إسماعيل صدقي باشا
ما رأيت رجلًا افترقت فيه أهواء الناس كما افترقت في إسماعيل باشا صدقي، فلقد أحبه قوم أشد الحب، وأبغضه قوم أشد البغض، وبقي فيه آخرون مُتحيِّري المذاهب، مُترجرجي الآراء، وليس يشغل الناس بكل هذا إلا عظيم.
ولقد رزقه الله قصدًا في كل ضواحي خلقه؛ فهو ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالبدين ولا بالهزيل، معتدل القامة، متناسب الأعضاء، له وجه لطيف مستدير، وفم حلو تترقرق عليه ابتسامة حلوة، يحدثك في هوادة وظرف، حتى لترى فيه خَفَرَ الكاعب وارتياح الغلام، ولا تجده، مهما لج بكما الحديث وتعلق بما يحفز ويثير، إلا وادع النفس، مطمئن القول، عذب الصوت، يقاولك في الجُلَّى كما يقاولك في أتفه الشئون، حتى لتحسبن هذا الهيكل الذي يجتمع عليه نظرك لا يُجِنُّ إلا طاقات من الزهر، أو قطعًا من نسيم السحر، فلا غضب ولا مراح ولا ضِغْنَ ولا وَجْد ولا غريزة من تلك الغرائز التي تتفجر في صدور جميع الأحياء! ولكن، ارفع بصرك إلى عينيه تجد هناك كل ما يصول به اللسان، وتتنزى به في الحادثات جوارح الإنسان! ولصدقي باشا عينان حديدتان، وهما مستديرتان في غير سعة، وقد ركز الله فيهما مظاهر كل ما في الرجل من ألوان العواطف، فإذا استرسلت نفسك منه إلى مثل صفاء الغدير، فاحذر فلعلك بين براثن ليث خادر!
ولصدقي باشا صلعة شديدة الوضوح، تنحدر إلى مؤخر نافوخه حتى لتعرفنه بها موليًا كما تعرفه مقبلًا.
ويهب الله له دقة في الحس، وصفاء في الذهن لم يهبهما لكثير من الناس. وإليهما يرجع الفضل أعظمه في كل ما أدرك من براعة ونبوغ. ولصدقي باشا كل مواهب الرجل الفني حقًّا، وإنه لم يعالج من يوم نشأته إلى هذه الغاية موضوعًا في هذا الباب إلا برع فيه، وأوفى على نهاية الإحسان. وبهذه المواهب تهيأ لإسماعيل صدقي أن يكون أكبر رجل مالي في البلاد، لا أريد مؤلفًا ولا محاضرًا، وإنما أريد رجل عمل، أنقذ بمهارته ميزانية الدولة مرة، وكان قد أشرف بها سلفه على الدمار. وما يزال يعالج بتلك العبقرية الفذة ميزانية الدولة وزيرًا وعضوًا في مجلس النواب.
وقد تطلعت الآمال من بضع عشرة سنة إلى وضع مشروع جامع لترقية شأن البلاد من الوجهتين: المالية والاقتصادية، وعهد بهذا إلى «لجنة» من أهل الخطر في هذه الأمور، مصريين وأجانب، وتولى صدقي باشا رياستها، فبحث في كل مرافق البلاد، لم يدع دقيقة ولا جليلة في ذاك إلا حررها ودل على مواضع النقص فيها، وكيف تطلب أسباب الكمال لها. وخرج بمشروع عظيم لو أن مصر وفقت إلى الأخذ به والسير بمرافقها على ما رسم فيه، لكان لثروتها المسكينة اليوم شأن آخر!
وهو من أعلى المثل للكفايات الواسعة المشبوبة التي لا تتحرج بمطلب، ولا تنخذل عن الغاية، وأنى شارك في عمل كان المجلي، وكان أول نظره جماع الرأي في النهاية. ومما يؤثر له أن المجلس الاقتصادي — ولا تنس أنه من بعض آثاره في وزارة المالية — انتخبه رئيسًا للجنة الفرعية التي عهد إليها وضع النظام الجمركي، فأعد برنامجًا بديعًا اتخذته اللجنة دستورًا لها، وما زالت تترسم آثاره إلى الآن.
ومما يحصى له إن كانت تحصى مفاخر آثاره، تلك المحاضرة الرائعة التي ألقاها في العام الماضي على محامي المحكمة المختلطة في موضوع الامتيازات الأجنبية وعلاقتها بالضرائب، وما كان أعظم انتصاره إذ يضرب تلك الامتيازات في أمنع قلاعها، ثم يتدلى عن المنبر بين تهليل صفوة «الأجانب» وهتافهم الطويل!
•••
وأحرز صدقي باشا إجازة الحقوق من مدرسة الحقوق المصرية وسنه لم تتشرف بعد على الثامنة عشرة، وخرج من مراكز النيابة فلم يظهر له فيها كبير خطر، وأي خطر كبير يمكن أن يتهيأ لعضو نيابة محدود السعي، محدود العمل؟ ولكنه ما كاد يُوَلَّى سكرتيرية المجلس البلدي في الإسكندرية، حتى ظهر نبوغه وظهرت معه تلك الجرأة النادرة. ويقبض رجل مصري لأول مرة على ناصية المجلس البلدي، فيضبط إدارته ويعمل على أن يطهره من أدرانه تطهيرًا.
ثم جيء به سكرتيرًا عامًّا لوزارة الداخلية فوكيلًا لها، فكان له شأن أكبر من شأن «موظف» مصري في ذلك الزمان. وأنى صار صدقي باشا في مناصبه صارت معه الدقة والفطنة إلى خفايا الأمور والاضطلاع من مهام الحكم بكل عظيم.
وتولى الوزارة فلم يطل به الحظ فيها، فاعتزلها ولبث في داره بضع سنين، إلى أن ألف الوفد في أعقاب سنة ١٩١٨؛ ليتحدث على قضية مصر، فانتظم فيه صدقي باشا، وكان رابع أربعة من رجالاته امتدت إليهم يد السلطة العسكرية فنفتهم عن البلاد إلى جزيرة مالطة، حتى إذا أُطلِقوا بعد تلك الأحداث الجُلَّى، انطلقوا من فورهم إلى باريس حيث وافاهم سائر أعضاء الوفد، وهناك جعلوا يرفعون صوت مصر ويطرقون بطلبتها كل باب، ويسعون إلى استقلالها ما وجدوا إلى السعي سبيلًا. وإذا كانوا رفعوا صوت مصر، فلقد رفعوا كذلك رأس مصر. وإذا كانوا دونوا في إثبات حقها صحائف خالدة على التاريخ، فإن اسم إسماعيل صدقي سيظل في أجل هذه الصحائف خالدًا على التاريخ.
وفشت — مع الأسف — فاشية انقبض على أثرها صدقي باشا عن العمل، وصدر أدراجه إلى مصر وبقي في عزلته حتى كانت الوزارة العدلية في أوائل سنة ١٩٢١، فتقلد فيها وزارة المالية، وشخص في الوفد الرسمي إلى لندن في تلك السنة. وإذا كان قد شارك في بحث المسألة السياسية فقد انفرد ببحث المسائل الاقتصادية التي تعلقت بها المفاوضات، فكان فيما حرره منها حق لبق، وحق خبير.
وتعلم أن ثروت باشا قد استخرج في سنة ١٩٢٢ تصريح ٢٨ فبراير، وإعلان مصر دولةً مستقلةً ذات سيادة. فلا تنس أن صاحبه صدقي باشا كان وزره في هذا السعي وعونه بما جلى من التفاصيل. وما أبدع صدقي يكمل ثروت إذا عرضت عظيمات الأمور، هذا لخطب السياسة الضخم، وذاك لما يتكئ عليه حل المعضلات من دقائق الموضوعات.
فكيف بهذين مع عدلي بعينه العالية ونظره السياسي القدير؟ وكيف بثلاثتهم مع الزعيم الجليل سعد باشا، وما اختصه الله به من شدة نفس وقوة حجة وصلابة عود؟
ولقد حق للأمم الناهضة بهذا أن تغبط مصر، وإن مصر ببركة هذا الائتلاف المقدس لبالغة غرضها الأسمى إن شاء الله.
وبعد، فلقد لبثت مصر بضع سنين وعيشها السياسي قائم على تنابذ قادتها وتناحر أحزابها، كل يعمل للقضاء على غيره، حتى إذا خلا له وجه الأمر تولى حل قضية البلاد على ما قدره هو لتحقيق أماني البلاد. ويستحر القتال، ويرمي كل عدوه بما ملكت يده من أسباب الهلاك. ويأبى حارس الكنانة إلا أن يبصر الصفوة من القادة وأعيان أهل الرأي بأنه إذا كان هناك من يستفيد بهذه السياسة الدامية فليست هي مصر على أي حال!
وما إن أهاب بالقوم ذلك الداعي النصيح حتى أُلقي السلاح، ونضيت الدروع، وخشعت القلوب، وفاضت العيون بالدموع، ومشى الأخ إلى أخيه يستعتبه فيعتب، وهُرِع الولد إلى أبيه يستعطفه فيعطف ويحدب، وتبزل الأضغان وتسل الأحقاد، فيجتمع الأحباب من كل ناد، فلا ترى عطفًا يملأ الأفئدة، ورحمة تسيل بها الأكباد.
وكذلك أصبحت البلاد بنعمة الله صفًّا واحدًا، يرمي في غرض واحد بعد أن كانت صفوفًا يرمي بعضها بعضًا. وصدقي باشا رجل شديد في رأيه يعمل له بكل ما أوتي من قوة، وهو من أكبر العاملين على ترك سياسة الفرقة إلى سياسة الوئام، وصل الله في عمرها إلى غاية الزمان، فكان شديدًا في الأولى كما كان شديدًا في الثانية، ومن ينكر عليه هذا فهو لا يدين بمنافع البلاد حيث كانت، ولكن يدين بعبادة الأشخاص حيث تكون!
وهل كان هذا في شرع السياسة بدعًا؟ وهذه دول الغرب التي نأخذ عنها أساليب الحكم، ونتروى وجوه التصرف في السياسة، لقد تتعادى أحزابها وتتفانى، وينضح بعضها بعضًا بالمكروه، حتى إذا حدثت الأحداث تصافحت الأيدي، واتحدت الكلمة وتلاحمت الصفوف، ودخل رجال من بعضها في وزارة يُنْمَى رئيسُها لآخرين، والأمثلة على هذا أوفر من أن يتناولها البيان.
ولقد كان سعد وعدلي وثروت وصدقي من فجر النهضة حزبًا واحدًا، يدينون برأي واحد، ويسعون لغرض واحد، فهل يعد عليهم اليوم أن تنحسر الفتنة بينهم، وأن يعودوا كما بدءوا قلبًا واحدًا، وقد جدت الأحداث، لإنقاذ حياة البلاد؟!
•••
ولعل صدقي باشا يمتاز عن أصحابه بشدة العصبية لأهله ومعشره، فلا يفتأ يتفقدهم ويتوافى لهم ويصلهم بكل ما دخل في ذرعه، ولقد يفرط في هذا إلى الحد الذي يبعث ضعاف الأحلام، على إنكار ما أوصت به المكارم من صلة الأرحام!
وصدقي باشا، في بابه، عدة قوية للبلاد، وهو لا يكل من العمل، على فرط ذكائه، ولا يمل. ومما تحدث به عنه أعرف الناس به، أنه حين كان وزيرًا للمالية لم يكن يرهق كبار موظفيها بطول المراجعة والاستخبار، بل كان يتكئ على فطنته واختباره وحدهما في مذاكرة ما يدفعونه إليه من الأوراق. ومما تحدثوا به عنه في هذا الباب أيضًا، أنه كان في غاية اليوم تحمل إلى داره خرائط ثلاث أو أربع تجن كل ما يجري من الأعمال في وزارة المالية، فيكب على دراستها من الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي فلا تدخل الساعة التاسعة إلا وقد قتلها بحثًا ومراجعة، واستوى له في كل منها الرأي النصيح.
وإن خِطْئًا عظيمًا ألا يستخدم على الدوام للنفع العام، فإذا أخذه شانئوه بهنة فما كان هذا ليتنقص أقدار الرجال، إلا إذا تنقصت الكهوف أقدار الجبال، ولعلهم في هذا أيضًا كانوا مسرفين!
من صدقي باشا إلى محرر المرآة
عزيزي الأستاذ الفاضل
أشكر فضيلتكم كثيرًا لمرآتكم الناصعة وإن كنت لا أخفي عنكم أنني لم أتعرف صورتي تمامًا خلالها، بل أخشى أن تكونوا قد بالغتم في تجميلها وتزيينها.
وأرجو قبول تحياتي.
«محرر المرآة»: وليس لي يا مولاي ما أقوله في هذا المقام غير قول الشاعر: