المخلَّقة المُتمثلة في «البيبرونيل بوتوكسيد» أو «السيسامكس» (شكل ٦-٧) بأن تكون فعَّالة مع عددٍ أكبر من الحشرات، بما في ذلك الحشرات التي تُظهر في المعتاد مناعة ضدها. يرجع هذا إلى أن المواد المضافة المخلَّقة تُثبط تلك الإنزيمات لدى الحشرات التي بطبيعة الحال تستقلب البيريثرينات وتُبطِل فاعليتها. تُعرف المادة التي تُعزز فاعلية مادة أخرى باسم المادة التآزُرية (أو المؤازر). وأحد عيوب المادة التآزرية أنها قد تؤدي إلى تثبيط إنزيمات الأيض لدى الثدييات وتزيد من قابليتها للتأثر بالسموم.

تُعَدُّ البيريثرينات من بين أكثر المبيدات الحشرية أمانًا في الأسواق. ولهذا السبب، فإنها تدخل في تركيب العديد من مبيدات الآفات المنزلية. هذا بالإضافة إلى أنها قابلة للتحلل الحيوي حال تعرضها للضوء أو الأكسجين (وذلك على عكس مادة الدي دي تي)، وتكون نواتج هذا التحلل غير ضارة. ولكن البيريثرينات للأسف ضارة بالنحل، ولذا يجب أن تُستخدَم ليلًا بينما يكون النحل متوقفًا عن عملية التلقيح.

fig64
شكل ٦-٧: أمثلة على المواد التآزُرية.
البيريثرويدات مضاهيات مخلَّقة من البيريثرينات وابتُكرت لكي تحلَّ محلَّ مركبات الكلور العضوي خلال الخمسينيات من القرن العشرين. هذه المركبات غير قابلة للتحلل الحيوي مثل البيريثرينات، مما يزيد من فاعليتها كمبيداتٍ حشرية، ولكنه يزيد أيضًا من احتمالية تراكمها في البيئة. تحتوي بعض المبيدات الحشرية وأنواع الشامبو التجارية على كلٍّ من البيريثرينات والبيريثرويدات، وينطوي استخدامها على بعض المخاطرة، خاصةً في حالات فرط التحسُّس. تشمل أمثلة البيريثرويدات المُخلَّقة كلًّا من الفينوثرين والسايبرمثرين (شكل ٦-٨).
fig65
شكل ٦-٨: أمثلة على البيريثرويدات.

المبيدات الحشرية: النيونيكوتينويدات

يحمل النيكوتين (شكل ٦-٩) خصائص مبيدة للحشرات؛ لأنه يُنشِّط مستقبلًا كوليني المفعول يُسمى المُستقبل النيكوتيني. ونتيجة لذلك، يحدث فرط في تنشيط الأعصاب يؤدي إلى آثار سُمية. ومع أن النيكوتين قد استُخدِم كمبيدٍ حشري في صورة مُستخلصاتٍ من التبغ، فهو ليس فعالًا مثل المبيدات الحشرية المُخلَّقة، ويُظهر انتقائية ضعيفة بين المستقبلات الكولينية المفعول لدى الحشرات ومثيلاتها لدى الثدييات. جرى تخليق عددٍ كبير من المضاهيات المرتبطة بنيويًّا لمحاولة إيجاد مركباتٍ ذات انتقائية مُحسَّنة وتجربتها، ولكن باءت جميعها بالفشل. ولم يتَّسع المجال لتطوير مواد فعَّالة وانتقائية إلا بعد اكتشاف مُركب استرشادي غير مرتبط بنيويًّا بهذه المُضاهيات. ترتبط هذه المواد أيضًا بالمستقبلات النيكوتينية، وسُميت النيونيكوتينويدات.
fig66
شكل ٦-٩: مجموعات الارتباط المهمة في كلٍّ من الأسيتيل كولين، والنيكوتين، والإيميداكلوبريد.
بدأ تطوير النيونيكوتينويدات في عام ١٩٧٠، وأدى في نهاية المطاف إلى تطوير الإيميداكلوبريد (شكل ٦-٩) الذي ثبت أن فاعليته تفوق فاعلية النيكوتين بعشرة آلاف مرة. حصل هذا المبيد الحشري على براءة اختراع في عام ١٩٨٥، وطُرِح في الأسواق في عام ١٩٩١. حقَّق المُركَّب نجاحًا مبهرًا وأصبح أول مبيد حشري يُحقق مبيعاتٍ تُقدَّر بمليار دولار سنويًّا. وسرعان ما أصبح المبيد الحشري الأكثر استخدامًا في العالم، ووُصِفَ ابتكاره بأنه علامة فارقة في مجال أبحاث المبيدات الحشرية. وإلى جانب استخداماته كمبيدٍ حشري زراعي، يُستخدَم هذا المركب أيضًا في الطب البيطري للقضاء على القراد والبراغيث. ومنذ ذلك الحين، ابتُكِرَ العديد من النيونيكوتينويدات الأخرى وأثبتت جدارتها بوصفها أهم فئةٍ من المبيدات الحشرية في الأسواق.
يشترك كلٌّ من الإيميداكلوبريد والنيكوتين والأسيتيل كولين في السِّمات البنيوية نفسها المسئولة عن ارتباط هذه المواد بمواضع الارتباط لدى المستقبلات (شكل ٦-٩). تحتوي جميع هذه المركبات على ذرات نيتروجين موجبة الشحنة أو ذات شحنةٍ موجبة جزئية (δ+) يُمكنها التفاعل مع مواضع الارتباط لدى المستقبلات من خلال تفاعلاتٍ أيونية. هذا بالإضافة إلى احتوائها على ذرات ذات شحنة سالبة ضئيلة (δ−) يمكنها تكوين تفاعلات ترابط هيدروجيني مع مواضع الارتباط. يمكن للإيميداكلوبريد تكوين تفاعلات ارتباط إضافية؛ لأن مجموعة الكلور البديلة الكارهة للماء يُمكنها أن تدخل في التجويف الكاره للماء في موضع الارتباط.

ولكن لا يفسِّر ذلك لماذا يكون ارتباط الإيميداكلوبريد بالمستقبلات لدى الحشرات أقوى ألفَ مرة عن ارتباطه لدى البشر، وهو ما يُعَدُّ سببًا رئيسيًّا لخاصيته الانتقائية. ومن بين الأسباب الرئيسية الأخرى لهذه الانتقائية وجودُ مجموعة النيترو التي تتفاعل مع بقايا الأرجينين الموجودة في موضع الارتباط بالمُستقبلات لدى الحشرات ولكنها ليست موجودة في موضع الارتباط بالمُستقبلات لدى الثدييات. وثمة سبب ثانٍ لهذه الانتقائية هو عدم وجود ذرة نيتروجين ذات شحنةٍ موجبة كاملة، الأمر الذي يُضعف التفاعلات الأيونية مع المستقبلات لدى الثدييات. تؤدي عوامل الحركية الدوائية أيضًا دورًا في تعزيز الانتقائية. يستطيع الإيميداكلوبريد النفاذ عبر الحاجز الدموي الدماغي لدى الحشرات ومهاجمة جهازها العصبي المركزي، ولكنه لا يستطيع النفاذ عبر الحاجز الدموي الدماغي لدى الثدييات.

كان يُعتقَد سابقًا أن تأثير النيونيكوتينويدات أقل سُمِّية على النحل، ولكن يرى كثيرون حاليًّا أنها المسئولة عن الانخفاض السريع في أعداد نحل العسل منذ عام ٢٠٠٦، وهي الظاهرة المُسمَّاة اضطراب انهيار المستعمرة. تفاقم الوضع بدرجة كبيرة، مما أدى إلى خسارة مُربي النحل التجاريين في الولايات المتحدة الأمريكية نصفَ خلايا النحل لديهم بحلول عام ٢٠١٢. وكان تأثير ذلك على المجال الزراعي أكبر؛ إذ تُشير التقديرات إلى أن النحل مسئول عن تلقيح محاصيل في الولايات المتحدة الأمريكية تبلُغ قيمتها ٩٫٨ مليارات جنيه إسترليني. وذكر البعضُ أن النيونيكوتينويدات تؤثر على قدرة النحل على الاعتلاف من مصادر الغذاء، وتعلُّم الخطوط الملاحية منها وإليها وتذكُّرها.

في عام ٢٠١٣، قرَّر الاتحاد الأوروبي الحدَّ من استخدام النيونيكوتينويدات حتى ديسمبر ٢٠١٥، وأوصي بأن يقتصِر استخدامها على المحاصيل التي لا تجتذِب النحل. وسرعان ما حذت الولايات المتحدة الأمريكية حذوَه. وبالطبع، مثَّلت هذه القرارات انتصارًا ساحقًا لأنصار البيئة، ولكن ادَّعى الكثير من العلماء أن هذه القرارات قد اتُّخِذَت لأسبابٍ سياسية وليس لأسباب علمية فقط. صرَّحت شركة «باير كروبساينس» التي تُنتج اثنين من المنتجات الثلاثة المحظورة بأن النيونيكوتينويدات آمنة على النحل ما دامت قد استُخدِمت على نحوٍ مسئول. كما زعمت الشركة أن انخفاض أعداد النحل بدأ قبل ابتكار النيونيكوتينويدات، وقد يُعزى سبب ذلك إلى عدة عوامل أخرى، مثل العث الحامل للفيروسات والأمراض الفطرية وقلَّة أعداد النباتات المُزهرة بسبب زيادة الرقعة الزراعية. كما أنهم سلَّطوا الضوء على حقيقة أن أستراليا لدَيها نحل سليم تمامًا على الرغم من انتشار استخدام النيونيكوتينويدات. قد يرجع ذلك إلى قلة أعداد عثة الفاروا في أستراليا مقارنةً بأعدادها الكبيرة في أوروبا. في واقع الأمر، من الصعب التأكُّد من العوامل المسئولة أكثر من غيرها عن تراجُع أعداد النحل، ومن المؤكَّد أن هناك عدة عوامل مجتمعة مسئولة عن ذلك.

ولموضوع حظر النيونيكوتينويدات مخاطره أيضًا. فقد يُضطر المزارعون إلى العودة إلى استخدام أنواعٍ أقدم من المبيدات الحشرية أكثر ضررًا بالبيئة. كما قد يزيد ذلك من تكوين مناعة ضد هذه المواد. وبغضِّ النظر عن تبايُن الآراء حيال هذا الموضوع، لا تزال الحاجة إلى مبيدات حشرية أكثر أمانًا وانتقائية تُشكِّل تحديًا أمام عبقرية الباحثين الكيميائيين. ونتيجة لذلك، ثمة مبيدات حشرية انتهى تطويرها وأخرى ما زالت قيد البحث والدراسة. على سبيل المثال، هناك عدد من البِنى المختلفة تعمل على المستقبلات النيكوتينية الكولينية المفعول. ومن بين هذه البِنى مجموعة من المواد تُحفِّزها عمليات الأيض لدى الحشرات لتكوين النيريستوكسين؛ وهو سم عصبي طبيعي المنشأ تُنتجه دودة البحر الحلقية. وتوجد مركبات أخرى مثل الأسبينوسات؛ وهي مركبات طبيعية مُعقَّدة تُنتجها سلالة بكتيرية تُسمَّى «ساكاروبوليسبورا سبينوزا»، والسالفوكسيمينات، ومضاهيات مُركب طبيعي يُسمَّى «ستيموفولين». ويُعَدُّ فلوبيراديفورون أحد هذه المركبات التي صُرِّح باستخدامها مؤخرًا (شكل ٦-١٠).
fig67
شكل ٦-١٠: الستيموفولين والفلوبيراديفورون.

المبيدات الحشرية المستقبلية

يراعى حاليًّا في تطوير المبيدات الحشرية أن تعمل على عدة أهداف مختلفة لتجنُّب تكوين مناعة ضدها. فإذا تكوَّنت مناعة ضد مبيدٍ حشري يعمل على هدف معين، يمكن للمرء أن ينتقل إلى استخدام مبيدٍ حشري يعمل على هدف مختلف. بدأ التسويق للريانويدات، مثل الكلورانترانيليبرول والسيانترانيليبرول والفلوبيندياميد، في الفترة ما بين عامَي ٢٠٠٦ و٢٠٠٧. تؤدي هذه المركبات عملها من خلال الارتباط بقنوات الكالسيوم الأيونية في خلايا العضلات وتتسبَّب في حدوث شلل أو تُفضي إلى الوفاة. تتميَّز هذه المركبات بأنها ذات انتقائية عالية للحشرات لا الثدييات، كما أن تأثير سُمِّيتها ضعيف جدًّا على الطيور والأحياء المائية. توصَّل بحث مؤخرًا في جامعة نيوكاسل إلى اكتشاف ببتيد طبيعي يستهدف أيضًا قنوات الكالسيوم الأيونية. اكتُشِفَ هذا الببتيد في سُمِّ عنكبوت الشبكة القمعية الأسترالي، وهو ذو تأثير سامٍّ على حشرات المَنِّ واليرقات، ولكنه لا يُشكِّل ضررًا يُذكَر على الثدييات ونحل العسل.

تعمل العديد من المبيدات الحشرية كمنظِّمات لنمو الحشرات؛ فهي تستهدف عملية الانسلاخ وليس الجهاز العصبي لدى الحشرة. تستغرق مُنظمات نمو الحشرات بوجهٍ عام فترة أطول لقتل الحشرات مقارنةً بالمبيدات الحشرية، ولكن يُعتقَد أن تأثيرها على الحشرات المُفيدة يكون أقل ضررًا. ينمو لدى الحشرات اليافعة هيكل خارجي جديد تحت هيكلها القديم، ثم تتخلَّص من الهيكل القديم عن طريق عملية الانسلاخ. وهكذا يُسمَح للهيكل الخارجي الجديد بالانتفاخ والتصلُّب.

ثمة هرمونان رئيسيان مسئولان عن هذه العملية؛ وهما هرمون الشباب وهرمون الانسلاخ. حُددت ثمانية أشكال مختلفة لهرمون الشباب في أنواع الحشرات المختلفة، ولكنها جميعها تحتوي على إستر ميثيل عند أحد طرفَي السلسلة وإيبوكسيد عند طرفها الآخر (شكل ٦-١١). يجب أن يختفي هرمون الشباب حتى تنسلِخ الشرنقة إلى حشرةٍ بالِغة؛ ولذا يَحول العديدُ من منظِّمات نمو الحشرات دون وصول الحشرات إلى طور البلوغ؛ وذلك عن طريق محاكاتها هرمونَ الشباب لدى الحشرات. وتُسمى المُنظِّمات التي تؤدي هذا الدور «الجوفينويدات» أو مُشابهات هرمون الشباب، وهي تُضاهي هرمون الشباب في بِنيته. يُعَدُّ الميثوبرين أنجح هذه المُركبات، ويُعتبر آمنًا بما يكفي لإضافته إلى صهاريج مياه الشرب في المناطق المعرَّضة لانتشار البعوض. ساعدَ ذلك في السيطرة على الملاريا والحدِّ من انتشار فيروس غرب النيل. كما استُخدِم في السيطرة على البراغيث التي تُصيب الحيوانات الداجنة والأليفة، وكمادةٍ مضافة تُوضَع في علف الماشية لمنع تكاثر الذباب في روَثها.
fig68
شكل ٦-١١: مثال على هرمون الشباب.
كما يوجَد نهجٌ معاكس للسابق، وهو منع إنتاج هرمون الشباب عن طريق تثبيط إنزيمات التخليق الحيوي. ومن خلال تثبيط إنتاج هرمون الشباب، يحدُث الانسلاخ في مرحلةٍ مبكرة للغاية وينتج حشرات بالغة لا تؤدي وظائفها. تحظى منظِّمات نمو الحشرات التي تثبط إنزيم ناقلة ميثيل حمض هرمون الشباب، وإنزيم CYP15 الذي ينتمي إلى عائلة إنزيمات السيتوكروم الميكروسومية P450؛ بأهميةٍ خاصة. ذلك لأن هذه الإنزيمات موجودة لدى الحشرات، وبذلك يُمكن تصميم مُثبطات لها آثار جانبية ضئيلة للغاية على الثدييات وغيرها من الأنواع.

تعمل منظمات نمو الحشرات التي تستهدف مُستقبلات هرمون الانسلاخ على منع تحوُّل اليرقات إلى حشراتٍ بالِغة في مرحلة الشرنقة. يُعَدُّ التيبوفينوزيد مثالًا على نواهض مستقبلات هرمون الانسلاخ، وهو فعَّال في حصر اليرقات والحدِّ من تكاثرها. يتمتَّع المُركب بانتقائية عالية وسُمِّية منخفضة، وكان سببًا في حصول الشركة التي أنتجته (روم آند هاس) على الجائزة الرئاسيَّة لتحدِّيات الكيمياء الخضراء.

تثبط أنواع أخرى من منظمات نمو الحشرات عملية التخليق الحيوي للكيتين، وهو مادة كربوهيدراتية ضرورية للهيكل الخارجي، ممَّا يعني أن الحشرات تظلُّ حبيسةَ هيكلها الخارجي القديم. تتميَّز هذه المُثبطات بأنها ذات مفعولٍ أسرع واستدامة أطول مقارنةً بمنظمات نمو الحشرات الهرمونية. ومن أمثلة هذه المُركبات الديفلوبنزورون، الذي طُرِح في الأسواق في عام ١٩٧٦ (شكل ٦-١٢). استُخدِم الديفلوبنزورون في الأساس في مجال إدارة الغابات للسيطرة على سوسة جوز القطن وعدة أنواع من العث. هذا المُركَّب شديد السُّمية مع الحشرات وغير سامٍّ نسبيًّا مع الثدييات.
fig69
شكل ٦-١٢: الديفلوبنزورون.

عادةً ما ينطوي البحث عن مبيداتٍ حشرية جديدة على محاكاة استراتيجيات الطبيعة والاسترشاد بها. تُفرز العديد من النباتات والفطريات وسلالات البكتيريا مركباتٍ لها تأثير المبيدات أو طاردات الحشرات. على سبيل المثال، تُصيب سلالة البكتيريا العصوية التورنجية «باسيلس ثورينجينسيس» الحشرات، وتُفرز سمومًا تقتل الخنافس والبعوض ويرَقات اليسروع. استُخدِمت الهندسة الوراثية في دمج هذا السُّمِّ البكتيري في النباتات.

ينفث العديد من النباتات موادَّ كيميائية طيَّارة تُعرَف باسم التيربينات، تعمل كطاردات للحشرات ويمكن أن تُصبح نقطة انطلاقٍ لتخليق مبيدات حشرية جديدة. تتضمَّن المجالات البحثية التخليقَ الصناعي لمُضاهيات مركَّب طبيعي يُسمَّى «جيرماكرين دي»، وهو مركب طارد لحشرات المَنِّ وغيرها من الآفات الحشرية. كذلك، اكتشفَ فريق أبحاث ياباني أن الطماطم تُطلِق مادةً كيميائية طيَّارة عندما تتعرَّض لهجومٍ من اليرقات. تعمل هذه المادة الكيميائية بمثابة تحذير كيميائي لنباتات الطماطم المجاورة التي تُنتِج مبيدًا حشريًّا للدفاع عن نفسها ضد الهجوم المُحتمَل. المُثير في الأمر أن هذا المبيد الحشري يُنتَج من إحدى المواد الكيميائية التحذيرية التي يمتصُّها النبات. من المُحتمَل أن تمتلك نباتات أخرى آلياتِ دفاعٍ مُماثلة، وقد يقدم ذلك طرقًا جديدة لمكافحة الحشرات.

مبيدات الفطريات

تُستخدَم مبيدات الفطريات من أجل مكافحة العدوى الفطرية الضارة بالمحاصيل أو حيوانات المزرعة. تمتلك بعض النباتات والكائنات الحية مبيداتِ فطرياتٍ طبيعية تعمل بمثابة آلية دفاع كيميائية ضد الأمراض الفطرية. تشمل مبيدات الفطريات هذه السينمالدهيد، والمونوسيرين، والقرفة، والسترونيلا، والجوجوبا، والأوريجانو، وإكليل الجبل، وكذلك مُستخلصات شجرة الشاي وشجرة النيم. يمكن أحيانًا استخدام البكتيريا العصوية الرقيقة «باسيلس سبتلس» وفطر «أولوكلاديوم أودمانسي» كمبيدات فطريات، كما تُقدَّم طحالب البحر كطعامٍ إلى الماشية لحمايتها من الفطريات التي تعيش في العشب.

أثبتت كذلك العديد من مبيدات الفطريات المخلَّقة في المعامل فاعليتها. تشمل أمثلة مبيدات الفطريات الأقدم البينوميل والفينكلوزولين والميتالاكسيل. ولكن تُظهر مبيدات الفطريات الأحدث نتائج أفضل من حيث الفاعلية والانتقائية. ومن أمثلة مبيدات الفطريات الأحدث فئة من المُركبات تُسمى مُثبطات الكينون الخارجية، وتُعَدُّ أهم تطوُّر حدَث في مجال مبيدات الفطريات خلال السنوات الأخيرة. ومن أمثلة هذه الفئة من المُثبطات «الأزوكسيستروبين» (شكل ٦-١٣)، وهو مركب طوَّره مركز «جيلوتز هيل الدولي» للأبحاث من مواد طبيعية مضادَّة للفطريات يُنتجها نوع من فطر أوروبي صغير. وإمعانًا في التوضيح، وُضِع إطار مُستطيل الشكل حول الجزء الرئيسي (حامِل السُّمية) الذي تتركَّز فيه فاعلية هذا المركب المضادة للفطريات. من الأمثلة الأخرى على مبيدات الفطريات مبيدات التريازول، وقد سُمِّيت بهذا الاسم لأنها تحتوي على حلقة تريازول في تركيبها. يُعَدُّ البروثيوكونازول (شكل ٦-١٣) مثالًا على هذه الفئة من مبيدات الفطريات، ويتَّسم بخاصية إضافية وهي تحفيز نمو النباتات.
fig70
شكل ٦-١٣: أمثلة على مبيدات الفطريات.

يتوفر في الأسواق منتج آخر من مبيدات الفطريات بالاسم التجاري «فاندانجو»، وهو يجمع في تركيبته بين الفلوكساستروبين (أحد الاستروبيليورينات) والبروثيوكونازول، ومن ثَمَّ فإنه يوفِّر حمايةً أشمل ضد الفطريات مقارنةً بما يوفرها كل مركَّب من مركَّبيه المضادَّين للفطريات على حدة. ومن شأن المزج بين مُبيدَين للفطريات يعملان على أهداف مختلفة أن يقلِّل من فرص اكتساب سلالات الفطريات مناعةً ضد مبيدات الفطريات. وإذا اكتسبت إحدى السلالات مناعةً ضد أحد المركَّبين المُضادَّين للفطريات، فإنها تظل عُرضة للتأثر بالمركَّب الآخر. على سبيل المثال، عندما استُخدِم الميتالاكسيل في علاج لفحة البطاطس في أيرلندا، تكوَّنت مناعة ضدَّه في غضون موسمٍ زراعي واحد. ولكن كان مُعدل تكوُّن المناعة أبطأ في المملكة المُتحدة؛ لأن الميتالاكسيل استُخدِم ممزوجًا بمبيد فطرياتٍ آخر.

يمكن أن تظهر المناعة عند حدوث طفراتٍ تُغيِّر الأحماض الأمينية الرئيسية في مواضع الارتباط في البروتينات المُستهدَفة. وغالبًا ما يؤثر ذلك في جميع مبيدات الفطريات التي تتشارك فئة تركيبية مُعينة، وتُسمى هذه الخاصية بالمناعة المشتركة. على سبيل المثال، اكتسبَ مرض سيجاتوكا الأسود — وهو مرض فطري يُصيب الموز — مناعةً ضد كل أنواع مبيدات الفطريات المحتوية على مُثبطات الكينون الخارجية؛ ويرجع ذلك إلى طفرةٍ تسبَّبت في إحلال الألانين محل بقايا الجلايسين.

مبيدات الأعشاب

تُستخدَم مبيدات الأعشاب في مكافحة الأعشاب والحشائش الضارة التي يُمكن أن تزاحم المحاصيل في امتصاص الماء والعناصر المُغذية الموجودة في التربة في حال ما لم تُستخدَم هذه المبيدات. الأموال التي تُنفَق على مبيدات الأعشاب تفوق كثيرًا ما يُنفَق على أيٍّ من مبيدات الآفات الأخرى؛ حيث تُنفِق الولايات المتحدة الأمريكية وحدَها ستة مليارات دولار في هذا الصدد. كان كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) مُستخدَمًا لهذا الغرض في العصور القديمة، في حين استُخدِمت مبيدات الأعشاب غير العضوية قبل الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه المواد الكيميائية لم تكن انتقائيةً بدرجة كبيرة وكانت تتسبَّب في إتلاف المحاصيل الزراعية.

مبيدات الأعشاب الانتقائية ضرورية عند التعامُل مع المحاصيل الزراعية، ولكن تفيد مبيدات الأعشاب غير الانتقائية إذا كان الهدف هو قتل جميع النباتات الموجودة، كما هو الحال في الأراضي القاحلة، والمواقع الصناعية، وخطوط السكك الحديدية. تُنتج بعض النباتات مبيداتِ أعشاب طبيعية تؤثر في الحياة النباتية المجاورة لها (تُعرَف هذه السمة بالتضاد البيوكيميائي). من أمثلة هذه النباتات شجرة الجنة، التي سُمِّيت قديمًا بأسماء أقل إطراءً مثل الشجرة النتنة أو شجرة الجحيم. ويرجع ذلك إلى رائحتها الكريهة وخصائصها العدوانية. كذلك، تحتوي أوراق شجرة الجوز الأسود على مبيد أعشابٍ يُسمَّى الجوجلون، وهو ذو تأثير سام على أشجار التفاح وعدد من النباتات الأخرى. عندما تسقط أوراق الشجرة على الأرض، تنطلِق هذه المادة الكيميائية وتمنع النباتات الأخرى عن منافستها على التربة والعناصر المُغذِّية الموجودة بها.

روعي في بعض مبيدات الأعشاب المخلَّقة أن تحاكيَ وظيفة هرمونات نباتية تُسمى الأوكسينات (شكل ٦-١٤). تُفرز هذه الهرمونات النباتية استجابةً لظروف البيئية المُحيطة وتُنظِّم نمو النبات. تتكوَّن الأوكسينات الطبيعية، مثل «٤-كلورويندول-٣-حمض الأسيتيك»، من حمض الكربوكسيل وحلقة عطرية.
يحتوي مركب «٢‏،٤‏ ثنائي كلوروفينوكسي حمض الأسيتيك» المُخلَّق صناعيًّا (ورمزه 2,4-D) (شكل ٦-١٤) على هذه المجموعات الوظيفية نفسها ويُحاكي عمل الأوكسينات. خلَّقت شركة «إمبيريال كيميكال إندستريز» البريطانية هذه المادة عام ١٩٤٠ في إطار مشروع بحثي حول الأسلحة البيولوجية، واكتشفت أنها تقتل الأعشاب الضارة ذات الأوراق العريضة دون الإضرار بمحاصيل الغلال ذات الأوراق الصغيرة النصل. استُخدِمت هذه المادة تجاريًّا للمرة الأولى عام ١٩٤٦، وحقَّقت نجاحًا مبهرًا في القضاء على الأعشاب الضارة التي تنمو بين محاصيل الغلال مثل القمح والذرة والأرز. تتفوق هذه المادة في فاعليتها على مبيدات الأعشاب غير العضوية بمعدَّل مائة مرة، كما أنها مسئولة عن التوسُّع في الناتج الزراعي بعد الحرب. هذا المركب رخيص ومن السهل تخليقه صناعيًّا، ولا يزال مبيد الأعشاب الأكثر استخدامًا في العالَم حتى يومِنا هذا.
fig71
شكل ٦-١٤: أمثلة على الأوكسينات.
استُخدِم أحدُ مشتقات الإستر من مركب 2,4-D ضمن المكونات الفعالة في العامل البرتقالي، وهو مبيد أعشاب كيميائي استخدمَتْه القوات الأمريكية خلال حرب فيتنام. في خمسينيات القرن العشرين، طوِّرت مبيدات الأعشاب التي تحتوي على التريازين، مثل الأترازين (شكل ٦-١٥) (تشير كلمة «تريازين» إلى وجود حلقةٍ عطرية مكونة من ستِّ ذراتٍ تحتوي على ثلاث ذرات نيتروجين). تقتل هذه المواد الكيميائية الأعشاب الضارة عن طريق تثبيط بروتين مُهم في عملية التمثيل الضوئي.
fig72
شكل ٦-١٥: مبيدات أعشاب متنوعة.
خلال سبعينيات القرن العشرين، ظهرت في الأسواق مجموعة من مبيدات الأعشاب وُصفت بمبيدات الأعشاب المُبَيِّضة. تعمل مبيدات الأعشاب هذه بمثابة مثبطات إنزيمات تحول دون التخليق الحيوي لصبغات التميثل الضوئي. كان أول هذه المبيدات وصولًا إلى الأسواق النورفلورازون في عام ١٩٧١ (شكل ٦-١٥).
fig73
شكل ٦-١٦: أمثلة على مثبطات الأسيتولاكتايت سينثايز.
من الإنزيمات المفيدة الأخرى التي تستهدفها مبيدات الأعشاب إنزيم «أسيتولاكتايت سينثاز»، وهو الإنزيم الرئيسي في عملية التخليق الحيوي لأحماض أمينية مثل الفالين والليوسين والأيزوليوسين. هناك مجموعتان من مبيدات الأعشاب تثبط هذا الإنزيم (شكل ٦-١٦). ظهرت مجموعة السلفورونات خلال فترتَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ومن بينها الكلورسلفورون. أثبتت هذه المواد فاعلية كبيرة. على سبيل المثال، لا يتطلَّب الأمر إلا أوقيةً واحدة من الكلورسلفورون (جلين) لاستخدامها في فدانٍ كامل من الأرض. ظهرت مجموعة الكاربازونات في وقتٍ لاحق، ومن بينها بروبوكسي كربازون الصوديوم.
هناك العديد من مبيدات الأعشاب المتوفرة تجاريًّا التي تعمل على أهداف أخرى. يُعَدُّ الجليفوسات أحد هذه الأمثلة، وهو أحد مكونات مُبيد الأعشاب الضارة في الحدائق المتداول باسم «راوند أب» (شكل ٦-١٧). تُثبط هذه المادة إنزيمًا يُسهِم في عملية التخليق الحيوي للفينيل ألانين. الجليفوسات انتقائي للأعشاب الضارة؛ لأن البشر والحيوانات يحصلون على الفينيل ألانين من الغذاء ولا يُخلِّقونه داخل الجسم. بعبارة أخرى، الإنزيم المستهدَف غير موجود في خلايا الثدييات.
fig74
شكل ٦-١٧: الجليفوسات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥