معركة … مع دبِّ «النانوك»!
احتبست أنفاس «إلهام» وهي تشاهد الدُّب الرهيب يتقدَّم نحوها، ولم يكن معها ما تُدافع به عن نفسها، وليسَتْ هناك أية نجدة قريبة، بل لعل بقية الشياطين لا يدرون ما الذي حدث لها.
ولم يكن أمام «إلهام» ما تفعله غير شيء واحد كان سيحملها بعيدًا بعيدًا، ولكن كان فيه الأمل بنجاتها، وتركت «إلهام» نفسها تسقط لأسفل، وتواصل التدحرج فوق الثلج الناعم بسرعة، ولكن الدُّب الجائع ألقى بنفسه خلفها.
وتذكَّرَت «إلهام» قول «أحمد» بأنَّ ذلك الدُّب لا يترك فريسته أبدًا ولو استمر في مطاردتها أيامًا عديدة، ومرةً أخرى تشبَّثَتْ «إلهام» بنتوء ثلجي بارز، وأسرعت تنهض وهي تحسُّ بالآلام في كل جسمها، وكان عليها أن تحاذر من الإصابات لأنَّ الدم الذي سيخرج من جروحها سيتجمد حالما يمسُّ الهواء.
وأسرعَتْ «إلهام» تعْدُو فوق الجليد، واندفع الدُّب القطبي خلفها بخطوات واسعة وهو يطلق زئيرًا عاليًا، وقصرت المسافة بينهما، وأخيرًا لم يَعُد ﻟ «إلهام» قدرة على العْدُو فوق الجليد الزَّلِق، وتعثَّرَتْ وسقطَتْ فوق الأرض وهي تلهث.
واقترب منها الدُّب وقد أحسَّ بأنَّ فريسته صارت في متناول يدَيهِ، وامتدَّتْ مخالب الدُّب نحو «إلهام» وأطلَّ الموت من عينَيهِ.
ومرةً أخرى، استعادَتْ «إلهام» قوتها وحيويتها، وملأَتْ قبضةَ يدها المغطاة بالفراء بكتلة ثلجية صلبة، وقذفت بها الدُّب في وجهه، وأصابَتْ قذيفة الثلج هدفها بقوة، وعوى الدُّب وتفجَّرت الدماء من أنفه وأصابه الجنون، ومرةً أخرى بدأت المطاردة، «إلهام» تجري والدُّب خلفها.
وكادت «إلهام» تصرخ مستنجدة، ولكن انهارَتْ قواها، ولم تَعُدْ بها قوة حتى على الصراخ، ومرةً أخرى قَصُرت المسافة بين الصياد والطريدة، وأخيرًا قفز الدُّب نحو «إلهام» التي أغمضَتْ عينَيْها، وسقطَتْ فوق الأرض وقد استسلمت لقدرها.
ولكنْ، وقبل أن يَلمسَ الدُّب «إلهام»، شقَّ شيءٌ الهواءَ واستقرَّ في قلبه تمامًا، وسقط الدُّب على الأرض وهو يتلوى قبل أن تسكن حركته ويموت.
ولم تصدِّقْ «إلهام» عينَيْها؛ كان الدُّب راقدًا بجوارها ميتًا، وقد استقرَّتْ سكينٌ ذات نصل طويل في صدره.
وظهر «أحمد» كأنما وُلِدَ من قلب الظلام في اللحظة المناسبة تمامًا، وكانت السكين التي مات بها الدُّب سكينه.
وأخفَتْ «إلهام» وجهها بيدَيْها وأجهشَتْ بالبكاء، فقال لها «أحمد» باسمًا: لا دموع هنا وإلا فسوف تتحول إلى قطرات جليدية في عينَيْكِ.
نظرت «إلهام» إلى «أحمد» بشكر عميق، كانت لا تدري كيف تُعبِّرُ عن مشاعرها نحوه؛ إنه دائمًا يظهر في اللحظة المناسبة لإنقاذها، كأنَّه ملاكها الحارس.
قال «أحمد» بعد أن انقلبت الزَّحَّافة: شاهدتكِ تسقُطِينَ بعيدًا، ولمحتُ فوق الجليد آثار أقدام دُب ضخم، ففهمتُ وأسرعتُ خلفَكِ.
وظهر بقية الشياطين و«نانو»، وعندما شاهدوا الدُّب القتيل فهموا ما حدث، وقال «عثمان» متعجبًا: لقد قام هذا الدُّب بمطاردتنا عشرات الكيلومترات منذ أن لمحنا ظُهرًا، ولا بد أنَّه اتخذ طريقًا مختصرًا للوصول إلينا.
نانو: هذه هي عادة الدببة هنا، ولحسن الحظِّ؛ فقد حصلنا على وجبة لحمٍ ضخمةٍ بلا مشقة.
صاحَتْ «إلهام» محتجةً: ماذا؟ هل تريدنا أن نأكل من لحم هذا الدُّب المتوحش؟
نانو: هذا هو قانون الحياة هنا، إما أن تأكلي أو أن تكوني أنتِ الفريسة.
قال «أحمد»: «نانو» على حق، فلنحمل هذا الدُّب ليكون طعامًا للكلاب على الأقل.
وتعاونوا جميعًا في جرِّ الدُّب القتيل، وما أن لمحَتْه الكلاب حتى أصابها السعار، ولم تنتظر قيام «نانو» بسَلْخِه، بل قامَتْ بالمهمة خير قيام، ولم تترك من الدُّب غير هيكله العظمي، ثم ارتمَتْ فوق الجليد في كسل.
قال «نانو»: لقد أُتْخِمَتِ الكلاب بالطعام، ولن نستطيع العَدْو، وأرى أن نقضي ليلتنا في هذا المكان، فلننصب الخيام.
وتعاونوا جميعًا في نصب خيمة كبيرة أشعلوا فيها قليلًا من النار وقد التفوا حولها.
وأتى «نانو» بوعاء به بعضٌ من زيتِ شحمِ عجلِ البحر، وأشعل النار في بعض طحالب الرنة الجافة المغموسة في زيت عجل البحر، فصارَتْ مثل شمعة لطيفة.
وفجأةً، ارتجفَتِ الخيمة الكبيرة، وبدا كأنَّها موشكة على التمزُّق، فقال «نانو» في قلق: إنَّ هناك عاصفة في الطريق.
وألقى نظرةً إلى الأفق المعتم بلون كالحٍ، وقال: إنَّها عاصفةٌ قويةٌ ستقتلع كل شيء من مكانه ما لم نحتمِ منها.
أحمد: فلنبحث عن مكان نلتجئ إليه.
نانو: لن نجد مكانًا يأوينا هنا، فلنسرع ببناء بيت ثلجي.
ترامق الشياطين في دهشة، فلم تكن لهم أي خبرة في بناء البيوت الثلجية، ولكنَّ «نانو» اندفع إلى الخارج، وبسِكِّينِه رسم دائرةً واسعةً فوق الجليد، واندفع نحو كتلة جليدية بارزة، وأخذ ينحت فيها بسِكِّينِه حتى فصل كتلةً جليديةً مستطيلة الشكل، مستوية الحواف، ووضعها فوق أحد أركان الدائرة، وأسرع يقتطع غيرها ويرصُّها بجوارها، فتلتصق بالأولى بلا مشقة.
واندفع الشياطين يساعدون «نانو»، وفي دقائق اكتمل بناء البيت الثلجي، في الوقت الذي تحولت فيه الرياح إلى عاصفة رهيبة.
وأسرع الشياطين ينقلون أشياءهم إلى داخل البيت الثلجي حتى لا تطيح بها العاصفة، ثم اندفعوا بسرعة إلى داخل البيت الجليدي عَبْر نفق صغير يؤدي إليه، ويمثل طريق الدخول والخروج الوحيد له.
وتساءلت «إلهام» بقلق شديد: هل ستترك الكلاب تواجه العاصفة في الخارج؟ سوف تموت من الصقيع.
نانو: لا تخشين شيئًا على الكلاب؛ فإنها تعرف كيف تحمي نفسها بالغريزة.
وأعاد «نانو» إيقاد النار داخل البيت الثلجي وهو يقول: إنَّ هذا المنزل الثلجي — في العادة — أدفأ كثيرًا من الطقس بالخارج؛ لأنَّ جدرانه تعمل كعازل ضد البرودة في الخارج، وعندما يخرج رجل «الإسكيمو» للصيد في الشتاء، فإنَّه يلجأ إلى صُنع مثل هذه البيوت الثلجية ليحتمي فيها من العاصفة، وعليه أن يكون ماهرًا أو سريعًا في تشييدها، وإلَّا أطاحت به العاصفة قبل إتمام بنائه.
واشتد صوت العاصفة في الخارج، وتعالى عُواء الكلاب بشدة قبل أن تسكن تمامًا ويخفت صوتها، وانقضت ساعات قبل أن تسكن العاصفة ويعود السكون، وفتحت «إلهام» عينَيْها؛ كان النوم قد استغرقها أثناء العاصفة، فقد كانت مُتعَبة بشدة بعد مطاردة الدُّب لها، وكان الباقون نائمِينَ أيضًا.
وأزاحت «إلهام» اللوح الذي يسد نفق البيت الجليدي، وزحفَتْ خارجًا، كان نور الصباح الشاحب ينير السماء بلون غامض ساحر، وكانت الزَّحَّافتان أمام البيت في مكانهما، ولكنَّهما كان يعلوهما الثلج والجليد.
وألقَتْ «إلهام» نظرةً إلى كلاب الزَّحَّافتَينِ، فشاهدتهم وقد ارتصوا جميعًا في شكل دائرة، رءوسهم للداخل، وبقية أجسامهم للخارج، ملتمسِينَ الدفء من تواجُدِهم بجوار بعضهم، وتنفُّسِهم الدافئ، على حين كان شعرهم الطويل يُشكِّل أفضل حماية لهم من البرد والصقيع.
تبلَّلَتْ عَيْنَا «إلهام» بالدموع، ورفعَتْ بصرها إلى السماء، كأنها تُسبِّح بقوة الخالق العظيم الذي بثَّ الغريزة في نفوس أقل المخلوقات شأنًا، وزوَّدَها بما يتيح لها البقاء في أقسى الظروف قسوةً.
ونهض الباقون من نومهم. واستعادت الكلاب نشاطها، وبعد وجبة خفيفة بدأت الزَّحَّافتان في الانطلاق مرة أخرى، بعد أن عُبِّئَتْ بأشياء الشياطين.
وأشرقت الشمس، ثم غابت بدون أن يدفأ الجو أبدًا، فبسبب ميل الأرض جهة القطبَينِ؛ فإن الشمس تشرق عليهما في اتجاه مائل، فتصل أشعتها ضعيفة واهية، بعكس ما يحدث بالقرب من خط الاستواء عندما تكون الشمس عمودية على الأرض، فتصل أشعتها إليها عمودية حامية قاسية.
وبعد قليل، بدأت تلمع في الأفق أضواء غريبة، مزيج من الأضواء ذات ألوان وردية وصفراء وخضراء، كأنَّما سكبَتْ تلك الألوان في صفحة السماء بكميات هائلة، فأحالت سوادها إلى ألوان ملتمعة بهيجة غريبة.
قال «نانو» شارحًا: هذه هي أضواء الشفق القطبية، المسماة «أورورا استراليس» وهو ناتج عن تفريغ كهربي من عدد لا نهائي من دقائق الثلج التي يحتويها الجو، فيتحول لونها إلى هذا المزيج الرائع من الألوان.
وبدأت أضواء الشفق تخفت تدريجيًّا، حتى أظلمت السماء تمامًا، وبعد راحة قصيرة تناولت خلالها الكلاب طعام الغذاء ما تبقى من ثور المسك، عاودت جرَّها للزَّحَّافتَينِ.
وأخيرًا أوقف «نانو» الزَّحَّافتَينِ، واختار بقعةً يحميها جبل جليدي ليصد عنهم العواصف، وبدأ في بناء بيت جليدي، وأظهر الشياطين مهارةً أكثر من المرة السابقة في بنائه، فقال «نانو» ضاحكًا: إنكم تتقدمون سريعًا.
وبعد وجبة خفيفة استلقوا فوق فراء الثعالب بداخل البيت الجليدي … وكعادة «إلهام» فقد كانت أول مَن استيقظ في صباح اليوم التالي، وكانت تحسُّ ببهجة ونشاط غير عاديَّينِ.
وزحفَتْ خارجةً من نفق البيت الثلجي، وما إن وقع بصرها على المشهد الرهيب أمامها حتى صرخَتْ في فزع.
فلم تكن لكلاب الهسكي أي أثر في مكانها فوق الجليد، وإنَّما كانت هناك بقايا سوداء لرماد محترق لها، كأنما تعرَّضَتِ الكلاب لأشعة حارقة هائلة، قضَتْ عليها، وحوَّلَتْها إلى رماد في غمضة عين.