الطبيعة … تفرض قانونها!
في الصباح الباكر استيقظ الشياطين الستة نشيطِينَ، وتناولوا إفطارًا خفيفًا، ثم حملوا أشياءهم خارجًا.
وكانت هناك زَحَّافتان كبيرتان تجرُّ كلٌّ منها عشرة كلاب على شكل مروحة، ورصَّ الشياطين أشياءهم مُوزَّعة على الزَّحَّافتَينِ، ثم قسَّمُوا أنفسهم إلى مجموعتَينِ، «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» في إحدى الزَّحَّافتَينِ، والأخرى بها بقية الشياطين و«نانو».
وألهب «نانو» كلاب زَحَّافته بسَوْط طويل معه؛ فاندفعَتِ الكلاب وهي تعوي، وتجر الزَّحَّافة بأقصى سرعتها، وخلفها الزَّحَّافة الثانية، وظهرَتْ على البُعد جبال هائلة من الجليد، تحت ضوء يسير، ظَهَرَ في الأفق مثل ضوء الفجر الذي صبغ السماء بلون فضي خافِت، بالرغم من أنَّ الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحًا.
وقرابة الظهر، بدأ شروق الشمس، وظهرَتْ صفراءَ شاحبةً، كأنَّها ترتجف بردًا بدون أن تشع حرارة، وبعد أقل من ساعتَينِ بدأَتْ في الغروب، والعودة من حيثُ أتت بسرعة، كأنَّما أنهكَتْها رحلتها القصيرة.
وبدأَتِ الكلاب تُبطئ في عَدْوِها السريع، ولاحظَتْ «إلهام» ذلك في الزَّحَّافة الثانية، وقالت: لقد تعِبَتِ الكلاب، ويبدو أنَّها جاعت.
أحمد: لا تخْشِي شيئًا على هذه الكلاب؛ فباستطاعتها العَدْوُ لوقت طويل، ومَهْمَا كانت درجة جوعها، فهي لا تسقط على الأرض إعياءً إلَّا متى أوشكت على الهلاك.
إلهام: إنَّها كلاب عجيبة حقًّا! لقد لاحظتُ أنَّها لا تنبح، ولكنَّها تعوي فقط.
أحمد: هذا صحيح فهذه الكلاب من سلالة ذئب هذه المناطق، ولذلك فهي تعوي مثله، وإن كان يرجع إليها الفضل في بقاء سكان هذه المنطقة الباردة أحياء؛ فلولاها ما استطاعوا التجوُّل لمسافات بعيدة أو الصيد … إنَّ رجل «الإسكيمو» في هذه البلاد يُعامِل كلابه مثل أبنائه تمامًا.
وبعد قليل، أوقف «نانو» زَحَّافته، فتبعته الزَّحَّافة الثانية، وقال «نانو»: سنحصل على قليل من الراحة للكلاب، ثم نواصل مسيرتنا.
وكشف عن جزء في مؤخرة زَحَّافته، وكان يحتوي على اللحم المُجمَّد، ألقاه إلى كلابه فانقضَّتْ عليها تنهشها في توحُّش.
وراقب «نانو» كلابه، ثم قال: علينا أن نبحث عن طعامٍ وصيدٍ.
عثمان: ولكننا لسنا بحاجة للطعام، فإن لدينا الكثير من المُعلَّبات وشرائح اللحم و…
وفي تلك اللحظة وقعت عيناه على علبة عصير فاكهة، فتحَتْها «ريما»، وكان محتواها مُجمَّدًا، مثل الحجر، وقال «عثمان»: يبدو أنَّني نسيتُ طبيعة هذه المنطقة.
نانو: علينا منذ الآن أن نحصل على طعامنا أولًا بأول … ليس هذا فقط، بل وعلى طعام الكلاب أيضًا، وإذا ما نقصَتْ مَئُونتنا فسوف نُطعم الكلاب أولًا، ثم نأكل بعدها.
ترامق الشياطين في صمت، كان «نانو» محقًّا في قوله؛ فإذا نفقَتِ الكلاب كان معنى ذلك موتهم أيضًا وسط الجليد اللانهائي.
وهمس «عثمان» ﻟ «أحمد»: لم يكن ينقصنا غير هذا أيضًا، أن نتحول إلى صيادِينَ بدائيِّينَ، إنَّنا حتى لا نملك بنادق صيد.
قال «أحمد» باسمًا: لماذا لا تحاول التمتُّع بالتجربة كما هي؟ فلنكن مثل الرواد الأوائل الذين جابوا هذه المناطق، وكان لهم فضل اكتشافها، ولا تنسَ أن «نانو» يمتلك بندقية.
وأخرج «نانو» بندقيته، وكانت من طراز قديم، فقال «عثمان» مُحتَجًّا: إنها تشبه البنادق التي كان يستخدمها «نابليون» في حروبه، وأظنُّ أنَّه قبل أنْ يقوم «نانو» بتعميرها وإطلاقها على الشيء الذي سيَصِيده، سيكون ذلك الشيء قد صار على مسافة مائة كيلومتر.
ابتسم «أحمد» ولم يعلِّق. وقال «نانو»: فلنحاول أن نصيد أحد ثيران المسك التي تعيش في هذا المكان.
وأشار إلى نقطة قريبة، وقال: هذه هي قطعانها، إنَّنا حسنوا الحظ لأنَّها قريبة، هيا بنا نقترب منها، ولكن حاذروا فهي خَطِرة جدًّا.
مصباح: وما الداعي للاقتراب منها ومعك هذه البندقية؛ إنها لا تبعد عنَّا أكثر من خمسمائة متر.
قاطعَهُ «نانو» قائلًا: إنَّك تظنُّ ذلك؛ إنَّ هذه الثيران تبعد عنا بما لا يقل عن عشرة كيلومترات، ولكنَّ السراب الثلجي يجعلك تظنُّ أنَّها قريبة جدًّا.
ترامق الشياطين في دهشة، كانت الثيران المتوحشة ذات القرنَينِ الكبيرَينِ والشَّعر الكثيف الحاد تبدو قريبة جدًّا، حتى إنَّ تفاصيلها كانت واضحة تمامًا للشياطين، في حين أنَّها كانت تبعد عشرة كيلومترات على الأقل.
قال «أحمد»: سآتي معك.
عثمان: وأنا كذلك.
تقدمهما «نانو» وهو يقول: حاذِرَا من إصدار أي صوت، وإلَّا هربَتِ الثيران؛ فإنَّ الصوت هنا ينتقل لمسافات طويلة، قد تصل إلى عشرين كيلومترًا، وبدرجة وضوح عالية جدًّا.
وأشار «نانو» إلى بقية الشياطين قائلًا: فلتحاولوا تهدئة الكلاب حتى لا تنبح، فتسمع أصواتَها ثيرانُ المسك وتهرب.
واندفع «نانو» وخلفه «أحمد» و«عثمان» وهما مُمسِكان بسِكِّينتَينِ طويلتَينِ، وأخذوا يقتربون ثلاثتهم في حذَر من قطعان الثيران.
وأخيرًا، صاروا على مدى قريب يسمح بإطلاق الرَّصاص، وصوَّب «نانو» بندقيته، وأطلقها نحو أقرب الثيران فسقط على الأرض، واندفعَتْ بقية الثيران هاربة بسبب صوت إطلاق الرَّصاص.
وصاح «نانو»: فلنسرع بجَرِّ الثور إلى الزَّحَّافتين قبل أن يتجمد إلى كتلة ثلجية.
واندفعوا ثلاثتهم نحو الثور، وأخرج «نانو» حزامًا عريضًا ربط به الثور، ثم اندفع يجره مع «أحمد» و«عثمان» باتجاه بقية الشياطين.
وفي مهارة وسرعة أخذ «نانو» يقوم بسلخ الثور، وإلقاء محتويات أمعائه وشعره إلى كلابه التي انقضَّتْ عليها، ولم تُبقِ منها شيئًا، أما اللحم فقام «نانو» بتقطيعه، وحشوه في لفائف عديدة من فرو جلد الذئب حتى لا يجمد، ولم يترك «نانو» شيئًا من الثور، وحتى قرنيه وضعهما في الزَّحَّافة وهو يقول: سوف يفيدا في شيء ما حتمًا.
وأحضرَتْ «إلهام» و«ريما» بعض الأخشاب التي وجدتاها نابتة هنا وهناك على هيئة شجيرات قصيرة، وأشعل «نانو» فيها النار، وقام بِشَيِّ جزء من ثور المسك تناولوه جميعًا، وكان لحمه شهيًّا لذيذًا.
ومرةً أخرى، واصلوا سيرهم، وقد استعادت الكلاب نشاطها الفائق، وانهمك «نانو» في حلاقة ذقنه النابتة الصغيرة بسكينته الطويلة في براعة، بالرغم من اهتزاز الزَّحَّافة السريع، فقالت له «ريما» باسمةً: ألا يُمكن تأجيل الحلاقة إلى ما بعد توقُّفنا؛ فقد تجرح نفسك بالسكين الطويلة.
أجابها «نانو»: إنَّ رجل «الإسكيمو» الماهر يقوم بكل أعماله وهو فوق زحَّافته؛ فهو يقضي فيها أكثر مما يقضيه في بيته، هذا بالإضافة إلى أنَّه من الصعب بل من المستحيل أنَّ يترك رجل «الإسكيمو» شاربه أو لحيته ينموان؛ لأنَّ بخار تنفسه يتجمد فوقهما، ويتحول إلى ثلج صلب يستحيل إزالته ما لم تُزَل اللحية والشارب نفسهما.
تبادلَتْ «ريما» و«مصباح» و«فهد» نظرةً مندهشةً، وتساءلوا في أنفسهم: «تُرى هل لهذا السبب كان اختيار رقم «صفر» ﻟ «أحمد» و«عثمان» و«مصباح» و«فهد» ليقوموا بهذه المهمة، لأنَّهم بلا شوارب أو لحية؟»
وقال «مصباح»: يبدو أنَّ لهذه الأماكن قانونها، وعلينا إطاعته بلا مناقشة.
نانو: عاشت قبائل «الإسكيمو» في هذا المكان، لم يكن لنا قانوننا الخاص، بل كان علينا أن نتبع قانون الطبيعة، ونتآلف معه من أجل البقاء أحياء، فمَن يتحدى الطبيعة هنا أو يعاندها لا يعيش طويلًا.
ساد الصمتُ خلال الدقائق التالية، ونشر «أحمد» خرائطه وأخذ يتفحصها، وتأمل المكان حوله، وقال: إنَّنا نسير بسرعة عشرة كيلومترات في الساعة.
إلهام: من العجيب أنَّنا لم نصادف أيَّ إنسان منذ بدء ترحالنا!
أحمد: لقد ودَّعنا آخِر حدود «الإسكيمو»، وهم عادةً لا يحبون التجوُّل في محيط دائرة القطب الشمالي، فيكفيهم ما هم فيه من متاعب.
وفجأةً، شهقت «إلهام» عندما ظهر فجأةً، وعلى مسافة قريبة، دُبٌّ ضخم، كان طوله يزيد على الثلاثة أمتار، ولا يقل وزنه عن نصف طن، وقد ظهر بلون أبيض ناصع، عدا مقدمة أنفه السوداء وعينَيْه الصغيرتَينِ السوداوَينِ.
ابتسم «أحمد» وقال: لا تخشين شيئًا يا «إلهام»؛ فهذا الدُّبُّ يبعد عنَّا ما لا يقل عن خمسة كيلومترات، ولكنَّ السراب يجعلنا نظنُّه قريبًا جدًّا منَّا، إنَّه هنا مَلِك هذه الأصقاع، ولكنَّه لا يهاجم الإنسان إلَّا إذا بادره الإنسان بالهجوم، أو كان جائعًا جدًّا، ووقتها فإنه لا يتورع عن القيام بأي شيء للحصول على الطعام، ولو كان في ذلك الشيء هلاكه، كما أنَّه عادةً لا يتواجد إلا في الأماكن التي تتجمع فيها عجول البحر.
ضحكَتْ «إلهام» قائلةً: إنَّك تبدو كما لو كنتَ تقرأ من كتابٍ عن حياة هذا الدُّبِّ.
أحمد: إن «نانوك» يستحق ذلك فهو مخلوق ماهر جدًّا؛ وعندما يبدأ في مطاردة فريسة له فقد يتتبعها لعدة أيام بصبرٍ لا نهاية له، وضربة واحدة من يده الهائلة ومخالبه كفيلة بقتل عَدُوِّه أيًّا كان حجمه … ومن العجيب أن الدُّب القطبي يُعتبَر من الناحية العلمية من الثدييات البحرية، وباستطاعته أن يسبح خمسمائة ميل مرةً واحدة قبل أن يصيبه الوهن.
راقبَتْ «إلهام» الدُّب الضخم بدهشةٍ وهو يغيب عن بصرها، وتأمَّلَتِ المكان حولها، كان الظلام يُحيط بالمكان، وليس هناك غير أصوات الكلاب وهي تعوي منطلِقةً بأقصى سرعتها، ولم تكن الكلاب بحاجة إلى قيادة، وبدَتْ كأنَّها تعرف وُجهتها جيدًا، وكل زَحَّافة لها قائد من الكلاب يتقدم بقيتها، ويُعتبر مرشدًا لزملائه، وكانت هناك مسافة تصل إلى كيلومتر تفصل بين الزَّحَّافتَينِ، وأغمض «أحمد» عينَيهِ محاولًا التماس الدفء، وسبقه «عثمان» في ذلك، أما «إلهام» فظلَّتْ مستيقظةً؛ كان بداخلها إحساس لا تدري طبيعته، إحساس بأنَّ هناك خطرًا ما يحيط بها ويحوم فوقها.
وراقبَتْ «إلهام» السماء فوقها وهي تتساءل، وقلبها يدق بعنف: «تُرى هل سيظهر لها طبق طائر فجأةً، لقد جاءوا سعيًا خلف تلك الأطباق الطائرة، ولكنَّها حتى الآن تبدو وكأنَّما لا أثر لها، فهل يمكن أنْ تكون الجهات التي رصدَتْ مكان انطلاق تلك الأطباق الطائرة قد أخطأت في تحديد مكانها؟ وهل تسكن هذه الأطباق مكانًا آخَر في العالم؟ أو لعل مخلوقات هذه الأطباق يعيشون في ذلك المكان المقفر الجليدي، بل وربما أيضًا كانوا يراقبون الشياطين انتظارًا لظهورهم في اللحظة المناسبة؟»
وزاد توتُّر «إلهام» بشدةٍ، حتى إنَّها أوشكت على إيقاظ «أحمد» و«عثمان»، كانت حاسَّتها السادسة تعمل بقوة، وإحساسها بالخطر يتزايد ويشتد، وفجأةً ارتجَّتِ الزَّحَّافة بشدةٍ، كأنَّما امتدَّتْ يدٌ رهيبة شديدة القوة وأمسكَتْها من الخلف، فسقطَتِ الكلاب على الأرض وهي تعوي في جنون، وانقلبَتِ الزَّحَّافة وتبعثر ما فيها، وسقطَتْ «إلهام» فوق الجليد، وتدحرجَتْ مُبتعِدةً، وقد ساعد من سرعة سقوطها نعومة الجليد المصقول كالرخام.
وحاولَتْ «إلهام» أن تتشبث بأي شيء وهي تسقط بعيدًا بعيدًا بلا فائدة، وكان هناك شيء يسقط خلفها متدحرِجًا بقوة، وتمنَّتْ «إلهام» لو كان «أحمد» أو «عثمان».
وأخيرًا تشبثَتْ بقوة في نتوء جليديٍّ بارزٍ، واستقرَّ الشيء المتدحرِج على مسافة قريبة منها، وصرخَتْ «إلهام» وهي متعلِّقة بالنتوء الجليدي: أنقِذني يا «أحمد»!
تحرك الشيء المتكوِّر بجوارها في الظلام، وظهر جسمه ضخمًا عملاقًا، وحملقَتْ فيه «إلهام» ذاهلةً، كان دُبًّا من نوع «النانوك»، وكان من الواضح أنَّه هو الذي اعترض الزَّحَّافة فأوقَفَها بقوة، وقلَبَها بحثًا عن صيد.
وزمجرَ الدُّب في توحُّش، واندفع نحو «إلهام» بمخالبه الرهيبة، والجوع القاتل يطلُّ من عينَيهِ.