الفصل السابع

كيمياء الحواس

تؤدي الجزيئات العضوية الطبيعية المنشأ دورًا مهمًّا في كيفية إدراكنا للعالم من خلال حواسِّنا المُختلفة من بصرٍ وشمٍّ وتذوق. وبالإضافة إلى ذلك، صُمِّمَ الكثير من الجزيئات العضوية المُخلَّقة بحيث يكون لها لون وطعم ورائحة، وهي ذات أهمية في مجال الصناعات الغذائية ومستحضرات التجميل.

كيمياء الإبصار

ثمة مادة كيميائية عضوية طبيعية المنشأ تُسمَّى «١١-مقرون-ريتينال»، وهي ضرورية للآلية التي تستخدمها الخلايا العصوية في عين الإنسان لاستقبال الضوء المرئي (شكل ٧-١). تتكوَّن هذه المادة من سلسلةٍ من الروابط الأحادية والثنائية المتناوبة على نحوٍ تبادلي، فيما يُسمَّى بالنظام المترافِق أو الازدواجي. ترتبط إجمالًا ست روابط ثنائية مع واحدة من مجموعات الألكين المُحددة بأنها مقرونة (انظر الفصل الثاني). يؤدي ذلك إلى عدم تجانس يظهر في صورة انبعاجٍ في السلسلة. تسمح مجموعة ألدهيد نشطة في طرف السلسلة الجانبية بحدوث تفاعلٍ كيميائي ينتُج عنه تكوين رابطة تساهمية بين مادة الريتينال وبروتين يُسمى «أوبسين» لإنتاج بروتين معدَّل يُسمَّى «رودوبسين». يمتصُّ النظام المترافِق لمادة الريتينال (ويُعرف بحامِل اللون) الضوءَ، فيتحوَّل بذلك مقرون-ألكين إلى مفروق-ألكين، مما يؤدي إلى استقامة السلسلة واستوائها. يُغيِّر هذا بدوره من شكل البروتين ويُصدِر إشارة عصبية تُنقَل إلى الدماغ حيث تُفسَّر على أنها ضوء.
fig75
شكل ٧-١: دور مادة الريتينال في عملية الإبصار.
يُحدِّد نوع النظام المترافِق في الجزيء الطول الموجي الدقيق للضوء المُمتَص. بوجهٍ عام، كلما زاد طول النظام المترافِق، زاد الطول الموجي للضوء المُمتَص. على سبيل المثال، البيتا كاروتين (شكل ٧-٢) هو الجزيء المسئول عن اللون البرتقالي للجَزَر. يحتوي هذا الجزيء على نظامٍ مترافِق يتألف من إحدى عشرة رابطة مزدوجة، ويمتصُّ الضوء في المنطقة الزرقاء من الطيف المرئي. يبدو الجزيء للعين أحمر اللون؛ لأن الضوء المُنعكس عنه لا يحتوي على المكوِّن الأزرق. يُشبه الزياكسانثين جزيء البيتا كاروتين كثيرًا من حيث التركيب، وهو المسئول عن لون الذرة الأصفر. تشمل الأصباغ الطبيعية المنشأ الأخرى الليكوبين والكلوروفيل. يمتصُّ الليكوبين الضوءَ الأزرق والأخضر، وهو المسئول عن اللون الأحمر للطماطم وثمر الورد البري والتوت. في حين يمتص الكلوروفيل الضوء الأحمر، ومن ثَمَّ يبدو للعين أخضر اللون.
fig76
شكل ٧-٢: أمثلة على الجزيئات ذات النظام المُترافِق.
يمكن للباحثين الكيميائيين الاسترشاد بآلية امتصاص النظام المُترافِق للضوء في تصميم جزيئاتٍ ملوَّنة وتخليقها. ثمة سلسلة من الأصباغ على جانبٍ كبير من الأهمية، وهي السلسلة التي تحتوي على مجموعة ديازو الوظيفية (–N=N–) بوصفها جزءًا من النظام المترافِق. من أمثلة هذه السلسلة صبغة «التارترازين» الصفراء (شكل ٧-٣) وصبغة «سكارليت جي إن» الحمراء. تُستخدَم صبغة التارترازين على نطاق واسع كملوِّن غذائي (E102)، كما توجد في الأدوية والصابون والعطور ومعجون الأسنان والشامبو ومرطِّبات البشرة. أما صبغة سكارليت جي إن، فقد كان مصرحًا باستخدامها كملوِّن غذائي أحمر اللون (E125)، ولكنها استُبدلت حاليًّا بملوِّنات غذائية أخرى. حُظر استخدام الكثير من الأصباغ كملوِّناتٍ غذائية في الأعوام الأخيرة، ولكنها لا تزال تُستخدَم على نحوٍ غير قانوني في بعض الدول. على سبيل المِثال، حُظر استخدام مادة «رودامين ب» كملوِّن غذائي، ولكنها اكتُشفَت في عيناتٍ من الحلوى التي جرى فحصها في الهند عام ٢٠١٣. الأصباغ مفيدة أيضًا في تلوين المنتجات الصناعية مثل اللدائن والورق والمنسوجات ودهانات الطلاء. على سبيل المثال، تُسمَّى صبغة ديازو المُستخدَمة في هذا الغرض «بسمارك براون واي».
fig77
شكل ٧-٣: التارترازين (ورمزه E102).
صبغة النِّيلَة (شكل ٧-٤) هي إحدى الأصباغ الطبيعية المُهمة التي تمتصُّ الضوء الأصفر وتظهر باللون الأزرق. يمكن استخراج هذه الصبغة من النباتات، ولكن من الأرخص كثيرًا تخليقها صناعيًّا. لصبغة النِّيلَة تاريخٌ طويل وقد استُخدِمت في حضارة المايا القديمة. كما أن لها تاريخًا سياسيًّا واقتصاديًّا مُهمًّا. كان نبات النِّيلَة محصولًا هنديًّا رئيسيًّا في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن النزاعات التي دارت حول تدنِّي الأسعار المدفوعة إلى المُزارعين الهنود قد جعلت المهاتما غاندي يعلن عصيانًا مدنيًّا سلميًّا شاملًا. أسهمت هذه الحادثة في ترسيخ صورة غاندي في أذهان الهنود بوصفه زعيمًا للقومية الهندية. شجَّعت الاضطرابات والقلاقل التي نتجت عن هذه الأحداث الكيميائيِّين على البدء في تخليق النِّيلَة صناعيًّا، وأنشأت شركة «باسف» الهندية مصنعًا لإنتاج الصبغة في عام ١٨٩٧. يُزعم أن هذا هو أول مصنع على الإطلاق ينتج مركبًا مخلَّقًا صناعيًّا. ولكن بحلول عام ١٩١٠، أصبحت كل صبغة النِّيلَة المُستخدَمة في أوروبا مخلَّقة وتوقَّف استيرادها من الهند.
fig78
شكل ٧-٤: الصبغات الطبيعية.
صبغة الأرجوان الملكي (شكل ٧-٤) هي صبغة طبيعية أخرى تُشبه النِّيلَة كثيرًا في تركيبها ويُمكن استخراجها من حلزون البحر. استُخدِمت هذه الصبغة في العصر الروماني في صباغة ملابس الأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ. كانت الأصباغ على غرار الأرجوان الملكي باهظة الثمن للغاية، ولم يكن في تحمُّل تكلفتِها إلا الأثرياء وذوو النفوذ. واستمر الحال على هذا المنوال حتى ظهور الأصباغ المُخلَّقة ذات التكلفة المُنخفضة في القرن التاسع عشر، وعندئذٍ أصبحت الملابس المصبوغة في متناول الجميع.

لا تزال الأبحاث تُجرى لاكتشاف جزيئاتٍ ملوَّنة. درس فريق بحثي في جامعة يَال الأمريكية حفريات الديناصورات لأخذ عيناتٍ منها وتحديد ما كان عليه لونها الأصلي. ثمَّة مُركب عضوي يُسمى الميلانين لعب دورًا محوريًّا في هذه الأبحاث. الميلانين صبغة لونية موجودة في الشعر والجلد والريش والفراء. أظهرت دراسة أُجريت على حيواناتٍ مُعاصرة أن هذه الصبغات تُخزَّن داخل الخلايا في حاوياتٍ صغيرة تُسمَّى الجسيمات الميلانينية أو الميلانوسومات. كما رُصِدت «حاويات الحبر الخلوية» هذه في الحفريات باستخدام مِجهر إلكتروني ماسح، وقُدِّمت أدلة على الألوان الأصلية لهذه الحفريات. تحتوي عادةً الجُسيمات الميلانينية التي تُشبه شكل النقانق على جزيء يُسمَّى الميلانين السوي، وهو ذو لونٍ بُنِّي داكن أو أسود اللون، بينما تحتوي الجسيمات الميلانينية الكروية الشكل على الفيوميلانين الأحمر اللون. ومن خلال دراسة أشكال الجسيمات الميلانينية (الميلانوسومات) في الطيور المعاصرة ومقارنتها بألوان الطيور الفعلية، أصبح من الممكن تحديد أنماط ألوان الديناصورات ذات الريش. كشفت دراسات أخرى أُجريت على الحفريات عن وجود الميلانين السوي، الذي ظلَّ موجودًا على مدى ١٦٠ مليون سنة.

بعض الجزيئات المُلوَّنة لها خصائص دوائية مفيدة. على سبيل المثال، تبيَّن أن لصبغة البرونتوزيل خصائص مضادَّة للبكتيريا، وهو ما أدى إلى اكتشاف السلفوناميدات في ثلاثينيات القرن العشرين. يُعَدُّ البروفلافين مثالًا آخر على هذه الأصباغ؛ إذ استُخدِم كمضادٍّ بكتيري موضعي. كما اكتُشِفَت مؤخرًا إمكانية قتل الخلايا الجرثومية باستخدام صبغةٍ تُسمى أزرق الميثيلين. أزرق الميثيلين ليس سامًّا بطبيعته، ولكنه يصبح عاملًا حسَّاسًا للضوء عند تعرُّضه للضوء. يتسبَّب ذلك في إنتاج مركبات الأكسجين التفاعلية التي ثبت أنها تؤدي إلى قتل الخلايا. تُعرف طريقة استخدام أزرق المِيثيلين والضوء في علاج العدوى البكتيرية باسم العلاج الضوئي الديناميكي. تتميز هذه الصبغة بدرجة عالية من الانتقائية تجعلها تقتل الخلايا البكتيرية وليس الخلايا البشرية؛ وذلك لأن الخلايا البكتيرية تمتصُّ كمياتٍ أكبر من أزرق الميثيلين. تحتوي صبغة أزرق الميثيلين على شحنةٍ موجبة، وتنجذب إلى الخلايا البكتيرية لأن لها شحنة سالبة أكبر على سطحها مقارنةً بخلايا الثدييات. ومِن ثَمَّ، فاعلية هذا العلاج تكون أجدى مع حالات العدوى السطحية التي يُمكن تعريضها للضوء. استُخدِم العلاج الضوئي الديناميكي أيضًا منذ ثمانينيات القرن العشرين في علاج بعض أنواع مرض السرطان.

للأصباغ دور أيضًا في إنتاج الخلايا الشمسية الصبغية، وتتمثَّل آلية عملها في إطلاق إلكتروناتٍ عند اصطدام الفوتونات بجزيئات الصبغة. تتفوَّق الخلايا الشمسية الصبغية على الخلايا الشمسية المصنوعة من السيليكون بعددٍ من المزايا المُحتمَلة. فهي مُصمَّمة بحيث تعمل في ظروف إضاءة متنوعة ولا تحتاج إلى ضوء الشمس الساطع. كما أنها تعمل جيدًا في الإضاءة الصناعية أو مع الضوء الساقط عليها من عدة اتجاهات في وقتٍ واحد. يَعني هذا أن الخلايا الشمسية الصبغية لها القدرة على إنتاج كمياتٍ أكبر من الطاقة مقارنة بالخلايا الشمسية التقليدية. ولأن الخلايا تعمل جيدًا في الضوء الخافت، يمكن استخدامها في تشغيل الأجهزة الإلكترونية الصغيرة عن طريق امتصاص الضوء الداخلي. استخدم فندق «إم جي إم جراند هوتيل» في لاس فيجاس ستائر كهربية مُتحركة يمكن التحكُّم فيها عن بُعد وتستمدُّ طاقتها من الخلايا الشمسية الصبغية، بدلًا من ستائر غُرَفه التقليدية.

يُعتقد أن الجزيئات الحسَّاسة للضوء تؤثر في قدرة الطيور على الهجرة وتحديد وجهتها بدقة لمسافاتٍ تصِل إلى آلاف الأميال. على سبيل المثال، يطير طائر البقويقة السلطانية المُخطط الذيل كلَّ خريف لمسافة ١٠ آلاف كيلومتر من سيبيريا إلى نيوزيلندا، ويُمكنه أن يعدِّل من مسار رحلته حتى لو انحرفَ عن مساره بسبب الرياح. يُعتقد أن الطيور يُمكنها التعرُّف مرئيًّا على خطوط المجال المغناطيسي للأرض؛ وذلك لأن قُدرتها على التنقُّل تعتمد على الضوء. اكتُشِفت بروتينات مستقبلة للضوء تُسمَّى الكريبتوكرومات، ويُحتمَل أن تكون المسئولة عن قدرة الطيور على قياس خطِّ الطول. ولكن لم يتوصَّل العلماء بعدُ إلى الآلية التي تستخدِمها هذه الجزيئات في التعرُّف على المجالات المغناطيسية. يُسهم أيضًا أكسيد الحديد الأسود (الماجنتيت) في عملية تحديد الاتجاهات، وربما يكون المسئول عن تحديد دوائر العرض. استنادًا إلى هذا البحث، صُمِّم جزيء مُخلَّق يمكنه الاستجابة إلى المجالات المغناطيسية الضعيفة التي تتماثل في شدَّتها مع المجال المغناطيسي للأرض. يتكوَّن هذا الجزيء من شبيهِ الكاروتين، والبورفيرين، والفوليرين مرتبطةً معًا بقوة (شكل ٧-٥).
fig79
شكل ٧-٥: جزيء مُخلَّق مُصمَّم لاكتشاف المجالات المغناطيسية.

كيمياء الشم

تتفاعل الجزيئات العطرية مع مُستقبلات الشم في الأنف. اكتشف كلٌّ من ريتشارد أكسيل وليندا باك هذه البروتينات المُستقبِلة في عام ١٩٩١، مما أهَّلهما للحصول على جائزة نوبل عام ٢٠٠٤ في علم وظائف الأعضاء أو الطب. الجزيئات العطرية مُهمة في إنتاج مجموعة كبيرة من مُستحضرات التجميل والسلع المنزلية، مثل العطور والصابون ومعجون الأسنان والمُنظفات. من أمثلة الجزيئات العضوية المُستخدَمة كعطور مقرون الجاسمون (المُستخلص من زهور الياسمين) والداماسينون، وهما المكوِّنان المسئولان عن رائحة الزهور. يُستخدَم المسكون لإعطاء رائحة المِسك في العطور، بينما يحمل السترال رائحة الليمون. في بعض الأحيان، قد يحمل الأيزومران الضوئيان (الصورتان المرآتِيَّتان) لجزيء كيرالي رائحتَين مُختلفتَين. على سبيل المثال، يحمل الأيزومر R لجزيء الليمونين رائحة البرتقال، بينما يحمل الأيزومر S رائحة الليمون. أحد أيزومرَي الكارفون يحمل رائحة النعناع، ويحمل الآخر رائحة الكراوية.
تلعب الجزيئات العطرية دورًا مُهمًّا في الطبيعة. على سبيل المثال، تفرز الحشرات فيرمونات تعمل بمثابة جاذباتٍ جنسية للأزواج المُحتمَلين، أو كإشارات تنبيه كيميائية في أوقات الخطر. للفيرمونات تراكيب كثيرة ومتنوعة، وجميعها شديدة الفاعلية. تتَّسم بعضها بالفاعلية عند مستوياتٍ منخفضة تصل إلى ٢ × ١٠−١٢ جرام. ونظرًا إلى قلة الفيرمونات على هذا النحو، فإن مهمة استخلاصها من مصادرها الطبيعية تكون شديدة الصعوبة. على سبيل المثال، يتطلب الأمر ٦٥ ألف خنفساء تبغ أنثى لاستخلاص ١٫٥ ملِّيجرام من فيرمون السيريكورنين الجنسي (شكل ٧-٦). لحُسن الحظ، يمكن تخليق أغلب الفيرمونات في المعامل بسهولة. ومن بين الاستخدامات التجارية للفيرمونات استخدامها فِخاخًا للقضاء على الحشرات الضارة. على سبيل المثال، يُباع مركب جابونيليور في الأسواق من أجل اجتذاب الخنافس واصطيادها. لا يتطلَّب الأمر إلا ٢٥ ميكروجرامًا من هذا المركَّب للإمساك بألف خنفساء. استُخدِمت الفيرمونات أيضًا في اجتذاب سوسة جوز القطن والذباب والنمل الأبيض وعث الفاكهة.
fig80
شكل ٧-٦: أمثلة على الفيرمونات.

تفرز النباتات والثدييات فيرمونات كذلك. على سبيل المثال، الأندروستينون عبارة عن فيرمون تفرزه الاستيرويدات الخاصة بالخنازير، يجعل أنثى الخنزير التي تستقبله تتَّخذ وضعية ممارسة الجنس. هذا الفيرمون يُباع في الأسواق على هيئة بخاخ، يرشُّه المزارعون في أنف أنثى الخنزير. وهذا الأمر يُسهِّل من حدوث التخصيب الصناعي. ويُفترَض أن الفيرمونات سريعة المفعول. توجَد أيضًا جاذبات جنسية وفيرمونات مُنبِّهة لدى الحشرات، وهي عبارة عن مواد سريعة التطاير وتتفاعل فوريًّا. تُستخدَم فيرمونات تعقب الأثر من قِبَل النحل والنمل والزنابير والنمل الأبيض في الإشارة إلى مصادر الطعام. هذه الفيرمونات أقل تطايرًا وتدوم لفتراتٍ أطول. تعمل بعض الفيرمونات بمعدَّل أبطأ وتكون لها تأثيراتٌ طويلة الأمد. تُفرز ملكة النحل فيرمون ملكة النحل، الذي يحول دون نموِّ المِبيضَين لدى النحلات العاملة. وبذلك، تنفرد الملكة وحدَها بإنتاج البيض. وإذا ماتت الملكة، فإن عدم وجود هذا الفيرمون لدى النحلات العاملة يدفعها إلى إطعام يرَقات النحل الغذاءَ الملَكي بهدف تنشئة ملكةٍ جديدة.

fig81
شكل ٧-٧: أمثلة على الثيولات الكريهة الرائحة.
الفيرمونات ليست الجزيئات العطرية الوحيدة المُهمة في الطبيعة. على سبيل المثال، تَستخدم الزهورُ الروائح لاجتذاب النحل، بينما تستطيع الرخويات الهرب من نجوم البحر المفترسة عن طريق التعرُّف على رائحتها. على الجانب الآخر، تكتشف المفترسات أماكن فرائسها عن طريق رائحتها. على سبيل المثال، تتعرَّف يرقة عث التفاح على المادة الكيميائية التي تُفرز في قشرة ثمرة التفاح. تعمل بعضُ الروائح الطبيعية كطارداتٍ للحشرات. على سبيل المثال، كشفَ بحث حديث أن العنكبوت غازِل شبكة الحرير الذهبي يُفرز مادةً طاردة للنمل يمكن أن تفيد في تصميم طاردات حشراتٍ جديدة. يُفرز الظربان ثيولات كريهة الرائحة عندما يواجه خطرًا (شكل ٧-٧). ولهذه الثيولات استخداماتٌ تجارية. ولأن الغاز الطبيعي عديم الرائحة، يُضاف إليه ثلاثي بوتيل الثيول لاكتشاف تسريبات الغاز. تتَّسم رائحة هذه المادة الكيميائية بأنها نفَّاذة للغاية حتى إنه لا يُضاف منها إلا جزء واحد فقط لكل ٥٠ مليار جزء من الغاز الطبيعي.

لا شك أن للجزيئات العطرية أهمية تجارية تتمثل في إنتاج العطور والصابون والمنظفات ومعطرات الجو. ويُعَدُّ تصميم العطور فنًّا بقدْر ما هو علم؛ إذ يتضمن مزج جزيئاتٍ عطرية مختلفة لإنتاج رائحة فريدة تختلف تمامًا عن رائحة كل جزيء منفردًا. ولهذا الأمر ما يُماثله في الطبيعة. ترجع رائحة الزهور الطبيعية في الغالب إلى ٢-فينيل الإيثانول، والجيرانيول، والسترونيلول. ولكن تؤثر جزيئات مثل الداماسكون على رائحة كل زهرة بصورة غير مباشرة. يمكن فصل الكثير من الجزيئات العطرية من مصادرها الطبيعية، إلا أن تخليقها عادةً ما يكون أسهل وأكثر حفاظًا على البيئة. على سبيل المثال، بعض الروائح الموجودة في الزهور توجد بكمياتٍ ضئيلة للغاية لدرجة أن الأمر سيتطلَّب زراعة أطنان من الزهور لاستخلاصها.

fig82
شكل ٧-٨: إفراز بطيء لألدهيد عطري طيَّار.
يمكن أيضًا للكيمياء التخليقية أن تُنتج جزيئاتٍ عطرية جديدة. على سبيل المثال، يحتوي عطر «شانيل ٥» على ألدهيدات أليفاتية طويلة السلسلة ذات روائح غير موجودة في الطبيعة. كما يمكن للكيمياء أن تتحكَّم في مدة بقاء الرائحة. على سبيل المثال، الألدهيد السريع التطايُر يتبخر سريعًا. ولكن بمزج الألدهيد مع أمين تَنتُج مجموعةُ إيمين أقل تطايُرًا وتتحلل ببطءٍ في الماء لتُطلِق الألدهيد العطري على فتراتٍ طويلة (شكل ٧-٨).

يمكن أن تُسبِّب بعض المواد الكيميائية المستخدَمة في العطور ومستحضرات التجميل حساسيةً لدى الأشخاص الذين لديهم استعداد لذلك. تشمل هذه المواد الليمونين وطحلب البلوط واليوجينول (الموجود في القرنفل والتوابل). يوجد الليمونين طبيعيًّا في ثمار الحمضيات، وتبيَّن أن تناول ثمرة برتقال على ارتفاعاتٍ شاهقة قد يَستثير الحساسية لدى المتزلِّجين ومُتسلقي الجبال ضد الليمونين الموجود في مستحضرات التجميل. عادةً ما يُصاب سكان أمريكا الشمالية بالتحسُّس من اليوروشيول الموجود في اللَّبْلَاب السام. للأسف، عادةً ما يوجد اليوروشيول في مقاعد المراحيض المطلية بالورنيش في آسيا، وهو أمر قد تكون له عواقب غير محمودة على بعض السياح الأمريكيين.

تتضمن بعض المشروعات البحثية الحالية جزيئاتٍ طيَّارة. على سبيل المثال، قد يكون فهم كيفية «شمِّ» البعوض فرائسَه مفيدًا في مكافحة الأمراض التي يَنقُلها البعوض مثل الملاريا وحمَّى الضنك. يُعَدُّ ثاني أكسيد الكربون أحد أقوى جاذبات البعوض الموجودة، ولكن هذا لا ينفي أن روائح الجسم المُختلفة لها تأثير كذلك. كما أن بعض المواد الكيميائية تُغطي على روائح الجاذبات الكيميائية وتعمل كبديلٍ لمادة الدِّيت الطاردة للبعوض. يجذب العديدُ من النباتات البعوض، ومن ثَمَّ استُخدِمت المواد الكيميائية المسئولة عن ذلك (مثل أكسيد اللينالول) فِخاخًا لاصطياد البعوض. وعوضًا عن ذلك، يمكن زراعة النباتات نفسها التي لها هذه الخصائص حول القرى الأفريقية لجذب البعوض بعيدًا عنها.

أُجريت أبحاث بغرض تصميم مُستشعراتٍ يمكنها التعرُّف على المواد الكيميائية الطيَّارة. يمكن استخدام هذه «الأنوف الإلكترونية» بغرَض اكتشاف تسريبات المواد الكيميائية في المصانع، أو مراقبة جودة الطعام، أو الكشف عن المُخدرات أو المتفجرات. كما طُوِّرت مستشعراتٌ لاكتشاف أماكن الناجين من الزلازل أو الانهيارات الثلجية، أو لتحديد مواقع الجثث والمقابر السرية. كما يمكن استخدام المُستشعرات في تحديد الوقت الفعلي للوفاة؛ فالمُركبات العضوية الطيَّارة التي تنبعث من الجثث تختلف باختلاف مرحلة التحلُّل التي وصلت إليها. كذلك، تُطلق البكتيريا جزئياتٍ طيَّارة، وقد يكون اكتشافها مفيدًا في تحديد السلالة البكتيرية المُسبِّبة للعدوى. وفي حال ثبتت موثوقية ذلك، سيقل الوقت المُستغرَق في تحديد العدوى ويوفر أفضل مضادٍّ بكتيري لعلاجها.

وأخيرًا، قدَّم لوكا تورين في جامعة أولم الألمانية نظريةً جديدة تتعلَّق بالآلية التي تستخدِمها بروتينات مُستقبلات الشمِّ في اكتشاف الجزيئات العطرية. عادةً ما يعتمد تنشيط الجزيء العطري لأيٍّ مِن مُستقبِلات الشمِّ على شكل الجزيء نفسه وتفاعُلات الارتباط الخاصة به. اقترح تورين أن اهتزازات الروابط تؤدي دورًا مهمًّا في هذا الشأن. وقد تُفسِّر نظرية تورين السبب في أن الجزيئات المُختلفة التركيب تكون لها روائح مُتماثلة. على سبيل المثال، كلٌّ من السيانيد والبنزألدهيد لهما رائحة اللوز المر. كما أنها قد تُفسِّر سبب وجود اختلافاتٍ كبيرة في روائح الجزيئات ذات الأشكال المُتماثلة. على الجانب الآخر، أوضح مُنتقدو النظرية أن هناك نحو ٤٠٠ نوع من مُستقبلات الشمِّ لدى البشر، كلٌّ منها عبارة عن بروتين ينشط عند تفاعُله مع جزيء عطري مُعين في عملية إحيائية شديدة التعقيد. ويتولَّى الدماغ بعد ذلك تفسير أنماط الإشارات التي يَستقبلها من هذه التفاعُلات من أجل التعرُّف على الرائحة.

كيمياء التذوق

ترجع حاسة التذوق إلى تفاعل جزيئاتٍ عضوية مع مستقبلات التذوق الموجودة في اللسان. قد يختلف المذاق من مُركبٍ عضوي إلى آخر، ومن ثَمَّ يمكن استخدام هذه الخاصية للمركبات العضوية في صناعة الأغذية بغرَض تحسين النكهات. تُستخدَم العديد من المركبات الطبيعية في هذا الغرض. على سبيل المثال، يُستخدَم الكارفون في صناعة العلكة ومعجون الأسنان بنكهة النعناع لإعطائهما طعم النعناع. تشمل مكسبات الطعم الأخرى المِنتول المستخلص من زيت النعناع، والفانيلين المُستخلص من الفانيليا، والبنزألدهيد المستخلص من اللوز.

عادةً ما يُفترض في مكسبات الطعم المخلَّقة أن تكون مركباتٍ غير طبيعية، ولكن هذا ليس صحيحًا بالضرورة. فالعديد من مكسبات الطعم الطبيعية، مثل الفانيلين، يكون من الأسهل تخليقه في المعامل.

أحد أكبر أسواق مكسبات الطعم المخلَّقة سوق المُحلِّيات الصناعية مثل السكارين والأسبرتام (شكل ٧-٩)، وتبلُغ قيمة هذه السوق خمسة مليارات جنيه إسترليني. قُدِّمت المُحلِّيات الصناعية بوصفها بدائل منخفضة السعرات الحرارية للسكر (السكروز) بغرض التغلب على مشكلتَي السمنة ومرض السكري. تتميز هذه المُحلِّيات الصناعية بأنها أقوى مذاقًا من السكر، ويمكن أن تُعطي المذاق نفسه بتركيزاتٍ أقل، ولكن لا يعني ذلك أنها بالمذاق الحُلو نفسه الذي يُعطيه السكر. كان السكارين أول مُحلٍّ صناعي واستُخدِم أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب نقص السكر. للسكارين مذاق أقوى ثلاثمائة مرة من السكروز. كما اكتُشِفَ السيكلامات في عام ١٩٣٧، وهو يُعطي مذاقًا أفضل عند مزجِه مع السكارين. ثم تبعه الأسبرتام، والسكرالوز، والنيوتيم (المعروف بالعلامة التجارية «نيوتام»). يُعد الأسبرتام من حمضين أمينِيَّين طبيعيَّين (حمض الأسبارتيك والفينيل ألانين)، وهو المُحلِّي الصناعي الأكثر استخدامًا حاليًّا. للأسبرتام مذاقٌ أقوى مائتَي مرة من السكر، ويمكن أن يُعطيَ نكهةً مماثلة للسكروز عند مزجه بمُحلِّياتٍ أخرى.
fig83
شكل ٧-٩: أمثلة على المُحلِّيات الصناعية.

لكلٍّ من السكروز والسكارين والأسبرتام تركيبه المختلف تمامًا عن الآخر، والسبب في كونها جميعًا حلوة المذاق غير معلوم. ولكن تحتوي المركبات الثلاثة على ذرة هيدروجين يمكنها أن تعمل كمانِح للرابطة الهيدروجينية، وذرة أكسجين يمكنها أن تعمل كمستقبِلٍ للرابطة الهيدروجينية، وتفصل بينهما مسافة تُقدَّر بنحو ٣ أنجستروم (٠٫٣ نانومتر). ويُعتقَد أن هذه المجموعات تكوِّن روابط هيدروجينية مُماثلة لمُستقبلات المذاق الحُلو.

fig84
شكل ٧-١٠: مُثلث الحلاوة.
يُعَدُّ «مثلث الحلاوة» امتدادًا لهذه النظرية (شكل ٧-١٠). يحدد المثلث ثلاثة مناطق رئيسية داخل موضع الارتباط في المُستقبِل. تُكوِّن اثنتان من هذه المناطق رابطتَين هيدروجينيتَين، بينما تَكُون المنطقة الثالثة كارهةً للماء وتُكوِّن روابط فان دير فالس. والجزيئات التي يُمكنها التفاعل مع جميع هذه المناطق الثلاث في آنٍ واحد تكون على الأرجح ذات مذاقٍ حُلو.

دارت مناقشاتٌ عامة متنوعة حول سلامة المُحلِّيات الصناعية ومدى أمانها. حُظِر استخدام السيكلامات في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٦٩ بسبب مخاوف تتعلق بآثار مُسرطنة محتملة، ولكن سمحت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية باستخدامه. استمر التشكيك في سلامة السكارين في الفترة ما بين عامَي ١٩٧١ و٢٠٠١ عندما أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أنه آمن للاستخدام. اعتُبر الأسبرتام أيضًا غير آمِن مِن قِبَل بعض مجموعات المستهلكين بناءً على اختباراتِ سُمِّيةٍ غير موثوقة. ومنحت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية الأسبرتام شهادة سلامة صحية في عام ٢٠١٣.

نظرًا إلى الجدل الدائر حول المُحلِّيات الصناعية، بدأت العديد من شركات الأغذية والمشروبات في تصنيع منتجاتٍ تحتوي على مُحلِّيات طبيعية منخفضة السعرات الحرارية. على سبيل المثال، يحتوي منتج «كوكاكولا لايف» على مُحلِّيات طبيعية تُسمَّى جليكوسيدات ستيفيول، تُستخلَص من أوراق إحدى الشجيرات في أمريكا الجنوبية. أدى هذا إلى خفض تركيزات السكر بنسبة ٣٧٪ عن الموجودة في مشروب الكوكاكولا العادي. أكثر مُركب فعَّال في مجموعة جليكوسيدات الستيفيول يُسمى «ريبوديوسايد إيه». ويُضاف إليه مُحلٍّ آخر اسمه الإريثريتول لكي يعطي مذاقًا أقرب إلى مذاق السكروز.

الموجروسيدات مجموعة أخرى من المُحلِّيات الطبيعية تُستخلص من فاكهة الراهب التي تنمو في جنوب شرق آسيا. المُركب الأحلى مذاقًا في هذه المجموعة هو «موجروسايد إيه» أو «إرجوسايد».

اكتُشِفَ أيضًا أن بعض البروتينات النباتية تعمل كمُحلِّياتٍ طبيعية. تشمل هذه البروتينات الثوماتين والبرازين والبنتادين والميراكولين. الميراكولين هو بروتين يُستخلَص من الفاكهة المعجزة، وهي ثمرة توت من نبات ينمو في غرب أفريقيا لها قدرة استثنائية على تحويل مذاق الطعام الحامض إلى المذاق الحُلو. يرتبط الميراكولين بقوة مع مُستقبلات المذاق الحُلو لما يقرب من ساعة كاملة، ولكنه لا يتمكن من تنشيطها. وفي حال تناوُل طعام حامضي المذاق لاذع خلال تلك الفترة، تنخفض درجة الحموضة في الفم، مما يجعل الميراكولين المرتبط بالمستقبلات يُغيِّر شكله. وبذلك، يتمكَّن الميراكولين من تنشيط مستقبلات المذاق الحُلو، ويخفي تمامًا المذاق الحامضي اللاذع الذي تُنتجه عادةً هذه الأطعمة. صُرِّح باستخدام الميراكولين كإحدى المواد المضافة الغذائية في اليابان، ولكن لم يُصرَّح باستخدامه في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

تحدَّدت بنية مستقبلات المذاق الحُلو في عام ٢٠٠١، واتضح أنها تتكوَّن من بروتينَين مرتبطَين عبر جدار الخلية. يُطلَق على دايمر البروتين الذي يرتبط بالسكريات اسم نطاق «خناق الذباب»؛ وذلك بسبب الطريقة التي يغيِّر بها شكله عندما يرتبط بالسكريات. كما اكتُشِفَ وجود مستقبِلات المذاق الحُلو في الأمعاء، حيث تعمل على تنظيم امتصاص السكر وإدخاله إلى مجرى الدم. تستجيب هذه المستقبِلات إلى المُحلِّيات الطبيعية والصناعية على حدٍّ سواء، وقد يفسِّر ذلك السبب في أن المُحلِّيات ذات السعرات الحرارية المنخفضة لا تُجدي في خسارة الوزن. ومن هنا، بدأ التفكير في طريقة بديلة للحمية الغذائية، حيث تُصمَّم جزيئاتٌ لتثبيط مستقبلات المذاق الحُلو.

توجد على الطرف الآخر من مقياس المذاق الجزيئات ذات المذاق المُقزز. لهذه الجزيئات استخداماتٌ تجارية أيضًا. على سبيل المثال، يُضاف مركب بيتركس الذي يناسب اسمه المنتجات المنزلية السامة مثل منظفات المراحيض، لمنع الأطفال من شُربها. كما تُنتج النباتات مواد كيميائية رديئة المذاق لإبعاد الحيوانات والحشرات عنها. ويلعب النيكوتين هذا الدور مع نباتات التبغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥