أحمد مظلوم باشا
أُسطواني الرأس، ساهي العينين، لو تأملت فيهما ما أعطتاك إلا أن وراءهما عدًّا كبيرًا وزيفا في أرقام كثيرة! مرسلَ الأنف، رَحْبَ الفم، ممدود الذقن، طويل اليدين والساقين، وإني لأخشى أن ينكشف الزمن، ولو بعدَ حين عن أن مظلومًا هذا رجُلان «اقتصاديان» اتصلا بحيلة لطيفة حتى خرجا للناس في صورة رجل واحد توسُّلًا بهذا إلى ألَّا يدفعا عند السفر إلا ثمنَ تذكرة واحدة، وفي الفندق — الأوتيل — إلا أجرَ سرير واحد، وفي المطعم إلا عَشاءَ رجل واحد، وللخياط إلا ثمن بدلة واحدة، والواقع أن مَنْ شهدوا مظلومًا وهو يتعشى لا يشُّكون في أن «جماعة» بأسرها تأكل، فان كان ولا بد، رجلًا واحدًا فهو إنما يجتَرُّ ليومه الثاني!
وحدثتك بأنه طويل الحظ، فقد خاض به حظُّه أهلَ الكفايات وأصحابَ العلم والاختبار في عصره، فتخطَّى به رقابَهم إلى الوزارة، ويظل وزيرًا أو «ناظرًا» للمالية في عهد اللورد كرومر قَرَابَةَ ثلاث عشرة سنة إلى أن دالت الأيام لعهد السير غورست، وانحرف وجه السياسة فهُدَّت تلك الوزارة هدًّا.
ومظلوم أكفأ الإنس والجن لأن يظل «ناظرًا» للمالية ثلاث عشرة سنة لا يلى أمرًا، ولا يُراجَع في مسألة، ولا يُبدي رأيًا، ولا يقرأ سطرًا، ولا يكتب كلمة، ولا ينطق بحرف، حتى يقال له خذ متاعك لقد سقطَت الوزارة، فلا يجد ما يحمله معه إلا أنفَه وإلا يديه ورجليه، أستغفر الله! وإلا الختمَ! فنحن إذا أردنا أن نترجم لمظلوم باشا في حياته الوزارية فإنما نترجم عن الختم، والله يعلم ما تعِب إلا الختم، ولا جَهِد إلا الختم، ولا استحق المعاش الكامل «١٥٠٠ جنيه» في الواقع إلا هذا الختم، فطالما دار في غفلة مولاه وبَرَم، وطالما نقش وبصم، وبدَّل من أحوال الدولة أحوالًا، وبدَّد أعلاقًا وأموالًا، وبسط للشركات الأجنبية في أرضها بسطًا، وأخرج عنها جلائل أملاكها قسطًا فقسطًا. فإذا حملتم للباشا أيها المصريون على هذا حمدًا أو لومًا فاصرفوه كلَّه إلى هذا الختم وحده؛ فإن الباشا — والله — لَكَاسْمِهِ مظلومٌ!
ويُدسَّي بعد هذا في «المعاش» وقد نيَّف على السبعين، وينقطع عن الناس خبره فلا يدرون أيكتبونه في جريدة الأحياء أم يُدرجونه في سجلِّ الأموات، ولكن يأبى له حظُّه الكبير إلا أن يبعثه بعد هذا بعثًا كبيرًا فيتولى صهره ووارثه محمد سعيد باشا رياسة الوزارة، ويستقيل المغفور له الأمير حسين كامل — السلطان حسين — من رياسة الجمعية التشريعية، فيجيء لها سعيد بصهره ومورثه «بعد ٥٠٠ سنة» إن شاء الله مظلوم، فيزيد في الإرث بمقدار ثلاثة آلاف جنيه في العام مرتب رياسة الجمعية، من فوقها خمسمائة بدل ولائم، وسعيد كان أكيسَ من أن يظن أن مظلومًا «يقل عقله» ويصنع في عمره لأيٍّ كان وليمة واحدة! وتدخل الحرب العامة وتقف الجمعية التشريعية، ويظل مظلوم «يحزُّ» على الحكومة ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه كل عام، حتى يأذن الله ويعلن حلها في آخر عام ١٩٢٤ من حيث بدأت حياة البرلمان، على أن حظ مظلوم لم ينحلَّ بانحلال الجمعية التشريعية، فقد انزلق أيضًا إلى مجلس النواب بل أضحى له رئيسًا، ثم صار وزيرًا للأوقاف أيضًا يقتضي من الراتب ما يقتضي الوزراء!
ومظلوم باشا غني فظيع الغنى، يجري وراء الدنيا والدنيا تجري وراءه حتى لم تجد بين أولئك الملايين الذين يحرزون سندات بلدية باريز عائلًا مسكينًا محتاجًا تحبوه نمرتها الرابحة «١٠٠٠٠ جنيه» إلا أحمد مظلوم! وله عمارات هائلة، وأطيان تُعْيي مصلحة المساحة، وأوراق مالية يُخطئها العدُّ، ونقود في المصارف لا تكاد تُحيط بها الأرقام، إذ هو في وسط كل هذا «يتيم» فرد لا أم ولا أب ولا أخ ولا أخت ولا ولد، ولكنه رجل شديد البِرِّ بأهله من أولاد الإخوة وأولاد الأخوات، فإنه ليضن على نفسه بالدانق والسحتوت، ويقمع نفسه عن التطلع إلى شيء مما تتطلع إليه أنفس الناس من ملاذ الدنيا ومُتَعها إيثارًا لهؤلاء، فهل رأيت بِرًّا أعظمَ من هذا البر، وإيثارًا أبلغ من هذا الإيثار؟!
وكان له بيت يسكنه في محطة «مظلوم» بالرمل، فلاحظ أحد أصدقائه أنه اتخذ لجلوسه غرفة لا تصلح لهذا في حين قد امتلأ البيت بأحاسن الغرف، فراجعه في هذا حتى فطن إلى أن الباشا إنما اتخذ هذه الغرفة لمجلسه؛ لأن مصباح الشارع يقوم بإزائها فلا تجشِّمه نفقة المصباح!
وقد عمد إلى كل قصوره فشق في كل جوانبها الحوانيتَ ومخازن التجارة حتى انتهى به الأمر إلى العيش في «أوتيل كونتنِنْتال» على أن يأكل في «كلوب» محمد علي، فإن الأكل فيه أضفى وأَمْرَأَ وأرخص!
وقد بنى له أخيرًا بيتًا صغيرًا «فيللا» بإزاء كلوب محمد علي، أقامها من طبقة واحدة، ويتساءل الناس لماذا لم يقمها من طبقتين، الأولى حوانيت ومخازن، والثانية للسكن؟ فأجاب أحد الظرفاء بأنه سيبني الدكاكين هذه المرة في الطبقة العليا حين يعم نظام الطيارات إن شاء الله!
وبعدُ فما أعرف أحد أمتن صبرًا ولا أطول بالًا من هؤلاء المساكين ورثة مظلوم، فقد انتظروا أدهارًا والأعمار تتصرَّم، والأنفس تتخرَّم، والباشا — أحياه الله الحياةَ الطيبة — لا يزداد على الأيام إلا قوة، ولا يُكسبه طول السن إلا شبابًا وفتوة. ولو كنتُ مكانَهم لقطتعه في أحد البنوك بحطيطة عشرة أو عشرين في المائة كما تُقطع الكمبيالات، ويحيا مظلوم باشا بعد هذا كما يشاء!