في حضرة الرئيس١
ملء السمع، ملء القلب، ملء البصر. لو حاول بكل جهده ألا يكون رجلًا عظيمًا؛ ما استطاع، وهيهات لامرئ أن يملك عن نفسه ما شاء لها الله! وقد سوى الله له هذه العظمة من يوم مدرجه، فكان طالبًا عظيمًا، وكان مِدْرَهًا عظيمًا، وكان قاضيًا عظيمًا، ثم تناهت إليه زعامة أمة، فهو فيها ملء السهل والجبل.
بحسبك أن تراه لتعرف أنه سعد، ولو لم يومئ إليك أحد بأنه سعد: وكيف يختلط عليك أمره وهذه يد القدرة قد دلت عليه بدلائل تنبئك بأنه، وإن كان من الناس، إلا أنه أعظم الناس.
بسطة في العلم والجسم، بسطة في العقل والحلم، وعزم تتزايل الجبال دون أن يتزلزل، ويقين تتحول الأرض عن مدارها ولا يتحول، ومنطق يصول في الجلَّى حتى لتحسبها الجحافل قد تداكت بسيوفها وعواليها، ويلطف في السمر حتى لتتمثل أسراب الكواعب، وسوست حليها، وتضوعت منها غواليها.
وما إن رأيت ولا سمعت برجل فسح الله تعالى له في البيان، وأمكنه من نواصي الحجة، كما فسح لسعد ومكن لسعد. ولقد تتقدم لمباراته في الأمر تظن أنك قد بلغت منه الغاية، ووقعت على الصميم، وتمنعت منه بالحصن القوي، فما هو إلا أن يرسل عليك الحجة حتى ترى أنه ملك الرأي عليك من جميع أقطارك، وإنك سرعان ما وقعت أسيرًا في يديه تتقلب فيهما تقلبًا، وهيهات لك الخلاص إلا بأن تنزل في أمرك على الإذعان والتسليم!
وإنه ليقبل عليك بكل لطفه حتى يفرخ روعك، ويفسح لك في جوانب القول لتقول، وإنه ليباريك في منزعك، ويدارجك في حديثك، إلى أن يرسلك على سجيتك ويسترسل معك، حتى إذا اطمأننت إليه، وظننت أنك في مساجلة رجل مثلك، خانته عبقريته، فوثب به ذهنه إلى ما لا يتعلق به ذهنك، فإذا أنت قد طرت كل مطير، وإذا الطبيعة تأبى برغمك ورغمه إلا أن تشعرك أنك في حضرة سعد زغلول!
يا لله من هذا الرجل! وإنه ليعرض في الأمر فيقول فيه مقالًا، وإنك لتقدر له بادئ الرأي غاية ما تعاهد الناس من حجة، وأقصى ما تعارفوا من دليل، فإذا هو قد وقع في تدليله على ما لم تقع عليه ظنون الناس، وارتفع إلى ما لم تتعلق به أذهانهم، ففتح في المنطق فتحًا جديدًا وأتى بما يبهر ويروع، وكيف لسعد ألا يرتفع على مذهب حجة الناس، وقد رفعه الله على الناس؟
وسعد وافر الشعور بعظمته، مزدحم الشعور بأنه إنما يتحدث على آمال أمة، فهو مهما بارى المجلس في فنون أحاديثه، ومهما تدلى به السمر إلى تلك الأسباب الدائرة بين الناس، يرفه بذاك عن نفسه وعن صحبه، يطفر الفينة بعد الفينة إلى حديث الوطن، فيشك فيه معنى جليلًا، ثم يعود فيصيب ما شاء الله من حديث القوم. أعلمت أن سعدًا لا يصلح إلا للوطن، وأن الوطن لا يصلح إلا بسعد؟
وبعد، فإذا أردت أن تصف للناس سعدًا، فلن تستطيع أن تصفه بأبرع من لفظة «سعد»، فقد جمعت من وجوه المعاني ما لا يبلغه الكلام، وإن قدرته العقول وتعلقت به الأفهام.