طلعت حرب بك
لا أحسبك تستطيع أن تتصور «بنك مصر» دون أن تتصور معه طلعت حرب، ولا أحسبك تستطيع أن تتصور اسم طلعت حرب دون أن يتمثل لذهنك في الحال «بنك مصر».
وكذلك شاء القدر أن يقرن اسم هذا الرجل بأجل الأعمال.
ولو أن رجلًا حدثك من عشر سنين بأن سيكون في مصر «بنك» يقوم على أموال مصرية، وتقوم عليه أيد مصرية، لرددت حديثه من فورك إلى التزيد في التمني والمبالغة في التخييل! ذلك أننا، ولا أكتمك أشد ما ألح علينا من العلل، إنما كنا نتكئ في كل مهمنا على محض التمني وعقد الآمال بما عسى أن يصنع الغير لنا! أما أن نضطلع بعبئنا ونعالج شأننا بأيدينا، فذلك ما لم تكن تطيقه أذهاننا! ولقد طالت علينا هذه الحال حتى دبت إلينا الظنون بأننا لا نصلح لمعالجة عمل قومي، لا من عجز عن العمل، ولكن من توهم العجز عن العمل، حتى توهنت نفوسنا، وانبرت عزائمنا، وانخذلت هممنا، وشاع فينا ضعف الثقة، والثقة وحدها متكأ كل ما ترى من عظيمات الأمور. وإذا كنا قد عالجنا كثيرًا من المشروعات القومية ففشلنا فيها كلها، فذلك لأننا إنما كنا نقدر هذا الفشل بحكم ما ملك علينا أنفسنا من ضعف الثقة. وذلك شأننا كان في كل ما نتطلع إليه من مطالب الحياة.
وأذن الله تعالى لنا بالعافية وأحسسنا، بعد يأس، دبيبها في أنفسنا في سنة ١٩١٩، وهببنا أمة تطلب ما تطلب الأمم، وتهيئ كتفيها لتنهض بما تنهض به في سبيل مجدها الأمم.
ولست اليوم بسبيل ما قام به أبطال النهضة الوطنية جملة، ولكنني إنما أطوف بالحديث اليوم حول قطعة منه وهي النهضة المالية، وحول بطل من أولئك الأبطال وهو طلعت حرب. وهيهات أن أصف قدر هذا الرجل الفاتح بأبلغ ولا أصدق من أنه أقام لمصر «بنكًا» عظيمًا يقوم على أموال كلها مصرية، وتقوم عليه أيد كلها مصرية، وما شاء الله كان!
وإذا كان طلعت قد أقدم على هذا كله بعد إذ تخاذل الناس، وأصبحنا ولا تظن نفس بنفس خيرًا، فقدر أنت مبلغ ما تسلح به هذا الرجل من عزم وثقة حسبهما أن ملآ كل هذه النفوس عزمًا وثقة!
وإذا كان طلعت حرب قد أفاد في سبيله بنهضة سنة ١٩١٩ واستغل اشتغال النفوس بالوطنية، وتَنَادِي الناس بالعمل على أسباب القومية، فقد أضاف إلى العزم حزمًا، وجمع إلى الثقة والإقدام بصيرة وعلمًا، ذلك أنه عرف كيف يتخير أسعد الساعات وأكفأها لنجاح مشروعه العظيم.
ولم يكن نجاح بنك مصر مقصورًا على ذلك المدى الذي تدور فيه منافع البنوك، ولكن كان له نجاح أوفى وأبلغ، هو أنه بث فينا الثقة وردنا في جليلات الأعمال إلى أنفسنا، وأقنعنا بالحس الصادق أننا في مجال العمل، غير أهل للخذلان، ولا للفشل، فهذه شركات جليلة يقوم بها طلعت حرب كذلك، ويرفدها بنك مصر أيضًا، وقد قامت كلها قيامًا كريمًا، ونجحت كلها نجاحًا عظيمًا.
هذه شركة للحليج، وهذه شركة للملاحة، وهذه شركة للطبع، ولعله ستتبعها شركة للغزل والنسيج، وأخرى لصنع الزجاج، حتى إني لأخشى إذا تمادى طلعت في هذه الشركات الناجحة، أن يظن جمهرة الناس، أن لا نجاح لسعي الجماعة إلا إذا قام عليه طلعت حرب، وإلا إذا سانده بنك مصر، وفي هذا مساءة قد تستغرق ذلك الإحسان، فليتدبر طلعت وليتدبر رجال الأعمال.
•••
وبعد، فطلعت بك حرب وإن لحقته السن، ما برح له عزم الشباب؛ حضور ذهن، وقوة تصور، ومتانة ذاكرة، وجودة رأي، وصبر وجلد على معاناة كل ما يليه من أعمال جسام!
وإذا استحال هذا الرجل شعرًا ما عدا أن يكون قصيدة في ديوان أبي تمام، لا تعجبك مطالعه، على أنك تقع بعدها على أروع المعاني وأشرف الكلام.
ولقد تلقاه يومًا فيطالعك بكل ما تملك نفسه من أنس وبشر حتى لتحسب أنه أضحى قطعة من نفسك إذا كنت أنت لم تصبح قطعة من نفسه، ولقد تلقاه يوم آخر فيتولاك بوجه عبوس تكاد تتمثل فيه غيمًا ورعدًا ومطرًا، حتى لتشعر أنك في حضرة «زلزلة» لا في حضرة رجل، تعينه على ذاك الأذى عين خيفاء، فإن ترفقت بها قلت عين حواء، حتى لتطرق وأنت تبتهل إلى ربك وتسأله أن يُلغى المال من الدنيا لكيلا تحتاج إلى رؤية طلعت حرب! ولقد تتبحث الأمر وتتبينه فإذا هذا «الحرب» سلم كله، وإذا هذا التجهم في هذا الوجه لا يدل على أية غضاضة في تلك النفس! إنما الأمر جميع الأمر أن الرجل تنوء به جلائل من الأمر فيها ما يسر وما يسوء، وفيها ما يبسط أسارير الوجه وفيها ما يربد ضواحيه، ويعكر نواحيه، وذلك الحظ الذي يدفعك إليه وهو في إحدى الحالين. فلو ابتغيت قبل أن تطالعه عرافًا أو ضارب تخت رمل أو «فاتحة كوتشينة» لكان أرفق بك وأبين لحظك معه!
•••
وإذا كان في بعض طلعت حرب ما لا يعجب بعض الناس فلأنهم لم يفهموه، وإذا كان فيه ما لا يجمل بالرجل العظيم، فذلك أيضًا من خلال الرجل العظيم!
وإن تعجب لشيء في شأنه فالعجب كله أنه عضو في مجلس الشيوخ تعرض عليه ميزانية الدولة، وتعرض عليه كل المرافق المالية والاقتصادية في الدولة، فيجول فيها لويس فانوس، ويصول فيها الشيخ حسن عبد القادر، ويضرب فيها شيخ العرب يس أبو جليل بجرانه، وطلعت حرب مدير بنك مصر وأبو المشروعات المالية والاقتصادية في مصر لا تؤثر عنه فيها طول «الدورة البرلمانية» كلمة واحدة!
ولعل هذا أنه يريد أن يربأ بنفسه، أو بعبارة أخرى يريد أن يربأ ببنك مصر وملحقاته عن أي نزاع سياسي على العموم أو حزبي على الخصوص، طلبًا للسلام وإيثارًا للعافية.