فكري أباظة

متكور الوجه، أخيف العينين في ضيق محاجر، مقرون الحاجبين، كأنما شق عن فمه بعد أن استوى خلقه، متوافر اللحم في غير بدونة بينة، ولو قد أطلق — مع قصره — للشحم العنان لتمت عليه نعمة الله كلها! ولو رأيته في إخوته لحسبته بعض تلك النباتات التي تخرج وحدها فلم يتعهدها منجل البستاني بالتسوية والتشذيب!

وفكري، على هذا! على هذا كله! يكاد من خفة الروح يطير، ولعل مما يساعده على هذا «الطيران» شكله «البالوني» الخفيف! حلو النفس، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع «النكتة»، لو هيئ لك أن تجلس إليه عشرين سنة ما أحسست ضجرًا ولا سأمًا، يسرك حتى في غضبه وحتى في خصامه! وإن هذه الطرف البديعة التي يطالع الجمهور بها في الصحف لقطع من نفسه الفنانة اللعوب يرسلها على القرطاس إرسالًا في غير كلفة ولا مطاولة ولا عناء، ولعلها بهذا وحده تشيع في الأنفس كل ما تجد لها من أريحية ولذة وطرب.

وهو ذكي متعلم، تام الاستعداد، على أنه صرف كثيرًا من هذا إلى تمرين تلك الموهبة العظيمة فيه، حتى أدركت كل هذا الإدراك، وحتى استأثر بهذا الفن البديع من البيان إن لم يكن قد خلقه في بلاد العربية خلقًا!

وأخشى ألا يعجب هذا الكلام الأساتذة: علام سلامة، ومصطفى صادق الرافعي، ومهدي خليل، وصادق عنبر، وأضرابهم من أصحاب اللغة. ولا أقول لهم إن لغتكم لا تتسع لهذا الضرب من «النكتة» وأسباب التظرف، ولكني أقول لهم: إذا أبيتم ألا يتندر الناس إلا بالفصيح الصحيح، فعليكم أولًا بتحفيظ الأمة كلها المعلقات السبع، والملحمات السبع، والمذهبات السبع، والمنتقيات السبع … إلخ، إلى استظهار الكامل للمبرد، والأمالي للقالي، وصحاح الجوهري، ومخصص ابن سيده، والأساس للزمخشري … إلخ إلخ! وأنا زعيم لكم بأن الناس لن يعودوا يسمعون في أعراس «أولاد البلد» في خلل الغناء في «قافية أسماء الشوارع» مثلًا: اللي على جتتك! اشمعنى؟ الضرب لحمر! بل سيسمعون بدلها إن شاء الله: هذا البادي على جُثمانك! ما بالُه؟ من أثر المَشْق بالسياط!

figure
قبل ما يلعب! …

وعلى ذلك، فقد حق على هؤلاء وأمثالهم أن يطلقوا للناس حرية القول والكتابة في طرفهم وسائر حاجاتهم حتى يتهيأ للأمة أن تستحيل كلها «شناقطة» و«حماميز فتوح الله»، بإذن الله!

نعم، لقد «تخصص» الأستاذ فكري أباظة في هذا النوع من البديع وبرع فيه أيما براعة، وهذا اسمه يرن به باعة الصحف صباح كل يوم وظهره ومساءه، ولو اجتمع لامرئ في بلاد الغرب هذا «الفن» إلى هذه الشهرة لخرج في أصحاب الملايين، ولكننا ما زلنا في طريق تقدير الفنون، على أننا كنا نتهزأ بها وبأهلها من عهد قريب!

وإذا كان الفن أجدى عليه شيئًا فقد أجدى عليه حقًّا عضوية مجلس النواب، وذلك الحظ العظيم. وعلى ذكر البرلمان أهمس في أذن صديقي الأستاذ فكري بكلمة صادق مخلص: اعلم يا عزيزي، وفقك الله، أن وسائل النجاح في شيء لا تصلح دائمًا وسائل للنجاح في شيء آخر، فإذا كان كل ما أعده الأستاذ فكري للبرلمان هو نفس ما يعده للصحف بلا زيادة ولا نقصان، فأرجو ألا يتكئ كثيرًا على عيشه الجديد! وليعلم «أن له ناخبين يتردد عليهم» وليس معنى هذا أن فكري قصر في أداء واجبه النيابي، أو أنه لم يكن له في الأمر كفاية، ولكنا إنما نطمع في أن يكون للبلد منه في البرلمان مثل ما لها منه في عالم البيان.

على أنه مما يعزينا في هذا الباب أنه ما برح يتهجى «البرلمانية» في مجلس النواب، وذلك باب يحتاج إلى ممارسة وطول اختبار وتمرين، أسأل الله أن يمد في عمري وعمره حتى أراه في «سنة رابعة» شيوخ، خطيبًا «برلمانيًّا» لَبِقًا، لكن لا كالشيخين المحترمين: عزير ميرهم، ولويس فانوس!

•••

ولقد نسيت أن أذكر لك أن فكري أباظة يشتغل بالمحاماة أيضًا، وأنه محام من الطراز الجيد، وأن له مكتبًا في مدينة الزقازيق يطلبه الناس، وفيهم الجباه١ والسروات، لتولي مهمهم والدفاع في قضاياهم، وأنه مجد في مهنته، إن صح أن هذه مهنته، لبق، حسن التصرف، مبسوط العلم بمداخل القانون. ومن هنا تعلم أن النبوغ في فن لا يستهلك دائمًا سائر مواهب المرء الأخرى، ولا أدري أيكون من الخير أن يوزع الأستاذ فكري قواه على أمرين معًا أو على ثلاثة، إذا حسبنا «البرلمان» شغلة ثالثة؟ أم أن الخير كله في أن يتجرد لتربية تلك الموهبة الجليلة التي لم يشاركه فيها كثير، على حين يشاركه ويبرعه في غيرها كثير؟!

والأستاذ فكري خرج من عائلة كبيرة جدًّا، كل أفرادها متعلم. وكلهم كسائر المتعلمين له في السياسة رأي، ولكني لا أحصي في هذه الآلاف — ما شاء الله — حزبًا وطنيًّا إلا فكري، ولعل هذه من إحدى طرفه كذلك!

على أن الأخلق به ألا يكون حزبًا وطنيًّا من الطراز الجديد Moderne، بل أن يكون وطنيًّا قديميًّا محجوبيًّا لا يقنع بالسودان من منبعه إلى مصبه ومعه الملحقات، وملحقات الملحقات، فإن في الشرق القريب والبعيد بلادًا ضافية الأطراف، واسعة الأكناف، أولى بمصر أن تتولاها وصاية وانتدابًا ما دام الإنجليز، على رأي الدكتور ثابت، ولعل الفرنسيين أيضًا «ما يقولوش حاجة!»

ذلك هو الأخلق بطريف الخيال، وليُسْعد التمني إن لم تُسْعِد الحال.

منى إن تكن حقًّا تكن أعذبَ المُنى
وإلا فقد عِشنا بها زمنًا رغدَا
١  المراد بهم وجهاء القوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤